الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَلَا يَكُونُ فِي الْعَالَمِ حَادِثٌ وَهُوَ خِلَافُ الْمُشَاهَدَةِ.
وَهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ وَلَا (1) يَقُولُ عَاقِلٌ: إِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِجَمِيعِ مَعْلُولَاتِهَا، وَلَا مُوجِبٌ أَزَلِيٌّ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ حَتَّى أَشْخَاصِهِ. وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ: إِنَّ جَمِيعَ مُرَادِهِ مُقَارِنٌ لَهُ فِي الْأَزَلِ، بَلْ يَقُولُونَ إِنَّ أُصُولَ الْعَالَمِ كَالْأَفْلَاكِ وَالْعَنَاصِرِ هِيَ الْأَزَلِيَّةُ الْقَدِيمَةُ (2) بِأَعْيَانِهَا، وَإِنَّ الْحَرَكَاتِ وَالْمُوَلِّدَاتِ قَدِيمَةُ النَّوْعِ، أَوْ يَقُولُونَ: إِنَّ مَوَادَّ هَذَا الْعَالَمِ كَالْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ (3) أَوِ الْهَيُولَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ هِيَ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ بِأَعْيَانِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ؛ إِذْ كَانَ قِدَمُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهُ مُسْتَلْزِمًا لَهُ فِي الْأَزَلِ، سَوَاءٌ سُمِّيَ مُوجِبًا لَهُ بِذَاتِهِ فِي الْأَزَلِ، أَوْ عِلَّةً تَامَّةً قَدِيمَةً مُسْتَلْزِمَةً لِمَعْلُولِهَا أَوْ قِيلَ: إِنَّهُ فَاعِلٌ بِإِرَادَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ [الْمُسْتَلْزِمَةِ](4) لِلْمَفْعُولِ الْمُرَادِ فِي الْأَزَلِ.
[بطلان القول بأن فاعل العالم علة تامة لأصول العالم دون حوادثه]
وَإِذَا قِيلَ: هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِأُصُولِ الْعَالَمِ دُونَ حَوَادِثِهِ، أَوْ هُوَ مُرِيدٌ بِإِرَادَةٍ أَزَلِيَّةٍ مُسْتَلْزِمَةٍ لِاقْتِرَانِ مُرَادِهَا بِهَا فِي الْأَزَلِ، لَكِنَّ تِلْكَ [الْإِرَادَةَ الْأَزَلِيَّةَ الْمُقَارِنَةَ](5) لِمُرَادِهَا إِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِأُصُولِ الْعَالَمِ دُونَ حَوَادِثِهِ.
قِيلَ لَهُمْ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ: مِنْهَا أَنَّ مُقَارَنَةَ الْمَفْعُولِ الْمُعَيَّنِ لِفَاعِلِهِ - لَا سِيَّمَا مُقَارَنَتُهُ لَهُ أَزَلًا
(1) ا، ب: فَهُمْ لَا يَقُولُونَ وَلَا. .
(2)
ن، م: هِيَ الْقَدِيمَةُ الْأَزَلِيَّةُ.
(3)
ا، ب: الْفَرْدَةِ.
(4)
الْمُسْتَلْزِمَةِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(5)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) وَسَقَطَتْ كَلِمَةُ " الْأَزَلِيَّةَ " مِنْ (م) .
وَأَبَدًا مُمْتَنَعٌ فِي صَرَائِحِ (1) الْعُقُولِ، بَلْ وَفِي بِدَايَةِ (2) الْعُقُولِ بَعْدَ التَّصَوُّرِ التَّامِّ.
وَإِذَا قَالُوا: الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ لَا يَجْتَمِعُ عَلَى جَحْدِهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمُ التَّوَاطُؤُ عَلَى الْكَذِبِ 0
قِيلَ لَهُمْ: لَا جَرَمَ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَتَّفِقْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ مِنْ غَيْرِ تَوَاطُئٍ، بَلْ جَمَاهِيرُ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ يُنْكِرُونَهُ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَإِنَّمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ وَاحِدَةٌ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ (3) ، عَلَى سَبِيلِ مُوَاطَأَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، (* وَتَلَقِّي بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ، وَمَعَ الْمُوَاطَأَةِ تَجُوزُ الْمُوَاطَأَةُ *)(4) عَلَى تَعَمُّدِ الْكَذِبِ وَعَلَى الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ كَالْمَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ الَّتِي يُعْلَمُ فَسَادُهَا بِالضَّرُورَةِ، وَقَدْ تَوَارَثَهَا طَائِفَةٌ تَلَقَّاهَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الَّتِي يُقِرُّ بِهَا النَّاسُ عَنْ (5) غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ، فَتِلْكَ لَا يَكُونُ مِنْهَا مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَلِهَذَا كَانَ فِي عَامَّةِ أَقْوَالِ الْكُفَّارِ وَأَهْلِ الْبِدَعِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَالنَّصَارَى وَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، وَلَكِنْ قَالَهُ طَائِفَةٌ تَلَقَّاهُ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَمِنْهَا أَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا حَقًّا لَامْتَنَعَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ فِي الْعَالَمِ جُمْلَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِلْحَوَادِثِ مُحْدِثٌ أَصْلًا، وَهَذَا مِنْ أَظْهَرِ مَا يُعْلَمُ فَسَادُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَتْ تَامَّةً أَزَلِيَّةً قَارَنَهَا مَعْلُولُهَا، وَكَانَ مَا
(1) ا، ب: صَرِيحِ.
(2)
ن، ا: بِدَايَةِ؛ ب: بَدَاهَةِ.
(3)
ا، ب: وَإِنَّمَا قَالَهُ طَائِفَةٌ أَخْذَهُ بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ.
(4)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م) .
(5)
ا، ب: مِنْ.
يَحْدُثُ غَيْرَ [مَعْلُولِهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُولًا لَهَا] لَكَانَ قَدْ تَأَخَّرَ الْمَعْلُولُ (1) أَوْ بَعْضُ الْمَعْلُولِ عَنْ عِلَّتِهِ التَّامَّةِ، وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهَا لَا مَعْلُولُهَا وَلَا بَعْضُ مَعْلُولِهَا، فَكُلُّ مَا حَدَثَ لَا يَحْدُثُ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ، وَوَاجِبُ الْوُجُودِ عِنْدَهُمْ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يَحْدُثَ عَنْهُ حَادِثٌ لَا بِوَاسِطَةٍ وَلَا بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ (2) .
وَمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا تَأَخَّرَتِ الْحَوَادِثُ لِتَأَخُّرِ الِاسْتِعْدَادِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِيمَا يَكُونُ عِلَّةُ وُجُودِهِ غَيْرَ عِلَّةِ اسْتِعْدَادِهِ وَقَبُولِهِ (3) ، كَمَا يَحْدُثُ عَنِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهَا تَارَةً تُلَيِّنُ وَتُرَطِّبُ كَمَا تُلَيِّنُ الثِّمَارَ بَعْدَ يُبْسِهَا (4) بِسَبَبِ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الرُّطُوبَةِ، فَتَجْتَمِعُ الرُّطُوبَةُ الْمَائِيَّةُ وَالسُّخُونَةُ الشَّمْسِيَّةُ فَتَنْضَجُ الثِّمَارُ وَتَلِينُ، وَتَارَةً تُجَفِّفُ وَتُيَبِّسُ كَمَا يَحْصُلُ لِلثِّمَارِ بَعْدَ تَنَاهِي نُضْجِهَا، فَإِنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْهَا الِاسْتِمْدَادُ مِنَ الرُّطُوبَةِ، فَتَبْقَى حَرَارَةٌ تَفْعَلُ فِي رُطُوبَةٍ مِنْ غَيْرِ إِمْدَادٍ، فَتُجَفِّفُهَا كَمَا تُجَفِّفُ الشَّمْسُ وَالنَّارُ وَغَيْرُهُمَا لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَجْسَامِ الرَّطْبَةِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ قَدْ يَتَأَخَّرُ فِعْلُ الْفَاعِلِ لِعَدَمِ اسْتِعْدَادِ الْقَابِلِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنَ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ لَهُ حَقِيقَةٌ لَكَانَ تَأَخُّرُ فَيْضِهِ حَتَّى تَسْتَعِدَّ الْقَوَابِلُ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَأَمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ الْفَاعِلُ لِكُلِّ
(1) ا، ب: وَكَانَ مَا يَحْدُثُ غَيْرَ مَعْلُولٍ لَهَا لَكَانَ قَدْ تَأَخَّرَ الْمَعْلُولُ. . إِلَخْ.
(2)
ن، م: لَا بِوَسَطٍ وَلَا بِغَيْرِ وَسَطٍ.
(3)
ن، م: وَقَبُولِهَا.
(4)
ن، م: بَعْدَ قُوَّتِهَا.
مَا سِوَاهُ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ فِعْلُهُ عَلَى أَمْرٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِهِ - لَا إِعْدَادَ (1) وَلَا إِمْدَادَ وَلَا قَبُولَ وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ، بَلْ نَفْسُهُ هِيَ الْمُسْتَلْزِمَةُ لِفِعْلِهِ - فَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لَوَجَبَ أَنْ يُقَارِنَهُ مَعْلُولُهُ كُلُّهُ، وَلَا يَتَأَخَّرَ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ (2) ، وَإِذَا تَأَخَّرَ شَيْءٌ مِنْ مَفْعُولَاتِهِ وَلَوْ كَانَ مَفْعُولًا بِوَاسِطَةٍ، عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لَهُ فِي الْأَزَلِ، وَأَنَّهُ صَارَ عِلَّةً بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ
وَإِذَا قِيلَ الْحَرَكَةُ الْفَلَكِيَّةُ هِيَ سَبَبُ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ 0
قِيلَ: وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ، فَإِنَّ الْحَرَكَةَ الْحَادِثَةَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لَهَا (3) عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً، فَإِنَّ هَذِهِ يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا أَزَلًا وَأَبَدًا، وَالْحَرَكَةُ الْحَادِثَةُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ يُمْتَنَعُ أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِعِلَّتِهَا فِي الْأَزَلِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِحُدُوثِهَا لَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الرَّبُّ مُتَّصِفًا بِأَفْعَالٍ تَقُومُ بِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، بِسَبَبِ (4) مَا يَقُومُ بِهِ، يَحْدُثُ عَنْهُ مَا يَحْدُثُ، مِثْلَ مَشِيئَتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ وَكَلِمَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ وَأَفَعَالِهِ الِاخْتَيَارِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ.
وَمِنْهَا أَنَّ الْحَوَادِثَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ مُحْدِثٍ، وَيُمْتَنَعُ أَنْ يُحْدِثَهَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِيهِ فِي ذَلِكَ الْحَدَثِ كَالْقَوْلِ فِيهِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ، وَيَعُودُ التَّقْسِيمُ.
وَإِذَا قَالُوا: إِنَّمَا تَأَخَّرَ الثَّانِي لِتَأَخُّرِ حُدُوثِ الْقَوَابِلِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي بِهَا قَبْلَ الْفَيْضِ 0
(1) ن، م: لَا عِدَادَ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(2)
ن، م: مِنْ مَعْلُولَاتِهِ.
(3)
ن، م: لَهُ.
(4)
بِسَبَبِ: كَذَا فِي جَمِيعِ النُّسَخِ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ: وَيُسَبِّبُ.
قِيلَ لَهُمْ: هَذَا يُعْقَلُ فِيمَا إِذَا (1) كَانَ حُدُوثُ الْقَوَابِلِ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي حُدُوثِ الشُّعَاعِ عَنِ الشَّمْسِ، وَكَمَا يَقُولُونَهُ فِي الْعَقْلِ الْفَعَّالِ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ هُوَ الْفَاعِلُ لِلْقَابِلِ وَالْمَقْبُولِ، وَالشَّرْطِ وَالْمَشْرُوطِ، وَهُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِمَا يَصْدُرُ عَنْهُ (2) وَجَبَ مُقَارَنَةُ مَعْلُولِهِ كُلِّهِ لَهُ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ شَيْءٌ، فَإِنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ غَيْرِ إِحْدَاثِهِ لِشَيْءٍ، وَإِحْدَاثُهُ لِشَيْءٍ (3) مَعَ كَوْنِهِ (4) عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً مُمْتَنَعٌ، وَكَوْنَهُ عِلَّةً لِنَوْعِ الْحَوَادِثِ مَعَ عَدَمِ حُدُوثِ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ مُمْتَنَعٌ.
وَلِأَنَّ صُدُورَ الْعَالَمِ عَنْ فَاعِلَيْنِ مُمْتَنَعٌ، سَوَاءٌ كَانَا مُشْتَرِكَيْنِ فِي جَمِيعِهِ، أَوْ كَانَ هَذَا فَاعِلًا لِبَعْضِهِ وَهَذَا فَاعِلًا لِبَعْضِهِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ (5) وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُثْبِتْ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنَّ الْعَالَمَ صَدَرَ عَنِ اثْنَيْنِ مُتَكَافِئَيْنِ فِي الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنَ الْعُقَلَاءِ: إِنَّ أُصُولَ الْعَالَمِ الْقَدِيمَةِ صَدَرَتْ عَنْ وَاحِدٍ، وَحَوَادِثَهُ صَدَرَتْ عَنْ آخَرَ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَا يَخْلُو مِنَ الْحَوَادِثِ (6) ، وَفِعْلُ الْمَلْزُومِ بِدُونِ لَازِمِهِ مُمْتَنَعٌ، وَلَوْ كَانَ الْفَاعِلُ لِلَوَازِمِهِ غَيْرَهُ لَزِمَ أَنْ لَا يَتِمَّ فِعْلٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إِلَّا بِالْآخَرِ، فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ فِي الْفَاعِلَيْنِ، وَكَوْنُ كُلِّ [وَاحِدٍ](7) مِنَ الرَّبَّيْنِ لَا يَصِيرُ رَبًّا إِلَّا بِالْآخَرِ، وَلَا يَصِيرُ قَادِرًا إِلَّا بِالْآخَرِ، وَلَا يَصِيرُ فَاعِلًا إِلَّا بِالْآخَرِ، فَلَا
(1) إِذَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(2)
ن، م: عَنْهَا.
(3)
عِبَارَةُ " وَإِحْدَاثُهُ لِشَيْءٍ ": سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(4)
ب (فَقَطْ) : مَعَ أَنَّ كَوْنَهُ.
(5)
ن، م: كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.
(6)
ن، م: لَا يَخْلُو عَنِ الْحُدُوثِ.
(7)
وَاحِدٍ: زِيَادَةٌ فِي (ا) ، (ب) .
يَصِيرُ هَذَا قَادِرًا حَتَّى يَجْعَلَهُ الْآخَرُ قَادِرًا، (1 وَلَا يَصِيرُ هَذَا قَادِرًا حَتَّى يَجْعَلَهُ الْآخَرُ قَادِرًا 1)(1) ، فَيُمْتَنَعُ وَالْحَالُ هَذِهِ أَنْ يَصِيرَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قَادِرًا وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَذَلِكَ مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا فَاعِلَ لِلْحَوَادِثِ إِلَّا هُوَ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ حَدَثَتْ عَنْهُ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ لَزِمَ حُدُوثُ الْحَادِثِ بِلَا سَبَبٍ حَادِثٍ، وَهَذَا إِذَا جَازَ جَازَ حُدُوثُ الْعَالَمِ كُلِّهِ بِلَا سَبَبٍ (2) حَادِثٍ.
وَأَيْضًا: فَإِنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْعَالَمُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا خَالِيًا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْحَوَادِثِ، وَأَنَّ الْحَوَادِثَ حَدَثَتْ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ، وَهَذَا مُمْتَنَعٌ بِالِاتِّفَاقِ وَالْبُرْهَانِ لِوُجُوهٍ (3) كَثِيرَةٍ مِثْلَ اقْتِضَائِهِ عَدَمَ الْقَدِيمِ (4) الْوَاجِبِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قُدِّرَ مَعْلُولٌ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ عَلَى حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، ثُمَّ حَدَثَتْ (5) فِيهِ الْحَوَادِثُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَغَيَّرَ مِنْ صِفَةٍ إِلَى صِفَةٍ (6) : يَزُولُ مَا كَانَ مَوْجُودًا، وَيَحْدُثُ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا، وَزَوَالُ مَا كَانَ مَوْجُودًا مُمْتَنَعٌ، فَإِنَّ الْقَدِيمَ إِنَّمَا يَكُونُ قَدِيمًا إِذَا كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، (* فَإِنَّ (7) مَا كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ يُمْتَنَعُ عَدَمُهُ، (8 وَمَا كَانَ قَدِيمًا يُمْتَنَعُ عَدَمُهُ 8)(8) أَيْضًا، بَلِ الْقَدِيمُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا إِلَّا إِذَا كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِهِ
(1)(1 - 1) : سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(2)
سَبَبٍ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(3)
ا، ب: بِوُجُوهٍ.
(4)
ن، م: عَدَمَ الْقِدَمِ؛ ا: عَدِيمَ الْقَدِيمِ. وَالْمُثْبَتُ مِنْ (ب) .
(5)
ا، ب: ثُمَّ حَدَثَ.
(6)
ن، م: فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَعَيَّنَ مِنْ وَصْفِهِ إِلَى وَصْفِهِ.
(7)
ب: وَإِنَّ.
(8)
(8 - 8) : سَاقِطَةٌ مِنْ (م) ، (ب) .
أَوْ بِغَيْرِهِ، فَمَا عُلِمَ أَنَّهُ كَانَ قَدِيمًا وَاجِبًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ *) (1) يَكُونُ الْعِلْمُ بِامْتِنَاعِ عَدَمِهِ أَوْكَدَ وَأَوْكَدَ.
وَالْعَالَمُ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا لَا حَادِثَ فِيهِ، ثُمَّ حَدَثَ فِيهِ حَادِثٌ فَقَدْ غَيَّرَهُ مِنَ الْحَالِ الْقَدِيمَةِ الْأَزَلِيَّةِ الْوَاجِبَةِ بِنَفْسِهَا أَوْ بِغَيْرِهَا إِلَى حَالٍ أُخْرَى تُخَالِفُهَا، وَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مُمْتَنَعٌ، فَإِذَا كَانَ هَذَا بِدُونِ سَبَبٍ حَادِثٍ كَانَ مُمْتَنَعًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَأَيْضًا: فَالْعَالَمُ لَا يُتَصَوَّرُ انْفِكَاكُهُ عَنْ مُقَارَنَةِ الْحَوَادِثِ، فَإِنَّ الْأَجْسَامَ لَا تَخْلُو عَنْ مُقَارَنَةِ الْحَوَادِثِ: الْحَرَكَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْعَالَمُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا مَا هُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ بِلَا نِزَاعٍ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ، وَتِلْكَ الْأَعْيَانُ لَا تَخْلُو عَنْ مُقَارَنَةِ الْحَوَادِثِ، فَإِنَّهَا لَوْ خَلَتْ عَنْهَا ثُمَّ قَارَنَتْهَا لَلَزِمَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ، وَهَذَا بَاطِلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا بَاطِلًا جَازَ حُدُوثُ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ، فَبَطَلَ الْقَوْلُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ.
ثُمَّ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ يَقُولُ: لَيْسَ فِي الْعَالَمِ إِلَّا جِسْمٌ أَوْ عَرَضٌ. وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُ الْجِسْمَ بِمَا يُشَارُ إِلَيْهِ، وَيُمْنَعُ (2) كَوْنُ كُلِّ جِسْمٍ مَرَكَّبًا مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُفْرَدَةِ (3) أَوْ مِنَ الْمَادَّةِ وَالصُّورَةِ، فَلَا يَلْزَمُهُمْ مِنَ الْإِشْكَالِ مَا يَتَوَجَّهُ عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّ فِيهِ مَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يَذْكُرُهُ مَنْ يُثْبِتُ الْعُقُولَ
(1) مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م) .
(2)
ا، ب: وَيُمْتَنَعُ.
(3)
ا: الْمُنْفَرِدَةِ؛ ب: الْفَرْدَةِ.
وَالنُّفُوسَ، وَيَقُولُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ أَجْسَامًا، فَالنُّفُوسُ لَا تُفَارِقُ الْأَجْسَامَ، بَلْ هِيَ مُقَارِنَةٌ لَهَا مُدَبِّرَةٌ لَهَا (1) فَلَا تُفَارِقُ الْحَوَادِثَ.
وَأَيْضًا: فَالنُّفُوسُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ تَصَوُّرَاتٍ وَإِرَادَاتٍ حَادِثَةٍ، فَهِيَ دَائِمًا مُقَارِنَةٌ لِلْحَوَادِثِ، وَالْعُقُولُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِمَعْلُولِهَا لَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا (2) بِالزَّمَانِ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْعَالَمِ مَا يَسْبِقُ الْحَوَادِثَ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْهُ قَدِيمًا أَزَلِيًّا سَابِقًا لِلْحَوَادِثِ، وَحِينَئِذٍ فَالْمُبْدِعُ لِشَيْءٍ مِنْهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يُبْدِعَهُ بِدُونِ إِبْدَاعِ لَوَازِمِهِ، وَلَوَازِمُهُ يُمْتَنَعُ وَجُودُهَا فِي الْأَزَلِ، فَيُمْتَنَعُ وُجُودُ شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْأَزَلِ.
فَإِذَا قِيلَ: فَهُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِلْفَلَكِ مَعَ حَرَكَتِهِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً أَزَلِيَّةً تَامَّةً لِلْفَلَكِ مَعَ حَرَكَتِهِ، فَتَكُونُ حَرَكَتُهُ أَزَلِيَّةً، وَالْحَرَكَةُ لَا تُوجَدُ إِلَّا شَيْئًا فَشَيْئًا، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ حَرَكَتِهِ أَزَلِيَّةً (3) .
وَإِذَا (4) قِيلَ: هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِلْفَلَكِ دُونَ حَرَكَتِهِ، احْتَاجَتْ حَرَكَتُهُ إِلَى مُبْدِعٍ آخَرَ، وَلَا مُبْدِعَ (5) غَيْرُهُ.
وَإِنْ قِيلَ: هُوَ عِلَّةٌ لِلْحَرَكَةِ (6) شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، لَمْ يَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَرَكَةِ فِي الْأَزَلِ، لَكِنْ يَصِيرُ عِلَّةً تَامَّةً لِشَيْءٍ مِنْهَا بِحَسَبِ وَجُودِهِ، فَتَكُونُ عِلِّيَّتُهُ وَفَاعِلِيَّتُهُ وَإِرَادَتُهُ حَادِثَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً تَامَّةً فِي
(1) عِبَارَةُ " مُدَبِّرَةٌ لَهَا ": سَاقِطَةٌ مِنْ (م) فَقَطْ.
(2)
ن، م: عَلَيْهِ.
(3)
ن: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهَا أَزَلِيَّةً؛ م: أَنْ يَكُونَ جَمِيعًا أَزَلِيًّا؛ ا: أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ حَرَكَتِهَا أَزَلِيَّةً.
(4)
ا، ب: فَإِنْ.
(5)
عِبَارَةُ " وَلَا مُبْدِعَ ": سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) فَقَطْ.
(6)
ا، ب: الْحَرَكَةِ.
الْأَزَلِ، وَهَذَا الْقَوْلُ [ظَاهِرٌ](1) ، لَا يُنَازِعُ فِيهِ مَنْ فَهِمَهُ، وَهُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ امْتِنَاعَ كَوْنِهِ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً لِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَامْتِنَاعُ كَوْنِهِ عِلَّةً تَامَّةً لِلْفَلَكِ مَعَ حَرَكَتِهِ الدَّائِمَةِ.
وَهُمْ لَا يَقُولُونَ: (2) إِنَّهُ فِي الْأَزَلِ عِلَّةٌ لِكُلِّ مَوْجُودٍ، بَلْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي الْأَزَلِ عِلَّةٌ لِمَا كَانَ قَدِيمًا بِعَيْنِهِ كَالْأَفْلَاكِ، وَهُوَ دَائِمًا عِلَّةٌ لِنَوْعِ الْحَوَادِثِ، وَيَصِيرُ عِلَّةً تَامَّةً لِلْحَادِثِ الْمُعَيَّنِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً لَهُ، فَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: كَوْنُهُ يَصِيرُ عِلَّةً تَامَّةً لِشَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لَهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرٍ يَحْدُثُ مِنْهُ مُمْتَنَعٌ لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُحْدِثَ لِلْحَوَادِثِ سِوَاهُ، فَيُمْتَنَعُ أَنَّ غَيْرَهُ يُحْدِثُ فَاعِلِيَّتَهُ، وَكَوْنُهُ عِلَّةً فَلَا يُحْدِثُ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِلْمُعَيَّنِ إِلَّا هُوَ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُحْدِثُ؛ لِكَوْنِهِ عِلَّةً لِلْمُعَيَّنِ وَفَاعِلًا لَهُ، وَهَذِهِ الْفَاعِلِيَّةُ كَانَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ تَكُونَ صَدَرَتْ عَنْ عِلَّةٍ تَامَّةٍ أَزَلِيَّةٍ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْأَزَلِيَّةَ يُقَارِنُهَا مَعْلُولُهَا.
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ يُمْتَنَعُ أَنْ يَصِيرَ فَاعِلًا لِشَيْءٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عِلَّةً تَامَّةً أَزَلِيَّةً، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُومَ بِهِ مِنَ الْأَحْوَالِ مَا يُوجِبُ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِمَا يَحْدُثُ عَنْهُ مِنَ الْحَوَادِثِ، سَوَاءٌ أَحَدَثَتْ (3) بِوَاسِطَةٍ أَمْ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ.
وَأَيْضًا: فَإِذَا قُدِّرَ أَنَّهُ - كَمَا يَقُولُونَ - حَالُهُ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ الْمُعَيَّنَ وَمَعَ
(1) ظَاهِرٌ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
(2)
أ، ب: وَهُمْ يَقُولُونَ.
(3)
ن، م: سَوَاءٌ حَدَثَ.
إِحْدَاثِ الْمُعَيَّنِ وَبَعْدَ إِحْدَاثِ الْمُعَيَّنِ سَوَاءٌ امْتَنَعَ إِحْدَاثُ الْمُعَيَّنِ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ يُحْدِثَ شَيْئًا (1) .
وَأَيْضًا: فَلَمْ يَكُنْ إِحْدَاثُهُ لِلْأَوَّلِ بِأَوْلَى مِنْ إِحْدَاثِهِ لِلثَّانِي، وَلَا تَخْصِيصِ (* الْأَوَّلِ بِقَدْرِهِ وَوَصْفِهِ بِأَوْلَى مِنَ الثَّانِي إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ قَطُّ سَبَبٌ يُوجِبُ التَّخْصِيصَ *)(2) ، لَا بِقَدْرٍ وَلَا بِوَصْفٍ (3) وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ.
وَهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى مَنْ قَالَ مِنَ النُّظَّارِ: إِنَّهُ فَعَلَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا (4)، [وَقَالُوا: الْعَقْلُ الصَّرِيحُ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا] (5) فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ: إِمَّا قُدْرَةٌ، وَإِمَّا إِرَادَةٌ، وَإِمَّا عِلْمٌ، وَإِمَّا زَوَالُ مَانِعٍ، وَإِمَّا سَبَبٌ مَا.
فَيُقَالُ لَهُمْ: وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ يَعْلَمُ أَنَّ مَنْ فَعَلَ هَذَا الْحَادِثَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلًا لَهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ سَبَبٌ اقْتَضَى فِعْلَهُ، فَأَنْتُمْ أَنْكَرْتُمْ عَلَى غَيْرِكُمُ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ بِلَا سَبَبٍ، وَالْتَزَمْتُمْ دَوَامَ الْمَفْعُولَاتِ الْحَادِثَةِ بِلَا سَبَبٍ، فَكَانَ مَا الْتَزَمْتُمُوهُ مِنْ حُدُوثِ الْحَوَادِثِ بِلَا سَبَبٍ أَعْظَمَ مِمَّا نَفَيْتُمُوهُ، بَلْ قَوْلُكُمْ مُسْتَلْزِمٌ أَنَّهُ لَا (6) فَاعِلَ لِلْحَوَادِثِ ابْتِدَاءً، بَلْ تَحْدُثُ بِلَا فَاعِلٍ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَوَادِثِ عِنْدَكُمْ هُوَ حَرَكَةُ الْفَلَكِ (7) ، وَحَرَكَةُ الْفَلَكِ حَرَكَةٌ نَفْسَانِيَّةٌ تَتَحَرَّكُ بِمَا يَحْدُثُ لَهَا مِنَ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْمُتَعَاقِبَةِ، وَإِنْ
(1) ا: فَيُمْتَنَعُ إِحْدَاثُ شَيْئًا؛ ب: فَيُمْتَنَعُ إِحْدَاثُ شَيْءٍ.
(2)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (م) .
(3)
ا، ب: لَا بِقَدْرِهِ وَلَا وَصْفِهِ.
(4)
فَاعِلًا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(5)
مَا بَيْنَ الْمَعْقُوفَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
(6)
لَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(7)
ن (فَقَطْ) : هُوَ الْحَرَكَةُ الْفَلَكِيَّةُ.
كَانَتْ تَابِعَةً لِتَصَوُّرٍ كُلِّيٍّ وَإِرَادَةٍ كُلِّيَّةٍ، ثُمَّ تِلْكَ التَّصَوُّرَاتُ وَالْإِرَادَاتُ وَالْحَرَكَاتُ تَحْدُثُ بِلَا مُحْدِثٍ [لَهَا](1) أَصْلًا عَلَى قَوْلِكُمْ؛ لِأَنَّ وَاجِبَ الْوُجُودِ عِنْدَكُمْ لَيْسَ فِيهِ مَا يُوجِبُ فِعْلًا حَادِثًا أَصْلًا، بَلْ حَالُهُ قَبْلَ الْحَادِثِ وَبَعْدَهُ وَمَعَهُ سَوَاءٌ، وَكَوْنُ الْفَاعِلِ يَفْعَلُ الْأُمُورَ الْحَادِثَةَ الْمُخْتَلِفَةَ مَعَ أَنَّ حَالَهُ قَبْلُ وَبَعْدُ وَمَعَ سَوَاءٌ (2 أَبْعَدُ مِنْ كَوْنِهِ يُحْدِثُ حَادِثًا مَعَ أَنَّ حَالَهُ قَبْلُ وَبَعْدُ وَمَعَ سَوَاءٌ 2)(2) .
وَإِذَا قِيلَ: تَغَيُّرُ فِعْلِهِ لِتَغَيُّرِ الْمَفْعُولَاتِ 0
قِيلَ: فِعْلُهُ إِنْ كَانَ هُوَ الْمَفْعُولَاتُ عِنْدَكُمْ - كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا وَنَحْوُهُ مِنْ جَهْمِيَّةِ الْفَلَاسِفَةِ نُفَاةِ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ - فَالْمُتَغَيِّرُ هُوَ الْمُنْفَصِلَاتُ عَنْهُ، وَهِيَ الْمَفْعُولَاتُ، وَلَيْسَ هُنَا فِعْلٌ هُوَ غَيْرُهَا يُوصَفُ بِالتَّغَيُّرِ، فَمَا الْمُوجِبُ لِتَغَيُّرِهَا وَاخْتِلَافِهَا وَحُدُوثِ مَا يَحْدُثُ مِنْهَا مَعَ [أَنَّ](3) الْفَاعِلَ هُوَ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ؟ ! وَفَسَادُ (4) هَذَا فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ أَظْهَرُ مِنْ فَسَادِ مَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَى غَيْرِكُمْ.
وَإِنْ كَانَ فِعْلُهُ قَائِمًا بِنَفْسِهِ كَمَا يَقُولُهُ مُثْبِتَةُ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ الْمِلَلِ [وَمِنَ الْفَلَاسِفَةِ](5) الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَفْعُولَاتِ إِنَّمَا سَبَبُهُ (6) هَذِهِ الْأَفْعَالُ
(1) لَهَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(2)
(2 - 2) : سَاقِطٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(3)
أَنَّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(4)
ن، م: فَفَسَادُ.
(5)
عِبَارَةُ " وَمِنَ الْفَلَاسِفَةِ ": سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(6)
ا، ب: إِنَّمَا هُوَ سَبَبُهُ.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْمُحْدِثُ لِجَمِيعِ الْمَفْعُولَاتِ الْمُتَغَيِّرَةِ وَتَغَيُّرَاتِهَا، فَيُمْتَنَعُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُؤَثِّرَةُ فِي تَغَيُّرِ فِعْلِهِ الْقَائِمِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا يُوجِبُ كَوْنَ الْمَعْلُولِ الْمَخْلُوقِ الْمَصْنُوعِ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْخَالِقِ الصَّانِعِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ عِلَّةً [تَامَّةً](1) ، وَهَذَا يُوجِبُ الدَّوْرَ الْمُمْتَنَعَ، فَإِنَّ كَوْنَ كُلٍّ مِنَ الشَّيْئَيْنِ مُؤَثِّرًا فِي الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَمْرٌ ثَالِثٌ غَيْرُهُمَا يُؤَثِّرُ (2) فِيهِمَا هُوَ مِنَ الدَّوْرِ الْقَبْلِيِّ الْمُمْتَنَعِ، فَإِنَّ أَحَدَ الْفَاعِلَيْنِ لَا يَفْعَلُ فِي الْآخَرِ حَتَّى يَفْعَلَ الْآخَرُ فِيهِ كَمَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، فَإِنَّ التَّغَيُّرَ الْحَادِثَ لَا يَحْدُثُ حَتَّى يُحْدِثَهُ هُوَ؛ لِمَا يَقُومُ بِهِ مِنَ الْفِعْلِ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَا يَقُومُ (3) حَتَّى يُحْدِثَهُ ذَلِكَ التَّغَيُّرُ لَزِمَ أَنْ لَا يُوجَدَ حَتَّى يُوجَدَ ذَاكَ، وَلَا يُوجَدُ ذَاكَ حَتَّى يُوجَدَ هَذَا، فَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُوجَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى يُوجَدَ هُوَ قَبْلَ أَنْ يُوجَدَ بِمَرْتَبَتَيْنِ، فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
وَإِنْ قِيلَ: الْمَفْعُولُ الْمُتَغَيِّرُ الْأَوَّلُ أَحْدَثَ فِي الْفَاعِلِ تَغَيُّرًا، وَذَلِكَ التَّغَيُّرُ أَوْجَبَ تَغَيُّرًا ثَانِيًا 0
قِيلَ: فَذَلِكَ الْأَوَّلُ إِنَّمَا صَدَرَ عَنْ فِعْلٍ قَائِمٍ (4) بِالْفَاعِلِ، فَالْفَاعِلُ مَا قَامَ بِهِ مِنَ الْفِعْلِ هُوَ الْفَاعِلُ لِكُلِّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمُتَغَيِّرَةِ أَوَّلًا وَآخِرًا، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ غَيْرُهُ أَلْبَتَّةَ.
وَإِنْ قِيلَ: وُجُودُ مَفْعُولِهِ الثَّانِي مَشْرُوطٌ بِمَفْعُولِهِ الْأَوَّلِ، فَهُوَ الْفَاعِلُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّانِي، فَلَمْ يَحْتَجْ فِي شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَلَا أَثَّرَ فِيهِ
(1) تَامَّةً: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(2)
ا: مُؤَثِّرًا؛ ب: مُؤَثِّرٌ.
(3)
ب: لَا يَقُومُ بِهِ. وَيُوجَدُ شَطْبٌ عَلَى " بِهِ " فِي (ن) .
(4)
قَائِمٍ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
[شَيْءٌ](1) . سِوَاهُ وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُلْهِمُ الْعِبَادَ أَنْ يَدْعُوهُ [فَيَدْعُونَهُ](2) فَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ، وَيُلْهِمُهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ فَيُطِيعُونَهُ فَيُثِيبَهُمْ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ الْفَاعِلُ لِلْإِجَابَةِ وَالْإِثَابَةِ كَمَا أَنَّهُ أَوَّلًا جَعَلَ الْعِبَادَ دَاعِينَ مُطِيعِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مُفْتَقِرًا إِلَى غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ.
وَكُلُّ مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْأُمُورَ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْيَانِ وَصِفَاتِهَا وَأَفْعَالِهَا بِأَفْعَالِهِ الِاخْتِيَارِيَّةِ الْقَائِمَةِ بِنَفْسِهِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ نُصُوصُ الْأَنْبِيَاءِ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتُهَا، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَسَاطِينُ الْفَلَاسِفَةِ الْقُدَمَاءِ، وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ حُدُوثَ كُلِّ مَا سِوَاهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ عِلَّةً أَزَلِيَّةً لِمَعْلُولٍ قَدِيمٍ مَعَ أَنَّهُ دَائِمُ الْفَاعِلِيَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ دَوَامِ كَوْنِهِ فَاعِلًا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَفْعُولٌ مُعَيَّنٌ قَدِيمٌ، بَلْ هَذَا مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ.
وَهَؤُلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةُ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ عَنْ مُوجَبٍ بِذَاتِهِ هُوَ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ [لَهُ](3) يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ عِلَّةً تَامَّةً فِي الْأَزَلِ لِكُلِّ حَادِثٍ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَقُولُهُ مَنْ يَتَصَوَّرُ مَا يَقُولُ، فَإِنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ هِيَ الَّتِي تَسْتَلْزِمُ مَعْلُولَهَا وَتَسْتَعْقِبُهُ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْلُولُ حَادِثًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَكُنِ الْمُسْتَلْزِمُ لَهُ أَزَلِيًّا؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَأَخُّرِ الْمَعْلُولِ (4) وَتَرَاخِيهِ زَمَانًا لَا نِهَايَةَ لَهُ عَنِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْأَزَلِيَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ حَادِثٍ يُوجَدُ فِي الْعَالَمِ مُتَأَخِّرٌ (5) عَنِ الْأَزَلِ تَأَخُّرًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَلَوْ كَانَتْ عِلَّتُهُ التَّامَّةُ ثَابِتَةً فِي الْأَزَلِ لَكَانَ الْمَعْلُولُ
(1) شَيْءٌ: زِيَادَةٌ فِي (ا) ، (ب) .
(2)
فَيَدْعُونَهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(3)
لَهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(4)
ن: الْمَعْقُولِ؛ م: الْمَفْعُولِ، وَكِلَاهُمَا تَحْرِيفٌ.
(5)
ن، م: مُتَأَخِّرًا.
مُتَأَخِّرًا عَنِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ تَأَخُّرًا لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَعْلُولِهَا فَصْلٌ أَصْلًا، بَلِ النِّزَاعُ: هَلْ يَكُونُ مَعَهَا فِي الزَّمَانِ أَوْ يَكُونُ عَقِبَهَا فِي الزَّمَانِ (1) ، وَيَكُونُ مَعَهَا (2) كَالْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ الزَّمَانِ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ؟ . هَذَا مِمَّا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ إِذْ كَانُوا (3) مُتَّفِقِينَ عَلَى أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهَا (4) تَأَخُّرًا عَقْلِيًّا وَأَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ عَنْهَا. وَهَلْ يَتَّصِلُ بِهَا اتِّصَالًا زَمَانِيًّا أَوْ يَقْتَرِنُ بِهَا اقْتِرَانًا زَمَانِيًّا؟ هَذَا مَحَلُّ نَظَرِ النَّاسِ (5) .
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ كُلَّ مَا يُحْدِثُ الْعَالَمَ فَلَا تَكُونُ عِلَّتُهُ التَّامَّةُ الْمُسْتَلْزِمَةُ تَامَّةً (6) قَبْلَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ، فَكَيْفَ تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ (7) تَقَدُّمًا لَا نِهَايَةَ لَهُ؟ لَكِنَّ غَايَةَ مَا يَقُولُونَ: إِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِمَا كَانَ قَدِيمًا مِنَ الْعَالَمِ كَالْأَفْلَاكِ، وَأَمَّا مَا يَحْدُثُ فِيهِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ عِلَّةً تَامَّةً لَهُ عِنْدَ حُدُوثِهِ.
وَيَقُولُونَ: إِنَّ حُدُوثَ الْأَوَّلِ شَرْطٌ فِي حُدُوثِ الثَّانِي كَالْمَاشِي الَّذِي يَقْطَعُ أَرْضًا بَعْدَ أَرْضٍ، وَكَحَرَكَةِ الشَّمْسِ [الَّتِي] تَقْطَعُ (8) بِهَا مَسَافَةً بَعْدَ مَسَافَةٍ، كَالْمُتَحَرِّكِ (9) لَا يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ الثَّانِيَةَ حَتَّى يَقْطَعَ الْأُولَى، فَقَطْعُ
(1) ن، م، ا،: هَلْ يَكُونُ مَعَهُ فِي الزَّمَانِ أَوْ يَكُونُ عَقِبَهُ. وَالْمُثْبَتُ مِنْ (ب) وَهُوَ الصَّوَابُ، وَالْمَقْصُودُ هَلْ يَكُونُ الْمَعْلُولُ مَعَ الْعِلَّةِ فِي الزَّمَانِ أَوْ يَكُونُ عَقِبَ الْعِلَّةِ.
(2)
ن، م: وَيَكُونُ مَعَهُ؛ ا: وَتَكُونُ مَعَهُ؛ ب: يَكُونُ مَعَهَا. وَلَعَلَّ الصَّوَابَ مَا أَثْبَتُّهُ.
(3)
ا: إِنْ كَانُوا؛ ب: وَإِنْ كَانُوا.
(4)
ن، م، ا: عَلَى أَنَّهَا مُتَأَخِّرَةٌ عَنْهُ.
(5)
ن، م: الْقِيَاسِ.
(6)
ن، م: ثَابِتَةٌ.
(7)
ن، م، ا: يَتَقَدَّمُ عَلَيْهَا.
(8)
ن، م: وَكَحَرَكَةِ الشَّمْسِ تَقْطَعُ؛ ا: وَكَحَرَكَةِ الشَّمْسِ الَّذِي تَقْطَعُ
(9)
ا: كَالتَّحَرُّكِ؛ ب: فَالْمُتَحَرِّكُ.
الْأُولَى بِحَرَكَتِهِ شَرْطٌ فِي قَطْعِ الثَّانِيَةِ بِحَرَكَتِهِ، وَالْعِلَّةُ التَّامَّةُ لِقَطْعِ الثَّانِيَةِ إِنَّمَا وُجِدَتْ بَعْدَ الْأُولَى. وَهَذَا غَايَةُ مَا يَقُولُونَهُ وَيُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِعِبَارَاتٍ، فَتَارَةً (1) يَقُولُونَ: فَيْضُ الْعِلَّةِ الْأُولَى وَالْمَبْدَأِ الْأَوَّلِ أَوْ وَاجِبِ الْوُجُودِ - وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى - دَائِمٌ، لَكِنْ يَتَأَخَّرُ لِيَحْصُلَ الِاسْتِعْدَادُ وَالْقَوَابِلُ، وَسَبَبُ الِاسْتِعْدَادِ وَالْقَوَابِلِ [عِنْدَ](2) كَثِيرٍ مِنْهُمْ - أَوْ أَكْثَرِهِمْ - هُوَ حَرَكَةُ الْفَلَكِ، فَلَيْسَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ سَبَبٌ لِتَغَيُّرَاتِ الْعَالَمِ إِلَّا حَرَكَةَ الْفَلَكِ - كَمَا يَقُولُهُ ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ - وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَصْحَابِ أَرِسْطُو.
وَأَمَّا آخَرُونَ أَعْلَى مِنْ هَؤُلَاءِ - كَأَبِي الْبَرَكَاتِ وَغَيْرِهِ - فَيَقُولُونَ: بَلْ سَبَبُ التَّغَيُّرَاتِ مَا يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ مِنْ إِرَادَاتٍ مُتَجَدِّدَةٍ، بَلْ وَمِنْ إِدْرَاكَاتٍ، كَمَا قَدْ بَسَطَهُ فِي كِتَابِهِ الْمُعْتَبَرِ.
فَأُولَئِكَ - كَابْنِ سِينَا وَأَمْثَالِهِ - يَقُولُونَ: هُوَ بِنَفْسِهِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِلْعَالَمِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمُتَجَدِّدَةِ، وَإِنَّ الْحَادِثَ الْأَوَّلَ كَانَ شَرْطًا أَعَدَّ الْقَابِلَ (3) لِلْحَادِثِ الثَّانِي. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَهُوَ أَيْضًا فِي غَايَةِ الْمُنَاقَضَةِ لِأُصُولِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ عِلَّةَ الْحَادِثِ الثَّانِي لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ بِتَمَامِهَا مَوْجُودَةً عِنْدَ وُجُودِهِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْحَادِثِ الثَّانِي (4) لَمْ يَتَجَدَّدْ لِلْفَاعِلِ الْأَوَّلِ أَمْرٌ بِهِ يَفْعَلُ إِلَّا عَدَمُ الْأَوَّلِ، وَمُجَرَّدُ عَدَمِ الْأَوَّلِ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ لِلْفَاعِلِ لَا قُدْرَةً وَلَا إِرَادَةً وَلَا
(1) ا: بِعِبَارَةٍ فَتَارَةً؛ ن: بِعِبَارَاتٍ تَارَةً.
(2)
عِنْدَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(3)
ن: الْقَايِلَ؛ م: لِلْمُقَابِلِ، وَكِلَاهُمَا تَحْرِيفٌ.
(4)
ا، ب: عِنْدَ وُجُودِهِ عِنْدَ الْحَادِثِ الثَّانِي؛ م: عِنْدَ وُجُودِهِ وَهَذَا الْحَادِثِ الثَّانِي.
غَيْرَ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ عِنْدَهُمْ لَا يَقُومُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، وَلَا لَهُ أَحْوَالٌ مُتَنَوِّعَةٌ أَصْلًا، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ (1) أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ الثَّانِي بَعْدَ أَنْ كَانَ صُدُورُهُ مُمْتَنَعًا مِنْهُ وَحَالُهُ حَالُهُ لَمْ يَتَجَدَّدْ إِلَّا أَمْرٌ عَدَمِيٌّ لَمْ يُوجِبْ لَهُ زِيَادَةَ قُدْرَةٍ وَلَا إِرَادَةٍ وَلَا عِلْمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؟ .
وَهَذَا بِخِلَافِ (2) مَا يُمَثِّلُونَ بِهِ مِنْ حَرَكَةِ الْإِنْسَانِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمُتَحَرِّكَةِ (3) بِالْإِرَادَةِ أَوْ (4) بِالطَّبْعِ، فَإِنَّ الْمُتَحَرِّكَ إِذَا قَطَعَ الْمَسَافَةَ [الْأُولَى](5) صَارَ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ (6) قَبْلَ ذَلِكَ، وَحَصَلَ عِنْدَهُ مِنَ الْإِرَادَةِ مَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ نَفْسِهِ إِذَا مَشَى، فَإِنَّهُ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ عَجْزًا عَنْ قَطْعِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا، وَهُوَ قَبْلَ وُصُولِهِ عَازِمٌ عَلَى قَطْعِهَا، إِذَا وَصَلَ لَيْسَ هُوَ مُرِيدًا فِي هَذَا (7) الْحَالِ لِقَطْعِهَا فِي هَذَا (8) الْحَالِ، فَإِذَا وَصَلَ إِلَيْهَا صَارَ مُرِيدًا لِقَطْعِهَا قَادِرًا عَلَى قَطْعِهَا، وَعِنْدَ الْإِرَادَةِ الْجَازِمَةِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ يَجِبُ وُجُودُ الْمُرَادِ، فَحِينَئِذٍ تُقْطَعُ لَا لِمُجَرَّدِ عَدَمِ الْحَرَكَةِ الَّتِي بِهَا قَطْعُ الْأُولَى بَلْ لِمَا تَجَدَّدَ لَهُ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، فَهَذَا (9) الْمُتَجَدِّدُ الْمُقْتَضِي لَهُ هُوَ مَا فِي نَفْسِهِ مِنَ الْإِرَادَةِ الْكُلِّيَّةِ
(1) ن، م: يُتَضَمَّنُ.
(2)
ن: خِلَافِ؛ م: يُخَالِفُ.
(3)
ا، ب: الْحَرَكَاتِ؛ م: الْمُتَحَرِّكَاتِ.
(4)
أَوْ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(5)
الْأُولَى: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
(6)
لَهُ: زِيَادَةٌ فِي (ن) فَقَطْ.
(7)
ا، ب: هَذِهِ.
(8)
ا، ب: هَذِهِ.
(9)
ا، ب: وَهَذَا.
وَالِاسْتِعْدَادِ لِلْقُدْرَةِ، وَكَانَ قَطْعُ الْأُولَى مَانِعًا مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا زَالَ الْمَانِعُ (1) عَمِلَ الْمُقْتَضِي عَمَلَهُ، فَتَمَّتْ إِرَادَتُهُ وَقُدْرَتُهُ فَقَطَعَ الْمَسَافَةَ.
وَهَكَذَا حَرَكَةُ الْحَجَرِ مِنْ فَوْقٍ إِلَى أَسْفَلَ، كُلَّمَا نَزَلَ تَجَدَّدَ فِيهِ قُوَّةٌ، وَقَبْلَ [ذَلِكَ](2) لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الشَّمْسِ وَالْكَوَاكِبِ، لَا سِيَّمَا وَهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ حَرَكَتَهَا اخْتِيَارِيَّةٌ؛ لِمَا يَتَجَدَّدُ [لَهَا](3) مِنَ التَّصَوُّرَاتِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْإِرَادَاتِ الْجُزْئِيَّةِ الَّتِي تَحْدُثُ لَهَا (4) شَيْئًا فَشَيْئًا، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ أَئِمَّتُهُمْ: أَرِسْطُو وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ حَرَكَتَهَا عِنْدَهُمْ نَفْسَانِيَّةٌ، فَالْمُقْتَضَى التَّامُّ لِلْجُزْءِ الثَّانِي مِنَ الْحَرَكَةِ إِنَّمَا وُجِدَ عَنْهَا (5) ، لَمْ يَكُنِ الْمُقْتَضَى التَّامُّ مَوْجُودًا قَبْلُ، وَهُوَ قَائِمٌ بِنَفْسِ الْمُتَحَرِّكِ أَوِ الْمُحَرِّكِ وَهُوَ النَّفْسُ الَّتِي يَتَجَدَّدُ لَهَا تَصَوُّرَاتٌ وَإِرَادَاتٌ جُزْئِيَّةٌ وَقُوَّةٌ جُزْئِيَّةٌ يَتَحَرَّكُ بِهَا (6) شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ كَحَرَكَةِ الْمَاشِي، فَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَذْكُرُوا مُحَرِّكًا وَلَا مُتَحَرِّكًا حَالَهُ قَبْلَ الْحَرَكَةِ (7) وَبَعْدَهَا سَوَاءٌ وَالْحَرَكَةُ تَصْدُرُ عَنْهُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَإِنَّ هَذَا لَا وُجُودَ لَهُ، وَالْعَقْلُ الصَّرِيحُ يُحِيلُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْحَادِثَ لَا يَحْدُثُ إِلَّا عِنْدَ حُدُوثِ مُوجِبِهِ التَّامِّ، وَهُوَ عِلَّتُهُ التَّامَّةُ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: لَا يَتَرَجَّحُ إِلَّا إِذَا وُجِدَ مُرَجِّحُهُ التَّامُّ الْمُسْتَلْزِمُ لَهُ 0
(1) ن (فَقَطْ) : فَلَمَّا زَالَ قَطْعُ الْمَانِعِ، وَهُوَ خَطَأٌ.
(2)
ذَلِكَ: زِيَادَةٌ فِي (ا) ، (ب) .
(3)
لَهَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(4)
لَهَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(5)
ا، ب: عِنْدَهَا.
(6)
ا، ب: لَهَا.
(7)
ن (فَقَطْ) : حَالَةٌ قَبْلَ حَالَةِ الْحَرَكَةِ.
وَالْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَالْحَرَكَةُ الثَّانِيَةُ لَوْ كَانَ مُرَجِّحُهَا التَّامُّ حَاصِلًا عِنْدَ الْأُولَى لَوَجَبَ (1) حُصُولُهَا عِنْدَ الْأُولَى، بَلْ إِنَّمَا يَتِمُّ حُصُولُهَا عِنْدَ حُصُولِ الْمُرَجَّحِ التَّامِّ، إِمَّا مُقْتَرِنَةً بِهِ فِي الزَّمَانِ أَوْ مُتَّصِلَةً بِهِ فِي الزَّمَانِ، وَإِذَا كَانَ الْمُرَجِّحُ التَّامُّ لَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا، فَلَا بُدَّ أَنْ يَحْصُلَ لِلْحَرَكَةِ سَبَبٌ حَادِثٌ يُوجِبُ أَنْ يُصَيِّرَهَا حَادِثَةً بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ حَادِثَةً، وَكَذَلِكَ السَّبَبُ الْأَوَّلُ الْقَرِيبُ مِنَ الْحَرَكَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ لَهُ إِرَادَةٌ [تَامَّةٌ](2) عَامَّةٌ كُلِّيَّةٌ لِمَا يُحْدِثُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، فَتِلْكَ وَحْدَهَا لَا تَكْفِي، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إِرَادَةٍ أُخْرَى جُزْئِيَّةٍ لِحَادِثِ حَادِثٍ (3) يُقَارِنُهُ، كَمَا يَجِدُهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ إِذَا مَشَى فِي سَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ (4) إِلَى مَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا، فَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمُقْتَضَى الْعَامَّ إِمَّا بِإِرَادَةٍ أَوْ غَيْرِهَا قَدْ يَكُونُ مُقْتَضَاهُ عَامًّا مُطْلَقًا، لَكِنْ يَتَأَخَّرُ لِتَأَخُّرِ الِاسْتِعْدَادَاتِ وَالْقَوَابِلِ إِذَا كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّهُ مِنْ جِهَتِهَا فَيْضٌ عَامٌّ، لَكِنْ يَتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ [مِنَ](5) الْقَوَابِلِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ تَأْثِيرُهَا وَيَتَأَخَّرُ بِحَسَبِ الْقَوَابِلِ وَالشُّرُوطِ، وَتِلْكَ لَيْسَتْ مِنْهَا.
وَكَذَلِكَ هُمْ يَقُولُونَ: (6) إِنَّ الْعَقْلَ الْفَعَّالَ دَائِمُ الْفَيْضِ، عَنْهُ يَفِيضُ كُلُّ
(1) ن (فَقَطْ) : لِوُجُوبِ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(2)
تَامَّةٌ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(3)
حَادِثٌ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) فَقَطْ.
(4)
ن (فَقَطْ) : أَوْ فِي غَيْرِهِ.
(5)
مِنَ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
(6)
ن، م، ا: وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ: هُمْ.
مَا فِي الْعَالَمِ مِنَ الصُّوَرِ (1) النَّفْسَانِيَّةِ وَالْجُسْمَانِيَّةِ، فَعَنْهُ (2) تَفِيضُ الْعُلُومُ وَالْإِرَادَاتُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَهُمْ عِنْدَهُمْ رَبُّ كُلِّ مَا تَحْتَ فَلَكِ الْقَمَرِ، لَكِنْ لَيْسَ مُسْتَقِلًّا عِنْدَهُمْ، بَلْ فَيْضُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُصُولِ الِاسْتِعْدَادَاتِ وَالْقَوَابِلِ الَّتِي تَحْصُلُ بِحَرَكَاتِ (3) الْأَفْلَاكِ، وَتِلْكَ الْحَرَكَاتُ الَّتِي فَوْقَ فَلَكِ الْقَمَرِ لَيْسَتْ مِنْهُ بَلْ مِنْ غَيْرِهِ، وَهَذَا الْعَقْلُ هُوَ رَبُّ الْبَشَرِ عِنْدَهُمْ (4) ، وَمِنْهُ يَفِيضُ الْوَحْيُ وَالْإِلْهَامُ، وَقَدْ يُسَمُّونَهُ جِبْرِيلَ، وَقَدْ يَجْعَلُونَ جِبْرِيلَ مَا قَامَ بِنَفْسِ النَّبِيِّ مِنَ الصُّورَةِ الْخَيَالِيَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامٌ (5) مِنْ أَبْطَلِ الْبَاطِلِ، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعِهِ.
لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّهُمْ يُمَثِّلُونَ فَيْضَ وَاجِبِ الْوُجُودِ بِفَيْضِ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ وَفَيْضِ الشَّمْسِ، وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُفِيضَ هُنَا لَيْسَ مُسْتَقِلًّا بِالْفَيْضِ (6) ، بَلْ فَيْضُهُ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَا يُحْدِثُهُ غَيْرُهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالْقَبُولِ (7) ، وَإِحْدَاثُ غَيْرِهِ لَهُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ. فَأَمَّا رَبُّ الْعَالَمِينَ فَهُمْ يُسَلِّمُونَ أَنَّهُ (8) لَا شَرِيكَ لَهُ فِي الْفَيْضِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ شَيْءٌ مِنْ فَيْضِهِ عَلَى فِعْلٍ مِنْ غَيْرِهِ، بَلْ هُوَ رَبُّ الْقَابِلِ وَالْمَقْبُولِ وَرَبُّ الْمُسْتَعِدِّ وَالْمُسْتَعَدِّ لَهُ، وَمِنْهُ الْإِعْدَادُ وَمِنْهُ الْإِمْدَادُ.
(1) ا، ب: الصُّورَةُ.
(2)
ا: فَفِيهِ؛ ب: فَمِنْهُ.
(3)
ا، ب: بِحَرَكَةِ.
(4)
ا، ب: عِنْدَهُمْ هُوَ رَبُّ الْبَشَرِ.
(5)
كَلَامٌ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(6)
ن، م: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا لَيْسَ مُسْتَقْبَلًا بِالْفَيْضِ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(7)
ن، م: مِنَ اسْتِعْدَادِ الْقَوَابِلِ.
(8)
ا، ب: أَنْ.
فَإِذَا قَالُوا بَعْدَ هَذَا: إِنَّهُ عِلَّةٌ تَامَّةٌ أَزَلِيَّةٌ، وَإِنَّ فَيْضَهُ عَامٌّ لَكِنَّهُ (1) يَتَوَقَّفُ عَلَى حُدُوثِ الْقَوَابِلِ وَالِاسْتِعْدَادَاتِ، إِمَّا بِحُدُوثِ الْأَشْكَالِ الْفَلَكِيَّةِ وَالِاتِّصَالَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ، وَإِمَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ (2)
قِيلَ لَهُمْ: إِنْ قُلْتُمْ: هُوَ عِلَّةٌ أَزَلِيَّةٌ لِهَذَا الْحَادِثِ لَزِمَ وُجُودُهُ فِي الْأَزَلِ.
وَإِنْ قُلْتُمْ: لَا يَصِيرُ عِلَّةً تَامَّةً إِلَّا بِحُدُوثِ الْقَوَابِلِ
قِيلَ لَكُمْ: فَإِذَا كَانَ حُدُوثُ الْقَوَابِلِ مِنْهُ فَهُوَ الْمُحْدِثُ لَهُمَا جَمِيعًا، فَقَبْلَ إِحْدَاثِهِمَا لَمْ يَكُنْ عِلَّةً تَامَّةً لَا لِهَذَا وَلَا لِهَذَا، ثُمَّ أَحْدَثَهُمَا (3) جَمِيعًا: الْقَابِلَ وَالْمَقْبُولَ، فَإِذَا كَانَ أَحْدَثَهُمَا (4) بِدُونِ تَجَدُّدِ شَيْءٍ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَمْ يَزَلْ عِلَّةً تَامَّةً لَهُمَا أَوْ لَمْ يَصِرْ عِلَّةً تَامَّةً لَهُمَا، فَيَلْزَمُ إِمَّا قِدَمُ هَذَيْنِ الْحَادِثَيْنِ وَإِمَّا عَدَمُهُمَا.
فَإِنَّهُ إِنْ لَمْ يَزَلْ (5) عِلَّتَهُمَا لَزِمَ قِدَمُهُمَا، وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ لَزِمَ عَدَمُهُمَا، وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ عِلَّةَ هَذَيْنِ الْحَادِثَيْنِ حَدَثَتْ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ، أَيْ حَدَثَتْ بِتَمَامِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ (6) ، وَلَيْسَ هُنَا شَيْءٌ أَوْجَبَ حُدُوثَ التَّمَامِ (7) ، فَإِنَّ الْفَاعِلَ لِلتَّمَامِ (8) حَالَةٌ بَعْدَ التَّمَامِ وَحَالَةٌ قَبْلَ التَّمَامِ (9) سَوَاءٌ، فَيُمْتَنَعُ أَنْ
(1) ن، م: لِكَوْنِهِ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(2)
ن، م: هَذَا.
(3)
ن: إِلَّا بِحَدَثِ.
(4)
ب (فَقَطْ) : إِحْدَاثُهُمَا.
(5)
ب: فَإِنْ لَمْ تَزَلْ. .؛ ا: فَإِنَّهُ لَمْ تَزَلْ.
(6)
ن، م: حَدَثَ تَمَامُهُمَا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ؛ ا: حَدَثَ بِتَمَامِهَا بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ.
(7)
ن، م: التَّامِّ.
(8)
ن، م: التَّامِّ.
(9)
ن، م: بَعْدَ التَّمَامِ وَقَبْلَ التَّمَامِ.
يَكُونُ عِلَّةً تَامَّةً لَهُ فِي إِحْدَى الْحَالَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَكُلُّ مَا يُقَدِّرُونَهُ مِمَّا حَصَلَ تَمَامُ الْعِلَّةِ (1) هُوَ أَيْضًا حَادِثٌ عَنِ الْأَوَّلِ، فَحَقِيقَةُ قَوْلِكُمْ أَنَّ حَوَادِثَ الْعَالَمِ تَحْدُثُ (2) ، عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عِلَّةً تَامَّةً لَهَا (3) ، أَوْ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ عِلَّةً تَامَّةً، مَعَ أَنَّ الْعِلَّةَ التَّامَّةَ إِنَّمَا تَكُونُ تَامَّةً عِنْدَ مَعْلُولِهَا لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، وَهَذَا يَتَقَضَّى عَدَمَ الْحَوَادِثِ أَوْ قِدَمَ الْحَوَادِثِ، وَكِلَاهُمَا مُخَالِفٌ لِلْمُشَاهَدَةِ (4) .
وَلِهَذَا كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْحَوَادِثَ تَحْدُثُ بِلَا مُحْدِثٍ لَهَا (5) ، وَقَوْلُهُمْ فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ يُشْبِهُ قَوْلَ الْقَدَرِيَّةِ فِي حَرَكَةِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ (6) تَقُولُ: إِنَّ (7) الْحَيَوَانَ قَادِرٌ مُرِيدٌ، وَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ (8) بِدُونِ سَبَبٍ أَوْجَبَ الْفِعْلَ، بَلْ مَعَ كَوْنِ نِسْبَةِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُدُوثِ إِلَى هَذَا الْحَادِثِ وَهَذَا الْحَادِثِ سَوَاءٌ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ كُلُّ مَا يُؤْمِنُ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَيُطِيعُ بِهِ الْمُطِيعُ قَدْ حَصَلَ لِكُلِّ مَنْ أُمِرَ (9) بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُطِيعَ رَجَّحَ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ بِدُونِ سَبَبٍ اخْتَصَّ بِهِ حَصَلَ بِهِ (10) الرُّجْحَانُ، وَالْكَافِرَ بِالْعَكْسِ
(1) ن، م: التَّمَامُ الْعِلَّةُ.
(2)
ا: حُدُوثُ الْعَالَمِ تَحْدُثُ؛ ب: حُدُوثُ الْعَالَمِ يَحْدُثُ.
(3)
ا، ب: لَهُ.
(4)
ن، م: بِخِلَافِ الْمُشَاهَدَةِ.
(5)
لَهَا: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(6)
ن (فَقَطْ) : فَالْقَدَرِيَّةُ.
(7)
إِنَّ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
(8)
عِبَارَةُ " مَا يَفْعَلُ ": سَاقِطَةٌ مِنْ (ب) فَقَطْ.
(9)
ن، م: لِكُلِّ مَنْ آمَنَ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(10)
بِهِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ا) ، (ب) .
وَهَذَا يَقُولُهُ (1) هَؤُلَاءِ فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ: إِنَّهُ يَتَحَرَّكُ دَائِمًا بِإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ أَوْجَبَ كَوْنَهُ مُرِيدًا قَادِرًا، مَعَ أَنَّ إِرَادَتَهُ وَقُدْرَتَهُ وَحَرَكَاتِهِ حَادِثَةٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ (2) حَادِثَةً مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ جَعْلَهُ مُرِيدًا مُتَحَرِّكًا، فَقَدْ حَصَلَ الْمُمْكِنُ بِدُونِ الْمُرَجَّحِ التَّامِّ الَّذِي أَوْجَبَ رُجْحَانَهُ، وَحَصَلَ الْحَادِثُ بِدُونِ السَّبَبِ التَّامِّ الَّذِي أَوْجَبَ حُدُوثَهُ.
ثُمَّ إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْقَادِرَ يُرَجِّحُ أَحَدَ مَقْدُورَيْهِ بِلَا مُرَجِّحٍ بَلْ بِإِرَادَةٍ (* يُحْدِثُهَا [هُوَ] (3) مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْدِثَ لَهُ غَيْرُهُ تِلْكَ الْإِرَادَةَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّهُ أَوْجَبَ الْإِرَادَةَ بِلَا إِرَادَةٍ *) (4) .
وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَهُوَ يُنَاقِضُ أُصُولَهُمُ الصَّحِيحَةَ، فَإِذَا كَانُوا يُسَلِّمُونَ أَنَّ الْإِرَادَاتِ الْحَادِثَةَ وَالْحَرَكَاتِ (5) الْحَادِثَةَ لَا تَحْدُثُ إِلَّا بِسَبَبٍ يُوجِبُ حُدُوثَهَا، وَأَنَّهُ (6) عِنْدَ كَمَالِ السَّبَبِ يَجِبُ حُدُوثُهَا، وَعِنْدَ نَقْصِهِ يُمْتَنَعُ حُدُوثُهَا، عَلِمُوا أَنَّ مَا قَالُوهُ فِي قِدَمِ الْعَالَمِ وَسَبَبِ الْحَوَادِثِ بَاطِلٌ.
فَإِنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ الْفَلَكِ عِنْدَهُمْ سَبَبٌ يُوجِبُ حُدُوثَ مَا يَحْدُثُ لَهُ مِنَ التَّصَوُّرَاتِ وَالْإِرَادَاتِ إِلَّا مِنْ جِنْسِ مَا لِلْمَخْلُوقِ الْفَقِيرِ إِلَى وَاجِبِ
(1) ا: وَهَكَذَا يَقُولُهُ؛ ب: وَهَكَذَا يَقُولُ.
(2)
ن (فَقَطْ) : حَادِثَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ لَمْ تَكُنْ، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(3)
هُوَ: زِيَادَةٌ فِي (ا) فَقَطْ.
(4)
مَا بَيْنَ النَّجْمَتَيْنِ سَاقِطٌ مِنْ (ب) فَقَطْ.
(5)
ن (فَقَطْ) : الْإِرَادَةُ الْحَادِثَةُ وَالْحَرَكَةُ.
(6)
ا، ب: فَإِنَّهُ، وَهُوَ خَطَأٌ.
الْوُجُودِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ بِالْقُوَّةِ لَا يَخْرُجُ إِلَى الْفِعْلِ إِلَّا بِمُخْرِجٍ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الْفَلَكِ مَا يُوجِبُ حُدُوثَ حَرَكَتِهِ.
وَمَا يَذْكُرُهُ أَرِسْطُو وَأَتْبَاعُهُ أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ يُحَرِّكُ الْفَلَكَ حَرَكَةَ الْمَعْشُوقِ لِعَاشِقِهِ، وَأَنَّ الْفَلَكَ يَتَحَرَّكُ لِلتَّشَبُّهِ بِهِ، وَأَنَّهُ بِذَلِكَ عِلَّةُ الْعِلَلِ وَبِهِ قِوَامُ الْفَلَكِ، إِذْ (1) كَانَ قِوَامُ الْفَلَكِ بِحَرَكَتِهِ، وَقِوَامُ حَرَكَتِهِ بِإِرَادَتِهِ وَشَوْقِهِ، وَقِيَامُ إِرَادَتِهِ وَشَوْقِهِ بِوُجُودِ [الْمَحْبُوبِ](2) السَّابِقِ الْمُرَادَ الَّذِي تَحَرَّكَ لِلتَّشَبُّهِ بِهِ، فَهَذَا الْكَلَامُ - مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْكَلَامِ الْبَاطِلِ الَّذِي بُيِّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ - غَايَتُهُ إِثْبَاتُ الْعِلَّةِ الْغَائِيَّةِ لِحَرَكَةِ الْفَلَكِ، لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ الْعِلَّةِ الْفَاعِلِيَّةِ لِحَرَكَتِهِ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا: هُوَ الْمُحْدِثُ لِتَصَوُّرَاتِهِ وَحَرَكَاتِهِ مِنْ [غَيْرِ](3) احْتِيَاجٍ إِلَى وَاجِبِ الْوُجُودِ وَإِلَى الْعِلَّةِ الْأُولَى فِي كَوْنِهِ فَاعِلًا لِذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْمُحِبَّ الْعَاشِقَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الْمَحْبُوبِ الْمَعْشُوقِ (4) مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فَاعِلًا لِلْحَرَكَةِ إِلَيْهِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ هُوَ الْمُرَادُ الْمَطْلُوبُ بِالْحَرَكَةِ، وَهَذَا قَوْلٌ بِاسْتِغْنَاءِ الْحَرَكَاتِ الْمُحْدَثَةِ وَالْمُتَحَرِّكَاتِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْحَوَادِثِ وَلَا هُوَ رَبُّهَا.
فَإِنْ قَالُوا مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَمْ يُبْدِعِ الْفَلَكَ بَلْ هُوَ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ بِنَفْسِهِ، لَمْ يَكُنْ رَبَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَالَمِ وَإِنْ قَالُوا: هُوَ الَّذِي أَبْدَعَهُ، كَانَ تَنَاقُضًا مِنْهُمْ كَتَنَاقُضِ الْقَدَرِيَّةِ، فَإِنَّ إِبْدَاعَهُ لِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ يُوجِبُ أَنْ لَا
(1) ن (فَقَطْ) : إِذَا، وَهُوَ تَحْرِيفٌ.
(2)
الْمَحْبُوبِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) ، (م) .
(3)
غَيْرِ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
(4)
ن، م: الْمَعْشُوقِ الْمَحْبُوبِ.
يَحْدُثَ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا بِفِعْلِ الرَّبِّ لِذَلِكَ وَإِحْدَاثِهِ [لَهُ](1) ، كَمَا لَا يَحْدُثُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ حَادِثٌ إِلَّا بِخَلْقِ الرَّبِّ لِذَلِكَ وَإِحْدَاثِهِ لَهُ. فَقَوْلُهُمْ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ التَّعْطِيلِ الْعَامِّ وَبَيْنَ التَّعْطِيلِ (2) الْخَاصِّ الَّذِي يَكُونُونَ فِيهِ شَرًّا مِنَ الْقَدَرِيَّةِ (3) ، وَرَدُّهُمْ إِنَّمَا كَانَ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، وَهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ.
وَقَدْ ذُكِرَ (4) مَا ذَكَرُوهُ مِنْ كَلَامِ أَرِسْطُو فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَبَيَّنَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ وَالضَّلَالِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَنَّ الْقَوْمَ مِنْ أَبْعَدِ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَعْرِفَةِ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى خَيْرٌ مِنْهُمْ بِكَثِيرٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ الَّتِي سَلَكَهَا أَرِسْطُو وَالْقُدَمَاءُ فِي إِثْبَاتِ الْعِلَّةِ الْأُولَى هِيَ طَرِيقُ الْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ حَرَكَةِ الْفَلَكِ، وَأَثْبَتُوا عِلَّةً غَائِيَّةً كَمَا ذُكِرَ.
فَلَمَّا رَأَى ابْنُ سِينَا وَأَمْثَالُهُ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا فِيهَا مِنَ الضَّلَالِ عَدَلُوا إِلَى طَرِيقَةِ الْوُجُودِ وَالْوُجُوبِ وَالْإِمْكَانِ، وَسَرَقُوهَا مِنْ طَرِيقِ (5) الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ احْتَجُّوا بِالْمُحْدَثِ عَلَى الْمُحْدِثِ، فَاحْتَجَّ أُولَئِكَ بِالْمُمْكِنِ عَلَى الْوَاجِبِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ تَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ وُجُودِ وَاجِبٍ، وَأَمَّا إِثْبَاتُ تَعْيِينِهِ فَيَحْتَاجُونَ فِيهِ إِلَى دَلِيلٍ آخَرَ، وَهُمْ سَلَكُوا (6)
(1) لَهُ: سَاقِطَةٌ مِنْ (ن) فَقَطْ.
(2)
ن، م: الْعَامِّ وَالتَّعْطِيلِ.
(3)
ن، م: الْخَاصِّ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ أَسْوَأَ مِنَ الْقَدَرِيَّةِ.
(4)
ا، ب: وَقَدْ ذَكَرْنَا.
(5)
ن، م: طُرُقِ.
(6)
ن، م: يَسْلُكُونَ.