الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الغصب
قوله: (وفي الشريعة أخذ مال متقوم محترم/ بغير إذن المالك على وجه يزيل يده حتى كان استخدام العبد وحمل الدابة غصبًا دون الجلوس على البساط).
هذا الحد يحتاج في إثباته إلى دليل لا أن يكون هو دليلًا، وقد أورد السغناقي عليه نقضًا بفرع نقله عن فتاوي خان وعن الذخيرة، وهو أن من غصب عجلًا، فاستهلكه وانقطع لبن أمه أنه يضمن الغاصب قيمة العجل ونقصان الأم، وإن لم يفعل الغاصب في الأم فعلًا يزيل يد المالك.
ولا يشترط عند جمهور العلماء إزالة يد المالك عن المغصوب بل إثبات يد العدوان كاف لتحقيق الغصب، وتظهر ثمرة الاختلاف في زوائد المغصوب مثل الولد والثمرة وفي غير ذلك، ومثل ذلك يسمى غصبًا لغة.
والأصل في الألفاظ الشرعية أن تكون على وفاق اللغة إلا ما خرج
بدليل، فزيادة اشتراط إزالة يد المالك حقيقة- حتى إنه لو غصب أتانًا فتبعها جحشها، ثم تلفا أنه لا يضمنه وإنما يضمن أمه فقط.
وكذلك زوائد المغصوب كلها أمانة في يد الغاصب لو تلفت في يده لا يضمنها- تحتاج إلى دليل خاص نقلي، والمسألة معروفة والغرض التنبيه على إشكالها، وفي كلام المصنف هنا مؤاخذة لفظية، وهي في قوله:(وحمل الدابة) يعني والحمل عليها، وحقه أن يقول: وتحميل الدابة؛ لأن حمل لا يتعدى بنفسه إلى اثنين وإنما يتعدى بنفسه إلى واحد، وإلى آخر بحرف الجر تقول: حملت المتاع على الدابة، فيصح إضافة المصدر منه إلى المتاع لا إلى الدابة.
فتقول: حمل المتاع، ولا تقول: حمل الدابة، إلا أن يضعف الفعل فيتعدى إلى اثنين بنفسه، تقول: حملت الدابة المتاع، فحينئذ تصح إضافة مصدره إلى الدابة فتقول: تحمل الدابة؛ لأن التحميل مصدر حمل المضعف للتعددية.
قوله: (وما لا مثل له فعليه قيمته يوم غصبه، معناه العدديات المتفاوتة).
اختلف العلماء في غير المكيل والموزون على ثلاثة أقوال وهي روايات عن أحمد رحمه الله:
أحدها: أنها تضمن بالقيمة، هذا هو المشهور من أقوالهم.
الثاني: أنها تضمن بالمثل بحسب الإمكان، وهو قول طائفة من أهل الحديث.
والثالث: أن الحيوان يضمن بالمثل وما عداه كالجواهر ونحوها بالقيمة، واختلفوا في الجدار يهدم هل يضمن بقيمته أو يعاد مثله على قولين وهما للشافعي، والذي عليه ظاهر الكتاب والسنة وهو مقتضى القياس الصحيح أن الجميع يضمن بالمثل تقريبًا.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} ، وقوله تعالى {وجزاء سيئة سيئة مثلها} ، وقوله
تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} ، وقوله تعالى:{والحرمات قصاص} ، وقوله تعالى:{فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا} ، والمهر قد يكون حيوانًا وثوبًا وظاهره المثل الصوري.
وأما السنة فعن أنس رضي الله عنه قال: أهدت بعض أزواج -النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعامًا في قصعة فضربت عائشة رضي الله عنها القصعة بيدها فألقت ما فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«طعام بطعام وإناء بإناء» رواه الترمذي وصححه وهو بمعناه لسائر الجماعة إلا مسلمًا.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت صانعة طعامًا مثل صفية، أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء من طعام فما ملكت نفسي أن كسرته، فقلت: يا رسول الله ما كفارته؟ فقال: إناء كإناء وطعام كطعام» رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
ويؤيد ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سنًا فأعطى سنًا خيرًا من سنه، وقال:«خياركم أحسنكم قضاء» رواه أحمد والترمذي وصححه.
وفي لفظ قال: كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن، فلم يجدوا إلا سنًا فوقها، فقال:«اعطوه» ، فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إن خيركم أحسنكم قضاء» متفق عليه.
وقضى عثمان وابن مسعود على من استهلك لرجل فصلانًا بفصلان مثلها، وبالمثل قضى شريح والعنبري وقال به قتادة وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي.
وأما القياس الصحيح فهو أن القصعة بالقصعة، والبعير بالبعير إذا اتفقا في الصفقة تقريبًا أشبه من القصعة بالدراهم أو البعير بالدراهم فإن/ القيمة إنما تعرف بالظن الغالب.
وكذلك الشبه والتفاوت الذي يبقى بعد ذلك يغتفر كما يغتفر في المكيل والموزون فإن أرباب الخبرة إذا نظروا في الثوبين أو الشاتين ونحو ذلك فهموا ما بينهما من الشبه كما يفهمون التفاوت في المكيل والموزون، وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:«إناء كإناء وطعام كطعام» .
فالأمر دائر بين شيئين إما أن يضمنه بالقيمة، وهي دراهم مخالفة للمتلف في الجنس والصفة لكنها تساويه في المالية، وإما أن يضمنه ثيابًا من جنس ثيابه أو آنية من جنس آنيته أو حيوانًا من جنس حيوانه مع مراعاة الصفة بحسب الإمكان ومع كون قيمة بقدر قيمته فهنا المالية مساوية كما في النقدين وامتاز هذا بالمشاركة في الجنس والمقاربة في الصفة.
والنقد مخالف في الجنس والصفة، فكان ذلك أمثل من هذا، وما كان أمثل فهو أعدل فيجب الحكم به إذا تعذر المثل من كل وجه، ونظير هذا ما ثبت من الضربة واللطمة، سيأتي التنبيه عليه في الديات إن شاء الله تعالى،
وليس مع من أوجب القيمة نص ولا إجماع ولا قياس يصلح لمعارضة ذكر، وأكبر ما معهم قوله صلى الله عليه وسلم:«من أعتق شركًا له في عبد فكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل ولا وكس ولا شطط، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد» .
قال الآخرون: سمعنا وأطعنا لله ولرسوله، وهذا التضمين ليس من باب تضمين المتلفات بل هو من باب تملك مال الغير بقيمته للضرورة فإن نصيب الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه فلابد من دخوله في ملكه ليعتق عليه.
ولا خلاف بين القائلين بالسراية في ذلك وأن الولاء له، وإن تنازعوا هل يسري عقيب أو لا يعتق حتى يؤدي القيمة أو يكون موقوفًا فإذا أدى تبينًا أنه عتق من حين العتق فالتضمين هنا كتضمين الشفيع الثمن إذا أخذنا بالشفعة، فإنه ليس من باب ضمان الإتلاف ولكن من باب التقويم بالدخول في الملك، لكن الشفيع أدخل الشارع الشقص في ملكه بالثمن باختياره
والشريك المعتق أدخل الشقص في ملكه بالقيمة بغير اختياره وكلاهما تملك، هذا بالثمن وهذا بالقيمة، فهذا شيء وضمان المتلف شيء، بل قد تقدم في كتاب أدب القاضي أن ضمان الإعتاق ليس بدين مطلق، بل هو صلة، حتى قال أبو حنيفة: إن الشرك إذا أعتق نصيبه في عبد مشترك وهو موسر ثم مات أنه يسقط عنه الضمان، وتقدم ما فيه من الإشكال.
قالوا: وأيضًا فلو سلم أنه ضمان إتلاف لم يدل على أن العبد الكامل إذا أتلف يضمن بالقيمة، والفرق بينهما أن الشريكين إذا كان بينهما مالًا ينقسم كالعبد والحيوان والجوهرة ونحو ذلك، فحق كل منهما في نصف القيمة فإذا اتفقا على المهايأة جاز وإن تنازعا وتشاحا بيعت العين وقسم ثمنها بينهما على قدر ملكيهما كما ينقسم المثلى في عينه وفي المتقوم عند التشاجر والتنازع في قيمته فلولا أن حقه في القيمة وإلا لما أجيب إلى البيع
إذا طلبه، وإذا ثبت ذلك، فإذا أتلف له نصف عبد فلو ضمناه بمثله لفات حقه من نصف القيمة الواجب له شرعًا عند طلب البيع.
والشريك إنما حقه في نصف القيمة وهما لو تقاسماه بالقيمة، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالقيمة بخلاف المثلي فإنه لو تقاسماه تقاسما عينه، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالمثل.
قالوا: فهذا هو الميزان الصحيح طردًا وعكسًا الموافق للنصوص وآثار الصحابة وهو في القوة كما ترى.
قوله: (وقيل الموجب الأصلي رد القيمة ورد العين مخلص ويظهر ذلك في بعض الأحكام).
ما ينبغي أن يحكي هذا القول، فإنه قولٌ ظاهرُ الشرع يرده كما في الحديث الذي ذكره المصنف قبل ذلك، وقوله صلى الله عليه وسلم:«على اليد ما أخذت حتى تؤديه» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «وليس لعرق ظالم حق» رواه أبو داود والدارقطني ولا شك أن القيمة بدل عن العبن، وكيف يقال: إن البدل أصل بل هذا قلب الموضوع، وذلك البعض من الأحكام الذي أشار إليه بقوله: ويظهر ذلك في بعض الأحكام، وهو صحة الإبراء عن الضمان والكفالة بالمغضوب قبل تلفه.
فأما صحة الإبراء عن/ ضمان قيمة المغصوب قبل تلفه فلا يلزم منها أن يكون الموجب الأصلي القيمة، بل إنما صح الإبراء؛ لأن الغضب سبب الضمان فصح الإبراء عنه بعد انعقاد سببه كالعفو عن القصاص بعد الجرح فهو بالإبراء رضي أن يبقى في يد الغاصب على جهة الأمانة كالمودع والمستعير.
وأما صحة الكفالة بالمغصوب قبل تلفه فلا يلزم منها أن يكون الموجب الأصلي رد القيمة أيضًا، بل هذا من نحو الكفالة بالدرك وبما دأب لك على
فلان، ومبنى الكفالة على التوسع.
وأما ما قيل: إن الزكاة لا تجب على الغاصب في قدر قيمة المغصوب من ماله فقول لا يستحق أن يحكي إلا على وجه الإنكار له، والله أعلم.
قوله: (ولهما أن الغصب إثبات بإزالة يد المالك بفعل في العين وهذا لا يتصور في العقار إلى آخره).
تقدم أن اشترط إزالة يد المالك حقيقة عن المغصوب يحتاج إلى دليل، وما ذكره من تفسير الغصب بأنه إثبات يد المالك في العين، مجرد دعوى يستدل لها لا يستدل بها، بل قد وردت السنة بأن العقار يتحقق فيه الغصب، من ذلك حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طوقه الله من سبع أرضين» متفق عليه.
وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين» متفق عليه.
وفي لفظ لأحمد: «من سرق» ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من اقتطع شبرًا من الأرض بغير حق طوقه يوم القيامة من سبع أرضين» رواه أحمد.
وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أخذ من الأرض شيئًا بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبعين أرضين» رواه أحمد والبخاري.
وعن الأشعث بن قيس رضي الله عنه «أن رجلًا من كندة ورجلًا من حضر موت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض باليمن فقال الحضرمي: يا رسول الله أرضي اغتصبها هذا وأبوه، فقال الكندي: يا رسول الله
أرضي ورثتها من أبي، فقال الحضرمي: يا رسول الله استحلفه أنه ما يعلم أنها أرضي وأرض والدي اغتصبها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنه لا يقتطع عبد أو رجل بيمينه مالًا إلا لقى الله يوم يلقاه وهو أجذم» ، فقال الكندي: هي أرضه وأرض والده» رواه أحمد، ولا شك أن الاستيلاء على كل شيء بحبسه فمن سكن داره غيره ومنعه أن يدخلها صار كمن غصب متاعًا وحال بينه وبين مالكه بخلاف من أبعد رجلًا عن متاعه فإنه ما استولى على ماله فنظيره ها هنا أن يحبس المالك ولا يستولى على داره.
قوله: (ومن غصب ألفًا فاشترى به جارية فباعها بألفين ثم اشترى بالألفين جارية فباعها بثلاثة آلاف يتصدق بجميع الربح وهذا عندهما إلى آخره).
يعني عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف يطيب له الربح، وفي المسألة قول آخر، وهو أنهما شريكان في الربح؛ لأنه نماء المال، ونماء عمل الغاصب فصار بمنزلة المضاربة، وهذا أعدل الأقوال.
وهو رواية عن أحمد ودليله ما فعله عمر مع ولديه عبد الله وعبيد الله في المال الذي اتجر فيه من بيت المال «فإنهما خرجا في جبش إلى العراق فتسلفا من أبي موسى مالًا وابتاعا به ممتاعًا وقدما به إلى المدينة فباعاه وربحا فيه، فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله، فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا، فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضًا؟ فقال: قد جعلته، وأخذ منهما نصف الربح» رواه مالك.
زيد بن أسلم عن أبيه، وأيضًا فإن الإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة، والغاصب في هذه التصرفات متفضل فإن رأى المالك المصلحة في جعله مضاربة جعله، وهذا المعنى هو الذي رآه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.