المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: الأحاديث التي استنكرت أو استغربت - منهج الإمام البخاري

[أبو بكر كافي]

فهرس الكتاب

- ‌الإهداء

- ‌شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌الفصل الأول: الحديث وعلومه إلى عصر الإمام البخاري

- ‌المبحث الأول: كتب السنة قبل الجامع الصحيح

- ‌أ - كتب السنن:

- ‌ب - المصنفات والجوامع:

- ‌جـ - المسانيد:

- ‌ر - كتب المغازي والسير:

- ‌هـ - كتب التفسير:

- ‌و الأجزاء المفردة في أبواب مخصوصة:

- ‌المبحث الثاني: النقد وعلوم الحديث إلى عصر الإمام البخاري

- ‌تعريف النقد:

- ‌دوافع النقد وعوامل ظهوره:

- ‌المبحث الثالث: ترجمة الإمام البخاري

- ‌نسبه ومولده:

- ‌طلبه للعلم:

- ‌شيوخه:

- ‌منزلته العلمية:

- ‌ثناء الأئمة عليه:

- ‌أخلاقه:

- ‌محنته وصبره:

- ‌وفاته:

- ‌المبحث الرابع: الآثار العلمية للإمام البخاري

- ‌1 - الجامع الصحيح:

- ‌أ - دوافع تأليف:

- ‌ب - الأغراض الفقهية للبخاري في صحيحه:

- ‌2 - التاريخ الكبير:

- ‌3 - التاريخ الصغير:

- ‌4 - التاريخ الأوسط:

- ‌5 - كتاب الكنى:

- ‌6 - الضعفاء الكبير:

- ‌7 - الضعفاء الصغير:

- ‌8 - خلق أفعال العباد والرد على الجهمية وأصحاب التعطيل:

- ‌9 - الأدب المفرد:

- ‌10 - جزء القراءة خلف الإمام:

- ‌11 - جزء رفع اليدين في الصلاة:

- ‌التأثير العلمي لمصنفات الإمام البخاري:

- ‌1 - الإمام مسلم بن الحجاج (ت 261ه

- ‌2 - الإمام الترمذي (ت 279ه

- ‌3 - الإمام ابن خزيمة (ت 311ه

- ‌4 - الإمام ابن حبان (ت 354ه

- ‌5 - الإمام ابن أبي حاتم الرازي (ت 327ه

- ‌6 - الإمام النسائي (ت 303ه

- ‌7 - الإمام البيهقي (ت 458ه

- ‌الفصل الثاني: منهج تصحيح الأحاديث عند الإمام البخاري

- ‌المبحث الأول: عدالة الرواة

- ‌المطلب الأول: تعريف العدالة

- ‌المطلب الثاني: شروط العدالة وموقف البخاري منها

- ‌أولاً: الإسلام:

- ‌ثانياً: البلوغ:

- ‌ثالثاً: العقل:

- ‌رابعاً: السلامة من أسباب الفسق:

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المطلب الثالث: مسائل تتعلق بالعدالة وموقف البخاري منها

- ‌المسألة الأولى:

- ‌المسألة الثانية:

- ‌المسألة الثالثة:

- ‌المطلب الرابع: موقف البخاري من أحاديث أهل البدع والأهواء

- ‌تعريف البدعة:

- ‌أقسام البدعة:

- ‌مناقشة التقسيم السابق:

- ‌مذاهب العلماء في الرواية عن أهل البدع والأهواء:

- ‌المطلب الخامس: موقف البخاري من الرواة المجاهيل

- ‌أسباب الجهالة:

- ‌1 - أحمد بن عاصم البلخي:

- ‌2 - إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المدني:

- ‌3 - أسامة بن حفص المدني:

- ‌4 - أسباب أبو اليسع:

- ‌5 - بيان بن عمرو البخاري العابد:

- ‌6 - الحسين بن الحسن بن يسار:

- ‌7 - الحكم بن عبد الله:

- ‌8 - عباس بن الحسين القنطري:

- ‌9 - محمد بن الحسن المروزي:

- ‌10 - خالد بن سعد الكوفي:

- ‌المطلب السادس: الوحدان وموقف البخاري من رواياتهم

- ‌تعريف الوحدان:

- ‌المبحث الثاني: ضبط الرواة

- ‌المطلب الأول: تعريف الضبط وأهميته وآثار اختلاله

- ‌المطلب الثاني: موقف الإمام البخاري من الرواة الضعفاء

- ‌المطلب الثالث: مراتب رجال الصحيحين من حيث الضبط

- ‌المطلب الرابع: نماذج من أحاديث الضعفاء ومنهج البخاري في تصحيحها

- ‌1 - أحاديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي:

- ‌2 - أحاديث فضيل بن سليمان النميري:

- ‌المبحث الثالث: اتصال السند

- ‌المطلب الأول: تعريف السند وأهميته

- ‌المطلب الثاني: طرق التحمل والأداء عند الإمام البخاري

- ‌المطلب الثالث: العنعنة وموقف البخاري منها

- ‌المطلب الرابع: نماذج من أحاديث أعلت بالانقطاع في صحيح البخاري

- ‌المطلب الخامس: التدليس وموقف البخاري من أحاديث المدلسين

- ‌الفصل الثالث: منهج تعليل الأحاديث عند الإمام البخاري

- ‌المبحث الأول: الأحاديث المعلولة في الجامع الصحيح

- ‌المطلب الأول: تعريف العلة وبيان مواضعها وحكمها ودلائلها

- ‌المطلب الثاني: الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري

- ‌المبحث الثاني: التفرد وأثرها في التعليل

- ‌المطلب الأول: مقدمات نظرية

- ‌المطلب الثاني: الأحاديث التي استنكرت أو استغربت

- ‌المطلب الثالث: نماذج لأحاديث أعلها الإمام البخاري بالتفرد

- ‌المبحث الثالث: المخالفة وأثرها في التعليل

- ‌مقدمات نظرية:

- ‌القسم الأول: الاختلاف في سياق الإسناد

- ‌المطلب الأول: الاختلاف في الوصل والإرسال

- ‌المطلب الثاني: الاختلاف في الرفع والوقف

- ‌المطلب الثالث: الاختلاف في تسمية شيخ الراوي

- ‌المطلب الرابع: الاختلاف في زيادة راو في الإسناد وحذفه

- ‌القسم الثاني: الاختلاف في سياق المتن

- ‌المطلب الأول: الاختصار وأثره في تغيير سياق المتن

- ‌المطلب الثاني: الرواية بالمعنى وأثرها في التعليل

- ‌المطلب الثالث: الإدراج وأثره في التعليل

- ‌المبحث الرابع: زيادات الثقات وموقف البخاري منها

- ‌تمهيد:

- ‌المطلب الأول: موقف العلماء والطوائف من زيادة الثقة

- ‌المطلب الثاني: نماذج لزيادات مقبولة عند الإمام البخاري

- ‌المطلب الثالث: نماذج لزيادات مردودة عند البخاري

- ‌الخاتمة

الفصل: ‌المطلب الثاني: الأحاديث التي استنكرت أو استغربت

فقال: لو كان فيه شيء غريب لمحوته، وعن أحمد: تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب ما أقل الفقه فيهم، وعنه أيضاً: لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب فإنها مناكير وعامتها عن الضعفاء (1) .

أهمية التفرد في معرفة علل الأحاديث:

لقد اعتنى أئمة الحديث ونقاده بالتفرد عناية كبيرة.. إذ إن له علاقة قوية بتعليل الأحاديث فهو أحد وسائل الكشف عما يكمن الأحاديث من أوهام وأخطاء في هذا يقول ابن الصلاح رحمه الله:

" ويستعان على إدراكها (أي العلة) بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم

إلى ذلك" (2) .

فلا يمكن تعليل الأحاديث أو تصحيحها إلا بعد معرفة حالة التفرد أو حالة المشاركة في كل طبقة من طبقات الإسناد.

‌المطلب الثاني: الأحاديث التي استنكرت أو استغربت

في الجامع الصحيح

لقد تكلم بعض الأئمة في جملة من الأحاديث صحيح البخاري ووصفوها بالغرابة أو النكارة وهي وإن كانت قليلة، ومحدودة العدد، فليس غرض هنا إحصاؤها، وإنما القصد دراسة نماذج للوقوف على منهج البخاري ووجهة نظره في إخراج هذه الأحاديث، ومعرفة الأسس التي بنى عليها هؤلاء الأئمة نقدهم لتلك الأحاديث.

وقبل الشروع في دراسة بعض النماذج لابد من الإشارة إلى حقيقة علمية مهمة وهي:

(1) المصدر نفسه ص234 - 235.

(2)

علوم الحديث ص81.

ص: 229

إن وجود الغرائب والأفراد في الصحيحين هو أمر نادر، ولم يكن من قصد الشيخين -رحمها الله- أن يكون كتاباهما مجمعاً للغرائب والأفراد كما قصد بعض الأئمة من مصنفاتهم، وإنما قصدهما ذكر الأحاديث الصحيحة المشهورة التي تداولها أهل العلم فيما بينهم كما صرح به مسلم في مقدمة صحيحه (1) .

ومن هنا كانت هذه الأحاديث المستغربة أو المستنكرة من قبل الأئمة قليلة بالنسبة إلى الأحاديث الصحيحة المشهورة.

ومن أدعى أن كل ما في الصحيحين مشهور وليس ليها شيء من الغرائب، فقد خالف الواقع، وخالف الحقيقة العلمية التي قررها الأئمة النقاد، وممن أدعى ذلك الإمام الحكم لنيسابوري رحمه الله وقد رد عليه الحافظ حجر بقوله (2) :

"وأما قوله: إن الغرائب الأفراد ليس في الصحيحين منها شيء، فليس كذلك، بل فيها قدر مائتي حديث قد جمعها الحافظ ضياء الدين المقدسي (3) في جزء مفرد"(4) .

ومعلوم أن هذا العدد في مقابل متون أحاديث الصحيحين التي لا تقل عن ثمانية آلاف حديث مقدار ضئيل جداً لا يتعدى 2.5%.

والأمر الثاني الذي يجدر التنبه إليه هو أن الغرابة أمر نسبي، فقد يكون حديث ما غريباً عند إمام ناقد، بينما لا يوافقه غيره من الأئمة على

(1) انظر مقدمة صحيح مسلم ص3.

(2)

المدخل في أصول الحديث ص154.

(3)

هو الإمام الحجة ضياء أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الصالحي الحنبلي: حافظ متقن ثبت ثقة عالم بالحديث وأحوال الرجال، له مؤلفات وتخريجات كثيرة من أشهرا "الأحاديث المختارة" ولم تكمل، وكان أعلم أهل عصره بالحديث والرجال: توفي سنة (643هـ) . ترجمة في: شذرات الذهب ج5 ص224، وتذكرة الحافظ ج4 ص1405.

(4)

النكت ص110.

ص: 230

ذلك الحكم لوقوفهم على متابعات وشواهد تدفع عن الحديث وصوف الغرابة أو النكارة.

فهذه جملة من الأمور تتضح تفاصيلها من الأمثلة المدروسة.

المثال الأول:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيته، ولئن استعاذني لأعيذنه (1) ".

فهذا الحديث تفرد بإخراجه البخاري من دون أصحاب الكتب الستة، خرجه عن محمد بن عثمان بن كرامة، حدثنا خالد بن مخلد، حدثنا سليمان بن بلال حدثنا شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث بطوله وزاد في آخره:"وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفسي المؤمن يكره الموت، وأنا أكره مساءته".

قال الحافظ ابن رجب: "وهو من غرائب الصحيح تفرد به ابن كرامة عن خالد، ليس هو في مسند أحمد، مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم يه أحمد وغيره، وقالوا: له مناكير وقد روي هذا الحديث من وجوه أخرى لا تخلو كلها من مقال"(2) .

(1) أخرجه البخاري، في كتاب الرقاق، باب التواضع حديث رقم (6502) ، ج11 ص348 (مع الفتح)، وأبو نعيم في الحيلة: ج1 ص4، والبيهقي في "الزهد" (690) و "السنن) : ج3 ص346 وج10 ص219، والبغوي في "شرح السنة"(1248) .

(2)

جامع العلوم والحكم - تحقيق شعيب الأرناؤوط وإبراهيم باجس - دار الهدى عين مليلة. الجزائر، ج2 ص330 - 331.

ص: 231

ثم ذكر رحمه الله تلك الطرق وتكلم عليها.

وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث:

" وساق الذهبي في ترجمة خالد من الميزان بعد أن ذكر قول أحمد فيه: "له مناكير، وقول أبي حاتم لا يحتج به، وأخرج ابن عدي عشرة أحاديث من أحاديث استنكرها، هذا الحديث من طريق محمد بن مخلد عن محمد بن عثمان بن كرامة شيخ البخاري فيه، قال:

هذا حديث غريب جداً، ولولا هيبة الصحيح لعدوه في منكرات خالد بن مخلد، فن هذا المتن لم يرو إلا بهذا الإسناد، ولا خرجه من عدا البخاري، ولا أظنه في مسند أحمد، قلت (القائل ابن حجر) : ليس هو في مسند أحمد جزماً، وإطلاق أنه لم يرو إلا بهذا الإسناد مردود، ومع ذلك شريك شيخ شيخ خالد فيه مقال أيضاً، وهو راوي حديث المعراج الذي زاد يه ونقص، وقدم وأخر، وتفرد بأشياء لم يتابع عليها، ولكن للحديث طرق أخرى يدل مجموعها على أنه لا أصل" (1) ثم ساق تلك الطرق وتكلم عليها.

والسبب في استنكار هذا الحديث من قبل هؤلاء الأئمة هو تفرد محمد بن عثمان بن كرامة به عن خالد بن مخلد القطواني.

أما محمد بن عثمان بن كرامة فهو ثقة من شيوخ البخاري (2) .

أما خالد ن مخلد فهو أيضاً من شيوخ البخاري، يروي عنه مباشرة ويروي عنه بالواسطة كما في الحديث، وقد اختلف فيه كلام أئمة الجرح والتعديل (3) .

قال العجلي: ثقة فيه تشيع.

(1) فتح الباري: ج11 ص349.

(2)

التقريب ص496

(3)

انظر: هدي الساري ص421.

ص: 232

وقال ابن سعد: كان متشيعاً مفرطاً.

وقال صالح جزرة: ثقة إلا أنه كان متهماً بالغلو ي التشيع.

وقال أحمد بن حنبل: له مناكير.

وقال أبو داود: صدوق إلا أنه يتشيع.

وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.

قال الحافظ رحمه الله:

" أما التشيع فقد قدمنا أنه إذا كان ثبت الأخذ والأداء لا يضره لا سيما ولم يكن داعية إلى رأيه، وأما ما مناكيره فقد تتبعها أبو أحمد بن عدي من حديثه، وأوردها في كاملة، وليس فيها شيء مما أخرجه البخاري، بل لم أرَ له عنده من أفراده سوى الحديث واحد، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من عادى لي ولياً" وروى له الباقون سوى أبي داود"(1) .

وقد لخص الحافظ حاله في التقريب فقال: "صدوق يتشيع ن وله أفراد"(2) .

(والبخاري لم يرو عن أحد إلا وهو يرى أنه يمكنه تمييز صحيح حديثه من سقيمه، وهذا يقتضي أن يكون الراوي على الأقل صدوقاً في الأصل)(3) .

فالبخاري لما ترجع عنده صدق خالد بن مخلد القطواني أخرج له، فإن قيل إنما يعرف صدقه وصحة حديثه بموافقة الثقات له، وخالد له مناكير، ومنها هذا الحديث الذي تفرد به ولم يتابعه عليه الثقات، فكيف يكون صحيحاً؟

(إن معرفة البخاري لصحة حديث الراوي من شيوخه لا تحصل بمجرد موافقة الثقات، وإنما تحصل بأحد أمرين: إما أن يكون الراوي ثقة ثبتاً

(1) هدي الساري ص321.

(2)

التقريب ص190.

(3)

التنكيل: ج1 ص321.

ص: 233

فيعرف صحيح حديثه بتحديثه، وإما أن يكون صدوقاً يغلط ولكن يمكن معرفة ما لم يغلط فيه بطرق أخرى، كأن يكون له أصول جيدة، وكأن يكون غلطه خاص جهة معينة) (1) .

وخالد بن مخلد من شيوخ البخاري فهذا يقتضي معرفة حديثه وحاله عنده.

فلما علم البخاري صدق خالد بن مخلد، ورأى أن هذا المتن الذي انفرد به ليس فيه شيء يخالف القرآن أو السنة المشهورة أو أصول الشريعة ووجدت له شواهد (2) وإن كانت ضعيفة ولكنها كثيرة يصلح منها نوع قوة مما يدل على أن للحديث أصلا لهذا كله صححه الإمام البخاري هذا الحديث.

ويمكن القول أيضاً: إن البخاري تساهل في رواية هذا الحديث لأنه في الرقاق وفضائل الأعمال وليس في أصول التحريم والتحليل، والله أعلم.

المثال الثاني:

ما رواه البخاري في صحيحه قال: "حدثنا عبد القدوس بن محمد حدثني عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا همام بن يحيى حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي، قال ولم يسأله عنه، قال وحضرت الصلاة، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليه رجل فقال: يا رسول الله إني أصبت حداً فأقم في كتاب الله، قال: "أليس قد صليت معنا؟ " قال: نعم. قال: "فإن الله قد غفر لك ذنبك - أو قال: حدك" (3) .

(1) المصدر نفسه.

(2)

انظر هذه الشواهد في: جامع العلوم والحكم: ج2 ص331 - 333، وفتح الباري: ج11 ص349، وسلسلة الأحاديث الصحيحة حديث رقم (1641) .

(3)

الجامع الصحيح، كتاب الحدود، باب إذا أقر بالحد ولم يبين، هل للإمام أن يستر عليه، حديث رقم (6823) ، ج12 ص136.

ص: 234

رواه مسلم أيضاً عن الحسن بن علي الحلواني عن عمرو بن عاصم به (1) .

فهذا الحديث استنكره بعض النقاد كالبرديجي (2) ، وأبو حاتم رحمهم الله.

قال الحافظ البرديجي: "هذا عندي حديث منكر، وهو عندي وهم من عمرو بن عاصم"(3) .

ونقل ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: "هذا الحديث باطل بهذا الإسناد"(4) .

وقد أجاب بعض الحفاظ المتأخرين، على كلام البرديجي وأبي حاتم - رحمهما الله - ومن هؤلاء الإمام الناقد ابن رجب في شرحه لعلل الترمذي، والحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من الفتح، وسأنقل فيما يلي كلامهما.

قال ابن رجب: "ولعل أبا حاتم والبرديجي نما أنكر الحديث لأن عمرو بن عاصم ليس هو عندهما، في محل من يحتمل تفرده بمثل هذا الإسناد (5) ".

وقال الحافظ ابن حجر - بعد نقله كلام البرديجي:

" لم يبين (أي البرديجي) وجه الوهم، وإما إطلاقه كونه منكراً

(1) كتاب التوبة، باب إن الحسنات يذهبن السيئات، حديث رقم (2764) ، ج4 ص2117.

(2)

هو الإمام الحافظ الثبت، أبو أحمد بن هارون بن روح البرديجي، نزيل بغدد، له مصنفات منها الأسماء المفردة وقد طبع، وكتاب معرفة المتصل من الحديث والمرسل والمقطوع وبيان الطرق الصحيحة، مات سنة (301هـ) ، ترجمته في الأنسا ج2 ص148، وتذكرة الحافظ: ج2 ص746.

(3)

شرح العلل ص253.

(4)

المصدر نفسه: وانظر أيضاً "علل الحديث" لابن أبي حاتم: ج2 ص454.

(5)

شرح العلل ص253.

ص: 235

فعلى طريقته في تسمية ما ينفرد به الراوي منكراً، إذا لم يكن له متابع، ولكن يجاب بأنه وإن لم يوجد لهمام ولا لعمرو بن عاصم فيه متابع فشاهده حديث أبي أمامة، الذي أشرت إليه، ومن ثم أخرجه مسلم عقبه، والله أعلم " (1) .

نلاحظ أن الحافظ ابن رجب علل إطلاق البرديجي وأبي حاتم النكارة على هذا الحديث بناء على حال الراوي المتفرد به، وهو عمرو بن عاصم.

وعمرو ثقة أخرج حديثه الجامعة (2) ، لكن يحتمل أن يكون ضعيفاً عند البرديجي وأبي حاتم ومن ثم يكون حديثه الذي ينفرد به منكراً، وهذا التوجيه، إنما يصح بناء على ما استقر عليه اصطلاح المتأخرين من أن الحديث المنكر هو: الفرد المخالف لما رواه.

الثقات، والفرد الذي ليس في روايه من الثقة والإتقان ما يحتمل معه تفرده (3) .

ومما يدل على ضعف هذا التوجيه أن الحافظ ابن رجب نفسه، فسر كلام الحافظ البرديجي في تعريفه للمنكر (المنكر هو الذي يحدث به الرجل عن الصحابة أو التابعين عن الصحابة لا يعرف ذلك الحديث، وهو متن الحديث إلا من طريق الذي رواه فيكون منكراً) .

قال ابن رجب: "ذكر هذا الكلام في سياق إذا انفرد شعبة وسعيد بن أبي عروبة أو هشام الدستوائي بحديث عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كالتصريح بأنه كل ما ينفرد به ثقة عن ثقة ولا يعرف المتن من غير ذلك الطريق فهو منكر"(4) .

(1) فتح الباري: ج12 ص137.

(2)

عمرو بن عاصم بن عبيد الهل الكلابي القيسي، أبو عثمان البصري، صدوق في حفظه شيء، من صغار التاسعة، مات سنة (213هـ) ، التقريب ص423، والتهذيب: ج6 ص58.

(3)

انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص72، واختصاراً علوم الحديث ص55، والتقريب للنووي مع شرحه تدريب الراوي: ج1 ص239، وشرح العراقي لألفيته: ج1 ص197.

(4)

شرح العلل ص252.

ص: 236

فواضح أن الحافظ البرديجي يطلق المنكر على الحديث الذي ينفرد به راويه ولو كان ثقة حافظاً كشعبة وابن أبي عروبة وهشام الدستوائي ونحوهم.

إذن فهذا التقرير من الحافظ ابن رجب يوهن توجيهه السابق لاستنكار البرديجي وابن أبي حاتم للحديث السابق.

وأما الحافظ ابن حجر فقد وجه نقد البرديجي للحديث على أساس أنه يسمى ما ينفرد به الراوي منكراً إذا لم يكن له متابع، ومقتضى هذا أن النكارة لا تزول على الحديث إلا بمعرفته من وجه آخر، وقد صرح بهذا الحافظ ابن رجب حيث قال معلقاً على استنكار يحيى القطان لحديث "لا تسافر امرأة فوق ثلاثة أيام"(1)" وهذا الكلام يدل على أن النكارة عند يحيى القطان لا تزول إلا بمعرفة الحديث من وجه آخر، وكلام أحمد قريب من ذلك "(2) .

وقد حقق شيخنا حمزة المليباري هذه المسألة جيداً جمع فيها بين أقوال هؤلاء النقدة وصنيعهم من خلال ممارستهم النقدية، قال - حفظه الله -: "والحق الذي أميل إليه أن الإمام أحمد ويحيى والبرديجي لا يستنكرون الحديث لمجرد تفرد ثقة من الثقات، وإنما يستنكرونه إذا لم يعرف من مصادر أخرى، إما براوية ما يشهد له من معنى الحديث أو بالعمل بمقتضاه، ومما يمكن الاستئناس به لتقرير قول الحافظ البرديجي:(إذا روى الثقة من طريق صحيح الواحد، لم يضره أن لا يرويه غيره إذا كان متن الحديث معروفاً ولا يكون منكراً ولا معلولاً)(3) .

وقول أحمد: (شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها)(4) .

(1) رواه مسلم: في الحج رقم 412: ج2 ص975 ورقم 414 و 417: ج2 ص975-976، ورواه الترمذي عن أبي سعيد: السنن: ج3 ص473.

(2)

شرح العلل ص254.

(3)

المصدر نفسه ص253.

(4)

الكفاية ص172.

ص: 237

أما إطلاق المنكر على كل ما تفرد به ثقة عن ثقة فلا أظن أنه وقع ذلك في كلامهم، وإن كان بعض ما نقل عنهم يوهم خلاف ذلك، فإنه ينبغي حمله على أن ذلك على حدود معرفتهم لتفادي التناقض بين التصريح والعمل" (1) .

ثم ذكر حديث عمرو بن عاصم السابق، وكلام البرديجي وأبي حاتم فيه، وتوجيه ابن رجب له ثم قال: "والذي أميل إليه أن ذلك الاستنكار إنما هو على حدود اطلاعهما، لأنه إذا كان الحديث معروفاً من جهة أخرى فليس بمنكر حسب تصريحي الحافظ البرديجي حتى ولو كان الراوي المتفرد من الشيوخ الذين هم دون مرتبة الثقات يقول البرديجي: (فأما أحاديث قتادة التي يرويها الشيوخ مثل حماد بن غير طريقهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن أنس بن مالك من وجه آخر، ولم يدفع.

وإن كان لا يعرف عن أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طريق عن أنس (*) إلا من رواية هذا الذي ذكرت لك كان منكراً) (2) .

وحديث عمرو بن عاصم الذي أنكره البرديجي وأبو حاتم كان مروياً معناه من طري أخرى كما سبق" (3) .

أما الرواية التي تشهد لحديث أنس فقد أخرجها الإمام مسلم في صحيحه عقيب حديث أنس مباشرة لتكون شاهداً له، قال رحمه الله:

" حدثنانصر بن علي الجهضمي، وزهير بن حرب (واللفظ لزهير) قالا حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا شداد، حدثنا أبو أمامة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ونحن قعود معه، إذا جاء رجل فقال:

(1) الحديث المعلول ص97.

(2)

هكذا وردت هذه العبارة في شرح العلل وهكذا نقلها شيخنا، وهي مضطربة ويظهر لي أنها على هذا النحو " "ولا من طريق آخر عن أنس إلا من رواية.." والله أعلم.

() شرح العلل ص253.

(3)

المصدر السابق ص98 - 99.

ص: 238

يا رسول الله إني أصبت حداً فأقمه علي فسكت عنه، وأقيمت الصلاة، فلا أنصرف نبي الله صلى الله عليه وسلم قال أبو أمامة: فاتبع الرجل رسول الله حين انصرف، واتبعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر ما يريد على الرجل، فلحق الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت حين خرجت من بيتك أليس قد توضأت فأحسنت الوضوء، قال بلى يا رسول الله، قال: ثم شهدت الصلاة معنا، فقال: نعم يا رسول الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الله قد غفر لك حدك - أو قال - ذنبك" (1) .

مما سبق نلخص إلى أن هذا الحديث صحيح وإطلاق النكارة عليه من قبل بعض الأئمة كان في حدود اطلاعهم، والله أعلم.

المثال الثالث:

حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته" (2) .

فهذا الحديث تفرد به عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ثم اشتهر عنه، حتى قال مسلم لما أخرجه في صحيحه: الناس كلهم عيال على عبد الله بن دينار في هذا الحديث.

وقال الترمذي بعد تخريجه: حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار، رواه عنه شعبة وسفيان ومالك.

(1) صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب قوله تعالى:{إن الحسنات يذهبن السيئات} حديث رقم (2765) ج4 ص2117.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العتق، باب بيع الولاء وهبته، رقم (2536) ج5 ص189 (مع الفتح) ، وفي كتاب الفرائض، باب إثم من تبرأ من مواليه رقم (6756) ، ج12 ص43 (مع الفتح) ، ومسلم في كتاب الفتن، باب النهي عن بيع الولاء وهبته، رقم (16) ، وأبو داود (2919) وابن ماجه (2747) والترمذي (1236 و 2126) والنسائي ج7 ص306، ومالك في الموطأ، كتاب العتق، باب مصير الولاء لمن أعتق ج2 ص780، والحميدي في مسنده (639) ، وأحمد في مسنده ج2 ص9 و79.

ص: 239

قال الحافظ رحمه الله: "وقد اعتنى أبو نعيم الأصبهاني بجمع طرقه عن عبد الله بن دينار فأورده عن خمسة وثلاثين نفساً ممن حدث به عن عبد الله بن دينار"(1) .

فهذا الإسناد (أي عبد الله بن دينار عن ابن عمر) مشهور تروى به أحاديث كثيرة، لكن هذا المتن لم تصح روايته إلا بهذا الإسناد.

ومن رواه من طريق أخرى غير هذه الطريق فقد وهم وغلط ن ومن هذه الروايات الخاطئة:

رواية يحيى بن سلمي عن عبيد الله بن عمر عن نافع، عن ابن عمر قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وهبته"(2) .

قال أبو عيسى: "والصحيح: عن عبد الله بن دينار، وعبد الله بن دينار قد تفرد بهذا الحديث عن ابن عمر، ويحيى بن سليم أخطأ في حديثه"(3) .

وقال الترمذي في جامعة بعد روايته لهذا الحديث: " هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار عن بن عمر، والعمل على هذا عند أهل العلم.

وقد روى يحيى بن سليم هذا الحديث عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الولاء وهبته، وهو وهم وهم فيه يحيى بن سليم وقد روى عبد الوهاب الثقفي، وعبد الله بن نمير، وغير واحد عن عبيد الله بن عمر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا أصح من حديث يحيى بن سليم" (4) .

ووجه الوهم هنا ينحصر في تغير لفظ نافع إلى لفظ عبد الله بن دينار، وإن كان المتن واحداً في الروايتين لان هذا الحديث لا يعرف من رواية نافع

(1) فتح الباري: ج12 ص44.

(2)

أخرجه مسنداً ابن ماجه في سننه (2748) .

(3)

العلل الكبير للترمذي ص182.

(4)

جامع الترمذي (مع التحفة) : ج2 ص238.

ص: 240

عن ابن عمر، ودليل خطئه مخالفته لأصحاب عبيد الله بن عمر، فكلهم يجعله من رواية بن دينار عن ابن عمر قال ابن رجب رحمه الله وهو يتكلم على حديث عبد الله بن دينار " وهو معدود من غرائب الصحيح، فإن الشيخين خرجاه، ومع هذا تكلم فيه الإمام أحمد وقال: لم يتابع عبد الله بن دينار عليه، وأشار إلى أن الصحيح ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الولاء لمن أعتق" (1) لم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته.

قلت: وروى نافع عن ابن عمر من قوله: النهي عن بيع الولاء عن هبته غير مرفوع وهذا مما يعلل به حديث عبد الله بن دينار والله أعلم" (2) .

فالإمام أحمد استند في تعليله لهذا الحديث على جملة من الأمور:

أولاً: تفرد عبد الله بن دينار عن ابن عمر بهذا الحديث دون سائر أصحاب ابن عمر كنافع وسالم وغيرهما.

ثانياً: بعض أصحاب ابن عمر كنافع يروى في هذا الموضوع متناً مغايراً لما يرويه ابن دينار وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق" ولم يذكر النهي عن بيع الولاء وهبته.

ثالثاً: روى نافع عن ابن عمر "النهي عن بيع الولاء وهبته" لكن جعله موقوفاً على ابن عمر ولم يرفعه للنبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن نافعاً أحفظ أصحاب ابن عمر وقد ميز الموقوف من المرفوع، يكون حديثه أصح، هذه أهم الأمور التي استند عليها الإمام أحمد في تعليل حديث ابن دينار.

ويفهم من كلام أحمد أن عبد الله بن دينار روى هذا الحديث بالمعنى ولم يلتزم باللفظ، وبهذا صرح أبو بكر بن العربي رحمه الله حيث قال في عارضة الأحوذي: "تفرد بهذا الحديث عبد الله بن دينار، وهو من الدرجة الثانية من الخبر، لأنه لم يذكر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه نقل معنى قول

(1) أخرجه البخاري في كتاب الفرائض، باب لولاء لمن اعتق رقم (6752) ج12 ص40 (مع الفتح) .

(2)

شرح العلل ص238 - 239.

ص: 241

النبي صلى الله عليه وسلم لمن اعتق" (1) .

هذه هي الأسس والقرائن التي اعتمد عليها الإمام أحمد في استنكار هذا الحديث وتعليله. إذن ما هي الأسس التي اعتمد عليها البخاري ومن تبعه كمسلم والترمذي وغيرهم في تصحيح هذا الحديث؟

هذه الأسس والقرائن التي اعتمد عليها هؤلاء الأئمة في تصحيح الحديث يمكن حصرها فيما يلي:

1-

إن هذا المتن الذي انفرد به عبد الله بن دينار لا يعارض غيره من الأحاديث التي وردت في هذا الموضوع سواء عن ابن عمر نفسه أو غيره كعائشة وما ورد في هذا الباب هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء (*) لمن أعتق" وهو يفيد حصر الولاء في العتق، دون غيره من أسباب التمليك كالبيع والهبة. وقد أشار البخاري رحمه الله إلى تداخل الحديثين واتفاقهما في المعنى، حيث ترجم في كتاب العتق، "باب بيع الولاء وهبته"، فأورد فيه حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر، ثم أورد فيه حديث عائشة، قال اشتريت بريرة. فاشترط أهلها ولاءها فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعتقيها: فإن الولاء لمن أعطى الورق".

قال الحافظ: ووجه دخوله في الترجمة من قوله في أصل الحديث: "فإن الولاء لمن أعتق" وهو وإن كان لم يسقه هنا بهذا اللفظ، فكأنه أشار إليه كعادته، ووجه الدلالة منه حصره في المعتق فلا يكون لغيره معه منه شيء" (2) .

2-

إن مضمون هذا الحديث قد عمل به أهل العلم من فقهاء الصحابة والتابعين والأئمة رضي الله عنهم وهذا يعتبر شاهداً لصحته.

وإلى هذا أشار الإمام الترمذي في جامعه، فإن قال بعد روايته لهذا

(1) نقله الحافظ ابن حجر في الفتح: ج12 ص45.

(*) الولاء بالفتح والمد: حق ميراث المعتق من المعتق، (الفتح: ج5 ص198) .

(2)

الفتح: ج5 ص198.

ص: 242

الحديث: "هذا حديث صحيح لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم"(1) .

وقال ابن عبد البر: اتفق الجامعة على العمل بهذا الحديث إلا ما روي عن ميمونة أنها وهبت ولاء سليمان يسار لابن عباس وروى عبد الرزاق ابن جريج عن عطاء: يجوز للسيد أن يأذن لعبده أن يوالي من شاء (2) .

وقال ابن بطال وغيره: جاء عن عثمان جواز بيع الولاء وكذا عن عروة، وجاء عن ميمون جواز هبته الولاء وكذا عن ابن عباس، ولعلهم لم يبلغهم الحديث (3) .

3-

ومما يدل أيضاً على صحة حديث عبد الله بن دينار في النهي عن بيع الولاء وهبته أنه ورد من طريق شعبة ومالك بن أنس وسفيان الثوري، وحديث عبد الله بن دينار إذا ورد من طريق هؤلاء فهو صحيح.

قال أبو جعفر العقيلي (4) :

" روى شعبة والثوري ومالك وابن عيينة عن عبد الله بن دينار أحاديث متقاربة عند شعبة نحو عشرين، وعند الثوري نحو الثلاثين، وعند مالك نحوها، وعند ابن عيينة بضعة عشر حديثاً، فأما رواية المشايخ عنه فيها اضطراب"(5) .

وقال البريديجي:

(1) جامع الترمذي (مع التحفة) : ج2 ص238.

(2)

الفتح: ج12 ص45.

(3)

المصدر نفسه.

(4)

هو الإمام الحافظ أبو جعفر محمد بن عمرو بن موسى بن حمدا العقيلي، صاحب كتاب الضعفاء وهو مطبوع في أربعة مجلدات يشمل على (2101) ترجمة وعلى أكثر من (1500) حديث صحيح وضعيف ومعلول. توفى سنة (322هـ) ترجمته في تذكرة الحافظ: ج3 ص940.

(5)

شرح العلل ص261.

ص: 243

"أحاديث عبد الله بن دينار صحاح من حديث شعبة ومالك، وسفيان الثوري"(1) .

ويمكن أن يقال أن الإمام أحمد تقيد بحرفية الحديث، وأما الآخرون فنظروا إلى معنى الحديث فوجوده خالياً من التغاير عن مضمون الحديث الذي رواه نافع فصححوه.

وهنا نجد ما يتفاضل به نافع عن عبد الله بن دينار من جهة التقيد بحرفية الحديث الذي يحدث به ابن عمر.

المثال الرابع:

حديث عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإيمان ضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان"(2) .

أخرجه البخاري عن عبد الله بن محمد عن أبي عامر العقدي عن سليمان بن بلال به.

وأخرجه مسلم عن عبد الله بن سعد، وعبد بن حميد عن العقيد به.

ورواه أيضاً زهير عن جرير بن حازم عن سهيل بن عبد الله عن ابن دينار به.

رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن حماد عن سهيل به.

رواه الترمذي عن أبي كريب عن وكيع عن سيان عن سهيل به، وقال حسن صحيح.

(1) المصدر نفسه ص262.

(2)

رواه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان، حديث رقم 9 ن ج1 ص67 (مع الفتح) ومسلم في الإيمان أيضاً، باب عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها.. رقم (57)(58) ج1 ص63، وأبو داود في كتاب السنة، باب في رد الإرجاء ج2 ص268 - ط دار الكتاب العربي، والترمذي في كتاب الإيمان، ج3 ص358 (مع التحفة) ، والنسائي، في كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان (5019) و (5020) و (5021) ج8 ص483 طبعة دار المعرفة، وابن ماجة في مقدمة سننه، باب في الإيمان رقم (57) ج1 ص22.

ص: 244

ورواه النسائي عن محمد بن عبد الله المحرمي عن أبي عامر العقدي به.

وعن أحمد بن سليمان عن أبي داود الحفري وأبي نعيم كلاهما عن سفيان به.

وعن يحيى بن حبيب، عن خالد بن الحارث عن ابن عجلان ببعضه "الحياء من الإيمان".

ورواه ابن ماجه عن علي بن محمد الطنافسي عن وكيع به، وعن عمرو بن نافع بن جرير به.

وعن أبي بكر بن شيبة عن أبي جمالا الأحمر عن ابن عجلان نحوه.

وهذا الحديث معدود من غرائب الصحيح، فإنه تفرد به عبد الله بن دينار، عن أبي صالح ولم يتابعه عليه أحد، ثم اشتهر عن عبد الله بن دينار، ورواه عن جماعة من أصحابه كسهيل بن ابي صالح، ومحمد بن عجلان، وسليمان بن بلال، وهؤلاء كلهم رواياتهم في الكتاب الستة، كما سبق بيانه.

وذكر ابن رجب عن العقيلي - وهو يتكلم عن أصحاب عبد الله بن دينار -:

" وأما رواية المشايخ عنه ففيها اضطراب، ثم ذكر منهم: يحيى بن سعيد، وعبد العزيز بن الماجستون، وسهيلاً بن عجلان (*) ويزيد بن الهاد، وهؤلاء الثلاثة رووا عن عبد الله بن دينار عن ابي صالح عن أبي هريرة، حديث الإيمان بضع وسبعون شعبة قال: ولم يتابعهم أحد ممن سمينا من الأثبات ولم تابع عبد الله بن دينار عن أبي صالح عليه أحد"(1) .

وقد فسر الحافظ ابن رجب المراد من كلام العقيلي فقال:

(1) لم أجد في الرواة من أسمه سهيل بن عجلان، وأظنه تصحيفاً، والصواب سهيلاً وابن عجلان.

() شرح العلل ص262.

ص: 245

" وقوله العقيلي: لم يتابع عليه ن يشبه كلام القطان، وأحمد والبرديجي في أن الحديث إذا لم يتابع روايه عليه فإنه يتوقف فيه أو يكون منكراً"(1) .

فالحافظ العقيلي يستنكر هذا الحديث، وهذا الاستنكار مبني على جملة من الأمور هي:

1-

تفرد عبد الله بن دينار بالحديث، إذ لم يتابعه عليه أحد.

2-

إن هذا الحديث إنما يرويه الشيوخ (*) من أصحاب عبد الله بن دينار، ولم يتابعهم عليه الحافظ.

3-

وجود الاختلاف والاضطراب في رواية هؤلاء الشيوخ، عن عبد الله بن دينار.

أما بالنسبة لتفرد عبد الله بن دينار الحديث فلا يضر إذ يضر إذ إن التفرد كان في الطبقات المتقدمة، والتفرد في هذه الطبقات لا يضر إذ من شأن الحديث ألا ينشر كثيراً ولا تتعدد مخرجه، وقد تقدم تفصيل هذا في المطلب الأول من هذا المبحث.

أما بالنسبة للنقطة الثانية: وهي تفرد الشيوخ بهذا الحديث.

نعم لم يرو الحافظ من أصحاب عبد الله بن دينار هذا الحديث، كشعبة ومالك وسفيان وإنما رواه الشيوخ من أصحابه وهم:

سهيل بن عبد الله، وسيهل بن ابي صالح، ومحمد بن عجلان، وسليمان بن بلال، ويزيد بن الهاد.

فأما سهيل بن عبد الله فهو ضعيف، روى عنه الجماعة (2) .

وسهيل بن أبي صالح: صدوق تغير حفظه بآخره، روى له البخاري

(1) المصدر نفسه.

(*) الشيوخ في اصطلاح أهل هذا العلم عبارة عمن دون الأئمة الحفاظ وقد يكون فيهم الثقة وغيره (شرح العلل ص256) .

(2)

التقريب ص259.

ص: 246

مقروناً، وتعليقاً، وروى له بقية الجماعة (1) .

ومحمد بن عجلان: صدوق إلا أنه اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة (2) .

وسليمان بن بلال: ثقة روى عنه الجماعة (3) .

ويزيد بن عبد الله بن الهاد: ثقة مكثر، روى عنه الجماعة (4) .

فهؤلاء الشيوخ فيهم الضعيف والصدوق والثقة، حتى ولو سلمنا بأن هؤلاء جميعاً في مرتبة الشيوخ بالنسبة إلى ابن دينار، فقد رووا جميعاً هذا الحديث عن عبد الله بن دينار عن أبي هريرة، فيدل ذلك على أنهم قد حفظوا هذا الحديث.

وأما بالنسبة للنقطة الثالثة: وهي وجود الاضطراب في رواية هؤلاء الشيوخ فما وجه هذا الاضطراب؟ وهل يقدح في صحة هذا الحديث أم لا؟

قد ذكر العلامة العيني اختلاف الروايات في هذا الحديث، وحاصله ما يلي:

- اختلاف في العدد: فبعض الرواة قال بضع وستون، أو بضع وسبعون على الشك، وبعضهم قال: بضع وسبعون، وقال آخر: بعض وستون.

- اختلاف في بعض الألفاظ: بعضهم قال: بضع وسبعون باباً، وفي بعضها شعبة، وورد في بعض الروايات: أرفعها وورد في روايات أخرى أفضلها (5) .

(1) المصدر نفسه ص259.

(2)

المصدر نفسه ص496.

(3)

المصدر نفسه ص250.

(4)

المصدر نفسه ص602.

(5)

عمدة القاري: ج1 ص135.

ص: 247

فهذا الاضطراب لا يقدح في صحة أصل الحديث وإن كان يقدح في ثبوت العدد، ولهذا نظائر وأمثلة في صحيح البخاري منها: حديث الواهبة نفسها.

الذي يرويه أبو حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله: إني قد وهبت لك نفسي فقال رجل زوجنيها قال: زوجناكها بما معك من القرآن" (1) .

فقد اختلف الرواة على أبي حازم فقال مالك وجماعة: فقد زوجناكها، وقال ابن عيينة: أنكحتكها، وقال ابن أبي حازم، ويعقوب بن عبد الرحمن: ملكتكها، وقال الثوري: أملكتكها، وقال أبو غسان: أمكناكها.

قال الحافظ: "المقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها مرة واحدة تلك الساعة، فلم يبق إلا أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفظاً وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى والله أعلم "(2) .

فهذا الاختلاف لم يضر في ثبوت الحديث.

فكذلك الاختلاف الواقع في حديث "الإيمان بضع وسبعون " لا يقدح في صحته. وإن كان الإمام البخاري رحمه الله قد اختار ورجح رواية "بضع وستون " فما هو الأساس الذي اعتمده في ترجيح هذه الرواية؟ قد أشار إليه الحافظ بقوله: "ورجع البيهقي رواية البخاري لان سليمان لم يشك، وترجيح رواية بضع وسبعون شعبة لكونها زيادة ثقة. كما ذكره الحليمي ثم عياض - لا يستقيم إذ الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لا سيما مع اتحاد المخرج، وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري وقد رجح ابن الصلاح رواية الأقل لكونه المتيقن"(3) .

(1) رواه البخاري في كتاب الوكالة باب وكالة المرأة الإمام في النكاح: ج4 ص567 رقم (2310) ، ثم كرره في مواضع كثيرة من صحيحه.

(2)

النكت ص345.

(3)

فتح الباري: ج1 ص67.

ص: 248

والذي يظهر لي إضافة إلى ما قاله الحافظ، هو أن سليمان بن بلال أوثق ممن خالفه، فهذه القرائن كلها مجتمعة ترجح رواية البخاري رحمه الله.

ومما يدل على صحة هذا الحديث في الجملة، أنه لا يعارض القرآن ولا السنة، بل يوافقهما لذا نجد الإمام البخاري ذكر قبل هذا الحديث آيتين في نفس معناه، وهما قول تعالى:{ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وأتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وأتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} (1) .

وقوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأمناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون} (2) .

قال الحافظ: "وكأن المؤلف (أي البخاري) أشار على إمكان عد الشعب من هاتين الآيتين وشبههما"(3) .

وأما الأحاديث في هذا المعنى فهي كثيرة جداً قد أوردها الأئمة في مصنفاتهم في أبواب الإيمان والسنة.

مما سبق نستخلص أن البخاري لا يرى أن كل حديث تفرد هـ رواية منكراً، بل يراه صحيحاً مقبولاً إذا توفرت فيه الشروط التالية كلها أو بعضها:

1-

أن يكون الراوي المتفرد بالحدي ثقة حافظ.

2-

أن يكون التفرد في الطبقات المتقدمة ثم يشتهر في الطبقات المتأخرة.

(1) سورة البقرة، الآية:177.

(2)

سورة المؤمنون، الآيات: من 1 إلى 11.

(3)

الفتح: ج1 ص66.

ص: 249

3-

أن لا يعارض الحديث الثابت المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم.

4-

أن تكون له شواهد من القرآن الكريم أو الأحاديث المرفوعة.

5-

أن يكون ما تضمنه الحديث معمولاً به عند أهل العلم ولا يكون مجهوراً غير مستعمل.

وحسب وضوح هذه القرائن وكثرتها يكون الحكم على الحديث بالنكارة أو بالشهرة.

وهنا تختلف أحكام الأئمة النقاد حسب اجتهادهم واطلاعهم، ومن خلال هذه الأمثلة المدروسة نطمئن إلى الأحاديث الواردة في صحيح البخاري، ونعلم أنها منتقاة بدقة كبيرة.

قال ابن رجب بعد أن نقل الإمام أحمد أنه يستنكر ما تفرد به بريد بن عبد الله بن أبي بردة، ويزيد بن أنسية، وإبراهيم التيمي.

قال ابن رجب بعد أن نقل الإمام أحمد أنه يستنكر ما تفرد به بريد بن عبد الله بن أبي بردة، وزيد من أنسية، وإبراهيم التيمي.

" وأما تصرف الشيخين والأكثرين فيدل على خلاف هذا، وان ما رواه الثقة عن الثقة إلى منتهاه وليس له علة فليس بمنكر، وقد خرجا في الصحيحين حديث بريد بن عبد الله بن أبي بردة، وحديث محمد بن إبراهيم التيمي وحديث زيد بن أبي أنسية (1) .

ثم نقل عن الإمام مسلم قوله في مقدمة صحيحه:

"حكم أهل العلم والذي يعرف من مذهبهم، في قول ما يتفرد به المحدث من الحديث أن يكون قد شارك الثقات من أهل الحفظ في بعض ما رواه، وأمعن في ذلك على الموافقة لهم، فإذا وجد كذلك ثم زاد بعد ذلك شيئاً، ليس عند أصحابه، قبلت زيادته، فأما من تراه يعمد لمثل الزهري في جلالته وكثرة أصحابه الحافظ المتقنين لحديث وحديث غيره أو كمثل هشام بن عروة، وحديثهما عند أهل اعلم مبسوط مشترك وقد نقل أصحابهما عنهما حديثهما على اتفاق منهم، في الكثرة، فيروي عنهما أو عن

(1) شرح العلل، ص255.

ص: 250