الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحدهما العدد من الحديث ممن لا يعرف أحد من أصحابهما، وليس قد شاركهم في الصحيح الذي عندهم فغير جائز قبول حديث هذا الضرب من الناس والله أعلم" (1) .
المطلب الثالث: نماذج لأحاديث أعلها الإمام البخاري بالتفرد
رأينا في النماذج السابقة أن التفرد من دلائل العلة، ولكن قد يكون الحديث صحيحاً لقرائن أخرى تنضم إليه، كما سبق تفصيله.
وفي هذا المطلب اذكر نماذج أخرى لما يتفرد به الراوي، وتنضم إليه قرائن أخرى يكون الحديث معلولاً عند الإمام البخاري رحمه الله.
المثال الأول:
حديث النبي صلى الله عليه وسلم " الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد"(2) . فمتن هذا الحديث معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، وقد خرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بطرق مختلفة. لكن هذا الحديث رواه كريب عن أبي أسامة عن بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده أبي بردة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد"(3) .
(1) المصدر نفسه انظر مقدمة صحيح مسلم ص7.
(2)
رواه البخاري، في كتاب الأطعمة، باب المؤن يأكل في معي واحد، ج9 ص446-447 (مع الفتح) ، ورواه مسلم، في كتاب الأشربة، باب المؤمن يأكل في معي واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء، ج3 ص1631.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه: ج3 ص1636، وابن ماجه في سننه، حديث رقم (3258) من رواية أبي كريب، وأخرجه الترمذي في العلل الصغير: ج5 ص760 (مع الجامع) ، والعلل الكبير ص303.
وقد استغربه غير واحد من هذا الوجه، وذكر أن أبا كريب تفرد به منهم البخاري وأبو زرعة، وظاهر كلام أحمد يدل على استنكار هذا الحديث أيضاً (1) .
إذا علمنا أن أبا كريب (2) المتفرد بالحديث ثقة حافظ روى له الجماعة فهل يتسنى لنا الاستدراك على هؤلاء الأئمة ونقول: إنه ثقة حافظ فلا يضر تفرده أم نبحث عن القرائن التي انضمت إلى هذا التفرد، فجعلتهم يحكمون على الحديث بالغرابة ويستنكرونه.
وهذه القرائن هي:
1-
تفرد أبي كريب به عن أبي أسامة.
2-
تفرد أبي أسامة به عن بريد ز
3-
رواية أبي كريب هذا الحديث عن أبي أسامة حال المذاكرة.
وقد أشار البخاري رحمه الله إلى هذا القرائن فيما نقله عنه الترمذي، حيث قال بعد رواية هذا الحديث من طريق أبي كريب:
" وسألت محمداً بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث أبي كريب عن أبي أسامة، فقلت: حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا فجعل يتعجب ويقول: ما علمت أن أحداً حدث بهذا غير أبي كريب، قال محمد: وكنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا الحديث عن أبي أسامة في المذاكرة"(3) .
والذين رووا هذا الحديث عن أبي أسامة غير أبي كريب هم: أبو هشام الرفاعي وأبو السائب والحسين الأسود.
(1) شرح العلل ص248.
(2)
هو محمد بن العلاء بن كريب الهمذاني، أبو كريب الكوفي، مشهور بكنيته، ثقة حافظ، من العاشرة، مات سنة (5247) وهو ابن تسع وثمانين سنة، ترجمته في التقريب ص500.
(3)
العلل الصغير (مع الجامع) : ج5 ص760، والعلل الكبير ص303.
فلماذا لم يعتد النقاد بهؤلاء ويعتبروا حديثهم متابعة لأبي كريب تدفع عنه وصف التفرد بهذا الحديث؟
لم يعتد النقاد بهذه الطرق، لأنهم علموا عدم صحة سماع هؤلاء لهذا الحديث من أبي أسامة مباشرة، وإنما سمعوه من أبي كريب وأضافوه إلى أبو أسامة.
قال الحافظ ابن رجب:
" وذكر لأبي زرعة من رواه عن أبي غير أبي كريب، فكأنه أشار إلى أنهم أخذوه منه، وحسين بن الأسود (1) ، كان يهتم بسرقة الحديث، وأبو هشام (2) فيه ضعف"(3) .
وكذلك تعجب الإمام البخاري لما قال له الترمذي حدثنا غير واحد عن أبي أسامة بهذا وقال: ما علمت أحداً حدث بهذا غير أبي كريب.
وأما القرينة الأخرى، وهي أخذ أبي كريب لهذا الحديث حال المذاكرة فقد وضحها الحافظ ابن رجب يقول:"وما حكاه الترمذي عن البخاري هاهنا أنه قال: كنا نرى أن أبا كريب أخذ هذا عن أبي أسامة في المذاكرة، فهو تعليل للحديث، فإن أبا أسامة لم يرو هذا الحديث عنه أحد من الثقات غير أبي كريب، والمذاكرة يحصل فيها تسامح بخلاف حال السماع والإملاء"(4) .
(1) الحسين بن علي بن الأسود العجلي الكوفي، صدوق يخطئ كثيراً، مات سنة 5254، ترجمته في: التقريب ص167، والتهذيب ج2 ص343، والميزان: ج1 ص543.
(2)
محمد بن يزيد بن محمد بن كثير العجلي، أبو هشام الرفاعي الكوفي، قاضي بغداد، ضعفه البخاري والنسائي وغيرهما، مات سنة 5248، ترجمة في: الضعفاء الصغير 236، الميزان ج4 ص68.
(3)
شرح العلل ص248.
(4)
المصدر نفسه ص249.
المثال الثاني:
حديث النهي عن الانتباذ في الدباء والمزقت (1) .
هو حديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مشهور من رواية جماعة من الصحابة: ابن عباس وابن عمر وابن سعيد وأنس وأبي هريرة.
ولكن ورد من رؤية شبابة عن شعبة عن بكير عن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء ولمزقت (2) .
(فهذا الحديث بهذا الإسناد غريب جداً وقد أنكره على شبابه طوائف من الأئمة منهم -أحمد والبخاري وأبوحاتم وبن عدي)(3) والترمذي أيضاً (4) .
وقد بين الترمذي بعض الجوانب التي من أجلها أعل النقاد فقال: بعد روايته له من طري شبابة.
"هذا حديث غريب من قبل إسناد ولا يعلم أحد حدث به عن شعبة غير شبابه، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة أنه نهى أن ينتبذ في الدباء والمزقت، وحديث شبابه إنما يستغرب لأنه تفرد هـ عن شعبة، وقد روى شعبة وسفيان الثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء بن روى شعبة وسفيان الثوري بهذا الإسناد عن بكير بن عطاء بن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحج عرفة" فهذا الحديث المعروف عند أهل الحديث بهذا الإسناد"(5) وتمثل هذه القرائن يما يلي:
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان: باب أداء الخمس من الإيمان، رقم (53) ج1 ص157 (مع الفتح) ، عن ابن عباس ورواه في كتب العلم، والمواقيت، والأثرية عن ابن عمر، ورواه مسلم في كتاب الإيمان، ج1 ص46 - 50 عن ابن عباس وأبي سعيد، ورواه في الاثرية: ج3 ص1577-1585 عن أنس وأبي هريرة وعلي وعائشة وغيرهم.
(2)
أخرجه ابن ماجه في سننه رقم (34049) والنسائي: ج8 ص305، وأخرجه الترمذي على العلل الصغير: ج5 ص761 (مع الجامع) والعلل الكبير ص309.
(3)
شرح العلل ص249.
(4)
العلل الصغير: ج5 ص791، والعلل الكبير ص309.
(5)
العلل الصغير: ج5 ص760.
1-
تفرد شبابة بهذا الحديث دون سائر أصحاب شعبة.
2-
شهرة هذا الحديث بغير هذا الإسناد.
3-
وجود حديث آخر عن شعبة روي بهذا الإسناد الذي تفرد به شبابه.
وفيما يلي تفصيل هذه النقاط:
إن تفرد شبابه عن شعبة بهذا الحديث بهذا الإسناد دون سائر أصحاب شعبة الحافظ الإثبات يثير ريبة في نفس الناقد، نعم إن شبابه بن سوار ثقة (1) . لكنه ليس من أثبت أصحاب شعبة، كيحيى القطان وابن مهدي ومعاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث وغندر (محمد بن جعفر)(2) .
هؤلاء كلهم لم يرووه من هذا الطري الذي رواه به شبابه.
ولو نظرنا في الصحيحين نجد أن الثقات من أصحاب شعبة رووه من طرق عدة، ليس فيهما طريق شبابة.
فأما البخاري فإنه يروي هذا الحديث في مواضع متعددة من صحيحه من طريق شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس، حدث عن شعبة بذلك: علي بن الجعد (3) ، وغندر (4) ، والنضر بن شميل (5) .
وأما الإمام مسلم فإنه توسع في ذكر طرق هذا الحديث عن شعبة (6) .
فقد أورده ن طريق شعبة عن الأعمش عن إبراهيم التيميي عن الحارث بن سويد عن علي حدث بذلك عن شعبة محمد بن جعفر.
(1) شبابه بن سوار الفزاري: ثقة، رمي بالإرجاء. مات سنة 254 ترجمته في تهذيب التهذيب: ج4 ص300.
(2)
انظر: سؤالات ابن بكير للداقطني ص43 وشرح العلل ص286 - 288.
(3)
حدث رقم (53) ج1 ص157.
(4)
حديث رقم (87) ج1 ص221.
(5)
حديث رقم (7266 ج13 ص256.
(6)
صحيح مسلم: ج3 ص1578 - 1586.
وأورده من طريق شعبة عن نصور وسليمان وحماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة حدث عن شعبة ذلك يحيى القطان.
وأورده أيضاً من طريق شعبة عن يحيى العمراني عن ابن عباس، حدث عن شعبة بذلك عبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن جعفر.
وأورده من طريق شعبة عن محارب بن دثار عن ابن عمر حدث عنه بذلك محمد بن جعفر.
وأورده من طري شعبة عن عمر بن مرة عن زاذان عن ابن عمر حدث بذلك أبو داود ومعاذ بن معاذ.
فهذه اشهر الطرق لهذا الحديث عن شعبة التي تداولها الثقات من أصحابه، أما طريقة شبابة عن شعبة فلم يشتهر فيتداوله الثقات.
أما بالنسبة للنقطة الثالثة وهي وجود حديث آخر عن شعبة بهذا الإسناد وهو "الحج عرفة"(1) فهذا المتن هو الذي يعرف عن شعبة عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أي أن الحديث السابق انقلب إسناده على شبابة بن سوار فجعل إسناد هذا الحديث للحديث السابق.
فهذه القرائن مجتمعة جعلت النقاد يحكمون على هذا الحديث بالنكارة وليس لمجرد التفرد.
والنتائج التي نستخلصها مما سبق تتمثل فيما يلي:
1-
يعد التفرد من الدلائل القوية لعرفة علل الأحاديث.
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده، ج4 ص309 و 335، والترمذي: ج1 ص885 وأبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في المستدرك والبيهقي.
2-
لا يكتفي النقاد بمجرد التفرد للحكم على الحديث بالنكارة أو الشذوذ، بل لابد من وجود القرائن.
3-
إن هذه القرائن تختلف باختلاف الأحاديث، وليس منحصرة.
4-
ليس للنقاد عمل مطرد في تفرد الراوي، فلا يقبلونه مطلقاً، ولا يردونه مطلقاً، فهنالك بعض تفردات الرواة صححها البخاري وغيره وهذا النوع يسمى بغرائب الصحيح، كما سبق بيانه في المطلب السابق وهناك تفردات حكم عليها البخاري بالنكارة كما بينته في هذا المطلب.
5-
قد تختلف أحكام النقاد على الأحاديث التي وقع فيها التفرد، وهذا بناء على مدى إطلاعهم على طرق الحديث والقرائن المرجحة، وليس اختلافاً في المنهج.