الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على مادة الشيعة
(رأينا إيراد هذا البحث للكاتب أحمد أمين على سبيل التعليق من كتابه فجر الإسلام)
كانت البذرة الأولى للشيعة الجماعة الذين رأوا بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم أن أهل بيته أولى الناس أن يخلفوه، وأولى أهل البيت العباس عم النبى وعلىّ ابن عمه، وعلىّ أولى من العباس، والعباس نفسه لم ينازع عليا فى أولويته للخلافة، وإن نازعه فى أولويته فى الميراث فى "فَدَك"(1).
وظهرت فكرة الدعوة لعلىّ بسيطة كما يدل عليه التاريخ، وتتلخص فى أن لا نص على الخليفة، فتُرك الأمر لإعمال الرأى، فالأنصار أدَّاهم رأيهم إلى أنهم أولى بها، والمهاجرون كذلك، وأصحاب على إلى أن الخلافة ميراث أدبى، ولو كان النبى [صلى الله عليه وسلم] يورث فى ماله لكان أولى به قرابته، فكذلك الإرث الأدبى، ولم يرد من طريق صحيح أن عليًا ذكر نصّا من آية أو حديث يفيد أن رسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم] عينه للخلافة، ولو كان لديه نص وذكره لما بقى الأنصار والمهاجرون على رأيهم ولبايعوه؛ بل ما بين أيدينا من تاريخ يدل على أن عليا بايع أبا بكر، وإن كان بعد تلكؤ، كما بايع عمر وعثمان من بعده، كل ما صح عن علىّ أنه كان يرى أنه كان أولى بالأمر منهم، ويحتج بأنه وأهل بيته الثمرة وقريش الشجرة، والثمرة خير ما فى الشجرة. ويروى البخارى عن ابن عباس أن عليًا رضى اللَّه عنه خرج من عند النبى صلى الله عليه وسلم فى وجعه الذى توفى فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن! كيف أصبح رسول اللَّه؟ فقال: أصبح بحمد اللَّه بارئًا، فأخذ بيده العباس رضى اللَّه عنه وقال: أنت واللَّه بعد ثلاث عبذ العصا، وإنى واللَّه لأرى رسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم] سيتُوَفى من وجعه هذا، إنى لأعرف وجوه بنى عبد المطلب عند الموت، فاذهب بنا إليه نسأله فيمن هذا الأمر، فإن كان فينا علمْناه، وإن كان فى غيرنا كلمناه فأوصى بنا. فقال علىٌّ رضى اللَّه عنه: أما واللَّه لئن سألناه
(1) نعم إن الرواندية نصوا على أن الخلافة من حق العبس وأولاده، ولكن هذا القول لم يظهر فى أيام العباس، وإنما ظهر فى أيام المنصور والمهدى.
فمُنِعْنَاها لا يعطيناها الناس بعده، وإنى واللَّه لا أسألها.
وكان جمع من الصحابة يرى أن عليًا أفضل من أبى بكر وعمر وغيرهما، وذكروا أن ممن كان يرى هذا الرأى عَمّارًا، وأبا ذر، وسلمان الفارسى، وجابر بن عبد اللَّه، والعباس وبنيه، وأبى بن كعب، وحُذَيفة، إلى كثير غيرهم.
ونرى بعد هذا العصر أن الفكرة تطورت فقال شيعَة على (1): "إن الإمامة ليست من المصالح العامة التى تفوّض إلى نظر الأمة، ويتعين القائم بتعيينهم، بل هى ركن الدين، وقاعدة الإسلام، ولا يجوز لنبىّ إغفالها، ولا تفويضها إلى الأمة، بل يجب عليه تعيين الإمام لهم، ويكون معصومًا من الكبائر والصغائر، وإن عليِّا رضى اللَّه عنه هو الذى عينه صلوات اللَّه وسلامه عليه بنصوص ينقلونها ويؤوّلونها على مقتضى مذهبهم، لا يعرفها جهابذة السنة ولا نقلة الشريعة، بل أكثرها موضوع أو مطعون فى طريقه، [حسبما قيل] أو بعيد عن تأويلاتهم. . . "(2).
ومن هنا نشأت فكرة الوصية، ولُقبَ عَلىٌّ بالوصى، يريدون أن النبى [صلى الله عليه وسلم] أوصى لعلى بالخلافة من بعده، فكان وصىّ رسول اللَّه؛ فعلىٌّ ليس الإمام بطريق الانتخاب، بل بطريق النص من رسول اللَّه، وعلىّ أوصى لمن بعده، وهكذا كل إمام وصىُّ مَن قبله، وانتشرت كلمة الوصى بين الشيعة واستعملوها؛ يروون أن أبا الهيثم وكان بدريًا يقول:
وكنا شِعَار نبينا ودِثَاره
…
يَفْديه منا الروح والأبصار
إن الوصيَّ إمامُنا ووليُّنَا
…
بَرِحَ الْخَفَاءُ وباحتَ الأسرار
ويروون أن غلامًا خرج من جيش عائشة فى وقعة الجمل وهو يقول:
نحن بنو ضبّةَ أعداء على
…
ذلك الذى يُعْرف قِدْمًا بالوصىّ
وفارس الخيل عَلَى عهد النبى
…
ما أنا عن فضل علىّ بالْعَمِى
لكننى أنعى ابن عفّان التّقىّ
…
إن الولىَّ طالب ثَأرَ الولى
وقد سقناها هنا لبيان أن كلمة الوصى شاعت فى إطلاقها عَلَى علىّ،
(1) شيعة الرجل: أصحابه وأتباعه.
(2)
مقدمة ابن خلدون.
وإن كنا نشك فى نسبة هذه الأبيات إلى قائليها.
وقد أدّاهم هذا النظر إلى أمور: منها القول بعصمة الأئمة علىّ ومن بعده؛ فلا يجوز الخطأ عليهم، ولا يصدر منهم إلا ما كان صوابًا، ومنها رفع مقام على عن غيره من الصحابة حتى أبى بكر وعمر؛ ولأقص عليك مثلًا مما يقوله ابن أبى الحديد فى علىّ مع أنه يُعَدّ من معتدلى الشيعة، قال:"يقول أصحابنا -وقد سلكوا طريقة مقتصدة- إن عليّا أفضل الخلق فى الآخرة، وأعلاهم منزلة فى الجنة، وأفضل الخلق فى الدنيا، وأكثرهم خصائص ومزايا ومناقب، وكل مَن عاداه أو حاربه أو أبغضه فإنه عدو اللَّه سبحانه وتعالى وخالد فى النار مع الكفار والمنافقين، إلا أن يكون ممن ثبتت توبته ومات عَلَى تولِّيه وحبه؛ فأما الأفاضل من المهاجرين والأنصار الذين ولوا الإمامة قبله، فلو أنه أنكر إمامتهم وغضب عليهم، فضلًا عن أن يشهر عليهم السيف أو يدعو إلى نفسه، لقلنا إنهم من الهالكين، كما لو غضب عليهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وآله، لأنه قد ثبت أن رسول اللَّه قال له (لعلِىّ): حربك حربى وسلمك سلمى؛ وأنه قال: اللهم وال مَن والاه، وعادِ مَن عاداه؛ وقال له: لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق؛ ولكنا رأيناه رضى إمامتهم وبايعهم وصلى خلفهم. . . فلم يكن لنا أن نتعدى فعله ولا نتجاوز ما اشتهر عنه. ألا ترى أنه لما برئ من معاوية برئنا منه؟ ولما لعنه لعنّاه؟ ولما حكم بضلال أهل الشام ومن كان فيهم من بقايا الصحابة كعمرو بن العاص وعبد اللَّه ابنه وغيرهما حكمنا أيضا بضلالهم! والحاصل أنَّا لم نجعل بينه وبين النبى [صلى الله عليه وسلم]، إلا رتبة النبوة، وأعطيناه كل ما عدا ذلك من الفضل المشترك بينه وبينه، ولم نطعن فى أكابر الصحابة الذين لم يصح عندنا أنه طعن فيهم، وعاملناهم بما عاملهم هو عليه السلام"(1).
ودعاهم القول بأفضلية علىّ وعصمته إلى استعراض ما حدث من الصحابة فى بيعة أبى بكر وعمر وعثمان. وكان من هؤلاء الشيعة الغالى
(1) شرح نهج البلاغة 4: 520.
والمقتصد؛ فمنهم من اقتصر على القول بأن أبا بكر وعمر وعثمان ومن شايعهم أخطأوا إذ رضوا أن يكونوا خلفاء مع علمهم بفضل علىّ وأنه خير منهم، ومنهم من تغالى فكفرهم وكفر من شايعهم لأنهم -وقد أوصى النبى لعلىّ- جحدوا الوصية، ومنعوا الخلافة مستحقها، وانحدروا من ذلك إلى شرح حوادث التاريخ على وفق مذهبهم، وتأويل الوقائع تأويلًا غريبًا، أسوق لك مثلًا منه:"فتزعم الشيعة أن رسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم] كان يعلم موته، وأنه سيّر أبا بكر وعمر فى بعث أسامة لتخلو دار الهجرة منهماء فيصفو الأمر لعلىّ عليه السلام، ويبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة على سكون وطمأنينة، فإذا جاءهما الخبر بموت رسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم] وبيعة الناس لعلىّ بعده كانا عن المنازعة والخلافة أبعد. . . فلم يتم ما قَدَّر، وتثاقل أسامة بالجيش أيامًا مع شدة حث رسول اللَّه [صلى الله عليه وسلم] على نفوذه"(1).
ولم يكتف غلاة الشيعة بهذا القدر فى علىّ، ولم يقنعوا بأنه أفضل الخلق بعد النبى، وأنه معصوم، بل ألَّهُوه، فمنهم من قال:"حلَّ فى علىّ جزء إلهى، واتحد بجسده فيه، وبه كان يعلم الغيب، إذ أخبر عن الملاحم وصح الخبر، وبه كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر، وبه قلع باب خيبر، وعن هذا قال: واللَّه ما قلعت باب خيبر بقوة جَسدَانية، ولا بحركة غذائية، ولكن قلعته بقوة ملكوتية. . . قالوا: يظهر علىّ فى بعض الأزمان. . . والرعد صوته والبرق تبسمه. . . إلخ"(2)، وهؤلاء الذين أَلَّهُوه ذهبوا فى تأليهه جملة مذاهب، وقالوا فيه أقوالًا غريبة لا داعى للإطالة بذكرها -وقد ذكروا أن أول من دعا إلى تأليه علىّ عبد اللَّه بن سبأ اليهودى (3)، وكان ذلك فى حياة علىّ، وقد رأيت قبلُ طرفًا من سيرة ابن سبأ هذا؛ فهو الذى حرك أبا ذر الغفارى للدعوة الاشتراكية، وهو الذى كان من أكبر من ألَّب الأمصار على عثمان،
(1) شرح نهج البلاغة 1: 54.
(2)
الشهرستانى 1: 204.
(3)
يذهب بعض الباحثين إلى أن عبد اللَّه بن سبأ رجل خرافى ليس له وجود تاريخى محقق، ولكنا لم نر لهم من الأدلة ما يثبت مدعاهم.
والآن ألّه عليّا. والذى يؤخذ من تاريخه أنه وضع تعاليم لهدم الإسلام، وألف جمعية سرية لبث تعاليمه، واتخذ الإسلام ستارًا يستر به نياته؛ نزل البصرة بعد أن أسلم ونشر فيها دعوته فطرده واليها، ثم أتى الكوفة فأخرج منها، ثم جاء مصر فالتفَّ حوله ناس من أهلها. وأشهر تعاليمه الوصاية والرجْعَة؛ فأما الوصاية فقد أبنّاها قبل، وكان قوله فيها أساس تأليب أهل مصر على عثمان، بدعوى أن عثمان أخذ الخلافة من علىّ بغير حق، وأيد رأيه بما نسب إلى عثمان من مثالب. وأما الرجعة فقد بدأ قوله بأن محمدًا يرجع، وكان مما قاله:"العجب ممن يصدِّق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمدًا يرجع! " ثم نراه تحوَّل -ولا ندرى لأى سبب- إلى القول بأن عليّا يرجع. وقال ابن حزم إن ابن سبأ قال -لما قتل علىّ-: "لو أتيتمونا بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا". وفكرة الرجعة هذه أخذها ابن سبأ من اليهودية، فعندهم أن النبى "إلياس" صعد إلى السماء، وسيعود فيعيد الدين والقانون، ووجدت الفكرة فى النصرانية أيضًا فى عصورها الأولى، وتطورت هذه الفكرة عند الشيعة إلى العقيدة باختفاء الأئمة، وأن الإمام المختفى سيعود فيملأ الأرض عدلًا، ومنها نبعت فكرة المهدى المنتظر.
والناظر إلى هذا يعجب للسبب الذى دعا إلى الاعتقاد بألوهية علىّ، مع أن أحدًا لم يقل بألوهية محمد [صلى الله عليه وسلم]، وعلىّ نفسه يصرح بالإسلام وتبعيته لمحمد [صلى الله عليه وسلم]. والعلة فى نظرنا أن شيعة علىّ رووا له من المعجزات والعلم بالمغيبات الشئ الكثير، وقالوا إنه كان يعلم كل شئ سيكون، ووضعوا على لسانه ما جاء فى نهج البلاغة:"اسألونى قبل أن تفقدونى، فوالذى نفسى بيده لا تسألوننى عن شئ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تَهْدى مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها، وقائدها وسائقها ومناخ ركابها ومَحَطّ رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلًا، ومن يموت منهم موتًا. . . إلخ" ورووا له أنه أخبر بقتل الحسين، وأخبر بكربلاء، وأخبر بالحجَّاج، وأخبر بالخوارج ومصيرهم،
وبنى أمية وملكهم، وأخبر ببنى بويه وأيام دولتهم، وأخبر عبد اللَّه بن عباس بانتقال الأمر إلى أولاده "فإنه لما ولد لعبد اللَّه بن عباس ابنه علىّ أخرجه أبوه إلى علىّ بن أبى طالب فأخذه وتَفَل فى فيه وحنكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه وقال: خذ -إليك- أبا الأملاك"(1). هذه الأخبار وأمثالها انتشرت بين الشيعة حتى ليكادون يذكرون أنه أخبر بما كان وما سيكون إلى يوم الدين، كل هذا إذا أنت ضممته إلى أن أكثر شيعة علىّ كانوا فى العراق، وكانوا من عناصر متنوعة، والعراق من قديم منبع الديانات المختلفة، والمذاهب الغريبة، وقد سادت فيهم من قبل تعاليم مانى ومزدك وابن ديصان، كما رأيت من قبل، ومنهم نصارى ويهود سمعوا المذاهب المختلفة فى حلول اللَّه فى بعض الناس -كل هذه الأمور جعلت منهم من يؤله عليّا. فأما العرب فكانوا أبعد الناس عن المقالات والمذاهب الدينية، حياتهم البسيطة، وعقليتهم التى على الفطرة تأبى عليهم أن يلصقوا بمحمد [صلى الله عليه وسلم] ألوهية، وهو الذى يكرر دائمًا ما جاء فى القرآن:{إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} .
هذه العقيدة فى علىّ تناقض فكرة الإسلام البسيطة الجميلة فى وحدانية اللَّه وتنزُّهه عن المادة. ومن حسن الحظ أن ليست هذه المقالة فى علىّ قول الشيعة جميعهم ولا أكثرهم، بل قول فرقة قليلة منهم هم الغلاة.
أساس نظرية الشيعة -كما رأيت- الخليفة أو كما يسمونه هم "الإمام" فعلى هو الإمام بعد محمد [صلى الله عليه وسلم]، ثم يتسلسل الأئمة بترتيب من عند اللَّه، والاعتراف بالإمام والطاعة له جزء من الإيمان. والإمام فى نظرهم ليس كما ينظر إليه أهل السنة، فعند أهل السنة الخليفة أو الإمام نائب عن صاحب الشريعة فى حفظ الدين، فهو يحمل الناس على العمل بما أمر اللَّه، وهو رئيس السلطة القضائية والإدارية والحربية، ولكن ليس لديه سلطة تشريعية، إلا تفسيرًا لأمر أو اجتهادًا فيما ليس فيه نص؛ أما عند الشيعة فللإمام معنى آخر هو أنه أكبر معلِّم؛
(1) الكامل للمبرد.
فالإمام الأول قد ورث علوم النبى [صلى الله عليه وسلم]، وهو ليس شخصًا عاديًا بل هو فوق الناس لأنه معصوم من الخطأ.
وهناك نوعان من العلم: علم الظاهر وعلم الباطن، وقد علَّم النبى [صلى الله عليه وسلم] هذين النوعين لعلىّ، فكان يعلم باطن القرآن وظاهره، وأطلعه على أسرار الكون وخفايا المغيبات؛ وكل إمام ورّث هذه الثروة العلمية لمن بعده، وكل إمام يعلم الناس فى وقته ما يستطيعون فهمه من الأسرار، ولذلك كان الإمام أكبر معلِّم. ولا يؤمنون بالعلم ولا بالحديث إلا إذا روى عن هؤلاء الأئمة.
وهم مختلفون اختلافًا كبيرًا فى الأئمة وتسلسلها، لا نطيل بذكرها (1). وأهم فرق الشيعة الزيدية والإمامية. فالزيدية أتباع زيد بن حسن بن على ابن الحسين بن على بن أبى طالب، ومذهبهم أعدل مذاهب الشيعة وأقربها إلى أهل السنة، ولعل هذا راجع إلى أن زيدًا -إمام الزيدية- تتلمذ لواصل بن عطاء رأس المعتزلة، وأخذ عنه كثيرًا من تعاليمه؛ فزيد يرى جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل، فقال: كان علىّ بن أبى طالب أفضل من أبى بكر وعمر، ولكن -مع هذا- إمامة أبى بكر وعمر صحيحة. ونظرهم إلى الإمام كذلك نظر معتدل، فليست هناك إمامة بالنص، ولم ينزل وحى يعين الأئمة، بل كل فاطمى عالم زاهد شجاع سخى قادر على القتال فى سبيل الحق يخرج للمطالبة يصح أن يكون إمامًا؛ فهو يشترط فى الإمام الخروج على الأمراء والسلاطين يطالب بالخلافة، ولهذا كانت الإمامة فى نظرهم عملية لا سلبية، كما هى عند الإمامية تنتهى بالإمام المختفى، وهم لا يؤمنون بالخرافات التى أُلصقت بالإمام فجعلت له جزءًا إلهيًا. وقد خرج زيد على هشام بن عبد الملك الخليفة الأموى فقتل وصلب سنة 121 هـ، وخرج بعده ابنه يحيى فقتل كذلك سنة 125 هـ، ولا يزال الزيدية فى اليمن إلى الآن.
والإمامية سموا كذلك لأن أهم عقائدهم أسست حول الإمام، وقد قالوا بأن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] نص على خلافة علىّ، وقد اغتصبها أبو بكر وعمر، وتبرأوا
(1) انظرها فى الملل والنحل للشهرستانى ومقدمة ابن خلدون.
منهما، وقدحوا فى إمامتهما، وجعلوا الاعتراف بالإمام جزءًا من الإيمان. والإمامية فرق متعددة لا تتفق على أشخاص الأئمة.
فمن أشهر فرقهم (1) الاثنا عشرية، سموا كذلك لأنهم يسلسلون أئمتهم إلى اثنى عشر إمامًا، وعقيدتهم هى العقيدة الرسمية لدولة إيران. و"الإسماعيلية" سميت كذلك لأنهم يقفون بأئمتهم عند إسماعيل بن جعفر الصادق، وهؤلاء لعبوا دورًا طويلًا فى تاريخ الإسلام، وأخذوا مذهب الأفلاطونية الحديثة وطبقوه على مذهبهم الشيعى تطبيقًا غريبا، واستخدموا ما نقله إخوان الصفا فى رسائلهم من هذا المذهب الأفلاطونى. ويقول بعض المؤرخين إنهم وضعوا لهم تعاليم درَّجوها تسع درجات تبتدئ بإثارة الشكوك فى الإسلام، كسؤالهم: ما معنى رمى الجمار؟ وما العَدْو بين الصفا والمروة؟ وتنتهى بهدم الإسلام والتحلل من قيودة؛ وأوّلوا كل ما فيه فقالوا: إن الوحى ليس إلا صفاء النفس، وإن الشعائر الدينية ليست إلا للعامة، أما الخاصة فلا يلزمهم العمل بها، وإن الأنبياء سُوّاس العامة، أما الخاصة فأنبياؤهم الفلاسفة؛ وليس هناك معنى للتمسك بحرفية القرآن، فهو رموز لأشياء يعرفها العارفون، إنما يجب أن يفهم القرآن على طريقة التأويل والمجاز، وللقرآن ظاهر وباطن، ويجب أن نخترق الحجب المادية حتى نصل إلى أطهر ما يمكن من الروحانية؛ ومن ثم أيضًا سموا "الباطنية". ولا يسعنا هنا أن نذكر أهم تعاليمهم وكيف أخذت من الأفلاطونية الحديثة، فإن هذه الفرقة لم تظهر فى عصرنا الذى نؤرخه إنما ظهرت فى الدولة العباسية، وكان من آثار دعايتهم الدولة الفاطمية فى المغرب ومصر، ولا يزال لهم بقايا إلى اليوم فى الشام والعجم والهند، وكان الآن "أغاخان" الزعيم المشهور.
والإمامية -على العموم- تقول بعودة إمام منتظر وإن اختلفوا -باختلاف طوائفهم- فيمن هو الإمام المنتظر، ففرقة ينتظرون جعفرًا الصادق، وأخرى تنتظر محمد بن عبد اللَّه بن الحسن بن الحسين بن على ابن أبى طالب، وثالثة تنتظر محمد بن الحنفية وتزعم أنه حى لم يمت، وأنه بجبل رضوى إلى أن يأذن اللَّه له
(1) ترى هذه التعاليم وتدرجها ونصوصها فى الجزء الأول من خطط المقريزى.
بالخروج، ومنهم كثَيِّر عزَّة وفى ذلك يقول:
ألا إن الأئمة من قريش
…
ولاةَ الحق أَرْبَعَةٌ سَوَاء
عَلىٌّ والثلاثة من بَنيه
…
هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبْطٌ سبطُ إيمان وبرّ
…
وسبطّ غَيتْه كَرْبِلَاء
وسبط لا يذوق الموت حتى
…
يقودَ الخيلَ يقدمُها اللواء
تَغَيَّبَ لا يرى فيهم زمانًا
…
بِرَضْوَى عنده عسل وماء
وكان السيِّد الحمْيرى الشاعر الأموى المشهور يعتقد كذلك أن محمد ابن الحنفية لم يمت وأنه فى جبل رضوى، بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نَضَّاخَتَان تجريان بماء وعسل، ويعود بعد الغيبة فيملأ العالم عدلًا كما ملئ جورًا؛ ولهم فى ذلك آراء يطول شرحها. وأساس هذه العقيدة ما رأينا قبل من قول ابن سبأ بالرجعة ونقلها عن اليهودية، وأن الشيعيين فشلوا فى أول أمرهم فى تكوين مملكة ظاهرية على وجه الأرض، وعُذبوا وشردوا كل مشرَّد، فخلقوا لهم أملًا من الإمام المنتظر، والمهدى، ونحو ذلك.
وقد اتفقت تعاليم الخوارج والشيعة على أن خلفاء بنى أمية مغتصبون ظالمون، فاشتركوا فى مناهضتهم، ولكن الخوارج كانوا ظاهرين فى حروبهم، غلبت عليهم الطبيعة البدوية فى الصراحة، فأكثرهم لا يقول بالتقية؛ أما الشيعة فكانوا يحاربون جهرًا إذا أمكن الجهر، فإذا لم يستطيعوا فسرا، وقال أكثرهم بالتقية (1) فكانوا بهذا أشد على بنى أمية، وهم أدعى إلى الحذر منهم، فبثوا العيون والأرصاد على الشيعة. واضطهدوهم اضهادًا شنيعًا، فدسوا للحسن حتى طعن بخنجر فى
(1) يراد بالتقية المداراة، كأن يحافظ الشخص على نفسه أو عرضه أو ماله بالتظاهر بعقيدة أو عمل لا يعتقد بصحته، فمن كان على دين أو مذهب ثم لم يستطع أن يظهر دينه أو مذهبه فيتظاهر بغيره فذلك تقية؛ وعد قوم منها مداراة الكفار والظلمة والتبسم فى وجوههم ونحو ذلك. وقد اختلف فيها الشيعة والخوارج وأهل السنة، فأكثر الشيعة يقول بها بل منهم من قال: يجب إظهار الكفر لأدنى مخافة أو طمع، وحملوا بيعة على لأبى بكر وعمر وعثمان على التقية، وكان كثير من الشيعة يكتمون تشيعهم تقية ويعملون سرًا؛ وأما أكثر الخوارج فقالوا: إن التقية لا تجوز ولا قيمة للنفس والعرض والمال بجانب الدين، بل منهم من كان يرى أنه لا يصح قطع الصلاة إذا جاء سارق ليسرق متاعه وهو يصلى؛ أما أهل السنة فتوسطوا وقالوا: إن من خاف على نفسه أو ماله لعقيدته وجب أن يهاجر من بلده، فإن لم يستطع أظهر التقية بقدر الضرورة ووجب عليه أن يسعى فى الخروج بدينه. . . الخ.
جنبه ولكن لم يمته، وأوقعوا الفشل فى جيشه حتى وادعهم، ثم قتلوا الحسين فى واقعة كربلاء، ثم تتبعوا أهل البيت يستذلونهم ويمتهنونهم ويقتلونهم، ويقطعون أيديهم وأرجلهم على الظنة، وكل من عرف بالتشيع لهم سجنوه أو نهبوا ماله أو هدموا داره؛ واشتد بهم الأمر فى أيام عبيد اللَّه بن زياد قاتل الحسين، "وأتى بعده الحجاج فقتلهم كل قتلة، وأخذهم بكل ظنة وتهمة، حتى إن الرجل ليقال له زنديق أو كافر أحب إليه من أن يقال له شيعة علىّ" حتى يروى أن رجلًا -يقال إنه جَدُّ الأصمعى- وقف للحجاج فقال له: أيها الأمير، إن أهلى عَقّونى فسمونى عليّا، وإنى فقير بائس، وأنا إلى صلة الأمير محتاج، فتضاحك له الحجاج وولاه عملًا. ويقول المدائنى:"إن زياد بن سمية كان يتتبع الشيعة فى الكوفة وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام على، فقتلهم تحت كل حَجَر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدى والأرجل، وسَمَل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق فلم يبق به معروف منهم. وكتب معاوية إلى عماله فى جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحد من شيعة على وأهل بيته شهادة، وكتب إليهم أن انظروا مَن قِبَلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته، والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم، وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا لى بكل ما يَرْوى كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته، ففعلوا ذلك حتى أكثروا من فضائل عثمان ومناقبه، لِمَا كان يبعثه إليهم معاوية من الصلات. . . وقال إنه كتب إلى عماله أن "انظروا إلى من قامت عليه البينة أنه يحب عليًا وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه". والعباسيون كانوا أبلغ فى التنكيل بهم لأنهم أعرف بخفاياهم، لما كانوا يعملون معهم فى عهد بنى أمية.
هذه الاضطهادات كان من نتائجها إحكام الشيعة للسرية ونظامها، فهم أقدر الفرق الإسلامية على العمل فى الخفاء، وكتمان عملهم حتى يتمكنوا من عدوهم. وهذه السرية استلزمت الخداع والالتجاء إلى الرموز والتأويل ونحو ذلك؛ وكان من أثر هذا الاضطهاد أيضًا اصطباغ أدبهم بالحزن العميق، والنوح والبكاء، وذكرى المصائب والآلام.
وقد حاربوا الأمويين بمثل ما حوربوا به، فكما وضع الأمويون
الحديث فى فضائل الصحابة -عدا عليًا والهاشميين- وخاصة عثمان، وضع الشيعة أحاديث كثيرة فى فضائل علىّ وفى المهدى المنتظر، وعلى الجملة فيما يؤيد مذهبهم، وربما فاقوا فى ذلك الأمويين؛ فاشتغل بعض علمائهم بعلم الحديث وسمعوا الثقات وحفظوا الأسانيد الصحيحة، ثم وضعوا بهذه الأسانيد أحاديث تتفق ومذهبهم، وأضلوا بهذه الأحاديث كثيرًا من العلماء لانخداعهم بالإسناد، بل كان منهم من سُمِّى بالسُّدى، ومنهم من سمى بابن قتيبة، فكانوا يروون عن السدى وابن قتيبة، فيظن أهل السنة أنهما المحدثان الشهيران، مع أن كلا من السدى وابن قتيبة الذى ينقل عنه الشيعة إنما هو رافضى غال، وقد ميزوا بينهما بالسدى الكبير والسدى الصغير، والأول ثقة والثانى شيعى وضَّاع، وكذلك ابن قتيبة الشيعى غير عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة. بل وضعوا الكتب وحشوها بتعاليمهم ونسبوها لأئمة أهل السنة، ككتاب "سر العارفين" الذى نسبوه للغزالى؛ ومن هذا القبيل ما نراه مبثوثًا فى الكتب من إسناد كل فضل وكل علم إلى علىّ بن أبى طالب إما مباشرة وإما بواسطة ذريته: فعلم المعتزلة جاء من أن واصل ابن عطاء -رأس المعتزلة- تلقى العلم عن أبى هاشم عبد اللَّه بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذ علىّ، وأبو حنيفة أخذ العلم عن جعفر الصادق، ومالك بن أنس قرأ على ربيعة الرأى، وقرأ ربيعة على عِكْرمة، وعكرمة على عبد اللَّه بن عبَاس، وعبد اللَّه قرأ على علىّ، وبهذه الطريقة ينسب فقه الشافعى إلى الإمام علىّ لأنه تلميذ مالك، بل فقه عمر بن الخطاب يرجع إلى علىّ لأنه كان يرجع إليه فيما أشكل من المسائل وكان يقول: لولا علىّ لهلك عمر! وتفسير القرآن أخذ أكثره عن عبد اللَّه بن عباس وهو أخذه عن على؛ فقد قيل لابن عباس: أين علمك من علم ابن عمك؛ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط -والتصوف منسوب إليه، وقد نسبه إليه الشبلى والجنيد وسَرىّ وأبو يزيد البسطامى، وينسبون الخرَقة التى هى شعارهم إليه- وأبو الأسود الدؤلى واضع علم النحو أخذه عن علىّ بن أبى طالب، فقد أملى عليه: الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف، وعلّمه تقسيم الاسم إلى معرفة ونكرة، وتقسيم الإعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم. وعلى الجملة فليس هناك من علم إلا وأصله
علىّ بن أبى طالب، كأن العقول كلها أجدبت وأصيبت بالعقم إلا على بن أبى طالب وذريته، وعلى رضى اللَّه عنه من ذلك براء. . .
والذى أرى -كما يدلنا التاريخ- أن التشيع لعلىّ بدأ قبل دخول الفرس فى الإسلام، ولكن بمعنى ساذج، وهو أن عليًا أولى من غيره من وجهتين، كفايته الشخصية، وقرابته للنبى، والعرب من قديم تفخر بالرياسة وبيت الرياسة، وهذا الحزب -كما رأينا- وجد من بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم ونما بمرور الزمان وبالمطاعن فى عثمان، ولكن هذا التشيع أخذ صبغة جديدة بدخول العناصر الأخرى فى الإسلام من يهودية ونصرانية ومجوسية، وأن كل قوم من هؤلاء كانوا يصبغون التشيع بصبغة دينهم، فاليهود تصبغ الشيعة يهودية، والنصارى نصرانية، وهكذا: وإذ كان أكبر عنصر دخل فى الإسلام هو العنصر الفارسى كان أكبر الأثر فى التشيع إنما هو للفرس.
* * *
ومن أشهر الأدباء والشعراء المتشيعين فى هذا العصر أبو الأسود الدؤلى، وفى علىّ وبنيه يقول:
يقول الأرْذَلون بنو قشير
…
طِوَالَ الدَّهر لا تَنْسى عليّا
بنو عمَّ النبىِّ واقرَبُوهُ
…
أَحَبُّ الناس كُلِّهُمُوا إِلَيَّا
أحبهموا كَحُبِّ اللَّه حتّى
…
أَجِئَ إذا بُعثْتُ عَلَى هَوَيّا
فإنْ يَكُ حُبُّهُمْ رُشْدًا أُصبْهُ
…
ولسْتُ بمخِطئ إنْ كان غَيّا
وكذلك كان كثَيِّر عزة، وقد قرأت قبل شعره فى الرَّجعة، والكمَيْت وكان شيعيًا غاليًا، ومن شعره فى الخلافة:
يقولون لم يُورَثْ، ولولا تُراثُةُ
…
لقد شَرَكَتْ فيه بَجِيل وأرْحَبُ (1)
ولا نْتَشَلتْ عضوين منها يُجَابِرٌ
…
وكان لعبد القيس عضو مُؤَرّبُ
فإنْ هى لم تَصْلحْ لحىٍّ سِوَاهُمُو
…
إذًا فَذَوُوا القُربى أحقُّ وأَقرَبُ
فَيَالَكَ أمْرًا قد أُشِتّتْ جُمُوعُه
…
ودارًا ترى أسبابها تَتَقَضّبُ
تَبَدَّلَتِ الأشرار بعد خِيَارها
…
وجُدَّ بها من أُمَّة وهى تلعب
رقم الإيداع بدار الكتب 9532/ 1996
ISBN 977 - 01 - 4955 - 1