الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العلماء في تعريف الكبيرة والصغيرة، وكيفية التمييز بين الصغائر والكبائر وعددها، بل هناك من أفردها بالتصنيف (1) والذي يهمنا هنا هو ذكر مسألتين وقع فيهما النزاع ومحاولة معرفة موقف البخاري منهما.
المسألة الأولى:
ما حكم التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب أكثر العلماء والمحدثين إلى أن التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل روايته. وإلى هذا ذهب سفيان الثوري، وعبد الله بن المبارك ورافع بن الأشرس، وأبو نعيم الفضل بن دكين، وأحمد بن حنبل، وأبو بكر الحميدي، ويحي بن معين (2) ووجه عدم قبول روايته - وإن حسنت توبته - أن ذلك تغليظاً وجزراً بليغاً عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفسدته، فإنه يصير شرعاً مستمراً إلى يوم القيامة. بخلاف الكذب على غيره والشهادة، فإن مفسدتهما قاصرة ليست عامة (3) وألحقوا بالكاذب المتعمد من أخطأ وصمم على خطئه بعد أن يبين له ذلك ممن يثق بعلمه لمجرد عناد (4) .
لكن ذهب الإمام النووي رحمه الله إلى قبول رواية التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: " هذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة ضعيف مخالف للقواعد الشرعية، والمختار القطع بصحة توبته في هذا وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة وهي: الإقلاع عن المعصية، والندم على فعلها، والعزم على أن لا يعود إليها، فهذا هو الجاري على قواعد الشرع، وقد أجمعوا على صحة رواية من كان كافراً فأسلم، وأكثر الصحابة كانوا بهذه الصفة - أي كانوا كفاراً فأسلموا - وأجمعوا على
(1) انظر: مدارج السالكين: ج1 ص321، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام: ج1 ص19، والكبائر للذهبي، والزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي، وهما خاصان بهذا الموضوع.
(2)
شروط الأئمة الخمسة للحازمي ص53، وفتح المغيث للسخاوي: ج1 ص365 - 369.
(3)
محيي الدين النووي: شرح صحيح مسلم - الطبعة المصرية دون تاريخ، ج1 ص70.
(4)
فتح المغيث: ج1 ص366.
قبول شهادتهم، ولا فرق بين الشهادة والرواية في هذا، والله أعلم " (1) .
أما بالنسبة لصنيع الإمام البخاري فليس هناك ما يمكن أن نستنتج منه حكماً أو رأياً ننسبه إليه. إلا أن صاحب كتاب " أسباب اختلاف المحدثين " يرى بأن احتجاج الشيخين بإسماعيل بن أبي أويس، وهو ممن اتهم بالكذب يشهد لما ذهب إليه النووي (2) ثم أورد أقوال بعض أئمة الجرح والتعديل فيه منها:
قول يحي بن معين فيه " مخلط يكذب ليس بشيء ".
وقول النضر بن سلمة المروزي " ابن أبي أويس كذاب ".
وما نقله ابن حزم في " المحلى " عن أبي الفتح الأزدي قال حدثني سيف بن محمد أن ابن أبي أويس كان يضع الحديث.
وقال سلمة بن شبيب سمعت إسماعيل ابن أبي أويس يقول: " ربما كنت أضع الحديث لأهل المدينة إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم ".
وقال الحافظ ابن حجر - بعد أن نقل الأقوال السابقة: " ولعل هذا كان من إسماعيل في شبيبته ثم انصلح، وأما الشيخان فلا يظن بهما أنهما أخرجا عنه إلا الصحيح من حديثه الذي شارك فيه الثقات. وقد أوضحت ذلك في مقدمة شرحي على البخاري والله أعلم "(3) .
هذه جملة ما ارتكز عليه الأستاذ الفاضل ليرجح ما ذهب إليه النووي، وعليه ملاحظات:
الأولى: ينبغي التفريق بين ممن اتهم بالكذب وبين من اتصف فعلاً بالكذب، وإن كان كلاً من الوصفين من أوصاف الجرح. لكن لا يخفى أن
(1) شرح صحيح مسلم - الطبعة المصرية - دون تاريخ، ج1 ص70.
(2)
خلدون الأحدب: أسباب اختلاف المحدثين - الدار السعودية للنشر والتوزيع - الطبعة الأولى 1405هـ - 1980م - ج1 ص73.
(3)
تهذيب التهذيب - دار صادر - ج1 ص311.
الكذاب قد تحقق فيه الوصف فعلاً أما المتهم بالكذب فلم يتحقق فيه هذا الوصف، فهل إسماعيل بن أبي أويس تحقق فيه الكذب أم لا؟
الثانية: ذكر الأستاذ أقوال الجارحين فقط لإسماعيل ولم يذكر أقوال المعدلين أو على الأقل بعض أقوالهم، مما يوهم أن التهمة بالكذب قوية ومتحققة، وليس الأمر كذلك فقد عدله جماعة من الأئمة النقاد وإليك أقوالهم (1) :
قال أبو حاتم: " محله الصدق، وكان مغفلاً ".
وقال الحاكم: " عيب على البخاري ومسلم إخراجهما حديثه، وقد احتجا به معاً، وغمزه من يحتاج إلى كفيل في تعديل نفسه أعني النضر بن سلمة، فإنه قال: كذاب ".
وأما يحي بن معين فقد اختلفت أقواله فيه: فمرة قال: " هو ووالده ضعيفان "، وقال مرة:" يسرقان الحديث "، وقال مرة:" إسماعيل صدوق ضعيف العقل ليس بذلك "، وقال مرة:"مختلط يكذب ليس بشيء "، وقال مرة أخرى:" لا بأس به ".
وقال أحمد أيضاً: " لا بأس به ".
وقال أبو القاسم اللالكائي: " بالغ النسائي في الكلام عليه بما يؤدي إلى تركه ".
فأنت ترى أن الأئمة لم يتفقوا على اتهامه، بل الظاهر من أمره أنه صدوق لا يتعمد الكذب، ولكن ضعيف الحفظ وكان يعتمد على حفظه في رواية الأحاديث فيقع في الأوهام وينفرد عن سائر أصحابه بأشياء ليست عندهم. فمن نظر إلى صدقه في نفسه، واعتبر حديثه بحديث غيره، وتأكد من صحة أصوله، قوي من أمره، وروى له، واحتج به، كالبخاري ومسلم،
(1) انظر هدي الساري، ط- دار الريان، ص410 وعمدة القاري، ط - دار الفكر، ج1 ص169.
والدارمي وغيرهم من الحفاظ، بل روى مسلم عن رجل عنه، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه.
ومن نظر إلى ضعف حفظه وكثرة غرائبه وهن من أمره فالدارقطني قال فيه: " لا أختاره في الصحيح " ومنهم من ضعف عنده جانب الصدق، واستكثر تلك الغرائب واستنكرها رماه بالكذب كالنسائي وغيره.
وقد لخص الحافظ حاله في التقريب فقال: " صدوق أخطأ في أحاديث من حفظه "(1) .
الثالثة: إذا لم يثبت أن إسماعيل كان يكذب ويضع الحديث، فكيف يتسنى لنا أن نقول أنه تاب؟!، ومن ثم نبني على ذلك حكماً فنقول: تقبل رواية التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس في الأمر إلا ما ذكره الحافظ رحمه الله وهو في معرض الدفاع عن صدق إسماعيل وعدالته " لعل ذلك كان في شبيبته ثم انصلح "فأنت تلاحظ أن الحافظ استبعد اتهامه بالكذب، وحاول الدفاع ونفي التهمة، ولم يجزم بذلك بل ذكره متردداً في معرض الدفاع لا غير.
ومن هنا لا يصح أن نبني عليه حكماً، حتى ولو غضضنا الطرف عن أقوال معدليه، وبنينا حكماً على ما ذكره الحافظ ابن حجر لما جاز لنا أن ننسب هذا الحكم للبخاري أو مسلم أبداً، لعدم ثبوت كذبه عندهما. فقد انتقيا من أحاديثه ما يتابعه عليه الثقات من أصحاب مالك. ثم إن إسماعيل هذا من شيوخ البخاري أي ممن جالسهم وعرفهم وسبر أحاديثهم وقد روى من أصوله كما ذكر ذلك الحافظ في هدي الساري (2) .
الرابعة: لو سلمنا بهذا المثال، ولم نعترض عليه بما تقدم - لما جاز لنا من الناحية العلمية أن نبني عليه حكماً، لأن الأحكام إنما تأخذ عن
(1) الحافظ ابن حجر العسقلاني: تقريب التهذيب، تحقيق محمد عوامة، دار الرشيد - سوريا - حلب الطبعة الرابعة 1412هـ - 1992م، ص108.
(2)
هدي الساري مقدمة فتح البخاري، طبعة دار الريان ص410.
طريق التتبع والاستقراء، وإن لم يكن هذا الاستقراء تاماً فعلى الأقل أن يكون تلخيصياً مبنياً على أكثر من مثال. وأنت ترى أن هذا مثالاً واحداً، وهو غير سالم من الاعتراضات.
الخامسة: ما ذكره الإمام النووي رحمه الله مبنياً على القواعد الأصولية حيث استعمل القياس لإثبات هذا الحكم، وهو قياس التائب من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم على الكافر إذا أسلم، ومثل له بقبول الأئمة لرواية الصحابة، وقد كانوا كفاراً ثم أسلموا. لكن هذا القياس معترض، بأن الصحابة قد عدلهم القرآن الكريم وشهد بصدق إيمانهم وإسلامهم. وأما التائب من الكذب في حديث رسول الله. فأنى لنا أن نعرف صدق توبته، حتى نحكم بعدالته ونقبل روايته، كما أنه مبني على انعدام الفارق بين الرواية والشهادة، والفارق موجود هنا.
وقد سبق إلى انتقاد النووي في هذا شيخ الإسلام زكريا الأنصاري فقد قال - بعد أن ساق كلام النووي السابق -:
" كنت أميل إليه، ثم ظهر لي أن الأوجه ما قاله الأئمة لما مر، ويؤيده قول أئمتنا أن الزاني إذا تاب لا يعود محصناً، ولا يحد قاذفه، وأما إجماعهم على صحة رواية من كان كافراً فأسلم، فلنص القرآن على غفران ما سلف. والفرق بين الرواية والشهادة أن الرواية الكذب فيها أغلظ منه في الشهادة لأن متعلقها لازم لكل المكلفين، وفي كل الأعصار كما مر، مع خبر (إن كذباً علي ليس ككذب على أحد) (1) "(2) .
وأخيراً لا يمكن أن ننسب للإمام البخاري رحمه الله أنه يقبل رواية التائب من الكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم قيام الأدلة الكافية على
(1) أخرجه البخاري في صحيحه، عن المغيرة بن شعبة، كتاب الجنائز، باب ما يكره من النياحة على الميت، حديث رقم (1291) ، ج3 ص191 مع الفتح ط دار الريان. ورواه مسلم في مقدمة صحيحه ج1 ص10 حديث رقم (4) .
(2)
زكريا الأنصاري: فتح الباقي شرح ألفية العراقي - مطبوع بذيل شرح العراقي لألفيته - طبعة فاس 1354هـ، ج1 ص335.