الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم قد ورد هذا الكلام بغير هذا السند في حديث نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف فقال إن شاء الله فلا حنث عليه"(1) .
واختلف في وقفه ورفعه والأرجح الوقف (2) .
ولقد اعترض ابن العربي على الحكم على عبد الرزاق بالخطأ بسبب اختصاره لهذا الحديث وذلك لأن ما جاء به عبد الرزاق في هذه الرواية لا يناقض غيرها لأن ألفاظ الحديث تختلف باختلاف أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في التعبير عنها، أي يخاطب كل قوم بما يكون أوصل لأفهامهم، وإنما ينقل الحديث على المعنى (3) .
قال الحافظ: "وأجاب شيخنا، في شرح الترمذي بأن الذي جاء به عبد الرزاق في هذه الرواية ليس وافياً بالمعنى الذي تضمنته الرواية التي اختصره منها، فإنه لا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم: "لو قال سليمان إن شاء الله لم يحنث " أن يكون الحكم كذلك في حق كل أحد غير سليمان وشرط الرواية بالمعنى عدم التخالف، وهنا تخالف بالخصوص والعموم"(4) .
المطلب الثاني: الرواية بالمعنى وأثرها في التعليل
كثيراً ما تختلف متون الأحاديث النبوية بسبب الرواية بالمعنى، وأحياناً لا يؤثر ذلك الاختلاف ولا يقدح في صحة الحديث، وأحياناً يؤثر في صحة
(1) أخرجه الحميدي (690) وأحمد 2/10 و 68 و 126 و 127 والدرامي (2347) و (2348) وأبو داود (3262) و (3262) وابن ماجه (2105) و (1106) والترمذي (1531) والنسائي 7/12 و 25.
(2)
انظر المصدر السابق ص253.
(3)
فتح الباري: ج11 ص613.
(4)
المصدر نفسه.
الحديث ويكون سبباً لتعليله، وأضرب لذلك أمثلة من صنيع الإمام البخاري رحمه الله.
أمثلة لما تكون فيه الرواية بالمعنى سبباً للتعليل:
المثال الأول:
قال البخاري: "حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن شهاب عن علي بن حسين، عن عمرو بن عثمان، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرث مسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"(1) .
فهذا الحديث يرويه مالك (2) وابن جريح (3) وابن عيينة (4) ، ويونس (5) ومعمر (6) كلهم عن الزهري عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم".
إلا أن هشيماً رواه عن الزهري بالإسناد المذكور بلفظ: "لا يتوارث أهل ملتين"(7) .
(1) رواه البخاري في كتاب الفرائض، باب لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم رقم (6764) ، ج12 ص51 (مع الفتح) .
(2)
رواية مالك في الموطأ، كتاب الفرائض، باب ميراث أهل الملل رقم (10) ص519.
(3)
رواية ابن جريج سبق تخريجها.
(4)
رواية ابن عيينة أخرجها مسلم في أول كتاب الفرائض رقم (1614) ج3 ص1233، وأبو داود في كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر ج2 ص19، والترمذي في كتاب الفرائض، باب إبطال الميراث بين المسلم والكافر، ج3 ص183 (مع التحفة) وابن ماجه، في كتاب الفرائض، باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك رقم (2729) ، ج1 ص911.
(5)
رواية يونس أخرجها البخاري في كتاب الحج، باب توريث دور مكة وبيعها وشرائها، رقم (158) ج3 ص526، وابن ماجه في كتاب الفرائض، باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك رقم (2830) ، ج2 ص912.
(6)
رواية معمر أخرجها أبو داود، في كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر، ج2 ص19.
(7)
عزاها الحافظ في الفتح إلى النسائي، ولم أجدها فيه مع طول البحث، والسنن الصغرى ليس فيها كتاب الفرائض أصلاً، فلعلها في الكبرى.
قال الحافظ: " وقد حكم النسائي وغيره على هشيم بالخطأ فيه، وعندي أنه رواه من حفظه بلفظ ظن أنه يؤدي معناه، فلم يصب، فإن اللفظ الذي أتى به أعم من اللفظ الذي سمعه، وسبب ذلك أن هشيماً سمع من الزهري بمكة أحاديث ولم يكتبها وعلق بحفظه بعضها فلم يكن من الضابطين عنه، ولذلك لم يخرج الشيخان عنه شيئاً"(1) .
فالبخاري ومسلم لم يخرجا هذا الحديث لأنه معلول، وظهرت علته بمخالفة هشيم لسائر أصحاب الزهري ليست قوية، لأنه لم يكتب الأحاديث التي سمعها من الزهري، وإنما اعتمد على حفظه فكان أحياناً يروي على سبيل التوهم، أي يروي الشيء ويظن أنه يؤديه بالمعنى فيقع في الوهم والخطأ.
وينبغي التنبيه هنا إلى أن هذا المتن " لا يتوارث أهل ملتين" قد ورد من غير هذا الطريق (فقد رواه الترمذي من حديث جابر (2) ، ورواه أبو يعلى من حديث عائشة، ورواه أصحاب السنن الأربعة (3) من طريقة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وسند أبي داود فيه إلى عمر صحيح" (4) .
المثال الثاني:
قال البخاري: "حدثنا حفص بن عمر قال: حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر – رضي الله عنهما " كانوا يستفتحون
(1) النكت ص275.
(2)
أخرجه الترمذي في سننه في كتاب الفرائض، باب إبطال ميراث المسلم من الكافر، وقال عقبه: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي ليلي ج3 ص183 (مع التحفة) وابن أبي ليلى قال فيه الحافظ في التقريب: صدوق سيء الحفظ جداً.
(3)
رواه أبو داود في سننه، كتاب الفرائض، باب هل يرث المسلم الكافر ج2 ص19، وسنده صحيح إلى عمرو، ورواه ابن ماجه في كتاب الفرائض، باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك (3731) ج2 ص912، وفي سنده عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف.
(4)
فتح الباري: ج5 ص52.
الصلاة بالحمد لله رب العالمين" (1) .
فهذا الحديث رواه أنس جماعة من الرواة منهم: قتادة (2) ، وحميد الطويل (3) ، وإسحاق بن أبي طلحة (4) وغيرهم بهذا اللفظ.
وفي رواية لمسلم من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن قتادة أنه كتب إليه يخبره عن أنس بن مالك أنه حدثه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون باسم الله الرحمن الرحيم، في أول القراءة، ولا في آخرها" (5) .
فهذه الرواية مخالفة للرواية الأولى في سياق متنها، إذ في الأولى إخبار بأن افتتاح القراءة كان بالحمد لله رب العالمين دون تعرض لنفي قراءة البسملة أو إثباتها، أما الرواية الثانية فهي نافية لرواية قراءة البسملة.
فرواية الأوزاعي: من طريق الوليد بن مسلم مخالفة لرواية غيره كشعبة وأيوب وأبي عوانة وقد حكم كثير من الأئمة على رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بالوهم.
(1) الجامع الصحيح، كتاب الآذان، باب ما يقول بعد التكبير، رقم (743) ج2 ص265 (مع الفتح) .
(2)
رواية قتادة أخرجها البخاري، ومسلم (50) من طريق شعبة، ج1 ص299، والترمذي من طريق أبي عوانة، في كتاب الصلاة، باب افتتاح القراءة بالحمد لله رب العالمين ج1 ص205 (مع التحفة) ، والنسائي، في كتاب الافتتاح، باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة (901) ج2 ص470. ط دار المعرفة، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها (813) ج1 ص267.
(3)
أخرجها مالك في الموطأ موقوفة، كتاب الصلاة باب العمل في القراءة (30) ج1 ص81.
(4)
ساق مسلم سندها ولم يسق لفظها ج1 ص300، وساقها البخاري في جزء القراءة خلف الإمام رقم (120) ص32 من طريق الوليد بن مسلم وليس فيه زيادة (لا يذكرون باسم الله) .
(5)
صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب من قال لا يجهر بالبسملة (52) ، ج1 ص299.
قال الدارقطني: "إن المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس أنهم كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، ليس فيه تعرض لنفي البسملة"(1) .
وقال البيهقي: "إن أكثر أصحاب قتادة رووه عن قتادة كذلك، وهكذا رواه إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة وثابت البناني عن أنس"(2) .
وقال ابن عبد البر، بعد أن روى هذا الحديث من طريق أيوب وشعبة، وهشام الدستوائي وشيبان بن عبد الرحمن وسعيد بن أبي عروبة، وأبي عوانة "فهؤلاء حافظ أصحاب قتادة ليس في روايتهم لهذا الحديث ما يوجب سقوط باسم الله الرحمن الرحيم من أول فاتحة الكتاب"(3) .
فهذه الرواية معلولة لأنها مخالفة للروايات الأخرى، مع قرائن انضمت إلى ذلك، وقد أشار إلى هذه القرائن بعض المتأخرين.
قال العراقي: "إن رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي التي أخرجها مسلم معلولة لأن الوليد يدلس تدليس تسوية"(4) .
وقد تعقبه الحافظ ابن حجر في ذلك، بأنه قد ورد تصريح الوليد بن مسلم بالسماع في طريق أخرى، وبين أن الأقوى تعليله بأن قتادة ولد أكمه، وهو لا يكتب، فيكون قد أمر غيره بالكتابة له وحينئذ فذلك الغير مجهول الحال عندنا، ولو كان قتادة يثق به، فلا يكفي ذلك في ثبوت عدالته إلا عند من يقبل التزكية على الإبهام" (5) .
وقال السيوطي: "إن لحديث مسلم السابق (حديث الوليد بن مسلم عن الأوزاعي) تسع علل: المخالفة من الحفاظ والأكثرين، والانقطاع، وتدليس التسوية من الوليد، والكتابة، وجهالة الكاتب، والاضطراب في
(1) سنن الدارقطني: ج1 ص316.
(2)
السنن الكبرى: ج2 ص51.
(3)
نقله العراقي في التقييد والإيضاح ص99.
(4)
المصدر نفسه ص100.
(5)
النكت ص319.
لفظه، والإدراج، وثبوت ما يخالفه عن صحابه، ومخالفة لما رواه عدد التواتر" (1) .
إذن فرواية الوليد بن مسلم وهم، والسبب في وقوع هذا الوهم هو أن الراوي روى هذا الحديث بالمعنى الذي فهمه (فالراوي ظن حين سمع قول أنس – رضي الله عنه – صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان – رضي الله عنهم – فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، نفيها بذلك فنقله مصرحاً بما فهمه، وقال ايذكون باسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها، وفي لفظ فلم يكونوا يفتتحون القراءة ببسم الله، وصار بمقتضى ذلك حديثاً مرفوعاً، والراوي لذلك مخطئ في ظنه" (2) .
وممن صرح بأن سبب الوهم من الراوي هو روايته لهذا الحديث بالمعنى، الإمام ابن الصلاح (3) والحافظ ابن حجر (4) .
فهذا المعنى الذي فهمه الراوي خطأ، والمعنى الصحيح هو كما بينه الشافعي –رحمه الله قال:"معناه: أنهم كانوا يبتدئون بقراءة فاتحة الكتاب قبل السورة، وليس معناه أنهم لا يقرؤون باسم الله الرحمن الرحيم"(5) .
وقد ورد في رواية مسلم من طريق شعبة عن قتادة فلم أسمع أحداً منهم يقرأ باسم الله الرحمن الرحيم (6) ولا يلزم من نفي السماع عدم الوقوع، بخلاف الرواية المتقدمة (7) .
ومن القرائن التي ذكرها الإمام ابن الصلاح وغيره من العلماء على أن
(1) تدريب الراوي:ج1 ص255.
(2)
فتح المغيث ج1 ص249.
(3)
علوم الحديث ص83.
(4)
النكت ص324.
(5)
نقله الترمذي في جامعه: ج1 ص206 (مع التحفة) .
(6)
صحيح مسلم كتاب الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة (50) ج1 ص299.
(7)
التقيد والإيضاح ص100.
رواية الوليد بن مسلم وقع فيها وهم (أنه ثبت عن أنس أنه سئل عن الافتتاح بالتسمية فذكر أنه لا يحفظ فيه شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
وهكذا يتضح لنا كيف تكون الرواية بالمعنى سبباً لوقوع الراوي في الوهم، فيكون حديثه معلولاً، لذا نرى أن الإمام البخاري تجنب رواية هذا الحديث في صحيحه.
أما بالنسبة للإمام مسلم فإنه أورد هذا الحديث من طريق شعبة أولاً، مما يدل على أنه الأصح عنده ثم أورد حديث قتادة من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي.
أمثلة لما لا تكون فيه الرواية بالمعنى سبباً للتعيل:
هنا أحاديث رويت بالمعنى، ولم تتطرق إليها العلة، وذلك أن الرواية بالمعنى لم تغيرها عن سياقها، وهذا النوع الذي يختلف فيه الرواة، ولا يكون فيه تغيير للمعنى، وإثبات لحكم جديد، يورده الإمام البخاري في صحيحه، وفيما يلي أمثلة لذلك:
المثال الأول:
حديث ابن عمر – رضي الله عنه – أنه كان نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره، وفي رواية اعتكاف يوم، وهذه روايات هذا الحديث ي صحيح البخاري.
قال البخاري:
" حدثنا مسدد حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله أخبرني نافع عن ابن عمر – رضي الله عنه – أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: أوف بنذرك"(2) .
(1) علوم الحديث ص73.
(2)
كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف ليلاً (2036) ، ج4 ص321.
وقال أيضاً:
"حدثنا عبد الله بن إسماعيل حدثنا أبو أسامة عن عبد الله عن نافع عن ابن عمر أن عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف في المسجد الحرام قال: أراه قال ليلة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك"(1) .
وقال البخاري أيضاً:
" حدثنا محمد بن مقاتل أبو الحسن، أخبرنا عبد الله أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر قال: يا رسو الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: أوف بنذرك"(2) .
وقال أيضاً:
"حدثنا أبو النعمان حدثنا محمد بن زيد عن أيوب عن نافع أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال: يا رسول الله إنه كان علي اعتكاف يوم في الجاهلية، فأمره أن يفي به.
ورواه معمر عن أيوب عن ابن عمر في النذر، ولم يقل (يوم) " (3) .
وحديث معمر هذا أورده البخاري في صحيحه قال:
"حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله، أخبرنا معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر –رضي الله عنه – قال: لما قفلنا من حنين سأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن نذر كان نذره في الجاهلية اعتكاف، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بوفائه"(4) .
(1) كتاب الاعتكاف أيضاً، باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم (2034) ، ج4 ص333.
(2)
كتاب الإيمان والنذور، باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنساناً في الجاهلية، ثم أسلم (6697) ، ج11 ص590.
(3)
كتاب الخمس، باب كان يعطي النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة قلوبهم من الخمس ونحوه (3144) .
(4)
كتاب المغازي، باب قوله تعالى:{ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم} (4320، ج7 ص630.
فقد اختلف على نافع في هذا الحديث، فعبيد الله بن عمر يقول: اعتكاف ليلة، وأيوب يقول: اعتكاف يوم في رواية حماد بن زيد عنه.
أما معمر في روايته عن أيوب مجملة لم يذكر مدة الاعتكاف وهو اختصار لا يضر بأصل الحديث وكل من أيوب، وعبيد الله بن عمر من ثقات أصحاب نافع.
وقد سئل الدارقطني عن اثبت أصحاب نافع فقال:
"عبيد الله بن عمر، ومالك، وأيوب السخيتاني"(1) .
فلما كان المختلفان حافظين ساق البخاري رواية كل منهما لأنه لا تعارض في المعنى بينهما. وبين الحافظ ابن حجر كيفية الجمع بين هاتين الروايتين فقال:
"والتحقيق في الجمع بين هاتين الروايتين أن عمر – رضي الله عنه – كان عليه نذر اعتكاف يوم بليلته فسال النبي صلى الله عليه وسلم عنه فأمره بالوفاء به، فعبر بعض الرواة بيوم وأراد بليلته، وعبر بعضهم بليلته، وأراد يومها.
والتعبير بكل واحد من هذين عن المجموع من المجاز الشائع الكثير من الاستعمال، فالحمل عليه أول من جعل القصة متعددة" (2) .
وقد ذهب الإمام النووي إلى أنها واقعتان: كان على عمر نذران، ليلة بمفردها، ويوماً بمفرده، فسأل عن هذا مرة، والآخر أخرى (3) . وقد رد هذا على النووي كل من الحافظ العلائي وابن حجر وحملا ذلك على الرواية بالمعنى (4) ، وهو الصواب – إن شاء الله -.
(1) سؤالات ابن بكير للدار قطني ص54.
(2)
النكت ص341.
(3)
شرح النووي لصحيح مسلم: ج11 ص124.
(4)
المصدر السابق.
المثال الثاني:
قال البخاري: "حدثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" (1) .
هذا أحد ألفاظ الحديث التي ساقها البخاري.
وساقه بلفظ آخر ونصه كما يلي: " عن نافع أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتعتمر عاماً، وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل، وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال: يا ابن أخي بني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت "(2) .
هذه ألفاظ هذا الحديث في صحيح البخاري، ويلاحظ أن فيها تغايراً في الألفاظ والعبارات كما يلاحظ اختلاف في التقديم والتأخير، حيث قدم الحج على الصوم في الرواية الأولى، بينما آخر في الرواية الثانية، وقدمت الزكاة عن الحج والصوم في الرواية الثانية، بينما أخرت على الصوم وقدمت على الحج في الرواية الثانية.
وأما الإمام مسلم فقد ذكر هذا الحديث من طرق مختلفة:
1-
عن أبي ملك الأشجعي عن سعيد بن عبيدة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمسة: على أو يوجد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج"، فقال رجال: الحج وصيام رمضان، قال:"لا، صيام رمضان والحج" هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب دعاؤكم إيمانكم، رقم (8) ، ج1 ص64.
(2)
كتاب التفسير، باب {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله..} رقم (4514) ج8 ص32.
2-
عن سعيد بن طارق قال حدثني: سعد بن عبيدة السلمي، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"بني الإسلام على خمس على أن يعبد الله ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان".
3-
وعن عاصم (هو ابن محمد بن زيد بن عبيد الله ابن عمر) عن أبيه قال: قال عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان.
4-
ثم ساقه من رواية عكرمة بن خالد، ولفظه مثل لفظ البخاري (1) .
ونلاحظ أيضاً أن فيها اختلافاً في الألفاظ، واختلافاً في التقديم والتأخير بين الحج والصيام.
وقد حاول الإمام النووي كعادته أن يوفق بين هذه الروايات بتعدد الواقعة أي أن ابن عمر سمع الحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين (2) .
وقد استبعد الحافظ هذا الحل فقال:
"ولا شك ي أن مثل هذا هنا بعيد جداً، فإنه لو سمعه على الوجهين، لم ينكر على من قال أحدهما، إلا أن يكون حينئذ ناسياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله على الوجه الذي أنكره والظاهر القوي أن راوي هذه الطريق قدم فيها الحج على الصيام، ورواه بالمعنى فقدم وآخر ولم يبلغه نهي ابن عمر – رضي الله عنه – عن ذلك محافظة على كيفية ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحمل – وهو رواية بعض الرواة لهذه الطريق على المعنى أولى من تطرق النسيان إلى ابن عمر – رضي الله عنه – أو الإنكار للفظ الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم"(3) .
(1) الجامع الصحيح للإمام مسلم: ج1 ص45.
(2)
شرح النووي لصحيح مسلم: ج ص.
(3)
النكت ص342.
وقال الحافظ في الفتح في شرح لحديث ابن عمر من طري حنظلة عن عكرمة:
"ووقع هنا تقديم الحج على الصوم، وعليه بنى البخاري ترتيبه، لكن وقع في مسلم من رواية سعد بن عبيدة، عن ابن عمر، بتقديم الصوم على الحج، قال: فقال رجل والحج وصيام رمضان، فقال ابن عمر: لا، صيام رمضان والحج، هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي هذا إشعار بأن رواية حنظلة التي في البخاري مروية بالمعنى، إما أنه لما يسمع رد ابن عمر على الرجل لتعدد المجلس، أو حضر ذلك ثم نسيه، ويبعد ما جوزه بعضهم أن يكون ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين، ونسي أحدهما عند رده على الرجل.
ووجه بعده أن طرق النسيان إلى الراوي عن الصحابي أولى من تطرقه إلى الصحابي، كيف وفي رواية مسلم من طريق حنظلة بتقديم الصوم على الحج، ولأبي عوانة من وجه آخر عن حنظلة أنه جعل صوم رمضان قبل، فتنويعه دال على أن روى بالمعنى.
ويؤيده ما وقع عند البخاري في التفسير بتقديم الصيام على الزكاة أفيقال إن الصحابي سمعه على ثلاثة أوجه؟ هذا مستبعد - والله أعلم- (1) .
وفي ختام هذا المطلب نخلص إلى ما يلي:
إن الرواية بالمعنى تكون سببا لتعليل الحديث إذا غيرت معناه كليا عن المعنى الأصلي ولا تكون سببا للتعليل إذا لم تخرج عن المعنى الأصلي، وذلك بتغير الألفاظ بمرادفتها، أو التعبير عن اللفظ بما يتجوز عنه به، أو بالتقديم والتأخير، ونحو ذلك.
(1) فتح الباري: ج 1 ص 65 - 66