الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع: نماذج من أحاديث الضعفاء ومنهج البخاري في تصحيحها
1 - أحاديث محمد بن عبد الرحمن الطفاوي:
له في البخاري ثلاثة أحاديث، ولو نظرنا إلى ترجمته في كتب الرجال (1) نجد أنه ليس من الحفاظ المتقنين الذين هم من شرط الصحيح.
فقد وثقه ابن المديني.
وقال أبو حاتم: صدوق إلا أنه يهم أحياناً.
وقال ابن معين: لا بأس به.
وقال أبو زرعة: منكر الحديث.
وأورد له ابن عدي عدة أحاديث وقال: إنه لا بأس به.
فهذا الراوي واضح أنه ليس في الدرجة العليا من رجال الصحيح، بل ليس من رجال الصحيح حسبما استقرت عليه كتب المصطلح، فإن من قيل فيه صدوق يهم، ولا بأس به، فحديثه حسن، ومن قيل فيه منكر الحديث فحديثه ضعيف، إذن فأحاديث الطفاوي تكون ضعيفة ضعفاً محتملاً أو حسنة على الاصطلاح المتداول، والآن ندرس أحاديثه وكيف صححها الإمام البخاري رحمه الله.
الحديث الأول:
قال البخاري رحمه الله: " ثنا أحمد بن المقدام العجلي ثنا
(1) انظر: التاريخ الكبير: ج1 ت465، والجرح والتعديل: ج7 ت 1747، والثقات: ج7 ص442، وتاريخ بغداد: ج2 ص308، وتهذيب الكمال: ج25 ص652، والميزان: ج3 ت 783، وتهذيب التهذيب: ج9 ص309، والتقريب ص493، وهدي الساري ص463 والخلاصة: ج2 ت 6446.
محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالوا: إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ قال: سموا الله وكلوه " (1) .
لو نظرنا إلى خصوص سند هذا الحديث لحكمنا عليه بالضعف، وفي أحسن الأحوال بالحسن الاصطلاحي، لكن الإمام البخاري صححه وأورده في صحيحه محتجاً به، والجواب على ذلك أنه وإن كان خصوص سنده فيه مقال لكن له متابعات تقويه وترفعه إلى درجة الصحة، وهذه المتابعات هي:
1 -
متابعة أبو خالد الأحمر (2) : وصلها المصنف في كتاب التوحيد، قال البخاري رحمه الله " حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: سمعت هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة قال: قالوا: يا رسول الله إن هنا أقواماً حديثاً عهدهم بشرك يأتونا بلُحْمَانٍ لا ندري يذكرون اسم الله عليها أم لا، قال: اذكروا أنتم اسم الله وكلوا ".
تابعه محمد بن عبد الرحمن وعبد العزيز بن محمد وأسامة بن حفص (3) .
وأبو خالد هو سليمان بن حيان الأزدي الكوفي، قال فيه الذهبي: " صاحب حديث وحفظ، روى عباس عن بن معين: صدوق ليس بحجة، وقال علي بن المديني: ثقة، وقال أبو حاتم، صدوق، روى له أحاديث خولف فيها - هو كما قال يحي: صدوق ليس بحجة، وإنما أوتي من سوء حفظه.
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع، باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات، رقم (2057) ج4 ص345 مع الفتح.
(2)
انظر ترجمته في الجرح والتعديل: ج4 ت 477، وتاريخ بغداد: ج9 ص21، والسير: ج9 ص19، وتهذيب الكمال: ج11 ص394، والتهذيب: ج4 ص181، وهدي الساري ص427.
(3)
رواه البخاري في كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها رقم (7398) ، ج13 ص391 مع الفتح.
قلت: الرجل من رجال الكتب الستة، وهو مكثر يهم كغيره " (1) .
وقال فيه الحافظ: " صدوق يخطئ "(2) .
وقد ذكره العقيلي في كتابه الضعفاء (3) ، فهو صالح للمتابعة.
2 -
متابعة أسامة بن حفص: وصلها المصنف في كتاب الأضاحي، قال البخاري:
" ثنا محمد بن عبد الله، ثنا أسامة بن حفص المديني عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن قوماً يأتوننا ".
تابعه علي عن الدراوردي، وتابعه أبو خالد والطفاوي (4) .
وأسامه بن حفص شيخ لم يزد البخاري في ترجمته في التاريخ الكبير على ما في هذا الحديث حيث قال: " أسامة بن حفص المديني، عن هشام بن عروة سمع منه محمد بن عبد الله "(5) .
ولم يذكره أبو حاتم في كتابه، وقال فيه الذهبي:" صدوق، ضعفه أبو الفتح الأزدي بلا حجة، وقال اللالكائي: مجهول، قلت روى عنه أربعة "(6) يعني انتفت عنه الجهالة بذلك، فمثله يصلح للمتابعة.
لهذه المتابعات صحح الإمام البخاري هذا الحديث وأورده في كتابه محتجاً به مستنبطاً منه مسائل في الفقه والعقيدة، وقد أخذ منه الحافظ ابن حجر أن تقوية الحديث الذي يرويه الضعيف إذا كانت له متابعات هو أمر يشهد له صنيع البخاري، قال رحمه الله:
(1) ميزان الاعتدال: ج2 ص200.
(2)
التقريب ص250.
(3)
الضعفاء: ج2 ص124.
(4)
أخرجه البخاري في كتاب الذبائح والصيد، باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، رقم (5507) ج9 ص550 مع الفتح.
(5)
التاريخ الكبير: ق2 ج1 ص23.
(6)
ميزان الاعتدال: ج1 ص174.
" ويؤخذ من صنيعه أنه وإن اشترط في الصحيح أن يكون راويه من أهل الضبط والإتقان أنه إن كان في الراوي قصور عن ذلك، ووافقه على رواية ذلك الخبر من هو مثله انجبر ذلك القصور بذلك، وصح الحديث على شرطه "(1) .
الحديث الثاني:
قال الإمام البخاري: " حدثنا محمد بن المقدام العجلي حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي حدثنا أيوب عن محمد عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أعطيت مفاتيح الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم البارحة إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي" (2) .
وطريق الطفاوي هذا قال فيه البغوي فيما ذكر عنه الإسماعيلي: " لا أعلم حدث به عن أيوب غير محمد بن عبد الرحمن "(3) ، وهذا الحكم من مثل هذا الإمام له قيمته العلمية لأنه مبني على التتبع والاستقراء لذا لم يذكر الحافظ في مقدمة الفتح متابعات لحديث الطفاوي وكذا لم يفعل في شرحه لهذا الحديث في الفتح، مع سعة إطلاع الحافظ رحمه الله وتبحره في معرفة الطرق والروايات، وشدة دفاعه عن الصحيح ورجاله، ومن هنا أستطيع أن أقول إن هذا الحديث لو طبقنا عليه قواعد المصطلح بخصوص إسناده لحكمنا عليه بالغرابة والضعف، لكن الإمام البخاري أورده في جامعه الذي اشترط فيه الصحة معتمداً عليه، والإمام البخاري لم يحكم على خصوص هذا الإسناد وإنما باعتبار ما لهذا الحديث من شواهد منها:
الشاهد الأول: ما رواه البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه قال: " حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1) الفتح: ج9 ص550.
(2)
رواه البخاري في كتاب التعبير، باب رؤيا الليل، رقم (6998) ، ج12 ص406.
(3)
نقله الحافظ في فتح الباري: ج9 ص407.
" بُعثت بجوامع الكلم "(1) .
والشاهد الثاني: ما رواه البخاري في كتاب الجهاد من صحيحه قال: " حدثنا يحي بن بكير حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " بعثت بجوامع الكلم ونُصرت بالرعب " (2) .
فهذه الشواهد أو بعبارة أدق هذه المتابعات القاصرة، تدل على أن هذا الحديث محفوظ عن أبي هريرة يرويه عنه محمد بن سيرين وسعيد بن المسيب.
ويرويه عن سعيد بن المسيب، ابن شهاب الزهري، ويرويه عن الزهري، إبراهيم بن سعد وعقيل.
وأما محمد بن سيرين فيرويه عنه أيوب، ولم يروه عن أيوب إلا الطفاوي كما تقدم.
فأصل الحديث إذن ثابت وصحيح لا مرية فيه.
لكن ما هو الغرض العلمي الذي دفع البخاري إلى إخراج هذا الحديث من طريق الطفاوي؟ ظهر لي غرضان هما:
أولاً: هذا الإسناد رواته كلهم بصريون، كما صرح به الحافظ وكما يعلم من تراجمهم، إذن فهذا الإسناد وإن كان فيه تفرد محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب، الذي قد يثير شبهة الغرابة، وخاصة أن المتفرد ليس من الحفاظ، لكن لما كان هذا المتفرد إنما انفرد به شيخه وبلديه، والحديث مشهور بالبصرة متداول بين علمائها، فهذه الشهرة تدفع تلك الغرابة الآتية من تفرد الطفاوي به.
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" بعثت بجوامع الكلم " رقم (7273) ، ج13 ص261 مع الفتح.
(2)
كتاب الجهاد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" نصرت بالرعب مسيرة شهر " رقم (2977) ج6 ص149.