الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد سبق في الفصل الأول أن الإمام البخاري سمى كتابه " الجامع الصحيح المسند ".
وأنه قصد جمع الأحاديث المرفوعة المتصلة الإسناد، وقد أورد فيه الآيات والموقوفات والآثار على سبيل التبع والاستشهاد والكثير منها معلق غير مسند، وهذه لا أتكلم عنها في هذا الحديث، لأنها ليست على شرط الكتاب، وسأتكلم على قضايا لها علاقة مباشرة بصحة الحديث وتعليله، كطرق التحمل والأداء عند الإمام البخاري، والعنعنة وموقف البخاري منها، ثم دراسة نماذج من أحاديث أعلت بالانقطاع وهي في صحيح البخاري، ثم أتعرض للتدليس وموقف الإمام البخاري من رواية المدلسين.
* * *
المطلب الثاني: طرق التحمل والأداء عند الإمام البخاري
ذكر الإمام البخاري في " صحيحه " الطرق المعتمدة عنده في النقل والتحمل وهي:
1 -
السماع من لفظ الشيخ.
2 -
القراءة والعرض على المحدث.
3 -
المناولة.
4 -
المكاتبة.
أولاً: السماع من لفظ الشيخ:
وقد ترجم له بقوله: " باب قول المحدث حدثنا أو أخبرنا وأنبأنا " وهي الصيغ المستعملة للتعبير عن السماع، وأورد في هذا الباب ما يلي:" قال لنا الحميدي، كان عند ابن عيينة حدثنا وأخبرنا وأنبأنا واحد ".
واستدل البخاري، على أنه لا فرق بين هذه الألفاظ، بأن الصحابة -
رضوان الله عليهم - كانوا يستعملون جميع هذه الألفاظ فيما سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم وأورد ثلاثة تعاليق تنبيهاً على أن الصحابي تارة كان يقول حدثناً، وتارة كان يقول سمعت، فيدل على أنه لا فرق بينهما، وهذه التعاليق هي:
الأول: قال ابن مسعود: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق (1) .
الثاني: قال شقيق عن عبد الله: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم (2) .
الثالث: وقال حذيفة حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين (3) .
ثم ذكر حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي، فوق الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: هي النخلة "(4) .
قال الحافظ ابن حجر: " فإن قيل: فمن أين تظهر مناسبة حديث ابن عمر للترجمة، ومحصل الترجمة التسوية بين صيغ الأداء الصرحية وليس ذلك بظاهر في الحديث المذكور، فالجواب أن ذلك يستفاد من اختلاف ألفاظ الحديث المذكور، ويظهر ذلك إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظ عبد الله بن دينار المذكور في الباب " فحدثوني ما هي " وفي رواية نافع عند المؤلف في التفسير " أخبروني " وفي رواية عند الإسماعيلي " أنبئوني " وفي رواية مالك عند المصنف في باب الحياء في العلم " حدثوني ما هي " وقال فيها " فقالوا أخبرنا بها " فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم
(1) هذا التعليق طرف من الحديث المشهور الذي يرويه ابن مسعود، أوصله البخاري في كتاب القدر.
(2)
هذا التعليق رواه أبو وائل شقيق عن عبد الله بن مسعود، أوصله البخاري في كتاب الجنائز.
(3)
هذا التعليق رواه حذيفه بن اليمان، أو صله البخاري في كتاب الرقاق.
(4)
رواه البخاري في كتاب العلم، باب قول المحدث " حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا " رقم (61) ج1 ص175.
سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة (*) .
ومن أصرح الأدلة فيه قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها ((1) وقوله تعالى: (ولا ينبئك مثل خبير ((2) .
وأما بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف: فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحي القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة، ورجحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن راهوية والنسائي وابن حبان وابن منده وغيرهم، ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل: فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج الأوزاعي والشافعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق، ثم أحدث أتباعهم تفصيلاً آخر: فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: " حدثني " ومن سمع مع غيره جمع، ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال:" أخبرني " ومن سمع بقراءة غيره جمع، وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافه بها الشيخ من يجيزه، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب، فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته، نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور لئلا يختلط، لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تجوز عنها احتاج إلى
(1) سورة الزلزلة، الآية:4.
(2)
سورة فاطر، الآية:14.
(*) تعقب العلامة العيني الحافظ ابن حجر في هذا وبين أن هناك فرقاً من جهة اللغة حاصلة: أن الخبر يرجع إلى العلم، وإنما استواء هذه الألفاظ من حيث الاصطلاح (عمدة القارئ 2/ 11) .
وهذا التعقيب ليس بشيء، فقد قال الخطيب في الكفاية ص287 " وقد قال بعض أهل العلم بالعربية هذه الألفاظ الثلاثة بمنزلة واحدة في المعنى، ثم ذكر بالسند عن ثعلب إمام اللغة أو حدثنا وأخبرنا وأنبأنا في اللغة سواءً ".
الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح، فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين " (1) .
ثانياً: القراءة والعرض على المحدث:
وقد بوّب الإمام البخاري في كتاب العلم بهذا " باب القراءة والعرض على المحدث "، قال الحافظ رحمه الله:
" إنما غاير بينهما بالعطف لما بينهما من العموم والخصوص، لأن الطالب إذا قرأ كان أعم من العرض وغيره. ولا يقع العرض إلا بالقراءة. لأن العرض عبارة عما يعارض به الطالب أصل شيخه معه، ومع غيره بحضرته، فهو أخص من القراءة، وتوسع فيه بعضهم فأطلقه على ما إذا أحضر الأصل لشيخه فنظر فيه وعرف صحته، وأذن له من غير أن يحدث به، أو يقرأه الطالب عليه. والحق أن هذا يسمى عرض المناولة بالتقييد لا بالإطلاق. وقد كان بعض السلف لا يعتدون إلا بما سمعوه من ألفاظ المشايخ دون ما يقرأ عليهم.
ولهذا بوّب البخاري على جوازه، وأورد فيه قول الحسن - وهو البصري - لا بأس بالقراءة على العالم، وكذا ذكر عن سفيان الثوري ومالك أنهما يسويان السماع مع العالم والقراءة عليه " (2) .
وقد ذهب، العلامة العيني إلى أنه لا فرق بين القراءة والعرض وأنهما متساويان، واعتمد على كلام الكرماني لأنه قال المراد بالعرض عرض القراءة بقرينة ما يذكر بعد الترجمة ثم قال: فإن قلت: فعلى هذا التقدير لا يصح
(1) فتح الباري: ج1 ص175، وانظر: الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع - للقاضي عياض - تحقيق السيد أحمد صقر، ط أولى - مكتبة دار التراث - القاهرة، ص69، والكفاية، للخطيب البغدادي، ط دار الكتب العلمية، سنة 1409هـ - 1988م، ص283 - 286.
(2)
فتح الباري: ج1 ص179 - 180.
عطف العرض على القراءة لأنه نفسها. قلت: العرض تفسير القراءة ومثله يسمى بالعطف التفسيري (1) .
والتحقيق أن العرض في كلام أئمة الحديث يطلق على معنيين: عرض القراءة، وعرض المناولة.
وهذه أقوال الأئمة التي تشهد على هذا:
قال الإمام الحاكم النيسابوري رحمه الله:
" وبيان العرض أن يكون الراوي متقناً فيقدم المستفيد إليه جزءاً من حديثه أو أكثر من ذلك فيتناوله، فيتأمل الراوي حديثه، فإذا أخبره وعرف أنه من حديثه، قال المستفيد: قد وقفت على ما ناولتنيه، وعرفت الأحاديث كلها وهذه رواياتي عن شيوخي فحدث بها. فقال جماعة من أئمة الحديث أنه سماع "(2) .
ثم ذكر جماعة من علماء المدينة ومكة والبصرة والكوفة ومصر وأهل الشام وخراسان ثم قال: " وقد رأيت أنا جماعة من مشايخي يرون العرض سماعاً "(3) .
وذكر الحجة على ذلك ثم قال: " قد ذكرنا مذاهب جماعة من الأئمة في العرض فإنهم أجازوها على الشرائط التي قدمنا ذكرها، ولو عاينوا ما عايناه من محدثي زماننا لما أجازوه. فإن المحدث إذا لم يعرف ما في كتابه، كيف يعرض عليه؟ "(4) فالعرض هنا يقصد به المناولة.
وقال الإمام الخطيب البغدادي: " ذهب بعض الناس إلى كراهة العرض: وهو القراءة على المحدث ورأوا أنه لا يعتد إلا بما سمع من لفظه، وقال جمهور الفقهاء والكافة من أئمة العلم بالأثر إن القراءة على
(1) عمدة القارئ: ج2 ص16 - 17.
(2)
معرفة علوم الحديث ص256.
(3)
المصدر نفسه ص258.
(4)
المصدر نفسه ص259.
المحدث بمنزلة السماع منه " (1) .
وقال القاضي عياض (544هـ) وهو يتحدث عن الضرب الثاني من أصول الرواية وهو القراءة على الشيخ وأكثر المحدثين يسمونه " عرضاً " لأن القارئ يعرض ما يقرؤه على الشيخ كما يعرض القرآن على إمامه، وحكاه البخاري عن الحسن والثوري ومالك " (2) .
فالعرض عند الخطيب البغدادي والقاضي عياض بمعنى القراءة على المحدث، ونسب القاضي عياض التسوية بينهما إلى البخاري.
والذي يتبين لي أن الإمام البخاري سوّى بين القراءة والعرض من حيث الاستعمال وأن العطف بينهما تفسيري كما ذهب إليه العلامة العيني رحمه الله وهذا من خلال الحجج التي ذكرها في هذا الباب على صحة القراءة وهي قوله:
" 1 - واحتج بعضهم في القراءة على العالم بحديث ضمام بن ثعلبه قال للنبي صلى الله عليه وسلم آلله أمرك أن تصلي الصلوات؟ قال نعم.
قال البخاري رحمه الله فهذه قراءة على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ضمام قومه بذلك فأجازوه.
2 -
واحتج مالك بالصك يقرأ على القوم فيقولون أشهدنا فلان، ويقرأ ذلك قراءة عليهم.
3 -
ويقرأ على المقرئ فيقول القارئ: أقرأني فلان " (3) .
فهذه الحجج واضحة أنها في القراءة وليست في عرض المناولة.
ثم ذكر الإمام البخاري كيفية التعبير عن التحمل بالقراءة فقال:
(1) الكفاية ص296.
(2)
الإلماع ص71.
(3)
صحيح البخاري كتاب العلم، باب القراءة والعرض على المحدث ج1 ص179 مع الفتح.
" حدثنا عبد الله بن موسى عن سفيان قال: إذا قرئ على المحدث فلا بأس أن يقول: حدثني، قال: سمعت أبا عاصم يقول عن مالك وسفيان: القراءة على العالم، وقراءته سواء "(1) .
ثالثاً ورابعاً - المناولة والمكاتبة:
وهي " إعطاء الشيخ الطالب شيئاً من مروياته مع إجازته به صريحاً أو كتابة "(2) .
والإمام البخاري يرى صحة الرواية بالمناولة فقد ترجم في صحيحه في كتاب العلم بما يدل على ذلك حيث قال: " باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان "(3) .
قال الحافظ رحمه الله: " لما فرغ من تقرير السماع والعرض، أردف ببقية وجوه التحمل المعتبرة عند الجمهور فمنها المناولة وصورتها، أن يعطي الشيخ الطالب الكتاب فيقول له: هذا سماعي من فلان، أو هذا تصنيفي، فاروه عني، وقد قدمنا صورة عرض المناولة، وهي إحضار الطالب الكتاب، وقد سوّغ الجمهور الرواية بها وردها من رد عرض القراءة من باب أولى "(4) .
وقد ذكر العلماء للمناولة ثلاثة أنواع هي (5) :
1 -
المناولة المقرونة بالإجازة مع التمكين من النسخة والرواية بها صحيحة عند معظم الأئمة والمحدثين.
(1) المصدر نفسه: وانظر أيضاً الإلماع ص73، والكفاية ص296 - 306.
(2)
فتح المغيث: ج2 ص100.
(3)
فتح الباري: ج1 ص185 - 186.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
انظر: معرفة علوم الحديث ص318 وما بعدها، والإلماع ص79 وما بعدها، مقدمة ابن الصلاح ص146 وما بعدها، فتح المغيث: ج 107 وما بعدها، توضيح الأفكار: ج2 ص333 وما بعدها، شرح العلل ص166 وما بعدها.
2 -
المناولة مع الإجازة من غير تمكين من النسخة، يرى الفقهاء والأصوليون أنه لا تأثير لها، ولا فائدة فيها بينما شيوخ الحديث يرون لذلك مزية معتبرة.
3 -
المناولة المجردة من الإجازة أجازها طائفة من أهل العلم، وصححوا الرواية بها، وعابها غير واحد من الفقهاء والأصوليين على من أجازها وسوّغ الرواية بها.
والإمام البخاري يعتبر النوع الأول فقط، كما سيأتي توضيحه من خلال الأدلة التي أوردها على جواز المناولة، وأما النوعين الآخرين فيهما من توسع المتأخرين بعد عصر الرواية محافظة على بقاء الإسناد.
وقول البخاري: " وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان "(1) يدل على جواز المكاتبة عنده. قال الحافظ رحمه الله: " قوله إلى البلدان " أي أهل البلدان، وذكر البلدان على سبيل المثال، وإلا فالحكم عام في القرى وغيرها، والمكاتبة من أقسام التحمل وهو: أن يكتب الشيخ حديثه بخطه، أو يأذن لمن يثق به بكتبه، ويرسله بعد تحريره إلى الطالب، ويأذن له في روايته عنه وقد سوى المصنف بينها وبين المناولة ورجح قوم المناولة عليها لحصول المشافهة فيها بالإذن دون المكاتبة، وقد جوّز جماعة من القدماء إطلاق الإخبار فيهما والأولى ما عليه المحققون من اشترط بيان ذلك " (2) وقد قسم العلماء المكاتبة إلى قسمين (3) :
1 -
المكاتبة المقرونة بالإجازة: وهي في الصحة والقوة شبيهة بالمناولة المقرونة بالإجازة، والرواية بها صحيحة بلا خلاف.
2 -
المكاتبة المجردة من الإجازة: منعها بعض الفقهاء والأصوليين
(1) صحيح البخاري (مع الفتح) : ج1 ص185.
(2)
فتح الباري: ج1 ص185.
(3)
انظر: علوم الحديث ص153 - 155 وفتح الغيث: ج2 ص122 والإلماع ص 83 - 84 وتدريب الراوي: ج2 ص55 - 56.
وأجازها أكثر المحدثين وهو المعمول به عندهم.
أدلة الإمام البخاري على جواز المناولة والمكاتبة:
استدل الإمام البخاري على صحة الرواية بالمناولة والمكاتبة بعمل السلف من الصحابة والتابعين والأئمة. وقد ذكر منها البخاري ما يلي:
1 -
قال أنس: " نسخ عثمان المصاحف فبعث بها إلى الآفاق "(1) .
قال الحافظ: " ودلالته على تسويغ الرواية بالمكاتبة واضح، فإن عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف، ومخالفة ما عداها "(2) .
2 -
ورأى عبد الله بن عمر ويحي بن سعد ومالك ذلك جائزاً (3) .
قال الحافظ: " وجدت في كتاب الوصية لأبي القاسم بن مندة من طريق البخاري يسند له صحيح إلى أبي عبد الرحمن الحبلي (4) أنه أتى عبد الله بكتاب فيه أحاديث فقال: انظر في الكتاب، فما عرفت منه اتركه وما لم تعرفه امحه، وهو أصل في عرض المناولة ". وأما الأثر بذلك عن يحي بن سعيد ومالك فأخرجه الحاكم في علوم الحديث من طريق إسماعيل بن أبي أويس قال: سمعت مالك بن أنس يقول: قال لي يحي بن سعيد الأنصاري لما أراد الخروج إلى العراق: التقط لي مائة حديث من حديث ابن شهاب حتى أرويها عنك، قال مالك: فكتبتها ثم بعثتها إليه، وروى الرامهرمزي من طريق ابن أبي أويس أيضاً عن مالك في وجوه التحمل قال: قراءتك على العالم، ثم قراءته وأنت تسمع ثم أن يدفع لك كتاباً يقول: ارو هذا عني " (5) .
(1) صحيح البخاري (مع الفتح) : ج1 ص185.
(2)
فتح الباري: ج1 ص186.
(3)
صحيح البخاري (مع الفتح) : ج1 ص185.
(4)
فتح الباري: ج1 ص186.
(5)
هو عبد الله بن يزد المعافري أبو عبد الرحمن الحبلى، بضم المهملة والموحدة، ثقة من الثالثة مات سنة مائة بإفريقية روى له البخاري تعليقاً ومسلم والأربعة، (التقريب ص329) .
3 -
واحتج بعض أهل الحجاز (*) في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث كتب لأمير السرية كتاباً وقال: لا تقرأه، حتى تبلغ مكان كذا وكذا، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
قال الإمام السهيلي رحمه الله (ت 581هـ) : " احتج به البخاري على صحة المناولة، فكذلك العالم إذا ناوله التلميذ جاز أن يروي عنه ما فيه، قال: وهو فقه صحيح "(2) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ووجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة، فإنه ناوله الكتاب وأمره أن يقرأه على أصحابه ليعملوا بما فيه، ففيه المناولة ومعنى الكتاب "(3) .
ثم أورد البخاري رحمه الله حديث أنس رضي الله عنه قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً أو أراد أن يكتب كتاباً فقيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا مختوماً، فاتخذ خاتماً من فضة. نقشه: محمد رسول الله كأني أنظر إلى بياضه في يده (4) .
قال الحافظ رحمه الله: " يعرف من هذا فائدة إيراده هذا الحديث في هذا الباب لينبه على شرط العمل بالمكاتبة أن يكون الكتاب مختوماً ليحصل الأمن من توهم تغيره لكن قد يستغني عن ختمه إذا كان الحامل عدلاً مؤتمناً "(5) .
(*) هو الحميدي (الفتح 1/ 186) .
(1)
صحيح البخاري (مع الفتح) : ج1 ص185.
(2)
عبد الرحمن السهيلي: الروض الأنف - المطبعة الجمالية القاهرة 1332هـ، ج2 ص59 وقد نقله السيوطي في التدريب: ج2 ص44.
(3)
الفتح: ج1 ص187 وانظر عمدة القاري: ج2 ص27.
(4)
صحيح البخاري (مع الفتح) : ج1 ص187.
(5)
فتح الباري: ج1 ص187.
حكم الطرق الأخرى من أنواع التحمل عند الإمام البخاري:
نلاحظ أن الإمام البخاري لم يذكر الأوجه الأخرى من أوجه التحمل، والظاهر أنه لا يرى صحة الأخذ بها فالأئمة المتقدمون لم يكونوا يرون لصحة التحمل إلا تلك الطرق كما مر ذلك في قول مالك بن أنس رحمه الله لكن عندما دونت الكتب وأمن جانب الرواية سوّغ العلماء في توسيع طرق التحمل تيسيراً على الناس وإبقاءً لسلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأئمة وكلما تأخرت الأعصار كثر التنويع والتوسيع والتساهل وإليك من أقوال العلماء ما يشهد على ما تقدم ذكره.
قال الحافظ رحمه الله: " لم يذكر المصنف (أي البخاري) من أقسام التحمل الإجازة المجردة عن المناولة أو المكاتبة، ولا الوجادة، ولا الوصية، ولا الإعلام، المجردات عن الإجازة وكأنه لا يرى شيئاً منها "(1) .
وقد سبق إلى هذا الإمام الحافظ ابن رشيد السبتي (ت 721هـ) رحمه الله حيث قال: " وإنما اعتمد الناس منذ مدة متقدمة على الإجازة المطلقة والكتابة المطلقة توسعة لباب النقل وترحيباً لمجال الإسناد، لعزة وجود السماع على وجه في هذه الأعصار: بل قبلها بكثير، وتعذر الرحل في أكثر الأحوال، واعتماداً على أن الأحاديث لما صارت في دفاتر محصورة، وأمات مصنفات مشهورة، ومرويات الشيوخ في فهارس مفهرسة، قام ذلك عندهم مقام التعيين الذين كان من مضى من السلف يفعله، فاكتفى المجيزون بالإخبار الجملي، واعتمدوا في البحث عن التفصيل على المجاز إذا تأهل، فكانت رخصة أخذ بها جماهير أهل العلم إبقاء لسلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة، ولله الحمد والمنة وإن كانت هذه ليست الإجازة المتعارفة عند التابعين وتابعيهم، كالحسن ابن أبي الحسن البصري، ونافع مولى ابن عمر، وأبي بكر بن عبد الرحمن أحد الفقهاء السبعة، ومجاهد بن جبر، وعلقمة بن قيس، وأيوب السختياني، وشعبة بن الحجاج وغيره ممن
(1) فتح الباري: ج1 ص187.
لا يحصى كثرة، فإما كانت تلك في الشيء المعين يعرفه المجيز والمجاز له، أو مع حضور الشيء المجاز فيه " (1) .
ثم ساق آثاراً عن السلف في العمل بالإجازة المعينة في الشيء المعين ثم قال ابن رشيد رحمه الله: " وأجل شيء نعرفه لمتقدم في الإجازة المقيدة وأجلاه لفظاً وأصحه معنى ما ذكره أبو عيسى الترمذي الإمام الحافظ في كتاب العلل في آخر الديوان، في باب التاريخ الذي نقله عن الإمام أبي عبد الله البخاري رحمه الله وقد انتهى بالسماع عليه إلى بعض حرف العين ما نصه. قال أبو عيسى: إلى ها هنا سماعي من أبي عبد الله محمد بن إسماعيل من أول الحكايات وما بعدها فهو مما أجازه لي وشافهني به بعدما عارضته بأصله إلى أن ينقضي به كلام محمد بن إسماعيل. فقال: قد أجزت لك أن تروي عني إلى آخر باب ي "(2) .
ثم قال الحافظ ابن رشيد: " هذا أجلي نص تجده في الإجازة لمتقدم معتمد من لفظ قائله، نعم نجد ألفاظاً مطلقة مجملة غير مفسرة منقولة عنهم بالمعنى، أو ظواهر محتملة، وهذا كان دأب تلك الطبقة من الإجازة في المعين أو الكتابة له، وما رأى الإجازة المطلقة حدثت إلا بعد زمن البخاري حيث اشتهرت التصانيف وفهرست الفهارس، وإن كان بعضهم قد نقل الإجازة المطلقة عن ابن شهاب الزهري وغيره فما أرى ذلك يصح "(3) .
من خلال ما تقدم يتبين لنا أن الإمام البخاري لا يرى صحة الرواية بالإجازة المطلقة وإنما يرى صحة الإجازة المقترنة بالمناولة أو المكاتبة.
فإن قلت: قال بعض الحفاظ إن ما يقول فيه البخاري " قال لي " فهي إجازة فالجواب على هذا قد ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله حيث
(1) أبو عبد الله محمد بن عمر بن محمد بن رشيد الفهري السبتي: السنن الأبين والمورد الأمعن - تحقيق د. محمد الحبيب ابن الخوجة - الدار التونسية للنشر ص54 - 55 وانظر وعلوم الحديث ص13.
(2)
المصدر نفسه ص61 - 62.
(3)
المصدر نفسه ص62.
(*) اختلف العلماء في كيفية التعبير عن التحمل بالإجازة فمنهم من يجوز إطلاق حدينا وأخبرنا والجمهور على المنع، إلا عند التقيد كأن يقول حدثنا فلان إجازة، أو أخبرنا إجازة للتوسع انظر: علوم الحديث ص150 والإلماع ص128.
قال: " وقد ادعى ابن مندة أن كل ما يقول البخاري فيه " قال لي " فهي إجازة، وهي دعوى مردودة بدليل أني استقريت كثيراً من المواقع التي يقول فيها في " الجامع " " قال لي " فوجدته في غير الجامع يقول فيها: " حدثنا " والبخاري لا يستجيز في الإجازة إطلاق التحديث (*) ، فدل على أنها عنده من المسموع، لكن سبب استعماله لهذه الصيغة ليفرق بين ما بلغ شرطه وما لا يبلغ، والله أعلم "(1) .
لكن بقي هنا إشكال لابد من الإجابة عليه، وهو إذا تقرر أن البخاري لا يرى صحة الرواية بالإجازة المطلقة فلماذا أخرج في صحيحه لمن روى بالإجازة؟
من المعلوم أن أصحاب الصحيح كانوا يتحرون في كيفية سماع الرواة بعضهم من بعض حتى يتم لهم تحقق شرط الصحيح، وهو اتصال السند مع بقية الشروط الأخرى ومن ثم تركوا الرواية عن كثير من الرواة بسبب خلل وقع لهم في التحمل، فمن هؤلاء مثلاً: عمرو بن شعيب فقد قال الذهبي بصدد روايته عن أبيه عن جدة: " وبعضهم تعلل بأنها صحيفة رواها وجادة ولهذا تجنبها أصحاب الصحيح، والتصحيف يدخل على الرواية من الصحف، بخلاف المشافهة في السماع "(2) .
وقال الإمام ابن تيمية: " وكان عند آل عبد الله بن عمرو بن العاص نسخة كتبها عن النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا طعن بعض الناس في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدة وقالوا: هي نسخة "(3) .
ومن أبرز الرواة الذين أخرج لهم البخاري، وقيل عنهم أنهم رووا بالإجازة.
(1) فتح الباري: ج1 ص188.
(2)
ميزان الاعتدال: ج1 ص265.
(3)
مجموع الفتاوى: ج18 ص8.
(*) اختصار أخبرنا.
الحكم بين نافع أبو اليمان الحمصي " قال أبو زرعة: لم يسمع من شعيب (هو ابن أبي حمزة) إلا حديثاً واحداً، والباقي إجازة، وقال أحمد كان يقول: أنا (*) شعيب استحل ذلك بقول شعيب لهم اروو عني، قلت: ومع روايته لذلك عن شعيب بالإجازة فاحتج بها صاحبا الصحيحين لثقته وإتقانه "(1) .
وقال فيه الحافظ ابن حجر: " مجمع على ثقته، اعتمده البخاري، وروى عنه الكثير، وروى له الباقون بواسطة تكلم بعضهم في سماعه من شعيب، فقيل: إنه مناولة، وقيل عنه إذن مجرد، وقد قال الفضل بن غسان سمعت يحي بن معين يقول: سألت أبا اليمان عن حديث شعيب فقال: ليس هو مناولة. المناولة لم أخرجها لأحد، وبالغ أبو زرعة الرازي وقال: لم يسمع أبو اليمان من شعيب إلا حديثاً واحداً.
قلت: إن صح ذلك فهو حجة في صحة الرواية بالإجازة، إلا أنه كان يقول في جميع ذلك أخبرنا ولا مشاحهة في ذلك إن كان اصطلاحاً له " (2) .
وكلام الحافظ لو يحمل على ظاهره يناقض ما ذهب إليه البخاري، وما قرره الحافظ نفسه من أن البخاري لم يذكر الإجازة المجردة عن المناولة، أو المكاتبة ولا الوجادة، ولا الوصية ولا الإعلام المجردات عن الإجازة وكأنه لا يرى شيئاً منها.
فالظاهر أنه ليست إجازة مطلقة بل هي إجازة في معين - وهي صحيحة عند الإمام البخاري كما سبق نقله عن الترمذي أنه سمع التاريخ الكبير إلى بعض حرف العين، والباقي إجازة عن الإمام البخاري، وهذا ما يدل عليه كلام الحافظ ابن رجب رحمه الله حيث قال:
(1) شمس الدين الذهبي: تذكرة الحافظ - دار إحياء التراث العربي - ج1 ص412.
(2)
هدي الساري ص418.