الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويحدث مع القياس عن الاستحسان، والمصالح المرسلة، مما لا يمكن القول فيه إلا على أساس من التتبع المعلل، المبين لما اعتبره الشارع ليكون علة تمكن من القياس، وإثبات الحكم المنصوص لما توافرت فيه هذه العلة؛ ولم يرد حكم فيه. .
هذا القياس أحد أصول الشريعة -واعتماده كل الاعتماد على التعليل؛ وأبحاثهم المتوسعة فى مسالك العلة. . . ومنطقية ذلك الأعمال كلها، ومشارفة تلك المنطقية لآفاق المنطق الحديث. . كل هذا مما لا أفرض معه فى سهولة أن الفقيه الأوربى، كاتب مادة شريعة يجهله، وليس أمامنا إلا فرض تجاهله له. . لحاجة فى النفس. .! ! وليس مع مثل هذا سلامة بحث، ولا صحة نتائج! !
ومن هذا التجنى المتجاهل للحقيقة قول المادة: "لا تعد الشريعة قانونا بالمعنى الحديث لهذه الكلمة ولا هى كذلك من حيث مادتها" مرتبا لهذا القول على ما تهافت من حكم بعدم جواز البحث عن العلل، وقول بأن الشريعة أمر تعبدى. . . وإذ انهار هذا كله بما رأينا فلم يبق سند لعدم عد الشريعة قانونا بالمعنى الحديث، وهو نفسه سيحدث عن "المجلة العدلية" كيف كانت صياغة شكلية، وموضوعية للشريعة الإسلامية فى وضع قانونى، وصورة قانونية؛ وما كان فى مصر من مثل هذا العمل، فى صنيع قدرى باشا المعروف، مما بدت به الشريعة قانونا موضوعيا فى مادته، وله صورة القانون فى مواده. . إنها لجرأة يمهد لها هذا التناقض والتهافت، والتجاهل. . .
5 - المصادر المادية للشريعة
ورد فى المادة قوله: أما فيما يتعلق بالمصادر المادية للشريعة الإسلامية فإن عناصر كثيرة مختلفة جدًا، فى أصلها (من آراء عربية قديمة وبدوية؛ قانون التعامل بمدينة مكة التى كانت مدينة تجارية؛ وقانون الملكية فى واحة المدينة، والقانون العرفى الذى كان سائدا فى البلاد المفتوحة، وهو قانون رومانى إقليمى إلى حد ما؛ وقانون هندى) قد احتفظ بها الإسلام وأخذ بها من غير تحرج. .
وقد وددت فى مطلع هذا التعليق أن تكون مادة "شريعة" قد كتبت من أفق واسع، وعلى أساس عميق، فاهتمت بالاتجاهات الحديثة، فى الدراسات القانونية، من التاريخ، والمقارنة، فكانت بذلك تبين لنا مكان الشريعة الإسلامية بين شرائع العالم الأخرى، كشريعة سولون، وشريعة حمورابى، وشريعة جوستنيان، وشريعة مانو، وما قبلها وما بعدها من الشرائع. . وتبين لنا المبادئ القانونية، والأصول التشريعية فى هذه الشرائع بالمقارنة المقابلة ولكن كاتب المادة لم يتجه هذا الاتجاه القيم ولا جاء بما يرجى أن يساير ثقافة العصر. . . وفى غير اتساق ألم بما سماه المصادر المادية للشريعة الإسلامية، وهو تعبير جرئ، وغير دقيق معا، فإن الأشياء التى ذكرها، فى أغلب الأمر، ضروب من العرف العملى، ومنها ما عرفه المسلمون بعد ما تلقوا المصادر الموحاة للشريعة الإسلامية، من القرآن والسنة، وإجماع الصحابة، والاجتهاد بالرأى، فى صور تدرجت حتى صارت قياسا ناضجا، وما ذلك الذى عرفوه بعد إلا ما يسميه هو نفسه "القانون العرفى الذى كان فى البلاد المفتوحة، وهو قانون رومانى إقليمي إلى حد ما، وقانون هندى".
فمن البين أن المسلمين منذ ظهرت دعوة الإسلام، طوال عهد الرسول [صلى الله عليه وسلم] وقبل أن تعبدًا حركة الفتح، كانوا يحتكمون إلى شرعة إسلامية، جعل القرآن يعطى الأصول العامة فيها، وبعض التفصيل، وأخذ قول الرسول [صلى الله عليه وسلم] وفعله وتقريره يبين ما فى القرآن من ذلك؛ ومضى المسلمون بعد ذلك يلتمسون حلول مشكلاتهم القانونية، أول ما يلتمسونها فى هذه الأصول وعلى أساس من توجيهها، يجتهدون أو ينتهون إلى اتفاق إجماعى، وتلك هى التى تسمى بدقة مصادر مادية للشريعة الإسلامية. . أما الأمور العملية التى كانت فى بيئتهم الأولى بالجزيرة، أو فى بيئاتهم الجديدة بعد الفتح، فمبلغ الأمر فيها أنها كما تقول المادة نفسها: عرف عملى أو قانون عرفى -وكل ما لهذا العرف من أثر أن يعتبر ويقدر وجوده، عند تطبيق الأحكام، وبذلك لا يكون العرف العملى أو القانون العرفى مصدرًا للشريعة التى عرفت مصادرها من صاحب الرسالة الدينية؛ واجتهدت فى اتباعه، وأخذ ما آتاها، والانتهاء عما
نهاها عنه. . ومن أجل ذلك قلت إن تسمية هذه مصادر مادية للشريعة تعبير جرئ وغير دقيق معا. . وقد جاء مبتسرا لم تمهد له دراسة تاريخية، ولم تثبته دراسة مقارنة. . ونحن على كل حال لا نجزع من أن يكون العرف العملى فى البلاد المفتوحة -رومانيا كان أو هنديا أو ما يكون- قد روعى فى التشريع؛ لأننا نقبل أكثر من هذا حين نعد شرع من قبلنا شرعًا لنا. . إلخ. وحين نقرر أن الإسلام قد أبقى فعلا بعض أعمال العرب وعاداتهم فى الحج مثلا؛ لأن ذلك كان يتلاءم مع الوضع العملى والنظرى للإسلام. . وهو تقريره الوحدة الدينية الإنسانية، وتصديقه لما بين يديه من الكتاب. . . فليفرخ روع القوم فإنا نقبل من ذلك ما تقره نواميس الاجتماع، وسنن الحياة الحتمية، وأما ما زاد عن ذلك فلا وجه له ولا أصل.
ولعل فى المادة نفسها ما يقرر هذا المعنى العام إذ تقول ما عبارته. .: "نعم روعيت بطبيعة الحال أوامر القرآن، والقواعد الأخرى التى وضعها النبى عليه السلام، لكن المسلمين أخذوا فى الوقت نفسه دون تحرج بالقوانين التى وجدوها أمامهم فى البلاد الجديدة التى فتحوها، ما دام لم يكن عليها اعتراض دينى".
فإنه ما دامت تراعى بطبيعة الحال أوامر القرآن التى هى مصدر الشريعة الأول، وما دامت تراعى القواعد التى وضعها الرسول عليه الصلاة والسلام، وهى السنة، أى المصدر الثانى من مصادر الشريعة، وما دام العرف القانونى الموجود فى البلاد المفتوحة ليس عليه اعتراض دينى، فذلك هو التفاعل الطبيعى بين الطارئين وبين سكان البلاد، وبين الشريعة التى حملوها والعرف القانونى الذى وجدوه، وهو ما تقتضيه المرونة الحيوية والتأثر الاجتماعى؛ ولا بأس به، ولا عدوان على حقيقة، وعلى هذا التفسير الذى تقرره المادة نفسها لا تكون تلك الأشياء التى تؤخذ فى ظل التوجيه التشريعى الدينى هى التى تسمى مصادر الشريعة.
وبقيت فى المادة مواضع للملاحظة يستطيع القارى إدراك ما فيها؛ ولا ضرورة للوقوف المطول عندها.
أمين الخولى