المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الأشربة قوله: (وهي النيئ من ماء العنب إذا صار مسكرًا - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ٥

[ابن أبي العز]

الفصل: ‌ ‌كتاب الأشربة قوله: (وهي النيئ من ماء العنب إذا صار مسكرًا

‌كتاب الأشربة

قوله: (وهي النيئ من ماء العنب إذا صار مسكرًا وهذا عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة، وأهل العلم، وقال بعض الناس: هو اسم لكل مسكر).

في تسمية -من كان ذلك معروفًا عندهم- أهل العلم، وتسميته- من قال: إن الخمر اسم لكل مسكر- بعض الناس، تحامل وعصبية فإن الذين قالوا: إن الخمر اسم لكل مسكر من الصحابة: عمر وعلي وابن مسعود وابن

ص: 819

عمر وأبو هريرة وسعد بن أبي وقاص وأبي بن كعب وأنس وعائشة رضي الله عنهم.

ومن التابعين والأئمة عطاء وطاووس ومجاهد والقاسم وقتادة وعمر ابن عبد العزيز والحسن ومالك والشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد وإسحاق ومحمد بن الحسن رحمهم الله.

ص: 820

ذكر بعضهم ابن المنذر والباقين ابن قدامة في المغني، والمخالفون لهم أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري وابن أبي ليلى وغيرهم من علماء الكوفة والبصرة ونسبوا قولهم هذا إلى بعض الصحابة، ولم يثبت.

وقال أبو عمر بن عبد البر: إن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي وهذه زلة عالم، وقد حذرنا من زلة العالم. انتهى.

وقد رجح جماعة من الأصحاب قول محمد بن الحسن الموافق لمن ذكر منهم أبو الليث السمرقندي فكيف يقال عن أولئك بعض الناس بعد أن يقال عن هؤلاء إنهم أهل العلم، وسيأتي عن قريب التنبيه على ما استدل به أولئك

ص: 821

إن شاء الله تعالى وإن كان مراده أن القائلين بتسمية المسكر خمرًا لا يقولون إنها خمر حقيقة بل مجازًا فهذا غير مسلم فإن التفريق بين الحقيقة والمجاز اصطلاح حادث ولا تحقيق يحبب هذا التفريق بعد الإتفاق على حكم التحريم والتسمية في الكل هنا عند من ذكروا اتفاقهم مؤيد بالكتاب والسنة.

قوله: (ولنا أنه خاص فإطباق أهل اللغة فيما ذكرناه ولهذا اشتهر استعماله فيه، وفي غيرِه غيرُه، ولأن حرمة الخمر قطعية وهي في غيرها ظنية وإنما سمي خمرًا لتخمره لا لمخامرته العقل على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصًا فيه، فإن النجم مشتق من الظهور ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر، وهذا كثير النظير والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين والثاني أريد به بيان الحكم إذ هو اللائق بمنصب الرسالة).

فيه نظر من وجوه:

أحدها: قوله: إنه اسم خاص بإطباق أهل اللغة.

ص: 822

وجوابه: أن صاحب المحكم حكى فيه عن أبي حنيفة الدينوري أنه قال: قد يكون الخمر من الحبوب هذا من ناقلي اللغة.

وعن أنس رضي الله عنه: "إن الخمر حرمت والخمر يومئذ البسر والتمر" متفق عليه، وفي لفظ قال:"حرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً، وعامة خمرنا البسر والتمر" رواه البخاري، وفي لفظ:"لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر، وما بالمدينة شراب إلا من تمر" رواه مسلم.

ص: 823

وعن أنس أيضًا رضي الله عنه قال: "كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر فجاءهم آت فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها" متفق عليه، وعن ابن عمر قال:"تنزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما منها شراب العنب" رواه البخاري.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه قال/ على منبر النبي صلى الله عليه وسلم: "أما بعد: أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل" متفق عليه.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه، وفي لفظ: "كل

ص: 824

مسكر خمر وكل خمر حرام" رواه مسلم والدارقطني، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" رواه الجماعة إلا البخاري، وعن عبد الله بن ابي الهذيل قال: "كان عبد الله يحلف بالله أن التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حرمت الخمر أن يكسر دنانه وأن يكفأ ثمره التمر والزبيب" روه الدارقطني.

وهذه نصوص لا يجوز الاعتراض عليها تدل على أن اسم الخمر لا يختص بالمسكر من عصير العنب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم هم أهل اللسان، ولو خالفهم غيرهم لا يلتفت إلى خلافه، لأن فهم من خوطب بالقرآن لمعانيه، أولى من فهم غيرهم، ولو لم يرد من السنة زيادة على ما في الكتاب من تحريم الخمر، وقلنا إنها حقيقة في عصير العنب إذا أسكر لكان غيره من المسكرات محرمًا بدلالة النص لأنه مثله

ص: 825

من كل وجه إذ المعنى الذي حرم لأجله قليل عصير العنب إذا أسكر كثيره -وهو سد الذريعة إلى الكثير- موجود في غيره وإن لم يكن بدلالة النص فبالقياس، فإنه إن لم يكن هذا قياسًا صحيحًا فليس في الدنيا قياس صحيح وكيف يقاس الجص على الحنطة في تحريم الربا بجامع الكيل والجنس ولا يقاس بقية الأنواع المسكرة على الخمر التي هي من عصير العنب بعلة الإسكار التي قد نبهنا الله عليها بقوله:{إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة} وهذا المعنى موجود في كل مسكر إن لم يكن داخلاً في اسم الخمر كما ذكرتم، كيف وقد ثبت بما تقدم أن اسم الخمر شامل لكل مسكر.

الثاني: قوله: ولهذا اشتهر استعماله فيه، وفي غيره غيره.

وجوابه: أن غلبة الاستعمال لا تدل على الاختصاص كما أن غلبة استعمال ذوي الأرحام على من لا فرض له ولا تعصيب لا يمنع من أنه يعم جميع الأقارب، وغلبة استعمال السعي على العدو لا يمنع من أنه يشمل كل شيء، وغلبة استعمال الجائز على المباح لا يمنع شموله الواجب والمستحب وشواهد ذلك من الكتاب والسنة والكلام الفصيح كثيرة.

الثالث: قوله: ولأن حزمة الخمر قطيعة وهي في غيرها ظنية.

ص: 826

وجوابه: أن ذلك لو سلم لا يمنع من الاستدلال على تحريم قليل ما أسكر كثيرة إذ لو منع لانسد باب الاستدلال بالكتاب والسنة في مسائل النزاع، وقد قال تعالى:{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} على أن القطع والظن أمر نسبي فقد يكون الحكم ظنيًا عند شخص وهو قطعي عند غيره، وإن كان لا يكفر جاحده لتأويله، بل يكون مأجورًا على اجتهاده مغفورًا له خطؤه، وهكذا الحكم في كل مسائل الخلاف.

الرابع: قوله: وإنما سمي خمرًا لتخمره لا لمخامرته العقل.

وجوابه: أن عبارات أهل اللغة في اشتقاق اسم الخمر اختلفت على ثلاثة معان متقاربة كلها موجودة لا يلزم من إثبات أحدها نفي ما عداه كما ادعاه المصنف:

أحدها: أنه من التخمر أي تركت حتى أدركت كما يقال: قد اختمر العجين أي بلغ إدراكه، واختمر الرأي أي ترك حتى يتبين فيه الوجه، والمعنى في ذلك كله: أنه قد غطى حتى أدرك غايته.

ثانيها: أنه من المخامرة وهي المخالطة لأنها تخالط العقل، مأخوذ من قولهم: دخلت في خمار الناس أي اختلطت بهم.

ثالثها: أنها سميت بذلك لأنها تخمر العقل أي تغطيه وتستره وكل شيء غطيته فقد خمرته.

ص: 827

الخامس: قوله: على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصًا به، فإن النجم مشتق من الظهور ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر وهذا كثير النظير./

وجوابه: أن النجم وإن لم يسم به كل ما ظهر لا يختص به ما غلب عليه وهو الثريا، بل يسمى به سائر النجوم وكذلك الخمر وإن لم يسم بها كل ما غطى العقل من غير إسكار كالبنج والنوم ونحوهما لا يختص به ما غلب عليه وهو المسكر من عصير العنب بل يسمى به كل ما غطى العقل مسكرًا.

السادس: قوله: والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين. يشير بذلك إلى ما رواه أبو بكر الرازي عن أبي الحسن الكرخي عن أبي عون الفرائضي، قال: سمعت عباس الدوري قال: سمعت يحيى بن معين يقول: ثلاثة أحاديث لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام"، "ولا نكاح إلا

ص: 828

بولي"، و "من مس ذكره فليتوضأ"، وقد قال ابن الجوزي: لا يثبت عن يحيى، وقد كان مذهبه انتقاض الوضوء بمس الذكر، وكان يحتج بحديث بسرة كذلك رواه الدارقطني عنه. انتهى.

مع أن الطعن المبهم لا يصح، وقوله صلى الله عليه وسلم:"كل مسكر خمر" رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وقد خرجه أبو عمر بن عبد العزيز من طرق في التمهيد، وحكى تصحيح أحمد له، وكفى بتصحيح أحمد ومسلم له، مع أن الأحاديث في ذلك كثيرة صحيحة غير هذا الحديث منها: الحديث الثاني الذي ذكره المصنف وهو

ص: 829

قوله صلى الله عليه وسلم: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" رواه الجماعة إلا البخاري، ولم يرده المصنف إلا بأنه أريد به بيان الحكم إذ هو اللائق بمنصب الرسالة، ويجب مقابلته بالسمع والطاعة ومقابلة بقية الأحاديث منها [بـ] ما تقدم ذكره ومنها عائشة رضي الله عنها، قالت:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه فقال: كل شراب أسكر فهو حرام".

وعن أبي موسى قال: "قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتيمه- فقال: كل مسكر حرام" متفق عليهما.

ويضيق هذا المختصر عن بسط ما في ذلك من الأحاديث، وقد ذكر في معارضتها أحاديث لم يثبت منها شيء بل كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة، ولا تصلح لمعارضة ما ذكر.

قوله: (وهو غير معلول عندنا حتى لا يتعدى حكمه إلى سائر

ص: 830

المسكرات، والشافعي رحمه الله يعديه إليها، وهذا بعيد لأنه خلاف السنة المشهورة، وتعليل لتعدية الاسم، والتعليل في الأحكام لا في الأسماء).

الذي ادعى بعده هو القريب الذي تشهد له السنة بالصحة كما تقدم في الأحاديث المذكورة، وقد جاء في السنن عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وأخرجه أحمد وابن ماجه من حديث ابن عمر وصححه الدارقطني.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل ما أسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام" رواه أحمد

ص: 831

وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وعن سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره" رواه النسائي والدارقطني، وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في سقاء، فانتبذوا فيكل وعاء، ولا تشربوا مسكرًا" رواه مسلم.

وقوله: وهذا بعيد لأنه خلاف السنة المشهورة، يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم "حرمت الخمر لعينها، والسكر من كل شراب" وسيأتي التنبيه على ضعف هذا الحديث عن قريب إن شاء الله تعالى، وقال ابن المنذر: جاء أهل الكوفة بأحاديث معلولة ذكرناها مع عللها في كتاب الأوسط. انتهى.

ص: 832

ولم يعدل محمد بن الحسن عن قول شيخه في هذا إلا لما تبين له من الحق.

وقوله: وتعليل لتعدية الاسم، والتعليل في الأحكام لا في الأسماء.

جوابه: أن هذا ليس من باب تعدية الاسم بل من باب شمول الاسم المشتق له كما في خبز الشعير وخبز الرز وخبز الذرة ونحو ذلك، فإن اسم الخبز يشمل الكل لمعنى الخبز وإن كان الاسم يغلب في كل بلد على ما يتعارفونه وليس ذلك من باب تعدية الاسم ولو لم يكن الاسم شاملاً لغير المسكر من عصير العنب، فعلة الإسكار شامل للكل، والقليل/ من الكل داع إلى الكثير للذة النشوة في كل مسكر، ولا تصح دعوى الاختصاص.

قوله: (واختلفوا في سقوط ماليتها، والأصح أنه مال لأن الطباع تميل إليها وتضن بها).

فيه نظر، فإن المسلم مأمور باجتنابها بنص القرآن، والقول بماليتها مضاد لذلك ولا يميل إليها ويضن بها إلا كافر أو فاسق، وإن مال الطبع إليها لما يسمع عنها من اللذة فالضنة بها لا تقع من مؤمن إلا أن يكون فاسقًا، بل يجتنبها ويتلفها امتثالاً لأمر ربه، بل صاحب الطبع السليم يبعد عنها لما فيه من المفاسد كما ورد عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لم أشربها في الجاهلية ولا

ص: 833

في الإسلام" وكذلك نقل عن غيره أيضًا، فلا يصح التعليل بميل الطبع إليها ولا الضنة بها.

قوله: (إلا أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر إلى آخره).

فيه نظر، وقول محمد بن الحسن لمن تقدم ذكره، هو الحق يجب اعتقاده لما تقدم ذكره من السنة، وأيضًا فعن أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" رواه أحمد وأبو داود وأخرج أحمد وابن ماجه معناه عن عبادة بن الصامت مرفوعًا، وأخرج ابن ماجه أيضًا معناه من حديث أبي أمامة، وأخرج النسائي عن ابن محيريز عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 834

قوله: (ولا بأس بالخليطين لما روي عن ابن زياد رضي الله عنه أنه قال: "سقاني ابن عمر شربة ما كدت أهتدي إلى أهلي فغدوت إليه من الغد، فأخبرته بذلك، فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب").

هذا الأثر لم يثبت عن ابن عمر رضي الله عنه كيف وهو راوي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر" كما تقدم، وعلى تقدير صحته يمكن أن يكون ابن عمر لم يعلم أنه قد اشتد بعد فسقاه، ولو علم أنه قد بلغ حد الإسكار لأراقه، كما قال أبو داود: سألت أحمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فقال: لا بأس به، قلت: إنهم يقولون: يسكر فقال: لا يسكر لو كان يسكر ما أحله عمر رضي الله عنه وهكذا يقال عن بن عمر رضي الله عنهما: لو كان قد علم أنه يسكر ما أحله، يؤيده ما ذكر ابن عبد البر في التمهيد بسنده أن ابن عمر رضي الله عنه "نهى أن ينبذ الزهور والرطب جميعًا والبسر والتمر جميعًا".

ص: 835

قوله: (وما روي أنه عليه الصلاة والسلام: "نهى عن الجمع بين التمر والزبيب وبين الرطب والبسر" محمول على حالة الشدة وكان ذلك في الابتداء).

يعني بالشدة الجذب والغلاء، وفيه نظر، بل لأنه تسرع إليه قوة الإسكار لأن أحدهما يقوي الآخر فيسرع تخمره كما في النهي عن الانتباذ في النقير والمزفت والحنتم والدباء لأن هذه الأوعية تقوي إسراع التخمر إليه فيدب فيه الإسكار وهم لا يعلمون فيشرب الرجل مسكرًا وهو لا يدري فحماهم عن ذلك ثم إنه صلى الله عليه وسلم بين أن المعنى الذي نهاهم عنه لأجله عن الانتباذ في هذه الأوعية ما يأتي عن قريب إن شاء الله تعالى، ولا يقوي ما ذكره

ص: 836

المصنف من المعنى وهو أنه نهى عن الخليطين لأجل ما أصاب أهل المدينة من الجدب والقحط لأنه صلى الله عليه وسلم قال بعد نهيه عن الخلط: "انتبذوا كل واحد على حدته" متفق عليه، وقال في لفظ:"من شربه منكم فليشربه زبيبًا فردًا أو تمرًا أو بسرًا فردًا" رواه مسلم والنسائي.

وانتباذ كل واحد على حدته بمفرده لا يكون فيه توفير شيء فلو انتبذ صاعًا من تمر مرة وصاعًا من زبيب مرة كان كما لو انتبذ نصف صاع تمر ونصف صاع زبيب مرة ثم انتبذ مثل ذلك مرة أخرى سواء بسواء، ويدل على أن هذا المعنى هو المراد وهو الخوف من أن يقوي أحدهما الآخر ما رواه المختار بن فلفل عن أنس رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين شيئين مما ينتبذان مما يبغي أحدهما على صاحبه" الحديث رواه النسائي، وقد كان ينتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخليطان ويشربه بسرعة كما في حديث عائشة رضي الله عنها/ قالت: "كنا ننبذ لرسول الله في سقاء فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنظرحهما فيه ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربة عشية، وننبذه عشية

ص: 837

فيشربه غدوة" رواه ابن ماجه.

قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "الخمر من هاتين الشجرتين وأشار إلى الكرمة والنخلة" خص التحريم بهما، والمراد بيان الحكم).

فيه رد على من يخص الخمر بالكرمة وحدها، قد ورد في السنة الصحيحة الزيادة على ما في هذا الحديث وهو موافق للقياس الصحيح على ما تقدم، ومعنى الحديث المذكور والله أعلم: أن الأعم الأغلب أن تكون الخمر من هاتين الشجرتين، وقد ورد مثل هذا المعنى في صيغ الحصر كما في قوله تعالى:{إنما أنت نذير} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة" متفق عليه والمراد حصر الكمال.

قوله: (لأن قليله لا يدعو إلى كثيره كيفما كان).

ص: 838

يعني نبيذ العسل والتين والحنطة والشعير، وفيه نظر بل كل ما يسكر كثيره فقليله يدعو إلى كثيره، ودعوى الاختصاص إنما نشأت والله أعلم من اعتقاد الفرق بين المسكر من عصير العنب وبين غيره من المسكرات، وقد تقدم التنبيه على ضعف الفرق.

قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها" ويروى "بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شرب").

أخرجه النسائي والبيهقي والطحاوي من كلام ابن عباس نفسه ولم يثبت مرفوعًا، وفي لفظ للنسائي "والمسكر من كل شراب" بالميم، وهذه الرواية موافقة، لما دلت عليه الأحاديث الصحيحة فيجب رد الرواية الأخرى إليها، وأن راويها بغير ميم واهم في روايته.

ص: 839

قوله: (ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا).

فيه نظر، فإن القدح الأخير إنما يصير مسكرًا بما تقدمه لا بانفراده بنفسه، وقد أجاب السغناقي رحمه الله عن هذا الإشكال: بأنه لما وجد السكر بشرب القدح الأخير أضيف الحكم إليه لكونه علة معنى وحكمًا، وهذا لأن المسكر ما يتصل به السكر بمنزلة المتخم من الطعام فإن تناول الطعام بقدر ما يغذيه ويقوي بدنه حلال، وما يتخمه وهو الأكل فوق الشبع حرام، ثم المحرم منه هو المتخم وهو ما زاد على الشبع، وإن كان هذا لا يكون متخمًا إلا باعتبار ما تقدمه فكذلك في الشراب، إلى هذا أشار في المبسوط. انتها.

وهذا لا يصح لوجهين:

أحدهما: أنه تعليل مقابلة النص فقد ثبت -بما تقدم ذكره من السنة الصحيحة المشهورة الموضحة لما دل عليه الكتاب- التسوية بين المسكر من عصير العنب وبين المسكر من غيره فلا يقبل.

والثاني: أن الفرق بين المسكر والمتخم أن للمتخم حدً يمكن ضبطه به وهو الزيادة على الشبع، ولا حد للمسكر، ولا يدعو قليل الأكل النافع إلى الكثير المتخم بخلاف المسكر، ولما لم يكن ضبط القدر المسكر بضابط- وكان القليل

ص: 840