الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن كنت أميل إلى ما رجحه البخاري والترمذي وأبو حاتم وأبو زرعة بتصويب الحكم بالإرسال ي هذا الحديث على الوصل، للقرائن السابقة والكل مأجور على اجتهاده، والله أعلم.
المطلب الثاني: الاختلاف في الرفع والوقف
قد يختلف الرواة فيما بينهم فيرفع أحدهم حديثاً ويقفه الآخر أو العكس. وقد سبق في كلام الأئمة ما يفيد أنه لا يحكم في هذه المسألة بحكم كلي مطرد من تقديم الرفع على الوقف على اعتبار أن الرفع زيادة من الثقة فتقبل كما ذهب إليه كثير من المتأخرين، وإنما الأمر دائر مع القرائن والمرجحات فتارة يرجع الوقف وتارة يرجح الرفع، وهذه أمثلة من صنيع الإمام البخاري توضح هذا الأمر.
أمثلة لأحاديث رجح فيها البخاري الرفع على الوقف:
المثال الأول:
قال الإمام البخاري "حدثنا أحمد بن يونس حديثنا ابن أبي ذنب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة وتكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة".
وقال محمد بن بشار: حدثنا عبد الله بن حمران حدثنا عبد الحميد بن جعفر بن سعيد المقبري عن عمر بن الحكم عن أبي هريرة قوله" (1) .
وقد ذكر الإمام الدارقطني رحمه الله هذا الحديث في كتابه "التتبع" فقال:
(1) الجامع الصحيح، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة حديث رقم (7148) ج13 ص133.
"وأخرج البخاري حديث ابن أبي ذنب عن سعيد عن أبي هريرة: "سترحصون على الإمارة وتكون خزي وندامة، فنعم المرضعة وبئست الفاطمة".
وقد رواه عبد الحميد بن جعفر بن سعيد المقبري عن عمر بن الحكم عن أبي هريرة موقوفاً غير مرفوع" (1) .
فالدارقطني – رحمه الله – ذكر الخلاف الذي ذكره البخاري ولم يحكم بشيء.
والخلاف هنا بين ابن أبي ذنب (2) وعبد الحميد بن جعفر (3) فقد اختلفا عن شيخهما سعيد المقبري قابن أبي ذنب يرفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الحميد زاد فيه رجلاً ووقفه على أبي هريرة.
والإمام البخاري رجح هنا رواية ابن أبي ذنب على رواية عبد الحميد بن جعفر لأنه روى الأولى مسندة تامة، ثم عقبها بالرواية الثانية.
قال الحافظ – رحمه الله:
"وابن أبي ذئب أتقن من عبد الحميد وأعرف بحديث المقبري منه، فروايته هي المعتمدة، وعقبه البخاري بطريق عبد الحميد إشارة منه إلى إمكان تصحيح القولين"(4) .
فالترجيح هنا رواية ابن أبي ذنب باعتبار أنه أتقن واثبت وأعرف بحديث المقبري من عبد الحميد بن جعفر.
(1) التتبع ص135 – 136.
(2)
ابن أبي ذنب: هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة ن أبي ذنب، أبو الحارث المدني العامري، أحد فقهاء الأمة. مات بالكوفة سنة (5159) ترجمته في التذكرة ج1 ص191 وتهذيب التهذيب: ج9 ص303، والتقريب ص493.
(3)
عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله بن الحكم بن رافع الأنصار، أي صدوق رمي بالقدر، وربما وهم، مات سنة ثلاث وخمسين. روى له البخاري تعليقاً ومسلم وسائر الجماعة (التقريب ص333) .
(4)
الفتح: ج13 ص134.
قال ابن معين: "أثبت الناس في سعيد ابن أبي ذئب"(1) .
وقال ابن المديني: "الليث وابن أبي ذئب ثبتان في حديث سعيد المقبري"(2) .
وقد مال الحافظ إلى أن البخاري يشير إلى إمكان تصحيح الروايتين معاً، وذكر لذلك أوجهاً كلها مبنية على مجرد الاحتمال والتجويز العقلي.
قال – رحمه الله: "فلعله كان عند سعيد عن عمر بن الحكم عن أبي هريرة موقوفاً، على ما رواه عبد الحميد، وكان عنده عن أبي هريرة بغير واسطة مرفوعاً، إذ وجدت عند كل من الروايتين عن سعيد زيادة، ورواية الوقف لا تعارض رواية الرفع لأن الراوي قد ينشط فيسند وقد لا ينشط فيقف"(3) .
إن احتمال وجود هذا الحديث عن سعيد مرفوعاً وموقوفاً احتمال ضعيف، لأن مبنى هذا الاحتمال على رواية هذا عبد الحميد وهي مخالفة لرواية من هو أثبت وأتقن وأعرف منه بحديث سعيد، فتكون روايته خاطئة وشاذة، ومما يقوي الخطأ في روايته أنه زاد فيها رجلاً لم يذكره ابن أبي ذنب.
وقول الحافظ " إذا وحدت عند كل من الروايتين زيادة" لا يبرر قبول زيادة عبد الحميد في الإسناد رجلاً، والواقع أن ابن أبي ذئب حدث كما سمع ولم يزد شيئاً وإنما عبد الحميد هو الذي زاد ونقص.
وعلى التسليم بقبول زيادة ابن أبي ذنب الرفع في هذا الحديث، لا يبرر قبول زيادة عبد الحميد رجلاً في الإسناد، لأنه ليس عنده من الوثاقة والحفظ ما يرشحه لقبول زيادته، وخاصة وقد خالف فيها من هو أثبت منه وأحفظ.
(1) تهذيب التهذيب: ج4 ص40.
(2)
شرح العلل ص263.
(3)
الفتح: ج13 ص134.
وقول الحافظ: "ورواية الرفع لا تعارض رواية الوقف".
كلا بل الوقف يعارض الرفع، لأن الوقف معناه أن الحديث من قول الصحابي، والرفع معناه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فكيف يكون الحديث الواحد بالإسناد الواحد قولاً للصحابي وقولاً للرسول صلى الله عليه وسلم في آن واحد.
ثم قال الحافظ: "لأن الراوي قد ينشط فيسند، وقد لا ينشط فيقف". ليس هذا فحسب بل هناك أسباب أخرى منها:
- أن الراوي قد يخطئ ويهم، فيرفع ما يقفه غيره، أو يقف ما يرفعه غيره.
- ومنها أن الراوي قد يشك فيقف الحديث وهذا دأب كثير من الثقات فإنهم إذا شكوا في الحديث وقفوا أو أرسلوه، والظاهر هنا في هذا الحديث أن عبد الحميد أخطأ في وقفه، والله تعالى أعلم.
المثال الثاني:
قال البخاري – رحمه الله:
" حدثنا مطر بن الفضل حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا العوام، حدثنا إبراهيم أبو إسماعيل السكسكي قال: سمعت أبا بريدة واصطحب هو يزيد بن أبي كبشة في سفر، فكان يزيد يصوم في السفر، فقال له أبو بريدة: سمعت أبا موسى مراراً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذ مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً" (1) .
وقد ذكر الحافظ الدارقطني هذا الحديث في "التتبع" وبين الاختلاف في رفعه ووقفه فقال: "وأخرج البخاري حديث العوام بن حوشب عن إبراهيم السكسكي عن أبي بريدة عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا
(1) الجامع الصحيح، كتاب الجهاد والسير، باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة حديث رقم (2996) ج2 ص158 (مع الفتح) .
مرض العبد أو سافر كتب له مثل يعمل صحيحاً مقيماً" لم يسنده غير العوام، وخالفه مسعر: رواه عن إبراهيم السكسكي عن أبي بردة قوله ولم يذكر أبا موسى ولا النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
وقد أجاب الحافظ عن انتقاد الدارقطني وبين القرائن التي من أجلها رجح البخاري رواية العوام المسندة المرفوعة على رواية مسعر الموقوفة فقال:
"مسعر أحفظ من العوام بلا شك، إلا أن مثل هذا لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع، وفي السياق قصة تدل على أن العوام حفظه، فإن فيه اصطحب يزيد بن أبي كبشة، وأبو بردة في سفر فكان يزيد يصوم في السفر فقال له أبو بردة: أفطر فإني سمعت أبا موسى مراراً فذكره. وقد قال أحمد بن حنبل: إذا كان في الحديث قصة دل على أن رواية حفظه، والله أعلم"(2) .
فالقرائن المعتمدة في ترجيح الرفع هي ما يلي:
1-
إن هذا الحديث ليس من بل الرأي فيعطي حكم الرفع ز
2-
في الحديث قصة تدل على أن العوام حفظ الرفع في هذا الحديث.
فالترجيح لم يكن لمجرد أحوال الرجال لأن مسعراً (3) أحفظ من العوام (4) فلو كان الترجيح لمجرد حال الإسناد لكان الحكم لرواية مسعر لكن لوجود هذه القرائن رجحت رواية العوام وإن كان دون مسعر في الحفظ.
(1) التتبع ص165.
(2)
هدي الساري ص382.
(3)
العوام بن حوشب بن يزيد الشيباني، أبو عيسى الواسطي، ثقة ثبت فاضل، مات سنة (148هـ) رواه له الجماعة، ترجمته في التقريب ص433.
(4)
مسعر بن كدام، بكسر أوله وتخفيف ثانيه، ابن ظهر الهلالي، أبو سلمة الكوفي، ثقة ثبت فاضل، مات سنة (153هـ) روى له الجماعة، ترجمته في التقريب ص528.
أمثلة لأحاديث رجح فيها البخاري الوقف على الرفع:
هناك أمثلة كثيرة لأحاديث رجح فيها الإمام البخاري الوقف على الرفع، لقرائن معتبرة منها الأحفظية أو كثرة العدد أو غيرها، وفيما يلي مثالين على ذلك:
المثال الأول:
ما رواه أبو كريب، حدثنا يحيى بن آدم عن أبي بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل"(1) .
قال الترمذي في علله الكبير:
" سألت محمد عن هذا الحديث فقال: رواه إسرائيل عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعاً"(2) .
وقال الترمذي في جامعة:
" وحديث أبي حصين، عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم غريب"(3) .
فهذا الحديث اختلف فيه أبو بكر بن عياش (4) مع إسرائيل (5) فالأول رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والثاني وقفه على أبي هريرة.
(1) أخرجه الترمذي، في أبواب الصلاة، باب ما جاء في الصلاة في مرابض الغنم وأعطان الإبل رقم (349) ج1 ص282 (مع التحفة) ، ورواه ابن خزيمة رقم (796) .
(2)
العلل الكبير ص87.
(3)
المصدر السابق.
(4)
أبو بكر بن عياش بن سالم الأسدي الكوفي المقرئ، مشهور بكنيته، والأصح أنها اسمه، واختلف في اسمه على عشرة أقوال، ثقة عابد، إلا أنه لما كبر ساء حفظه، وكتابه صحيح. مات سنة (194هـ) روى له الجماعة، ترجمته في التقريب ص104.
(5)
هو إسرائيل بن يوسف بن إسحاق السبيعي تقدمت ترجمته.
وقد رجح البخاري – رحمه الله – رواية إسرائيل الموقوفة، على رواية أبي بكر بن عياش المرفوعة مما يخشى أن يكون أبو بكر بن عياش وهم فيه لأنه لما كبر ساء حفظه.
المثال الثاني:
ما رواه إبراهيم بن سعيد، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن سفيان، عن خالد الحذاء، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الحجامة للصائم (1) .
قال الترمذي – رحمه الله:
" سألت محمداً عن هذا الحديث فقال: حديث إسحاق الأزرق، عن سفيان هو خطأ"(2) .
وهذا يبين أنا الإمام الترمذي حكم على الرواية المرفوعة بالوهم.
ثم قال الترمذي: "وحديث أبي المتوكل عن أبي سعيد موقوفاً أصح، هكذا روى قتادة وغير واحد عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قوله.
حدثنا إبراهيم بن سعيد، حدثنا ابن علية، عن حميد (وهو الطويل) عن أبي المتوكل عن أبي سعيد مثله ولم يرفعه" (3) .
وقال البزار: لا نعلم أحداً رفعه إلا إسحاق (4) عن الثوري.
(1) أخرجه البزار (كشف الأستار عن زوائد البزار 1012) ، وابن خزيمة رقم (1976) و (1968) و (1969) و (2005) .
(2)
العلل الكبير ص126.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
هو إسحاق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي، المعروف بالأزرق، ثقة من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين وله ثمان وسبعون (التقريب 104) .
وقال ابن خزيمة: إنما هو من قول أبي سعيد الخدري لا عن النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحديث قد رواه قتادة (1) وحميد الطويل (2) وغيرهما من الثقات عن أبي المتوكل عن أبي سعيد موقوفاً عليه.
فالإمام البخاري حكم على الرواية المرفوعة بالخطأ لأنها مخالفة لرواية جامعة من الحفاظ.
ولم يتفرد الإمام البخاري بهذا الحكم فقد تبعه عليه كل من الإمام الترمذي –رحمه الله والبزار وابن خزيمة وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين.
قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حديث رواه معتمر ابن سليمان عن حميد الطويل عن أبي المتوكل عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرخص في الحجامة والمباشرة للصائم.
فقال (أبو حاتم، وأبو زراعة) : هذا خطأ إنما هو عن أبي سعيد قوله، رواه قتادة وجماعة من الحفاظ عن حميد عن أبي المتوكل عن أبي سعيد قوله.
قلت: إن إسحاق الأرزق، رواه عن الثوري عن حميد عن أبي المتوكل عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قالا: وهم إسحاق في الحديث.
قلت: قد تابعة معتمر.
قالا: وهم فيه أيضاً معتمر" (3) .
في الأمثلة السابقة أمكن ترجيح الرفع على الوقف أو العكس حسب القرائن والمرجحات، لكن هناك أحاديث تختلف في الرفع والوقف، فيرجح
(1) رواية قتادة أخرجها البزار من طري شعبة "كشف الأستار" ج1 ص476 – 477.
(2)
رواية حميد الطويل أخرجها أيضاً البزار من طريق حماد بن سلمة "كشف الأستار"(1013) وأوردها الترمذي في علله الكبير من طريق ابن علية ص126.
(3)
علل الحديث: رقم (676) .
بعض النقاد الوقف، بعضهم يرجع الرفع ويرجح آخرون صحة الطرفين معاً.
وأضرب لذلك مثلاً من صنيع الإمام البخاري – رحمه الله.
حديث الزهري عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"من باع عبداً " فهذا الحديث اختلف فيه على ابن عمر. فسالم يرويه هكذا: "من باع عبداً، وله مال، فماله للمبتاع، ومن باع نخلاً مؤبراً فتمره للبائع إلا أن يشترط المبتاع"(1) .
بينما نافع يقول عن ابن عمر قال: "من باع عبداً، وله مال، فماله للبائع إلا أن يشترطه المباع "(2) فقد اتفقنا – رضي الله عنهما – على رفع ما جاء في النخل أما ما جاء في العبد فقد اختلفا في رفعه ووقفه فرفعه سالم، ووقفه نافع.
وقد ذكر الترمذي أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فقال: "سألت محمداً عن هذا الحديث وقلت له: حديث الزهري عن سالم عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدا " وقال نافع ابن عمر عن عمر، أيهما اصح.
فقال: إن نافع يخالف سالماً في أحاديث، وهذا من تلك الأحاديث. وروى سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال نافع عن ابن عمر عن عمر كأنه رأى الحديثين صحيحين، أنه يحتمل عنهما جميعاً" (3) .
فهذا النص من الإمام الترمذي يفيد إمكان صحة الحديثين جمعياً عند الإمام البخاري، لكن ذكر الترمذي في جامعه عند رواية هذا الحديث.
(1) أخرجه البخاري في كتاب الشرب والمساقاة، بل الرجل يكون أن ممراً أو شرب في حائط أو في نخل، حديث رقم (2379) ج5 ص60 (مع الفتح) ، ومسلم في صحيحه ج5 ص17، وأبو داود (3433) وابن ماجه (2311) والنسائي (4650) .
(2)
أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب من باغ نخلاً قد أبرت رقم (2203) ج4 ص469، ورواه ملك في الموطأ وعبد الرزاق في مصنفه (14623) .
(3)
العلل الكبير ص185.
" وقال محمد بن إسماعيل البخاري، حديث الزهري، عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أصح"(1) .
فهذا النص يفيد أن البخاري يرجح رواية سلالم وهو معارض للنص الأول الذي يفيد صحة الروايتين معاً.
والذي يظهر لي أن الإمام البخاري كان يرى صحة طريق سالم كما يراه بعض الأئمة كما سيأتي ثم تراجع عن ذلك ورأي صحة الطريقين معاً، ومما يزيد هذا الاحتمال أن النص الذي يفيد صحة الطريقين، جاء في "العلل الكبير" ومعلوم أن الترمذي ألفه بعد جامعه، بل جرده وأفرده منه حتى إن كثيراً من العلماء يسميه بـ "العلل المفردة".
أما بالنسبة لصنيع الإمام البخاري في صحيحه فلا يستبعد منه أيضاً أنه يرى صحة الطريقين معاً، إذا إنه ذكر رواية سالم مسنده مرفوعة في كتاب الشرب والمساقاة (2) ثم ذكر عقبه: وعن مالك عن نافع عن ابن عمر في العبد.
وأما رواية نافع عن ابن عمر فقد أخرجها في كتاب البيوع، باب إذا باع نخلاً قد أبرت (3) وباب بيع النخل بأصله (4) في كتاب الشروط باب إذا باع نخلاً قد أبرت (5) .
فهذا الحديث قد اختلف فيه نظر النقاد فمنهم من رجح رواية سالم، ومنهم من رجح رواية نافع، ومنه من يرى صحة الطرفين معاً.
وهو أحد الأحاديث الأربعة التي اختلفت فيها نافع مع سالم، وقفها
(1) كتاب البيوع، باب ما جاء ي ابتياع النخل بعد التأبير، والعبد وله مال: ج2 ص243 (مع التحفة) .
(2)
الجامع الصحيح (مع الفتح) : ج5 ص60.
(3)
المصدر نفسه ج4 ص469.
(4)
المصدر نفسه ج4 ص481.
(5)
المصدر نفسه ج5 ص369.
نافع ورفعها سالم (1) فمن الأئمة من رجح أحدهما على الآخر فيها ومنهم من لم يرجح أحدهما على الآخر ومن هؤلاء الإمام أحمد فقد سئل – فيما نقله عنه المروزي – إذا اختلف فلأيهما تقضي؟ قال: كلاهما ثبت، ولم ير أن يقضي لأحدهما على الآخر (2) ونقل عثمان الدرامي عن ابن معين نحوه (3) .
أما بالنسبة لخصوص هذا الحديث فقد رجح جماعة من العلماء رواية نافع منهم مسلم والنسائي (4) .
والإمام أحمد رجح في هذا الحديث قول نافع فيما نقله عنه المروزي (5) .
وكذلك رجح الدارقطني رواية نافع، قال – رحمه الله – بعد أن ساق رواية سالم وقال نافع:
" قال النسائي: سالم أجل في القلب والقول قول نافع"(6) .
ومقتضى هذا أن رواية سالم في رفع العبد وهم عندهم.
وأما القرائن التي رجح بها هؤلاء النقاد رواية نافع وحكموا على سالم بالوهم، فتمثل فيما يلي:
1-
إن نافعاً ميز بين المرفوع والموقوف مما يدل على حفظه.
2-
إن سالماً سلك فيه الجادة.
قال الحافظ السخاوي – رحمه الله: "وكان سبب حكمهم عليه بذلك (أي بالوهم) كون سالم أو من دونه سلك الجادة، فإن العادة في الغالب أن
(1) انظر هذه الأحاديث في شرح العلل ص259.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
نقل عنهم ذلك البيهقي في سننه (5/335) والحافظ في الفتح (4/470) .
(5)
شرح العلل ص259.
(6)
التتبع ص294.
الإسناد إذا انتهى إلى الصحابي قيل بعده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء هنا بعد الصحابي ذكر صحابي آخر والحديث من قوله كان ظناً غالباً على أن ضبطه هكذا أتقن ضبطاً" (1) .
وهناك من النقاد من رجح رواية سالم من هؤلاء:
ابن المديني فيما حكاه الترمذي في جامعه وابن عبد البر (2) .
وكذلك صححها بعض المتأخرين كالنووي والداودي وغيرهما.
قال النووي: "لم تقع هذه الزيادة في حديث نافع عن ابن عمر، ولذلك لا يضر فإن سالماً ثقة، بل هو أجل من نافع فزيادته مقبولة"(3) .
ونقل ابن التين عن الداودي: "هو وهم من نافع والصحيح ما رواه سالم مرفوعاً في العبد والثمرة"(4) .
قال ابن التين معقباً على قول الداودي: "لا أدري من أين أدخل الوهم على نافع، مع إمكان عمر أن يكون قال ذلك على جهة الفتوى مستنداً إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق نقل الترمذي عن البخاري تصحيح الطريقين معاً (5) .
وعلى كل ليس القصد الخروج بحكم فاصل في هذا الحديث – وإن كنت أميل إلى إمكان تصحيح الروايتين معاً – ولكن القصد بيان أن نقاد الحديث قد تختلف أنظارهم واجتهاداتهم في ترجيح الوقف على الرفع أو العكس أو تصحيح الطريقين معاً.
(1) فتح المغيث: ج1 ص247.
(2)
انظر الفتح: ج4 ص470، والاستذكار: ج19 ص29.
(3)
نقله الحافظ في الفتح: ج5 ص63.
(4)
الفتح: ج5 ص63.
(5)
العلل الكبير ص185.
ود وهم الحافظ في الفتح (5/63) فذكر أن الترمذي نقل في الجامع عن البخاري تصحيح الروايتين، ونقل عنه في "العلل" ترجيح قول سالم، والصواب أنه نقل تصحيح الروايتين في "العللط وترجيح قول سالم في الجامع، وقد نقل كلام الحافظ هنا الشيخ مقبل في تعليقه على التتبع (ص295) ولم ينبه عليه والله أعلم.