الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ فِي فِعْلِ الْحَيَوَانِ.
وَلِهَذَا اضْطُرَّ (1) ابْنُ سِينَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى جَعْلِ الْحَرَكَةِ لَيْسَتْ شَيْئًا يَحْدُثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ لَمْ يَزَلْ مَوْجُودًا، كَمَا قَدْ (2) ذَكَرْنَا أَلْفَاظَهُ، وَبَيَّنَّا فَسَادَهَا، وَأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ أَنَّهُ (3) يَحْدُثُ عَنِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ حَادِثٌ بَعْدَ حَادِثٍ، فَخَالَفَ صَرِيحَ الْعَقْلِ، وَالْحِسِّ فِي حُدُوثِ الْحَرَكَةِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لِيَسْلَمَ لَهُ مَا ادَّعَاهُ مِنْ أَنَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ، وَقَدِ اعْتَرَفَ حُذَّاقُهُمْ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ.
[مقالة ابن ملكا والرد عليها]
وَأَمَّا مَنْ قَالَ مِنْهُمْ بِقِيَامِ الْإِرَادَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ بِهِ - كَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَأَمْثَالِهِ - فَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مُوجِبٌ بِذَاتِهِ لِلْأَفْلَاكِ، وَمُوجِبٌ لِلْحَوَادِثِ الْمُتَعَاقِبَةِ فِيهِ بِمَا يَقُومُ بِهِ مِنَ الْإِرَادَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ.
فَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ أَوَّلًا مِنْ جِنْسِ مَا قِيلَ لِإِخْوَانِهِمْ، وَالْحُجَّةُ إِلَيْهِمْ أَقْرَبُ، فَإِنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ، فَيُقَالُ لَهُمْ: إِذَا جَازَ أَنْ يُحْدِثَ الْحَوَادِثَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ لِمَا يَقُومُ بِهِ مِنَ الْإِرَادَاتِ [شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ](4) ، فَلِمَاذَا لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَفْلَاكُ حَادِثَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ لِمَا يَقُومُ بِهِ مِنَ الْإِرَادَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ؟ .
(1) ن، م: اضْطِرَابُ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(2)
أ، ب: مَوْجُودًا وَقَدْ.
(3)
أ، ب: أَنْ.
(4)
عِبَارَةُ " شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ": سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
وَقَدْ تَفْطِنُ لِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ حُذَّاقِ هَؤُلَاءِ (1) النُّظَّارِ - كَالْأَثِيرِ الْأَبْهَرِيِّ (2) - فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثَ جَمِيعَ ذَلِكَ لِمَا يَقُومُ بِهِ مِنْ إِرَادَةٍ (3) ، وَإِنْ كَانَتْ مَسْبُوقَةً بِإِرَادَةٍ أُخْرَى لَا إِلَى غَايَةٍ.
وَيُقَالُ لَهُمْ أَيْضًا: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ بِأَنْفُسِهَا مَسْبُوقَةً (4) بِمَادَّةٍ (5) بَعْدَ مَادَّةٍ لَا إِلَى غَايَةٍ، وَكُلُّ مَا سِوَى اللَّهِ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ كَائِنٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ حَادِثٍ قَبْلَهُ حَادِثٌ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ فِي الْأُمُورِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ مِنْ إِرَادَاتٍ، أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّ تَسَلْسُلَ الْحَوَادِثِ وَدَوَامَهَا إِنْ كَانَ مُمْكِنًا، فَهَذَا مُمْكِنٌ، وَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا لَزِمَ امْتِنَاعُ قِدَمِ الْفَلَكِ فَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَلْزَمُ قِدَمُ الْفَلَكِ، وَلَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَى قِدَمِهِ مَعَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أُخْبِرَتْ بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ، فَمَا الَّذِي أَوْجَبَ [مُخَالَفَةَ](6) مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الرُّسُلُ وَأَهْلُ الْمِلَلِ وَأَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ عَلَى مُخَالَفَتِهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ أَصْلًا.؟ .
إِذْ غَايَةُ مَا يَقُولُونَهُ إِنَّمَا هُوَ إِثْبَاتُ قِدَمِ نَوْعِ الْفِعْلِ لَا عَيْنِهِ، فَإِنَّ جَمِيعَ مَا يَحْتَجُّ بِهِ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ لَا يَدُلُّ (7) عَلَى قِدَمِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ
(1) هَؤُلَاءِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (أ) ، (ب) .
(2)
هُوَ أَثِيرُ الدِّينِ الْمُفَضَّلُ بْنُ عُمَرَ الْمُفَضَّلُ الْأَبْهَرِيُّ السَّمَرْقَنْدِيُّ صَاحِبُ كِتَابِ " هِدَايَةِ الْحِكْمَةِ "(وَهُوَ مَطْبُوعٌ) وَقَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ 663 هـ. انْظُرْ تَرْجَمَتَهُ فِي: تَارِيخِ مُخْتَصِرِ الدُّوَلِ لِابْنِ الْعِبْرِيِّ، ص [0 - 9] 45 (ط. بَيْرُوتَ، سَنَةَ 1890) ; دَائِرَةَ الْمَعَارِفِ الْإِسْلَامِيَّةِ بُرُوكِلْمَانَ: مَادَّةَ (الْأَبْهَرِيِّ) ; الْأَعْلَامَ 8/203.
(3)
ن (فَقَطْ) : إِرَادَتُهُ.
(4)
ن: مَسْبُوقَةً بِأَنْفُسِهَا.
(5)
ن، م: مَادَّةٍ.
(6)
مُخَالَفَةَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
(7)
أ، ب: لَمْ يَدُلَّ.
الْعَالَمِ (1)، بَلْ إِذَا قَالُوا: اعْتِبَارُ أَسْبَابِ الْفِعْلِ - وَهُوَ الْفَاعِلُ وَالْغَايَةُ وَالْمَادَّةُ، وَالصُّورَةُ - يَدُلُّ عَلَى قِدَمِ الْفِعْلِ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ - إِنْ دَلَّ - عَلَى قِدَمِ نَوْعِهِ لَا عَيْنِهِ، وَقِدَمِ نَوْعِهِ مُمْكِنٌ مَعَ الْقَوْلِ بِمُوجِبِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا حَادِثًا - وَإِنْ كَانَ حَادِثًا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ - وَأَنَّ الْفَاعِلَ مُطْلَقًا، أَوِ الْفَاعِلَ بِالِاخْتِيَارِ لَا يَكُونُ فِعْلُهُ إِلَّا حَادِثًا، وَلَوْ كَانَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَأَنَّ دَوَامَ الْحَوَادِثِ لِمَخْلُوقٍ مُعَيَّنٍ قَدِيمٍ أَزَلِيٍّ مُمْتَنِعٌ، وَكَذَلِكَ الْمَفْعُولُ الْمُعَيَّنُ الْمُقَارِنُ لِفَاعِلِهِ (2) لَمْ يَزَلْ مَعَهُ مُمْتَنِعٌ.
مَعَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ أَخْبَرَتْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ (3) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ. (4) فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، فَكَيْفَ عَدَلْتُمْ عَنْ صَحِيحِ الْمَنْقُولِ وَصَرِيحِ الْمَعْقُولِ إِلَى مَا يُنَاقِضُهُ، بَلْ أَثْبَتُّمْ قِدَمَ مَا لَا يَدُلُّ دَلِيلٌ إِلَّا عَلَى حُدُوثِهِ لَا عَلَى قِدَمِهِ.
ثُمَّ يُقَالُ لِهَؤُلَاءِ أَيْضًا: إِذَا كَانَ الرَّبُّ فَاعِلًا بِإِرَادَاتِهِ، كَمَا سَلَّمْتُمُوهُ، وَكَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ، بَلْ إِذَا كَانَ فَاعِلًا كَمَا سَلَّمْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَإِخْوَانُكُمُ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ عَنْ مُوجِبٍ قَدِيمٍ وَمُوجِبُهُ فَاعِلُهُ، فَلَا يُعْقَلُ فَاعِلُ مَفْعُولِهِ مُقَارِنٌ لَهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ عَلَيْهِ بِزَمَانِ ابْتِدَاءٍ (5) ، بَلْ تَقْدِيرُ هَذَا فِي الْعَقْلِ تَقْدِيرٌ لَا يُعْقَلُ.
(1) ن، م: مِنَ الْعَالَمِ بِعَيْنِهِ.
(2)
أ: وَكَذَلِكَ الْمَفْعُولُ الْمُعَيَّنُ مُقَارِنًا لِفَاعِلِهِ ; ب: وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْمَفْعُولِ الْمُعَيَّنِ مُقَارِنًا لِفَاعِلِهِ.
(3)
ن، م: وَأَنَّهُ خَلَقَ.
(4)
ب (فَقَطْ) : وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا.
(5)
ب: أَبَدًا.