الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: 16، 17) ونذكر {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: 37 - 39).
الإيثار في السنة وأقوال العلماء
ما ذكره الأئمة الأكارم من علمائنا في باب الإيثار والمواساة، ولنبدأ بالإمام النووي في كتابه الشهير المعروف (رياض الصالحين) حيث ذكر تحت هذا العنوان باب الإيثار والمواساة، ذكر فيه قول الله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9)، وقول الله تعالى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} (الإنسان: 8) وذكر حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- فيما كان من أمر أبي طلحة وأهل بيته وضيفهم، وأن الله سبحانه وتعالى عجب من صنيعهم بضيفهما، وأنزل على رسوله هذه الشهادة التي تُتلى على مرّ الأيام والدهور، وهي قول الله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} ، ثم يواصل الإمام النووي ذكر جملة من الأحاديث، فيذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة))، وفي رواية لمسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية))، وهذا يعني أن المسلم لا بد أن يكون على هذا الفهم من إكرام الآخرين، وألا يبخل بما عنده من طعام؛ فإن طعام الواحد يكفي الاثنين
…
إلى آخر ما جاء من توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم.
ويذكر عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قوله: ((بينما نحن في سفر مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة له، فجعل يصرف بصره يمينًا وشمالًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من
كان معه فضل ظهر، فليعُد به على من لا ظهر له)) أي: من كان معه مركوب فاضل عن حاجته فليعد به على من لا ظهر له، ((ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له))، يقول أبو سعيد فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل. وتخيَّلوا لو أن المسلمين فعلوا هذا فأخرج كل مسلم ما زاد عن حاجته، لعلكم معي في أنه لن يبقى معنا وبيننا فقير أو مسكين أو محتاج.
ويذكر عن سهل بن سعد رضي الله عنه: ((أن جاءت امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردة منسوجة فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها لإزاره فقال فلان: اكسنيها ما أحسنها! قال: نعم، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس ثم رجع فطواها، ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنها! لبسها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجًا إليها، ثم سألته وعلمت أنه لا يردّ سائلًا، فقال: إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني. قال سهل: فكانت كفنه)) رواه البخاري. وفي هذا الحديث نعرف ويتبين لنا مدى ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من إيثار أصحابه على نفسه، وأنه وإن كان محتاجًا إلى الشيء لكنه إن طُلب منه أعطاه لمن طلبه، وأيضًا هذا الحديث يُبيّن حب الصحابة وتعلق الصحابة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويختم الإمام النووي هذا الباب بحديث أبي موسى -رضي الله تعالى عنه- قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعامهم عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم)) أي: فرغ طعامهم أو قارب على الفراغ حين ذاك يجمعون ما عندهم في ثوب واحد، أو في مكان واحد، ثم يقتسمون هذا فيما بينهم بالسوية. رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:((فهم مني وأنا منهم)) وفي هذا من الإيثار ما فيه كما نرى.
يذكر أيضًا لنا الإمام الغزالي -عليه رحمة الله- في الباب الثاني في حقوق الأخوة والصحبة كلامًا رائعًا فيقول: اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين، وكما يقتضي النكاح حقوقًا يجب الوفاء قيامًا بحق النكاح، فكذا عقد الأخوة فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء وبالإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف والتكليف، وذلك يجمعه ثمانية حقوق، فيذكر الإمام الغزالي هذه الحقوق، اخترت لكم منها الحق الأول والثاني وهو الحق في المال والحق في النفس، واخترت لكم مما ذكر جملة من الأحاديث الصحيحة يقول -عليه رحمة الله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((مثل الأخوين مثل اليدين تُغسّل إحداهما الأخرى)) ويقول: إنما شبههما باليدين لا باليد والرجل؛ لأنهما يتعاونان على غرض واحد، فكذا الإخوان إنما تتم أخوتهما إذا ترافق في مقصد واحد، فهو من وجه كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المساهمة في السّرّاء والضراء والمشاركة في المآل والحال وارتفاع الاختصاص والاستئثار، ثم يقول: والمواساة بالمال مع الإخوة على ثلاث مراتب:
أدناها: أن تُنزله منزلة عبدك أو خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك، فإذا سنحت لك حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال، فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة.
الثانية: أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك، ونُزلوه منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال. قال الحسن: كان أحدهم يشقّ إزاره بينه وبين أخيه.
العليا: أن تؤثره على نفسك وتُقدم حاجته على حاجتك، وهذه رتبة الصديقين، ومنتهى درجات المتحابّين، ومن ثمار هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضًا،
وهذه الرتبة هي التي وصف الله تعالى المؤمنين به في قوله {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (الشورى: 38)، وقد روي أن مسروقًا أدان دينًا ثقيلًا وكان على أخيه خيثمة دين قال: فذهب مسروق فقضى دين خيثمة وهو لا يعلم، وذهب خيثمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم، وهذه هي أخلاق السلف -عليهم رضوان الله-، ولعلنا نذكر أيضًا لما آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والنفس، فقال عبد الرحمن:"بارك الله لك فيهما" فأثره بما آثره به، وكأنه قبله ثم آثره به، وذلك مساواة، والبداية إيثار، والإيثار أفضل من المساواة.
وقال أبو سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من أخواني لاستقللتها له، واقتداء الكل في الحقيقة في الإيثار برسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا بعض ما ذكره الإمام الغزالي في الحق الأول، وهو حق الأخوة في المال، وقد ذكرنا شيء مما قال.
أما الحق الثاني في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها قبل السؤال، وتقديمها على الحاجات الخاصة، وهذه أيضًا لها درجات كما للمساواة بالمال، فأدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة. قال بعضهم: إذا استقضيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره ثانية فلعله أنه قد يكون نسي، فإن لم يقضها فكبر عليه واقرأ عليه هذه الآية {وَالْمُوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللهُ} (الأنعام: 36) قال جعفر بن محمد: إني لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردّهم فيستغنوا عني، هذا في الأعداء، فكيف في الأصدقاء.
ثم يقول الغزالي: وكان في السلف من يتفقَّد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم، ويتردد كل يوم إليهم، ويمونهم من ماله، فكانوا لا يفقدون من أبيهم إلا عينه، بل كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياتهم، وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت هل لكم ملح هل لكم حاجة، وكان يقوم بها حيث لا يعرفه أخوه، وبهذا تظهر الشفة والأخوة، فإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه؛ فلا خير فيها.
قال ميمون بن مهران: من لم تنتفع بصداقته لم تضرك عداوته، وقال صلى الله عليه وسلم:((ألا وإن لله أواني في أرضه، -وهي القلوب- فأحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها)) أصفاها من الذنوب، وأصلبها في الدين، وأرقها على الإخوان، وبالجملة فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك، أو أهم من حاجتك، وأن تكون متفقدًا لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها، ولا ترى لنفسك حقًّا بسبب قيامك بها، بل تتقلد منة بقبوله سعيك في حقك، وقيامك بأمره، ولا ينبغي أن تقتصر على قضاء الحاجة بل تجتهد في البداية بالإكرام في الزيادة والإيثار. يقول عطاء:"تفقدوا أخوانكم بعد ثلاث فإن كانوا مرضى فعودوهم، أو مشاغيل فأعينوهم، أو كانوا نسوا فذكروهم". وقال سعيد بن العاص: "لجليسي علي ثلاث إذا دنى رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له"، وقد قال تعالى {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) إشارة إلى الشفقة والإكرام، ومن تمام الشفقة ألا ينفرد بطعام لذيذ، أو بحضور في مسرة دونه، بل يتنغص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه.
أرأيتهم هذه الصورة الرائعة الجميلة في الإيثار التي كان عليها سلف هذه الأمة، فكان من أمرهم ما نرى من عزة ومن كرامة -عليهم جميعًا رضوان الله.
أيضًا فيما ذكره الإمام الغزالي نذكر بعض ما قاله في سخاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوده، فهذا أيضًا عنوان الإيثار يقول: كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس وأسخاهم، وكان في شهر رمضان كالريح المرسلة، لا يُمسك شيئًا. ويقول: كان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان أجود الناس كفًّا، وأوسع الناس صدرًا، وأصدق الناس لهجةً، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه))، يقول ناعته -أي: واصفه-: ((لم أر قبله ولا بعده مثله، وما سئل عن شيء قط على الإسلام إلا أعطاه، وأن رجلًا أتاه فسأله فأعطاه غنمًا سدَّت ما بين جبلين، فرجع إلى قومه وقال: أسلموا فإن محمد يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة، وما سئل شيئًا قط فقال: لا. وحُمل إليه تسعون ألف درهم فوضعها على حصير ثم قام إليها فقسمها ما رد سائلًا حتى فرغ منها، وجاء رجل فسأله فقال: ما عندي شيء ولكن ابتع عليّ، فإذا جاءنا شيء قضيناه فقال عمر يا رسول الله: ما كلفك الله ما لا تقدر عليه، فكره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال الرجل: أنفق ولا تخشى من ذي العرش إقلالًا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم).
أرأيتم هذا الخلق وهذا الإيثار وهذا الجود وهذا الكرم الذي علَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وقد صدق فيه قول الله عز وجل:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم: 4).
يبقى لنا أن نعيش سويًّا فيما كتبته في حقوق الأخوة، والتي قسمتها إلى أربعة أقسام: أخوة الإنسان مع أخيه الإنسان، وهي التي تُعرف بالأخوة الإنسانية، وهناك أخوة النسب من نُنسب إليه وينسب إلينا من الآباء والأمهات والأحباب
والأرحام وما إلى ذلك، وأخوة الإيمان من نرتبط معهم برابطة الدين، وهناك الأخوة في الله.
وقد سما الإسلام بهذه الألوان وبيَّن ما فيها من حقوق، وما فيها من معالم الإيثار، ولكننا نقف عند هذا النوع من الأخوة، وهو الأخوة في الإيمان والأخوة في الله لنقتطف بعض ما في حقوق هذه وتلك من معالم الإيثار في دين الله، وفي كتاب الله عز وجل.
لقد وصل الإسلام في هذا التآخي إلى صور فاقة أحلام الفلاسفة وأصحاب المدن الفاضلة، وضرب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في صدق هذه الأخوة، حتى لقد وجدنا في مجتمع المدينة لونًا من هذا الإخاء كان أعظم من إخاء النسب والرحم، به كان الأنصار والمهاجرون يتوارثون، ويتكافلون، ويتعاونون، واستحق الأنصار شهادة الفخار التي ما زالت تتردّد إلى يومنا هذا في سمع الزمان والتي ذكرناها في قول الله تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} (الحشر: 9) الآية.
فهؤلاء هم الأنصار الذين يُحبون من هاجر إليهم حبًّا جعلهم يقدون كل غالٍ ونفيسٍ في سبيل إخوانهم المهاجرين، حتى قال المهاجرون في الحديث الذي رواه أحمد عن أنس رضي الله عنه:((يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلًا في كثير، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لخاطرهم: لا، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم)) وهؤلاء الأنصار -كما نعلم- لا يشعرون بضيق في الصدور إذا ما وجدوا إخوانهم المهاجرين، وقد سبقوهم بالفضل والثناء من الله، والمهاجرون أهل لذلك حقًّا، فهم كما قال تعالى:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8).
لقد آثر الأنصار إخوانهم المهاجرين بما عندهم رغم حاجتهم إلى النفقة، وتلكم والله أفضل الصدقة، وأعظم العطاء أن تُعطي الشيء وأنت في أشد الحاجة إليه، وهؤلاء كما رأينا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أي: كان بهم حاجة شديدة إلى ما آثروا به غيرهم، وقد ذكرنا ما كان من أمر أبي طلحة الأنصاري -رضي الله تعالى عنه.
فهذه قلوب هيمن عليها الإيمان وجمعها رب العالمين على مائدته، وأقامها على قلب أتقى قلب رجل واحد، إنها منة إلهية، وتدبير رباني لا تستطيع الحصول عليه قوى الأرض مهما بذلت في سبيل من جهد ومن مال، بل لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما استطاعت أن تحصل على هذه الذي يسره لرسوله، وجعله من أسباب نصرته ونصرة دينه، حتى لقد كان هؤلاء الأحبة مثلًا حيًّا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))، ولمسلم:((المسلمون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله، وإذا اشتكى رأسه اشتكى كله)) إنها صورة حية نابضة بالإيمان تُرشدنا إلى كثير من حقوق أخوة الإيمان، ولذلك قال تعالى:{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 62، 63).
ومما يجمع هذا الحقوق وصف الله لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول ربنا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} (الفتح: 29) فهم قوة تُرهب أعداء الله تراهم في ساحات القتال جيوشًا تصول وتجول يخشى بأسهم أهل الكفر والضلال، ولكنك تراهم فيما بينهم يفيضون رقة وأدبًا وخلقًا
وتواضعًا، وودًّا وتراحمًا، والعجب فإن من صفات المؤمن أنه أليف مألوف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أقربهم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، المطَّئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون))، فإحساس المؤمن بإخوانه، وشعوره بحاجتهم، وحرصه على ما ينفعهم أسس في العلاقات بين إخوة الإيمان.
وإذا كنا نتحدث عن الإيثار في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن صور الإيثار بين الإخوة المتحابين في الله لا تراها إلا في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بعدهم من سلف الأمة الصالح، وإلى يومنا هذا ترى بعض هذه الصور المشرقة بنور الله لمن آمنوا بالله حق الإيمان، وربطت العلاقات الإيمانية والمحبة الإيمانية بين قلوبهم؛ فكان لقاؤهم لله ومن أجل الله، وما أجمل حياة هذا الإخاء أساسها، وما أكرم عيشًا يظله هذا الحب بظله الرحيم.
وقد علمنا أن حقوق الإخوان كثيرة: هناك الحقوق المالية والحقوق الأدبية، وهي في النهاية تشكل سياجًا متينًا يحوط هذه الأخوة من كل جانب يحميها من كل خطر ويدفع عنها كل سوء، ولما لا وهي أخوة نبتت في جو طهر وسُقيت من معين الإيمان، ورعتها العناية الإلهية وحرصتها القوة الربانية، إنها أخوة لله وفي الله ومن أجل الله، لا يجتمع أصحابها من أجل غرض من أغراض الحياة الدنيا، ولا عرض من أعراضها الزائلة فتزول بزوال هذا الغرض، وتتحول بتحول هذا العرض إنما هي باقية ممتدة؛ لأنها مرتبطة بالباقي الذي لا يزول، ولذلك بقيت وامتدت إلى يوم القيامة وإلى ما بعد يوم القيامة كما قال ربنا:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ * يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ * ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} (الزخرف: 67 - 73).
فهذا الإيثار لا بد من أن ينبع من هذا المعين، وإلا فما الذي يدعو إنسانًا ليؤثر الآخرين على نفسه، إلا أن يكون هذا من منطلق الإيمان، وإن لم يكن هناك هذا الأساس، فلا فائدة على الإطلاق، ولا يمكن للإنسان من طُلَّاب الدنيا أن يكون من الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
انظر في هذا الإيثار إلى ما كان من أمر الأنصار مع المهاجرين، وأنت تقرأ ما رواه الإمام البخاري عن أنس رضي الله عنه إذ قال:((دعا النبي -صلي الله عليه وسلم- الأنصار إلى أن يقطع لهم البحرين، فقالوا: لا، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلها، قال -صلوات الله وسلامه عليه-: أما لا فاصبروا حتى تلقوني -أي: على الحوض- فإنه سيصيبكم بعدي أثرًا)) إذ لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يكفي المهاجرين والأنصار، فدعاهم إلى الصبر وبيَّن لهم أنهم سوف لا يحصلون على الدنيا إلا على القليل، وسوف يتأثر بهذه الدنيا غيرهم، ولا بد لهم أن يصبروا حتى يلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحوض، وهناك في الآخرة يكون لهم الحظ الأوفر والنصيب الأعظم.
فهذه إذًا هي معالم الإيثار في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدوافع التي تدفع إنسان ليكون من هؤلاء الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، والأمر يحتاج إلى تربية إيمانية لأمتنا حتى تستقيم على طريق هذا الإيثار؛ لأن بهذا الإيثار السعادة والنجاة في الدنيا والآخرة. نسأل الله عز وجل أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وطاعته وحسن عبادته.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.