الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
" وحديث أبي اليمان (1) - عن شعيب (2) - متفق على تخريجه في الصحيحين، وإذا كان حديث شعيب عندهم معروفاً وأذن لهم في روايته عنه فلا حاجة إلى إحضاره ومناولته: بل هذه إجازة من غير مناولة إلا أن أبا اليمان كان يقول في الرواية بها: أخبرنا.
وقد نهى عن ذلك الأوزاعي وأحمد بن صالح المصري، ورخص فيه آخرون منهم: مالك، ورواه الوليد بن مزيد عن الأوزاعي أيضاً، وقد روى عن أحمد أيضاً.
وقال أبو اليمان قال لي أحمد بن حنبل: كيف سمعت الكتب من شعيب بن أبي حمزة؟ قلت: قرأت عليه بعضه، وبعضه قرأه عليّ وبعضه أجاز لي، وبعضه مناولة، فقال: قل في كله أخبرنا شعيب " (3) .
ومنه يمكن القول بأن البخاري يرى صحة الرواية بالإجازة المعينة وهي في حكم المناولة أما الإجازة المطلقة وغيرها من أنواع التحمل كالإعلام والوصية والوجادة فهي من توسع المتأخرين بعد عصر الرواية.
* * *
المطلب الثالث: العنعنة وموقف البخاري منها
تعريف العنعنة:
أ - لغة:
هو مصدر جعلي كالبسملة والحمدله والحوقلة، مأخوذ من لفظ " عن
(1) الحكم بن نافع أبو اليمان الحمصي، الإمام الحافظ شيخ البخاري، روى عنه البخاري وأخرج له البقية. مات سنة 222هـ، ترجمته في: تهذيب التهذيب: ج2 ص441، تذكرة الحافظ: ج1 ص412.
(2)
شعيب بن أبي حمزة، أبو بشر الحمصي أحد الأئمة الأثبات، أخرج له الستة. مات سنة 162هـ ترجمته في تهذيب التهذيب: ج4 ص315.
(3)
شرح العلل ص168.
فلان " كأخذهم حولق وحوقل من قول " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " وسبحل من قول "سبحان الله " (1) .
ب - اصطلاحاً:
كل حديث فيه صيغة " فلان عن فلان " من غير بيان للتحديث أو الإخبار أو السماع وهذه الصيغة غير ظاهرة في السماع (2) ، ومن هنا اختلفت فيها أقوال الأئمة في الحكم عليها قبولاً ورداً، ويتحصل من مجموع أقوالهم ستة مذاهب:
المذهب الأول:
يرى أصحابه أن ما كان فيه لفظ " عن " فهو من قبيل المرسل المنقطع حتى يتبين اتصاله من جهة أخرى.
وهذا القول نقله ابن الصلاح ولم يسم قائله (3) ونقله قبله القاضي أبو محمد الرامهرمزي (ت36 هـ) عن بعض المتأخرين من الفقهاء (4) وقد أفاض الحافظ العلائي في ذكر أدلة هذا المذهب والرد عليه (5) وكذلك الإمام ابن رشيد الفهري فقد توسع أيضاً في ذكره والرد عليه وسألخص المهم من كلامه.
" المذهب الأول: مذهب أهل التشديد، وهو أن لا يعد متصلاً من الحديث إلا ما نص فيه على السماع، أو حصل العلم به من طريق آخر، وأن ما قيل فيه: فلان عن فلان فهو من قبيل المرسل أو المنقطع، حتى يتبين اتصاله بغيره، وهذا المذهب وإن قلّ القائل به بحيث لا يسمى ولا يعلم فهو الأصل الذي كان يقتضيه الاحتياط.
(1) توضيح الأفكار: ج1 ص330.
(2)
شرح العراقي لألفيته: ج1 ص162 - 163.
(3)
علوم الحديث ص56.
(4)
المحدث الفاصل ص450.
(5)
جامع التحصيل ص136.
وحجته: أن " عن " لا تقتضي اتصالاً لا لغة ولا عرفاً، وإن توهم متوهم فيها اتصالاً لغة فإنما ذلك بمحل المجاوزة المأخوذ عنه. نقول: أخذ هذا عن فلان، فالأخذ حصل متصلاً فإنما ذلك بمحل المجاوزة المأخوذ عنه، وليس فيها دليل على اتصال الراوي بالمروي عنه.
وما علم منهم أنهم يأتون بـ " عن " في موضع الإرسال والانقطاع يخرم ادعاء العرف، وإذا أشكل الأمر وجب أن يحكم بالإرسال، لأنه أدون الحالات، فكأنه أخذ بأقل ما يصح حمل اللفظ عليه، وكان لصاحب هذا المذهب أن لا يقول بالإرسال بل بالتوقف حتى يتبين لمكان الاحتمال، ولعل ذلك مراده، وهو الذي نقله مسلم عن أهل هذا المذهب أنهم يقفون الخبر، ولا يكون عندهم موضع حجة لإمكان الإرسال فيه (1) ، إلا أن هذا المذهب رفضه جمهور المحدثين بل جميعهم وهو الذي لا إشكال في " أن أحداً من أئمة السلف ممن يستعمل الأخبار ويتفقد صحة الأسانيد وسقيمها مثل أيوب السختياني وابن عون ومالك بن أنس وشعبة بن الحجاج ومن سمى معهم لا يشترطه ولا يبحث معه "(2) ولو اشترط ذلك لضاق الأمر جداً، ولم يتحصل من السنة إلا النزر اليسير فكأن الله أتاح الإجماع عصمة لذلك وتوسعة علينا والحمد لله " (3) .
المذهب الثاني:
وهو أيضاً من مذاهب أهل التشديد إلا أنه أخف من الأول ويشترط أصحابه أن يكون الراوي طويل الصحبة لمن روى عنه فإن كان كذلك ولم يكن مدلساً كانت عنعنته محمولة على الاتصال (4) وهو منسوب للإمام أبي المظفر بن السمعاني الشافعي (ت 489 هـ) .
(1) مقدمة صحيح مسلم ص14.
(2)
المرجع نفسه ص15.
(3)
السنن الأبين ص21 - 25.
(4)
انظر: مقدمة ابن الصلاح ص62، وجامع التحصيل ص134، والسنن الأبين ص31.
المذهب الثالث:
إن كان الراوي معروفاً بالرواية عمن عنعن عنه، ولم يكن مدلساً حمل ذلك على الاتصال (1) ، قاله الحافظ المقرئ أبو عمرو الداني (ت 444هـ) .
المذهب الرابع:
إذا أدرك الراوي من عنعن عنه إدراكاً بيناً، ولم يكن مدلساً حمل ذلك على الاتصال (2) ، قاله أبو الحسن القابسي.
فهذه مذاهب المتشددين، إلا أن ما ذكر عن الداني غير صريح في التشديد بل اعتبره الحافظ ابن رشيد موافقاً لمذهب مسلم بن الحجاج، وسيأتي ذكره وتفصيله.
المذهب الخامس:
يرى أصحابه أن العنعنة تقتضي الاتصال وتدل عليه، إذا ثبت اللقاء بين المعنعن والمعنعن عنه ولو مرة واحدة، وكان الراوي بريئاً من تهمة التدليس، وهذا المذهب قد نسبه كثير من العلماء إلى الإمام البخاري وشيخه ابن المديني، وأكثر الأئمة (3) .
المذهب السادس:
يرى أصحابه أن العنعنة محمولة على الاتصال إذا توفرت الشروط التالية:
1 -
أن يكون الراوي بريئاً من تهمة التدليس.
(1) انظر: مقدمة ابن الصلاح ص60، وشرح العراقي لألفيته: ج1 ص164.
(2)
انظر: نفس المصادر.
(3)
من هؤلاء: العلائي في جامع التحصيل ص134، وابن رجب في شرح العلل ص212، وابن رشيد في السنن الأبين ص31، والسخاوي في فتح المغيث: ج1 ص157، وابن كثير في اختصار علوم الحديث ص56، والبلقيني في محاسن الاصطلاح ص158، والسيوطي في التدريب: ج1 ص216، وغير هؤلاء كثير.
2 -
أن يكون لقاؤه لمن روى عنه بالعنعنه ممكناً من حيث السن والبلد.
فإذا توفرت هذه الشروط كان الحديث متصلاً وإن لم يأت أنهما اجتمعا قط.
وهو قول الإمام مسلم، والحاكم أبي عبد الله، وهو ظاهر كلام ابن حبان، والقاضي أبي بكر الباقلاني، والإمام الصيرفي (1) . وقد جعله مسلم رحمه الله قول كافة أهل الحديث وأن القول باشتراط ثبوت اللقاء قول مخترع، لم يسبق قائله إليه، وبالغ في رده، وطوّل في الاحتجاج لذلك في مقدمة صحيحه (2) .
وهذه المذاهب على اختلافها وتباينها نجدها قد أجمعت على شروط لقبول السند المعنعن، وذكرها كثير من العلماء منهم: الحاكم النيسابوري والخطيب البغدادي، وابن عبد البر رحمهم الله.
وهذه الشروط هي (3) :
1 -
عدالة المحدثين في أحوالهم.
2 -
لقاء بعضهم بعضاً مجالسة ومشاهدة.
3 -
أن يكونوا برآء من التدليس.
الموازنة بين البخاري ومسلم في الحكم على السند المعنعن:
بعد أن عرضنا مذاهب العلماء في الحكم على السند المعنعن، وما أجمعوا عليه وما اختلفوا فيه، نرجع إلى بيان مذهب البخاري رحمه الله في هذه المسألة.
(1) شرح العلل ص214.
(2)
جامع التحصيل ص135.
(3)
انظر: التمهيد لابن عبد البر: ج1 ص12 - 13 والكفاية ص421 ومعرفة علوم الحديث ص43.
لقد سبق ذكر الإمام البخاري مع أصحاب المذهب الخامس، والذي يرى أصحابه أن العنعنة تقتضي الاتصال وتدل عليه إذا ثبت اللقاء بين المعنعن والمعنعن عنه ولو مرة واحدة، وكان الراوي بريئاً من تهمة التدليس، هذا المذهب قد نسبه كثير من العلماء إلى الإمام البخاري وشيخه ابن المديني وأكثر الأئمة، كما نسبوا الإمام مسلم إلى مخالفة هذا الشرط، والرد على البخاري ومن تبعه على ذلك.
ومن المعلوم قطعاً أن البخاري لم يصرح بهذا المذهب في كتبه، ولا غيره من أئمة الحديث والنقد، وإنما أخذ العلماء ذلك من تصرفهم وصنيعهم في كتبهم، حيث لاحظوا أن الإمام البخاري وشيخه ابن المديني يعلان الأحاديث كثيراً بعد سماع الراوي عمن عنعن عنه مع كونهما متعاصرين، فاستنبطوا من ذلك أن البخاري وشيخه ابن المديني لا يكتفيان بمجرد المعاصرة بل يشترطان تحقق اللقاء.
وأما الإمام مسلم فقد صرح بشرطه في مقدمة صحيحه، فأزال بذلك كل ظن وشك، كما أنه رد على مخالفة في ذلك رداً بليغاً شديداً، ويتساءل الكثيرون من المعنى بهذا الرد والنقد؟ ومن المقصود بهذا الإنكار الشديد والتهجين القوي؟
والعجيب أن " صحيح مسلم " قرئ على مؤلفه وتلاميذه وتلاميذهم مئات المرات، وأول ما يقرأ فيه المقدمة، وفيها ذلك الإنكار والتهجين، ولم ينقل عن مسلم أو تلاميذه أو تلاميذهم تعيين المعنى بالرد، ولذا خمن العلماء في تعيين المعنى بالرد والإنكار، والعجيب أنهم حملوه على البخاري أو شيخه ابن المديني، وبنوا على ذلك التخمين إشكالات ومحاكمات بين البخاري ومسلم، وكأن الأمر قطعي ثابت لا مرية فيه، والأعجب من هذا كله أن يصدر عن أئمة حفاظ ويتتابعوا عليه منهم الإمام ابن الصلاح، والنووي، وابن رجب الحنبلي، وابن كثير، وابن حجر، والسخاوي، وابن رشيد الفهري، والحافظ العلائي وغيرهم، وسأنقل المهم من كلامهم وأتعقبه بما أراه مناسباً.
قال الحافظ ابن رجب: " وما استدل به مسلم على المخالف له أن من تكلم في صحة الحديث من السلف لم يفتش أحد منهم على موضع السماع، وسمى منهم شعبة والقطان وابن مهدي قال ومن بعدهم من أهل الحديث "(1) .
فالمطلوب ممن يريد نقض كلام مسلم أن يأتي بأقوال لهؤلاء الأئمة تخالف ما حكاه مسلم عنهم، أو أقوال لغيرهم ممن لم يذكر قولهم، ولم يفعلوا، ولن يفعلوا إلا أن تكون أقوالاً لعلماء الكلام والأصول ومتأخري الظاهرية.
ثم قال ابن رجب: " وكثير من العلماء المتأخرين على ما قاله مسلم رحمه الله من أن إمكان اللقي كاف في الاتصال من الثقة غير المدلس، وهو ظاهر كلام ابن حبان وغيره وما قاله ابن المديني والبخاري هو مقتضى كلام أحمد وأبي زرعة، وأبي حاتم وغيرهم من أعيان الحفاظ، بل كلامهم يدل على اشتراط السماع فإنهم قالوا في جماعة من الأعيان ثبتت لهم الرؤية لبعض الصحابة وقالوا مع ذلك لم يثبت لهم السماع منهم، فرواياتهم عنهم مرسلة "(2) وذكر أمثلة على هؤلاء ثم قال: " ومما يستدل به أحمد وغيره من الأئمة على عدم السماع والاتصال، أن يروي عن شيخ من غير أهل بلده، لم يعلم أنه دخل إلى بلده، ولا أن الشيخ قدم إلى بلد كان الراوي عنه فيه "(3) .
وهذا الأمر مما يوافق عليه مسلم ويستعمله أيضاً فإنه قال: " وذلك أن القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديماً وحديثاً، أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثاً وجائز ممكن له لقاؤه، والسماع منه لكونهما جميعاً كانا في عصر واحد، وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا ولا تشافها بكلام، فالرواية ثابتة، والحجة بها لازمة، إلا أن تكون هناك
(1) شرح العلل ص212.
(2)
المصدر نفسه ص214 - 215.
(3)
المصدر نفسه ص217.
دلالة بينه على أن هذا الراوي لم يلقَ من روى عنه، ولم يسمع منه شيئاً. فأما والأمر مبهم على الإمكان الذي فسرنا، فالرواية على السماع أبداً، حتى تكون الدلالة بينا " (1) فهذه الأدلة والبينات التي يستدل بها النقاد على عدم سماع المتعاصرين هي من الدلائل والبينات التي يعتبرها الإمام مسلم أيضاً، والمطلوب ممن ينصب الخلاف بين مسلم وغيره من أئمة النقد أن يأتي بأسانيد حكم عليها هؤلاء الأئمة بالانقطاع وعدم السماع، لوجود البينات والدلائل، وحكم عليها مسلم بالاتصال لمجرد المعاصرة، ثم نقل الحافظ ابن رجب اتفاق أهل الحديث على أن حبيب بن أبي ثابت لم يثبت له السماع عن عروة مع إدراكه له وجعله حجة في حكاية الإجماع على خلاف قول مسلم (2) .
وهذا غريب جداً من الحافظ ابن رجب لأن مسلماً رحمه الله لم يدّع أن كل من أدرك راوياً صحّ سماعه منه، بل قال: إذا كانا متعاصرين وجائز ممكن لقاؤهما، وكان الراوي ثقة غير مدلس وقال:" عن " حمل على السماع، ما لم تقم الحجة والبينة على أنه لم يسمع.
ثم قال: " ويلزمه الحكم باتصال حديث كل من عاصر النبي صلى الله عليه وسلم وأمكن لقيه له إذا روى عنه شيئاً، وإن لم يثبت سماعه منه، ولا يكون حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وهذا خلاف إجماع أئمة الحديث "(3) .
وهذا الإلزام لا يلزم مسلماً منه شيء البتة، فأين القيد والاستثناء الذي ذكره مسلم " إلا أن تكون هناك دلالة بينة على أن هذا الراوي لم يلقَ من روى عنه، ولم يسمع منه شيئاً " وهذا قيد دقيق نفي فيه المرسل الخفي وهو يفيد نفي المرسل الجلي بالأولى.
ثم قال ابن رجب رحمه الله: " ولهذا المعنى تجد كلا م شعبة،
(1) مقدمة صحيح مسلم ص130 بشرح النووي - ط دار الفكر.
(2)
المصدر نفسه ص216.
(3)
شرح العلل ص220.
ويحي، وأحمد، وعلي، ومن بعدهم التعليل بعدم السماع، فيقولون: لم يسمع فلان من فلان، أو لم يصح له السماع منه، ولا يقول أحد قط: لم يعاصره " (1) .
وهذا أمر واضح لا إشكال فيه لأن العلة هي سبب غامض يدل على الوهم، ومعرفة السماع من عدمه أمر غامض خاصة بين المتعاصرين، أما المعاصرة فإدراكها واضح ليس فيه غموض وهذا من خلال معرفة المواليد والوفيات، ولهذا كثر تعليل الأحاديث من طرف النقاد بعدم السماع لخفائه وغموضه.
هذا أهم ما ورد في كلام الحافظ ابن رجب في الرد على مسلم.
وممن يرى أن مسلماً يخالف البخاري وابن المديني في الحكم على السند المعنعن، الإمام الذهبي فقد قال في ترجمة مسلم: " قال أبو بكر الخطيب: كان مسلم يناضل عن البخاري، حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحي الذهلي بسببه.
قلت (الذهبي) ثم إن مسلماً لحدة في خلقه، انحرف أيضاً عن البخاري، ولم يذكر له حديثاً ولا سماه في صحيحه، بل افتتح الكتاب بالحط على من اشترط اللقي لمن روى عنه بصيغة " عن " وادعى الإجماع على أن المعاصرة كافية، ولا يتوقف في ذلك على العلم بالتقائهما، ووبخ من اشترط ذلك، وإنما يقول ذلك أبو عبد الله البخاري وشيخه علي بن المديني " (2) .
وكلام الإمام الذهبي عليه ملاحظات:
الأولى: ما ذكره من انحراف مسلم عن البخاري أمر غريب لم يذكره من ترجم للبخاري ولا لمسلم، بل لا يعرف عنه إلا الوفاء لشيخه والمناضلة عنه.
(1) المصدر نفسه ص221.
(2)
سير أعلام النبلاء: ج12 ص573.
الثانية: ما استند إليه الذهبي لإثبات انحراف مسلم عن البخاري من كونه لم يرو له حديثاً، ولا سماه في صحيحه، أمر غريب جداً من مثل الحافظ الذهبي وهو من الحفاظ المتأخرين الذين يهتمون بالعلو ويعنون بذلك ولا سيما في كتب التراجم والسير والتاريخ.
فإذا كان المتأخرون عن عصر الرواية يطلبون العلو، ويفتخرون به في مصنفاتهم في التراجم والسير، أفلا يكون الأئمة الذين يصنفون في الحديث أولى وأحرى بذلك؟! ولذلك يتحملون الرواية عن الضعفاء من أجل العلو، وخاصة أن الإمام مسلماً قد شارك البخاري في أغلب شيوخه.
وهذا الإمام البخاري رحمه الله مع شدة حبه للإمام البخاري واعترافه بعلمه وفضله وتقدمه في هذا الشأن، والإكثار من سؤاله عن العلل والرجال في كتابيه " الجامع " و " العلل " مع ذلك لم يرو عنه في جامعه سوى حديثين، وروى مسلم حديثاً واحداً، فهل يقال إن الترمذي قد انحرف عن البخاري أيضاً لأنه لم يكثر عنه؟!
والشافعي من أجلّ شيوخ أحمد ومع ذلك لم يرو عنه في مسنده، طلباً للعلو، في أمثلة كثيرة.
وقول الذهبي: " ولا سماه في صحيحه " لا يفيد هذا أنه انحرف عنه، لأن الإمام مسلماً لم يسم في كتابه كل العلماء الذين أخذ عنهم، ولا صرح بذكر العلل كما فعل الترمذي، حتى ينقل عن شيخه إمام هذه الصنعة بلا منازع، ولا ذكر غير ذلك مما يتعلق بعلوم الرجال كالجرح والتعديل، والأسماء والكني، فلم يحتج إلى النقل عن البخاري ومن هنا لم يسمه.
الثالثة: إن الذي أوقع الذهبي في هذا هو اعتقاده أن المقصود بالرد والتوبيخ من قبل مسلم هو البخاري وشيخه ابن المديني، وهذا أمر لم تقم عليه أدلة قوية لا من جهة أن البخاري يتبنى هذا الرأي، ولا من جهة أن مسلماً يقصد بذلك البخاري وابن المديني بل هو مجرد ظن وتخمين. قال الأمير الصنعاني رحمه الله: " واعلم أنا راجعنا مقدمة مسلم فوجدناه تكلم في الرواية بالعنعنة وأنه شرط فيها البخاري ملاقاة الراوي لمن عنعن عنه،
وأطال مسلم في رد كلامه، والتهجين عليه، ولم يصرح أنه البخاري، وإنما اتفق الناظرون أنه أراده ورد مقالته " (1) .
هكذا ذهب كثير من العلماء والحفاظ إلى أن المراد بالرد هو البخاري وابن المديني، وذهب البعض الآخر إلى أن المراد بالرد هو ابن المديني وليس البخاري، ومن هؤلاء:
1 -
الحافظ ابن كثير قال:
" قيل إنه البخاري: والظاهر أنه يريد علي ابن المديني، فإنه شرط ذلك في أصل صحة الحديث، وأما البخاري فإنه لا يشرطه في أصل الصحة ولكن التزم ذلك في كتابه الصحيح "(2) .
2 -
الإمام شيخ الإسلام البلقيني قال في " محاسن الاصطلاح ":
" قيل: يريد مسلم بذلك البخاري، إلا أن البخاري لا يشترط ذلك في أصل الصحة، ولكن التزمه في جامعه ولعله يريد ابن المديني فإنه يشترط ذلك في أصل الصحة "(3) .
3 -
الحافظ البقاعي قال:
" سئل شيخنا عن الذي بحث مسلم معه: من هو؟ فقال: علي بن المديني "(4) ونقل البقاعي في نفس الكتاب في مبحث المعنعن كلام الحافظ ابن كثير بتمامه معزواً إليه وأقره.
4 -
العلامة محمد بن قاسم الغزي قال في " حاشيته على شرح الألفية
(1) توضيح الأفكار: ج1 ص44.
(2)
الحافظ بن كثير: اختصار علوم الحديث - تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر - دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى 1403 - 1983م، ص49.
(3)
سراج الدين البلقيني: محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح: تحقيق الدكتورة عائشة عبد الرحمن - مطبعة دار الكتب القاهرة - 1974م، ص158.
(4)
من كتاب " النكت الوفية على شرح الألفية " والكتاب ما يزال مخطوطاً وما نقلته فبواسطة عبد الفتاح أبي غدة في تتماته على الموقطة ص136.
للعراقي" (1) .
" هو علي ابن المديني، وقيل البخاري ولم يسم في صحيح مسلم ".
فهؤلاء الحفاظ المتأخرون قد ذهبوا إلى أن المعنى بالرد هو ابن المديني وليس البخاري، وقد ذهب إلى هذا الشيخ عبد الفتاح أبو غدة من المعاصرين، وقدم دليلاً تاريخياً على عدم صحة أن يكون البخاري هو المعني بالرد في كلام مسلم رحمه الله ألخصه فيما يلي:
" الإمام مسلم ولد سنة (204هـ) والأرجح سنة (206هـ) ، وسمع الحديث سنة (218هـ) وتوفي سنة 261هـ) عن (55) سنة.
بقي الإمام مسلم في تأليف كتابه (15) سنة وقد فرغ من تأليفه سنة (250هـ) فيكون مسلم قد بدأ في تأليفه سنة (235هـ) حين كانت سنه 29 سنة، وانتهى منه حين كانت سنه 44 سنة وقد عاش بعد الفراغ من تأليفه 11 سنة، ولا شك أن مسلماً قد كتب مقدمة صحيحه قبل الشروع في تأليفه لا بعده، كما هو صريح قوله في مقدمته.
والإمام مسلم لما صاحب البخاري في نيسابور، وأدام الاختلاف إليه، ولازمه كل الملازمة، خمس سنوات من سنة 250 إلى سنة 255، وكان في هذه المدة منتهياً من تأليف كتابه الصحيح، وفيه مقدمته التي فيها الكلام الشديد، فلا يعقل أن يكون البخاري هو المعني بهذه اللهجة الشديدة التي لا تطاق معها مقابلة ولا لقاء، فضلاً عن الصحبة والملازمة خمس سنوات، بل إن مسلماً قد قاطع شيخه وبلديه: محمد بن يحي الذهلي النيسابوري من أجل البخاري لما ورد نيسابور، ووقف منه محمد بن يحي الذهلي ذلك الموقف المعروف، فهل يقبل ممن يناصر البخاري هذه المناصرة ويقول له: لا يبغضك إلا حاسد، وأشهد أنه ليس في الدنيا مثلك، ودعني أقبل رجلك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله: أن يصفه بتلك الصفات النابزة، والأقوال القاسية، والكلمات الجارحة ويتصاحبا مع
(1) الكتاب ما يزال مخطوطاً، ونقلته بواسطة نفس المرجع.
ذلك دهراً طويلاً " (1) .
ثم إن العلماء الذين قالوا بأن شرط البخاري هو ثبوت اللقاء مع المعاصرة حتى يحكم للسند المعنعن بالاتصال، اختلفوا هل ذلك شرط في الصحة مطلقاً عند البخاري أم هو شرط في الأصحبة عمل به في جامعه قط. وقد ذهب الحافظ ابن حجر إلى أن ذلك شرط في أصل الصحة حيث قال:" ادعى بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في " جامعه " لا في أصل الصحة، وأخطأ في هذه الدعوى، بل هذا شرط في أصل الصحة عند البخاري، فقد أكثر من تعليل الأحاديث في " تاريخه " بمجرد ذلك "(2) .
لو كان البخاري يشترط ذلك في الأصحية فقط لما كان هناك نزاع بينه وبين مخالفه لأنه من المسلم به أن اللقاء أحوط وأوثق في ثبوت الاتصال من مجرد المعاصرة.
وأما إذا كان البخاري يشترط ذلك في أصل الصحة فيلزم منه أن يكون ما رواه مسلم في صحيحه من الأحاديث المعنعنة التي هي على شرطه في العنعنة من قسم الضعيف عند البخاري ومن مشى على قوله بعده، وهذا غير مقبول لأنه يناقض كل المناقضة ما قرره العلماء على مر الزمن من أن كتاب مسلم صحيح مع معرفتهم بشرط في العنعنة.
وقد استشعر الإمام النووي رحمه الله هذا الإشكال والتناقض فقال رحمه الله:
" والبخاري لا يحمله على الاتصال (أي السند المعنعن) حتى يثبت اجتماعهما وهذا المذهب يرجح كتاب البخاري وإن كنا لا نحكم على مسلم بعمله في " صحيحه " بهذا المذهب لكونه يجمع طرقاً كثيرة يتعذر معها وجود الحكم الذي جوّزه، والله أعلم "(3) .
(1) التتمات على الموقظة ص.
(2)
النكت ص230، وانظر: التنكيل ص269 - 270.
(3)
شرح النووي على مسلم: ج1 ص14.
وقد رّد العلامة المعلمي كلام النووي بقوله: " وزعم النووي في " شرح صحيح مسلم " أنه لا يحكم على مسلم بأنه عمل في " صحيحه " بقوله المذكور، وهذا سهو من النووي، فقد ذكر مسلم في ذلك الكلام أحاديث كثيرة زعم أنه لم يصرح فيها بالسماع ولا علم اللقاء، وأنها صحاح عند أهل العلم، ثم أخرج منها في أثناء صحيحه تسعة عشر حديثاً كما ذكره النووي نفسه ومنها ستة في " صحيح البخاري " كما ذكره النووي أيضاً "(1) .
ومعنى هذا أنه يوجد في " الصحيحين " أحاديث معنعنة لم يصرح فيها بالسماع ولا علم اللقاء، وهذه الأحاديث لا يتم الحكم عليها بالصحة إلا وفق ما قرره مسلم رحمه الله وقد سأل التقي السبكي المزي - حافظ الدنيا - هل وجد لكل ما روياه بالعنعنة طرق مصرح فيها بالتحديث؟
فقال: كثير من ذلك لم يوجد وما يسعنا إلا تحسين الظن (2) .
مما سبق يتبين أنه ليس هناك أدلة قاطعة تثبت أن المعني بالرد في كلام مسلم هو البخاري أو شيخه ابن المديني، وعليه لا نستطيع أن ننصب خلافاً بين مسلم وسائر الأئمة على رأسهم شيخه الإمام البخاري، ولا أستبعد أن يكون مذهب البخاري وابن المديني في هذه المسألة هو مذهب الإمام مسلم، لأن مسلماً حكى في ذلك الإجماع، وأي إجماع يصح وينعقد والمخالف مثل ابن المديني والبخاري، ويكون المعني بالرد في كلام مسلم بعض المتنظعين من منتحلي الحديث في عصره، والله أعلم.
* * *
(1) التنكيل ص269.
(2)
تدريب الراوي: ج1 ص59.