الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الإجارات
قوله: (والقياس يأبى جوازه؛ لأن المعقود عليه المنفعة، [وهي معروفة] وإضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح إلا أنا جوزناه لحاجة الناس إليه وقد شهدت بصحتها الآثار).
في كون القياس يأبى جوازه نظر، ولم يذكر على ذلك دليلاً إلا أن إضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح، وهذا الذي جعله دليلاً يحتاج إلى دليل، وما سيوجد نوعان: منافع وأعيان، وقياس أحدهما على الآخر فاسد، لوجود الفارق بينهما، فإن المعنى الجامع بينهما وهو كون كل منهما معدومًا يعارضه المعنى الفارق وهو أقوى منه وهو أن هذا معدوم يمكن تأخر بيعه إلى زمن وجوده بخلاف الآخر.
وقد أجرى الله العادة بحدوث هذه المنافع فصارت متحققة الوجود فإلحاق المعدوم المتحقق الوجود بالموجود أظهر من إلحاقه بالمعدوم المظنون الوجود، أو ما لوجوده غاية يمكن تأخير العقد إلى أن يوجد، فإن ما
لوجوده حال وجود وعدم، في بيعه حال العدم مخاطره وقمار، وبذلك علل النبي صلى الله عليه وسلم المنع حيث قال:"أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق".
وأما ما ليس له إلا حال واحدة والغالب فيه السلامة، فليس العقد عليه مخاطرةً ولا قمارًا، وإن كان فيه مخاطرة يسيرة فالحاجة داعية إليه، فإن قيل: فهذا هو الذي أريد بقولهم على خلاف القياس.
قيل: إن أريد أن الفرع اختص بوصف أوجب الفرق بينه وبين الأصل فكل حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على خلاف القياس الفاسد.
وإن أريد أن الأصل والفرع استويا في المتقضي والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل ليس في الشريعة منه مسألة واحدة، والشيء إذا شابه غيره في وصف وفارقه في وصف كان اختلافهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفًا لاستوائهما باعتبار الجامع وهذا هو القياس الصحيح طردًا وعكسًا وهو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين.
وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يقضي الحكم أو يمنعه
فهذا هو القياس الفاسد الذي جاء الشرع بإبطاله كما أبطل قياس الربا على اليع، وقياس الميتة على الذكية، وقياس المسيح عليه السلام على الأصنام، وبين الفارق بأنه عبد أنعم عليه بعبوديته ورسالته فكيف يعذبه بعبادة غيره له مع نهيه عن ذلك وعدم رضاه به بخلاف الأصنام، ومن سوى بين شيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود، وهذا من أعظم الغلط، بقي أن يقال أن موجب العقد التسليم في الحال.
وجوابه: أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد، أو ما أوجبه المتعاقدان مما يسوغ لهما أن يوجباه، وكلاهما متنفٍ في هذه الدعوى،
فلا الشارع أوجب أن يكون كل بيع يستحق به التسليم عقيب العقد ولا العقدان التزما ذلك، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارة يشترطان التأخر إما في الثمن وإما في المثمن.
وقد يكون للبائع غرض صحيح ومصلحة في تأخير تسليم المبيع كما كان لجابر غرض صحيح في تأخير تسليم بعيره إلى المدينة، واتفق العلماء على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزنًا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة، بل قالوا: هذا مستثنى بالعرف، وكذلك من اشترى ثمرة قد بدا صلاحها ليس عليه أن يجمع القطافين في آن واحد ويقطعها جملة واحدة، وإنما يقطعها كما جرت العادة فكذلك المنافع التي جرى عليها عقد الإجارة بتسليمها المستأجر تسلم مثلها عند تجددها.
قوله: (إلا أن في الأوقاف لا تجوز الإجارة الطويلة كي لا يدعي المستأجر ملكها وهي ما زاد على ثلاث سنين وهو المختار).
في اختيار التقدير بثلاث سنين نظر، ولو جعل التقدير فيه مختلفًا بحسب الأشخاص والأحوال لكان أولى وليس على التقدير بثلاث سنين دليل.
قوله: (وإن استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان بالبصرة ويجيء بجوابه: فذهب فوجد فلانًا ميتًا فرده فلا أجر له وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: له الأجر في الذهاب -إلى آخر الباب-).
ذكر صاحب المنظومة قول أبي يوسف مع محمد رحمهما
الله، والقول باستحقاقه جميع الأجرة أظهر كما هو مذهب أحمد وشرطه عليه أن يجيء بالجواب لا يمنع استحقاقه لجميع الأجرة إذا لم يجيء بالجواب لكونه وجده ميتًا لإتيانه بما يقدر عليه وهو قطع المسافة إليه وعدم الإتيان بالجواب لم يكن بتفريط منه، وعوده بالكتاب أولى من تركه في تلك البلدة لاحتمال أن يكون فيه سر لا يريد اطلاع غيره عليه، فهو في إعادته الكتاب محسن لا ينبغي أن ينقص من أجرته بسبب ذلك شيء فإذا استحق أجرة بالذهاب لو ترك الكتاب هناك فاستحقاقه بعوده به أولى لاحتمال وقوع كتابه في يد عدو وفيه ما يخشى عليه بسببه، أو أن إعادته مساوية لتركه لعدم الانتفاع به لغير المرسل إليه.
وعلى كل تقدير؛ فالقول بأن هذا المسكين يضيع تعبه وسفره الذي هو قطعة من العذاب بغير شيء من غير تفريط منه في غاية الإشكال، وأشكل من هذا المسألة الثانية: وهي ما إذا استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة فذهب به فوجده ميتًا فرده أنه لا أجر له في قولهم جميعًا خلافًا لزفر رحمه الله.
وقول زفر أظهر فإن هذا المحمول قد يكون أوساقًا كثيرة فيحمله المسكين على جماله إلى تلك البلدة ثم يعود به من غير تفريط فيه كيف لا يستحق شيئًا من الأجرة؟ لكن قد نقل عن زفر رحمه الله أنه لو ذهب بالطعام إلى البصرة فوجده حيًا ولم يسلمه إياه وعاد به أنه يستحق الأجرة وهذا مشكل أيضًا فإنه فرط عن قصد فينبغي أن يعاقب بالحرمان بخلاف الأول فإنه لم يفرط.