الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمات نظرية:
تعريف المخالفة وذكر أسبابها:
لم أجد لها تعريفاً، وقد اجتهدت في تعريفها حسب ممارستي لكتب الحدي ولعلي، فأقول:
"هي أن يروي الرواة عن شيخهم حديثاً ما، فيقع بينهم تغاير (1) في سياق إسناده أو متنه".
وسبب هذا التغاير في بعض الأحيان، كثيرة طرق هذا الحديث واتساع الشيخ في الرواية، وأحياناً يكون سببه الوهم والغلط.
وتكثر المخالفة وتقل حسب كثرة تلاميذ الشيخ وقلتهم، فكلما كثر أصحابه وتلاميذه كثر الاختلاف في حديثه، وكلما قل أصحابه وتلاميذه قل الاختلاف في حديثه، وهذا راجع إلى اختلاف مراتبهم في الضابط والإتقان وطول الملازمة للشيخ أو قلتها.
ضابطها:
حتى يكون الاختلاف معتبراً يعين فيه أن يكون المخرج واحداً ز
قال ابن الصلاح رحمه الله: "وينبغي في التعارض أن يكون المخرج واحداً وإلا فتعد الوجوه المختلفة طرقاً مستقلة"(2) .
قال الحافظ: "وقد فسر ابن العربي الحديث بأن يكون من رواية راو قد اشتهر برواية حديث أهل بلده، كقتادة في البصريين وأبي إسحاق السبيعي في الكوفيين وعطاء في المكيين، وأمثالهم، فإن حديث البصريين مثلاً إذا
(1) لم اعتبر بالتعارض كما هو مستعمل عند بعض العلماء لأن التغاير أعم وأشمل، والتعارض أخص، ومن الاختلاف ما ليس فيه تعارض
(2)
انظر مقدمة ابن الصلاح مع التقييد والإيضاح ص94 وص117. ط: دار الكتاب العربي. بتحقيق عبد الرحمن محمد عثمان.
جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفاً، وإذا جاء عن غير قتادة نحوه كان شاذاً والله أعلم" (1) .
صور المخالفة:
يقع الاختلاف بين الرواة في أمور كثيرة غير محصورة فيها ما يؤثر في القبول وفيها ما لا يؤثر فيه، كاختلافهم في العبارات والألفاظ بحيث لا يغير المعنى المقصود وكذا في التقديم والتأخير، وصيغ التلقي مثل حدثنا وأخبرنا ونحوهما.
وجدير بالذكر أن الاختلاف في صيغ التلقي يؤثر أحياناً في الصحة والقبول، كالاختلاف في التصريح بالسماع بالنسبة إلى رواية من وصف بالتدليس أو الإرسال (2) .
وأما الاختلاف المؤثر فتارة يكون في السند وتارة يكون في المتن، فالذي في السند يتنوع أنواعاً:
تعارض الوصول والإرسال، وتعارض الوقف مع الرفع، وتعارض الاتصال والانقطاع، وتعرض في شيخ الراوي، مثلاً: أن يروي الحديث قوم عن رجل عن تابعي عن صحابي، ويرويه غيرهم عن ذلك الرجل عن تابعي آخر عن الصحابي نفسه، وتعارض في زيادة رجل في أحد الإسنادين، وتعارض في اسم الراوي ونسبة إن كان متردداً بين ثقة وضعيف، وتعارض في الجمع والإفراد في الرواية، مثلاً: أن يروي الحديث قوم عن رجل عن فلان وفلان ويرويه غيرهم عن ذلك الرجل من فلان منفرداً.
وأما الاختلاف في المتن فيتنوع أنواعاً: منها تعارض الإطلاق والتقييد، وتعارض العموم والخصوص، وتعارض الزيادة والنقص (3) .
(1) النكت: تحقيق ربيع بن هادي: ج1 ص405.
(2)
الحديث المعلول ص36.
(3)
المصدر السابق: ج2 ص777 - 778.
أحكامها:
لقد اعتبر كثير من المتأخرين - عند وقوع الاختلاف بين الرواة في الوصول والإرسال والرفع والوقوف - أن الحكم للزائد إذا كان ثقة فيرجع الرفع على الوقف، والوصل على الإرسال باعتبار أن كلاً من الرفع والوصل زيادة.
وقد ذكر ابن الصلاح رحمه الله الخلاف في هذه المسألة، وحاصله ما يلي:
إذا تعارض الوصل والإرسال فالحكم للمرسل وقيل الحكم للأكثر، وقيل الحكم للأحفظ، سواء أكان المخالف واحداً أم جماعة وصحح الخطيب البغدادي القول الأخير (1) .
ونقل الحافظ العلائي عن شيخه ابن الزملاكاني أنه فرق بين مسألتي تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف بأن الوصل في السند زيادة من الثقة فتقبل وليس الرفع زيادة في المتن فتكون علة (2) .
وهذه الأحكام العامة بالقبول أو الرد غير مسلمة في منهج المحدثين النقاد، فإن مذهبهم ليس القبول مطلقاً أو الرد مطلقاً، بل بحسب القرائن.
قال الحافظ رحمه الله: "إن تعليلهم الموصول بالمرسل أو المنقطع، والمرفوع بالموقف أو المقطوع، ليس على إطلاقه، بل ذلك دائر على غلبة الظن بترجيح أحدهما على الآخر بالقرائن التي تحفه"(3) .
وقال ابن دقيق العيد:
" من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند أو رافع وواقف أو ناقص أو زائد أن الحكم للزائد فلم يصب في
(1) انظر علوم الحديث ص64 - 65.
(2)
النكت ص286.
(3)
المصدر نفسه ص314.
هذا الإطلاق، فإن ذلك ليس قانوناً مطرداً، وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول" (1) .
وقد جزم الحافظ العلائي فقال:
" كلام الأئمة المقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوى عند أحدهم في كل حديث"(2) .
ويقول الحافظ السخاوي:
" إنه لا يحكم في تعارض الوصل والرفع مع الإرسال والوقف بشيء معين، بل إن كان من أرسل أو أوقف من الثقات أرجح قدم وكذا بالعكس"(3) .
أثر المخالفة في التعليل:
تعدّ المخالفة من الدلائل القوية التي تدرك بها العلة وقد سبق أن نقلت كلام ابن الصلاح في ذلك، وأكرره هنا لأهميته، قال رحمه الله:
"ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك"(4) .
ولا يمكن الوصول إلى العلة والكشف عنها إلا بجمع طرق الحديث المختلفة في سياق واحد، والنظر في كل راو من طبقات الإسناد هل تفرد أم خالف، قال الخطيب رحمه الله:
"السبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه، وينظر في
(1) المصدر نفسه ص236 وقد نقله الصنعاني في توضيح الأفكار: ج1 ص343.
(2)
المصدر نفسه ص237 وقد نقله الصنعاني في توضيح الأفكار: ج1 ص344.
(3)
فتح المغيث: ج1 218.
(4)
علوم الحديث ص81 - 82.
اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم في الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط" (1) .
والناظر في كتب العلل يلاحظ اشتمالها على ذكر طرق الحديث المختلفة، والمقارنة بينها وذكر اختلاف الرواة فيما بينهم.
وقد اهتم الأئمة النقاد بهذه المسألة وأصبحت من أهم معايير نقد الحديث والحكم على الرجال عندهم، قال الإمام مسلم رحمه الله:
" وعلامة المنكر في حديث المحدث، إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى، خالفت روايته روايتهم أو لم تكد توافقها، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبوله، ولا مستعمله"(2) .
وقال أيضاً: "فبجمع هذه الروايات، ومقابلة بعضها ببعض يتميز صحيحها من سقيمها، ويتبين رواة ضعاف الأخبار من أضداد هم من الحفاظ، ولذلك أضعف أهل المعرفة بالحديث عمر بن عبد الله بن أبي خثعم وأشباههم من نقلة الأخبار لروايتهم الأحاديث المستنكرة التي تخالف روايات الثقات المعروفين من الحفاظ"(3) .
لهذا يحرص علماء الحديث ونقاده على استيعاب طرق الحديث ورواياته من أجل الوقوف على الأخطاء التي فيها والأوهام.
قال ابن معين: "لو لم نكتب الحديث من ثلاثين وجهاً ما عقلناه"(4) .
وقال أحمد: "الحديث إذا لم تجمع طرقه لم تهمه، والحديث يفسر بعضه بعضاً"(5) .
(1) المصدر نفسه.
(2)
مقدمة صحيح مسلم ص7.
(3)
التمييز ص162.
(4)
الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ج2 ص212.
(5)
المصدر نفسه.
وقال ابن المديني: "الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه"(1) .
ولأهمية هذه المسألة جعلتها المحور الثاني لهذا الفصل، وسأحرص على أخذ أحكامهم من خلال الواقع النقدي عند الإمام البخاري رحمه الله وقد قسمت هذا المبحث إلى قسمين:
القسم الأول: الاختلاف في سياق الإسناد، ويشمل المطالب التالية: الاختلاف في الوصل والإرسال، الاختلاف في الرفع والوقف، الاختلاف في تسمية شيخ الراوي، الاختلاف في زيادة راو واحد وحذفه.
القسم الثاني: الاختلاف في سياق المتن: ويشمل المطالب التالية: الاختصار، الرواية بالمعنى، الإدراج.
(1) المصدر نفسه.