المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل قوله: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن أكل - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ٥

[ابن أبي العز]

الفصل: ‌ ‌فصل قوله: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن أكل

‌فصل

قوله: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي ناب من السباع" وقوله: "من السباع" ذكر عقيب النوعين فينصرف إليهما فيتناول سباع الطير والبهائم لا كل ما له مخلب أو ناب، والسبع كل مختطف منتهب جارح فاتك عادٍ عادة).

الأحاديث الواردة في تحريم ذي الناب والمخلب منها:

حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع" رواه الجماعة، وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل ذي ناب من السباع فأكله حرام" رواه الجماعة إلا البخاري وأبا دواد، وحديث ابن عباس قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي

ص: 731

وحديث جابر رضي الله عنه قال: "حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني يوم خيبر لحوم الحمر الإنسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" رواه أحمد، والترمذي، ولم أر في شيء منها كما ذكره المصنف من تقديم ذي مخلب على ذي الناب.

ولو ورد كما قال لا يدل على ما ادعاه من أن قوله: من السباع. ذكر عقيب النوعين فينصرف إليهما، فيتناول سباع الطير والبهائم لا كل ما له مخلب أو ناب، بل قوله: من الطير. صفة لذي مخلب، وقوله: من السباع. صفة لذي ناب، ولا يصح أن يكون قوله: من السباع. صفة لكل ذي مخلب وكل ذي ناب؛ لأنه وصف كل ذي [مخلب] بكونه من الطيور، ولا يحتاج أن ينصرف قوله: من السباع. إلى الطير والبهائم بل المراد ماله مخلب يعد به، فلم يتناول قوله: كل ذي مخلب من الطير، غير سباع الطير، وهذا من باب حذف الصفة لقيام قرينة تدل عليها، كما في قوله/ تعالى:{فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى} أي على القاعدين من أولي الضرر يدل على هذا قوله: {وكلا وعد الله

ص: 732

الحسنى} والقاعدون من غير أولي الضرر ليسوا ممن وعدهم الله الحسنى والقرينة التي دلت هنا على أن المراد كل ذي مخلب من الطير يعدو به أنه لولا هذا التقدير المغا: هذا التركيب إذ كل طير له مخلب ولو أريد تحريم لحم الطيور كلها لم يكن ذي مخلب منها فكان ذكر المخلب للتنبيه على علة التحريم، وأفرد سباع البهائم بالذكر لأن لها آلة أخرى تكسر بها وهي الناب.

وقوله: والسبع كل مختطف منتهب جارح فاتك عاد عادة. ما أدري ما قصده بهذا الإطناب والإسهاب الزائد في وصفه، ولا حاجة إلى ذكر هذه الصفات كلها، وذكر بعضها كافٍ في التعريف.

قوله: (ويدخل فيه الضبع والثعلب فيكون الحديث حجة على الشافعي رحمه الله في إباحتهما).

أما الضبع فعن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار قال: "قلت لجابر

ص: 733

-رضي الله عنه: الضبع أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قلت: أكلها؟ قال: نعم، قلت: أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم" رواه الخمسة وصححه الترمذي.

قالوا: وهي تخلط فتشبه الدجاجة، قال ابن المنذر: وحكم عمر رضي الله عنه في الضبع يقتله المحرم كبشًا وبه قال ابن عباس، ورويناه عن علي رضي الله عنه "أنه كان يرى الضبع صيدًا" وقد روينا الرخصة فيه عن سعد ابن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة وعروة بن الزبير وعكرمة، وكان عطاء والشافعي يريان فيه الجزاء على المحرم، ورخص في أكله أحمد وإسحاق وأب ثور. انتها.

وأما الثعلب فلم يرد فيه ما يعارض عموم تحريم كل ذي ناب من السباع، ولهذا لم يقل بحل أكله كل من قال بحل الضبع من العلماء، وإنما حكاه ابن المنذر عن طاووس وقتادة والشافعي وأبي ثور، قال: واختلف فيه عن

ص: 734

عطاء وزاد في المغني: الليث وسفيان بن عيينة ورواية عن أحمد.

قوله: (والفيل ذو ناب فيكره).

لا خلاف في حرمة الفيل، وكان الأولى أن يقول: فيحرم لئلا يوهم بقوله: فيكره. أنه لم يبلغ درجة التحريم.

قوله: (وأما الضب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن عائشة رضي الله عنها حين سألته عن أكله وهو حجة على الشافعي في إباحته).

هذا حديث باطل لم يثبت وينسب إلى أبي حنيفة رواية، ولم يثبت وصوله إليه، وإنما احتج محمد بن الحسن بما روي عن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي له ضب فلم يأكله فقام عليهم سائل فأرادت عائشة أن تعطيه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أتعطينه ما لا تأكلين؟ " قال محمد رحمه الله: فقد

ص: 735

دل ذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم]: كره لنفسه ولغيره أكل الضب" قال: فبذلك نأخذ، هكذا ذكره عنه الطحاوي.

ثم قال: قيل له: ما في ذلك دليل على ما ذكرت، قد يجوز أن يكون كره لها أن تطعمه السائل [لأنها إنما فعلت ذلك من أجل أنها عافته، ولولا أنها عافته لما أطعمته إياه، وكان ما تطعمه السائل] فإنما هو لله عز وجل، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون ما يتقرب إلى الله تعالى إلا من خير الطعام، كما قد نهى أن يتصدق بالبسر الرديء والتمر الرديء.

ثم اختار الطحاوي إباحته، ذكره في شرح معاني الآثار، وهو الصحيح

ص: 736

ويشهد للمعنى الذي أشار إليه الطحاوي قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم} الآيتين، وقوله تعالى:{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} ويدل على إباحته حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن خالد بن الوليد رضي الله عنه أخبره أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على ميمونة وهي خالته، وخالة ابن عباس فوجد عندها ضبًا محنوذًا قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث من نجد، فقدمت الضب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدمتن له، قلن: هو الضب يا رسول الله فرفع رسول الله يده، فقال خالد بن الوليد:"أحرام الضب يا رسول الله، قال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر فلم ينهني" رواه الجماعة إلا الترمذي.

ص: 737

وعن ابن عمر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه" متفق عليه، وفي رواية عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه ناس فيهم سعد، فأتوا بلحم ضب فنادت امرأة من نسائه: إنه لحم ضب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي" رواه أحمد ومسلم.

وعن جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال في الضب: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرمه وإن عمر قال: إن الله لينفع به غير واحد، وإنما طعام عامة الرعاء منه، ولو كان عندي طعمته" رواه مسلم وابن ماجه، وعن جابر رضي الله عنه قال:"أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فأبى أن يأكل منه، وقال: لا أدري لعله من القرون التي مسخت".

وعن أبي سعيد "أن أعرابيًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني في غائطٍ

ص: 738

مضبة، وإنه عامة طعام أهلي قال: فلم يجبه، فقلنا: عاوده، فعاوده، فلم يجبه، ثلاثًا، ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثالثة فقال: يا أعرابي إن الله لعن أوغضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الأرض، ولا أدري لعل هذا منها، ولست آكلها ولا أنهى عنها" رواه أحمد ومسلم.

وقد صح عنه عليه السلام أن الممسوخ لا نسل له، والظاهر أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي، وأن تردده في الضب كان قبل الوحي بذلك، والحديث يرويه ابن مسعود رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده القردة قال مسعر: وأراه قال: الخنازير مما مسخ فقال: إن الله لم يجعل للمسخ نسلاً ولا عقبًا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك" وفي رواية:"أن رجلاً قال: يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله لم يهلك قومًا، أو لم يعلم قومًا، أو لم يعذب فيجعل لهم نسلاً" روى ذلك أحمد ومسلم.

ص: 739

وعن عائشة رضي الله عنها قالت" "أهدي لنا ضب فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يأكل منه، فقلت: يا رسول الله ألا تطعمه السؤال؟ فقال: إنا لا نطعم مما لا نأكله" أخرجه البيهقي، وكأن هذا الحديث هو الذي أشار إليه المصنف، ولا دليل فيه على الكراهة، بل هو من جنس ما تقدم، وهو أنه عافه فلم يأكل منه، وترك التصدق به لئلا يجعل لله ما يكره، وإنما ينبغي أن يجعل لله كما قال تعالى:{لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وذم من يجعل لله ما يكره، فقال تعالى:{ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى} الآية.

قوله: (وإنما تكره الحشرات كلها استدلالاً بالضب لأنه منها).

تقدم التنبيه على ما في أكل الضب من السنة فلا يصح قياس الحشرات عليه.

قوله: (لما روى خالد بن الوليد: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير").

ص: 740

أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والطحاوي والدارقطني والبيهقي ولكنه ضعيف لا يصلح لمعارضته حديث جابر المتفق على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل" رواه البخاري ومسلم والنسائي/ وأبو داود وفي لفظ: "أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمر" رواه الترمذي وصححه.

ص: 741

وقد ذكر المصنف بعد هذا حديث جابر المذكور وقال: إن حديث جابر معارض لحديث خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولكنه لا يعارض الحديث إلا بحديث مثله، وهذا لا يقع لأن الأدلة الصحيحة لا تتعارض إلا أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر والله أعلم بالصواب.

قوله: (وعن علي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر المتعة وحرم لحوم الحمير الأهلية يوم خيبر").

متفق عليه ولفظه: "نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية"، واتفق أهل الحديث على أن تحريم لحوم الحمر الأهلية كان يوم خيبر، وأما متعة النساء ففيها اضطراب.

ففي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه "أن تحريم متعة النساء كان يوم خيبر" كما تقدم ذكره، ولكن قد صح "أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أباحها عام الفتح ثم حرمها"، فقالت طائفة: حرمت مرتين، يروى عن الشافعي رحمه الله

ص: 742

أنه قال: "لا أعلم شيئًا حرم ثم أبيح ثم حرم إلا متعة النساء -قال-: نسخت مرتين" وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لم تحرم إلا عام الفتح، وقبل ذلك كانت مباحة.

قالوا: وإنما جمع علي رضي الله عنه بين الأخبار بتحريمها وتحريم الحمر الأهلية، لأن ابن عباس كان يبيحهما، فروى له علي تحريمها عن النبي صلى الله عليه وسلم ردًا عليه، وكان تحريم الحمر الأهلية يوم خيبر بغير شك فذكر يوم خيبر ظرفًا لتحريم الحمر الأهلية، وأطلق تحريم المتعة ولم يقيده بوقت، كما جاء ذلك في مسند أحمد بإسناد صحيح "أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، وحرم متعة النساء"، وفي لفظ "حرم متعة النساء وحرم لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر" هكذا رواه سفيان بن عيينة مفصلاً مبينًا، فظن بعض الرواة أن يوم خيبر زمن التحريم فقيدهما به.

ثم جاء بعضهم فاقتصر على أحد المحرمين، وهو تحريم الحمر، وقيده

ص: 743

بالظرف، فمن هنا نشأ الوهم وقصة خيبر لم يكن فيها الصحابة يتمتعون باليهوديات، ولا ورد أنهم استأذنوا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس للتمتع في غزوة خيبر ذكر البتة، وإنما وطؤهن بملك اليمين بعد الأمر بخلاف غزاة الفتح فإن قصة المتعة فيها -فعلاً وتحريمًا- مشهورة، قال الشيخ شمس الدين ابن القيم في الهدي: وهذه الطريقة أصح الطريقين.

قوله: (ولأبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} خرج مخرج الامتنان، والأكل من أعلى منافعها، والحكيم لا يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها).

فيه نظر فإن سورة النحل مكية، وكانت حينئذ الخيل والبغال والحمر حلالاً، فإن تحريم الحمر الأهلية إنما كان يوم خيبر بعد الهجرة بست سنين أو

ص: 744

سبع، وبهذا أجاب الواحدي في تفسيره، وهو في غاية القوة، ويمكن أن يقال في حكمة ترك الامتنان بالأكل في حق الخيل والحمير إن أعلى أنواع الانتفاع بها إنما هو الركوب والزينة، وإن كانت مع ذلك تؤكل ويحمل عليها ولكن الحمل على الإبل أكثر خصوصًا عند قطع المفاوز، فإنه لا يصبر غيرها على العطش مثلها، فلذلك ذكر الحمل في الإبل فقال تعالى:{وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكولوا بالغية إلا بشق الأنفس} ، وكذلك الأكل منها لكثرتها وكبر أجسامها، ولو سلط الأكل على الخيل والبغال لقلت، وفات المعنى المختص بها فكذلك ترك الامتنان فيها بالأكل والحمل عليها، والله أعلم.

قوله: (ولا بأس بأكل الأرنب لأن النبي صلى الله عليه وسلم/ أكل منه حين أهدى إليه مشويًا وأمر أصحابه بالأكل منه).

هذا اللفظ غير محفوظ وإنما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرنب قد شواها ومعها صنابها وأدمها

ص: 745

فوضعها بين يديه فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأكل وأمر أصحابه فأكلوا" رواه أحمد والنسائي، وفي حديث أنس -رضي اله عنه- قال: "أنفجنا أرنبًا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا، فأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، وبعث إلى رسول الله بوركها وفخذها فقبله" رواه الجماعة.

قوله: (ولنا قوله تعالى: {ويحرم عليهم الخبائث} وما سوى السمك خبيث).

فيه نظر، فإن استخباث ما سوى السمك مجرد دعوى فيكفي في جوابها المنع، فإن الأثمة الثلاثة وغيرهم على إباحة غير السمك من حيوان

ص: 746

الماء، وإن كان قد حصل بينهم خلاف في استثناء بعضه.

وقال الشعبي: لو أكل أهلي الضفادع لأطعمتهم. وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: "كل ما في البحر قد ذكاه الله لكم" وعموم قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه} يدل على إباحة جميع صيده، وروى عطاء وعمرو بن دينار أنهما بلغهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله ذبح كل شيء في البحر لابن آدم" فكيف يكتفي في الاستدلال على من يدعي أن هذا من الطيبات بمجرد دعوى أنه من الخبائث، والأصل الحل إلى أن يرد منع، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"إن من أعظم المسلمين من المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم على الناس، فحرم من أجل مسألته" متفق عليه.

والذين يعتبر استطابتهم واستخبائهم هم أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنهم الذين نزل القرآن عليهم وخوطبوا به وبالسنة، فيرجع في مطلق

ص: 747

ألفاظهما إلى عرفهم دون غيرهم، ولا يعتبر أهل البوادي لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجد ولهذا سئل بعضهم عما يأكلون؟ فقال: ما دب ودرج إلا أم حبين، فقال: لتهن أم حبين العافية، وإذا كان أكثر العلماء على القول بجواز أكل غير السمك من حيوان الماء فكيف يصح الاستدلال بدعوى أن ما عدا السمك من حيوان الماء خبيث.

قوله: (ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن دواء يتخذ فيه الضفدع).

يشير إلى حديث عبد الرحمن بن عثمان "أن طبيبًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها" أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي، ويجب أن يقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع، ولا يقال: نهى عن دواء يتخذ فيه الضفدع.

قوله: (ونهى عن بيع السرطان).

هذا الحديث لا أصل له في كتب الحديث.

ص: 748

قوله: (والصيد المذكور فيما تلاه، محمول على الاصطياد، وهو مباح فيما لا يحل).

فيه نظر من وجهين:

أحدهما: قوله: والصيد المذكور فيما تلاه محمول على الاصطياد، يعني قوله تعالى:{أحل لكم صيد البحر وطعامه} فإن الظاهر أن المراد من الصيد المصيد، وإن كان مجازًا وذلك لوجوه: أحدها: عطف طعامه على صيد وهو بمعنى المطعوم قطعًا.

ثانيها: قوله تعالى: {وطعامه متاعًا لكم وللسيارة} وهو عائد إلى صيد البحر وطعامه، والمتاع إنما هو المصيد لا المصدر.

ثالثها: أن البحر لا يصاد، وإنما يصاد حيوانه فيحتاج حينئذ إلى تقدير محذوف أي أحل لكم صيد حيوان البحر، والأصل عدم التقدير.

الثاني: قوله: وهو مباح فيما لا يحل؛ لأن إتلاف الحيوان لغير أكله ولا دفع شره حرام، وإنما ورد الإذن/ بقتل الفواسق والوزغ ونحوها لدفع

ص: 749

شرها، وورد النهي عن قتل النملة والنحلة والهدهد والصرد والضفدع ونحو ذلك لعدم شرها وعدم جواز أكلها، ونهى عن أن تصبر البهائم أي تقتل صبرًا، وأن يتخذ ما فيه الروح غرضًا؛ لأنه لا يحل أكله بذلك فيكون مقتولاً لغير أكله، وإن سلم جواز صيد ما ينتفع بجلده من الحيوان

ص: 750

لأجل جلده فأكثر حيوان الماء ليس له جلد ينتفع به.

وظاهر النص يدل على جواز أكل كل صيد البحر، سواء أريد بالصيد المصدر أو اسم المفعول، فلا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل لا بمجرد دعوى أن ما عدا السمك من الخبائث.

قوله: (والميتة المذكورة فيما روى محمولة على السمك، وهو حلال مستثنى من ذلك لقوله عليه السلام: "أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال").

يشير بقوله: والميتة المذكورة فيما روي، إلى قوله صلى الله عليه وسلم في البحر:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته" رواه أحمد، وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

وقوله: أحلت لنا ميتتان ودمان" الحديث أخرجه أحمد وابن ماجه والدارقطني من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو

ص: 751

ضعيف، ولكن أخرجه الدارقطني من طريق عبد الله بن زيد بن أسلم أخي عبد الرحمن، وقد وثقه أحمد وابن المديني وقال البيهقي: الصحيح وقفه على ابن عمر، وقال: هذا قبله الإمام أحمد رحمه الله.

قوله: (ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما نضب عنه الماء فكلوا، وما لفظه الماء فكلوا، وما طفا فلا تأكلوا" وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مثل مذهبنا، وميتة البحر: ما لفظه البحر، ليكون موته مضافًا إلى البحر لا ما مات فيه من غير آفة).

هذا الحديث ضعيف باتفاق أئمة الحديث، وعن أبي بكر الصديق

ص: 752

-رضي الله عنه قال: "الطافي حلال" وعن عمر رضي الله عنه في قوله تعالى: {أحل لكم صيد البحر} قال: "صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به" وقال ابن عباس رضي الله عنهما "طعامه ميتته إلا ما ما قذرت منها" ذكر ذلك البخاري في صحيحه.

وعن جابر رضي الله عنه قال: "غزونا جيش الخبط وأمرنا أبو عبيدة فجعنا جوعًا شديدًا، فألقى البحر حوتًا ميتًا لم ير مثله يقال له: العنبر فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظمًا من عظامه فمر الراكب تحته قال: فلما قدمنا المدينة، ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كلو رزقًا أخرجه الله لكم، أطعمونا إن كان معكم، فأتاه بعضهم بشيء منه فأكله" متفق عليه.

ص: 753

ولا يقال: إن الصحابة كانوا مضطرين فأكلوه للضرورة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه، ولا يقال: إنه يحتمل أن يكون قد نضب عنه الماء أو لفظه، لأنه قال: فألقى البحر حوتًا ميتًا، فعلم أن الموج ألقاه إلى الساحل بعد أن مات في الماء، وقال ابن المنذر: وممن قال إن معنى قوله: وطعامه متاعًا لكم، أن طعامه ما قذف، ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وقال ابن عمر: طعامه ما ألقى، وقال ابن عباس: طعامه. ميتته، وقال مرة: ملحه.

وقد رورينا عن أبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر أخبارًا تدل على إباحة ذلك تختلف ألفاظها، وروينا عن أبي أيوب "أنه أكل سمكة طافية".

وفي ما طفا من السمك على الماء قول ثان: وهو أن يؤكل ما يوجد في حافتي البحر، ويؤكل ما جزر عنه، ولا يؤكل ما كان/ طافيًا منه، هذا قول جابر بن عبد الله، وروينا عن ابن عباس، وممن كره أن يؤكل الطافي

ص: 754

من السمك طاووس وابن سيرين وجابر بن زيد وأصحاب الرأي، ثم ذكر الاختلاف في أكل الجري والطافي وغير ذلك. انتهى.

وإذا كان الحكم بين الصحابة في الطافي هكذا مختلفًا فيه، تحمل كراهة من كرهه - إن ثبت عنه- على التنزه لا على التحري، كما كره النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب، وأكله خالد بين يديه وهو ينظر إليه، ولا ينهاه، وأخبر أنه غير حرام ولكنه لم يكن بأرض قومه فعافته نفسه، وكذلك ما عدا السمك من حيوان الماء غير الضفدع فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتلها، فدل على عدم جواز أكلها، فإنه لم يتفق العلماء على استخباثه، أعني ما عدا السمك من حيوان الماء، وفي مسائل النزاع لا يكون قول البعض حجة على البعض، فلا يصح استدلال المصنف بأنه نقل عن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا خصوصًا إذا كان القول مخالفًا لقول الأئمة الراشدين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع أنه في ثبوته نظر.

قال أبو محمد بن [حزم]: أما الرواية عن جابر فلا تصح، لأن

ص: 755

أبا الزبير، لم يذكر فيه سماعًا من جابر، وهي عن علي لا تصح لأن ابن فضيل لم يسمع من عطاء بن السائب إلا بعد اختلاطه، وهي عن ابن عباس من طريق أجلح وليس بالقوي. انتهى.

وقوله: وميتة البحر: ما لفظه البحر، ليكون موته مضافًا إلى البحر، لا ما مات فيه من غير آفة، مجرد دعوى وإلا فالإضافة صادقة، ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة، وأيضًا فالميتة إنما حرمت لاحتقان الدم الخبيث فيها، والذكاة لما كانت تزيل ذلك كانت سبب الحل، ولا دم في السمك فاستوى الطافي وغيره، بل وكل حيوان الماء، ولهذا [لا] ينجس بالموت، ولو لم يكن في المسألة نصوص لكان هذا القياس كافيًا ولهذا يؤكل ما يوجد من الجراد ميتًا، وقد أجاب المصنف عن هذا فيما بعد بأسطر: إنا خصصناه بالنص الوارد في الطافي، وقد تقدم التنبيه على ضعفه.

ص: 756

قوله: (وسئل علي عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيه الميت وغيره، فقال: كله كله).

روى البيهقي عنه رضي الله عنه قال: "الحيتان والجراد ذكي كله" وهو حجة في جواز أكل الميتة من الجراد قبل أخذه والطافي من السمك، فلا يجوز أن يؤخذ بقوله في ميت الجراد دون طافي السمك.

* * *

ص: 757