المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الشفعة قوله: (ولقوله عليه السلام: «الجار أحق بسبقه، قيل: يا - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ٥

[ابن أبي العز]

الفصل: ‌ ‌كتاب الشفعة قوله: (ولقوله عليه السلام: «الجار أحق بسبقه، قيل: يا

‌كتاب الشفعة

قوله: (ولقوله عليه السلام: «الجار أحق بسبقه، قيل: يا رسول الله ما سقبه؟ قال: شفعته»).

هذا اللفظ غير معروف، وإنما المروي «الجار أحق بصقبه» أخرجه البخاري والنسائي، وفي حديث جابر رضي الله عنه:«الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها إن كان غائبًا، إذا كان طريقهما واحدًا» أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال: حديث حسن غريب.

ص: 689

قوله: (وأما الترتيب فلقوله عليه السلام: «الشريك أحق من الخليط، والخليط أحق من الشفيع» فالشريك في نفس المبيع، / والخليط في حقوق المبيع والشفيع هو الجار).

هذا الحديث منكر بهذا اللفظ، وقد روي بلفظ آخر، ولم يثبت فذكر ابن الجوزي عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشفيع أولى من الجار، والجار أولى من الجنب» .

وذكر ابن عبد البر في الاستذكار عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «الخليط أولى من الشفيع، والشفيع أحق من الجار، والجار أحق ممن سواه» وروى أيوب عن محمد قال: «كان يقال: الخليط أحق من الشفيع، والشفيع أحق ممن سواه» ذكره ابن التركماني في كلامه على أحاديث الهداية.

قوله: (والشفعة تجب بعقد البيع ومعناه بعده لا أنه هو السبب لأن

ص: 690

سببها الاتصال على ما بيناه.

قد أخذ على المصنف في هذا التأويل الذي ذكره والتعليل الذي علل به، وقالوا: إنه مخالف لعامة روايات الكتب، وقالوا: لو كان سببها الاتصال لا غير، لبطلت شفعته بالتسليم قبل البيع، وهذه مؤاخذة ولكن لا يلزم من كون السبب هو عقد البيع أن لا تبطل الشفعة بالتسليم قبله، وليس ذلك من باب تقديم الحكم على السبب، بل هو إسقاط بحق كان بعرضية البيوت فصاحب الشفعة رضي أن لا يكون البيع سببًا لأخذه الشفعة، والحق له في ذلك، وقد أسقطه وله ذلك؛ لقوله عليه السلام:"ولا يحل أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به" أخرجه مسلم، والنسائي وأبو داود فمقتضى هذا الحديث أن الشفعة لا تجب للشفيع إلا إذا باع الشريك، ولم يؤذنه.

أما إذا أعلمه بأنه يريد بيعها فلم يأخذها فلا تشرع له الشفعة لأنه رضي أن لا يأخذها بالشفعة إذا بيعت وهذا مذهب الحكم والثوري وأبي عبيد وأبي

ص: 691

خيثمة، وطائفة من أهل الحديث وإحدى الروايتين عن أحمد وحقه أن يقول: البيع الصحيح وما في معناه إذا خلا عن الخيار للبائع وبسقوط الفسخ في البيع الفاسد؛ لأن الشفعة تجب بالصلح على مال وبالهبة بشرط العوض كما تجب بعقد البيع؛ ولأن البيع إذا كان فيه خيار البائع لا تجب الشفعة إلا بعد سقوطه ولأن الشفعة لا تجب في البيع الفاسد إلا بعد سقوط الفسخ.

قوله: (ولقوله عليه السلام: "الشفعة لمن واثبها").

هذا الحديث قد روي معناه من حديث ابن عمر يرفعه "الشفعة كحل العقال" أخرجه البزار والبيهقي وابن ماجه ولم يثبت، ولفظه:

ص: 692

"الشفعة كحل العقال، ولا شفعة لصغير ولا لغائب، ومن مثل به هو حر".

ولا يجوز الأخذ ببعض الحديث دون بعض، وفي تقسيم الطلب إلى ثلاثة أوجه كما قال المصنف: طلب المواثبة وطلب التقرير والإشهاد وطلب الخصومة والتملك- نظر، وإنما يدل هذا الحديث بعد ثبوته على أن من أخر الطلب بعد علمه من غير عذر فلا شفعة له.

قوله: (والمراد بقوله في الكتاب: أشهد في مجلسه ذلك على المطالبة طلب المواثبة، والإشهاد فيه ليس بلازم إنما هي لنفي التجاحد-

ص: 693

ثم قال بعد ذلك في باب ما تبطل به الشفعة- وإذا ترك الشفيع الإشهاد حين علم بالبيع وهو يقدر على ذلك بطلت شفعته لإعراضه عن الطلب).

هذا تناقض ظاهر، فإنه جعل الإشهاد أولًا غير لازم ثم جعل تركه مبطلًا للشفعة وإذا لم يكن لازمًا كيف يكون تركه مبطلًا وقد أجاب السغناقي عن هذا الإشكال فقال: يحتمل أن يريد بهذا الإشهاد نفس الطلب ولكن لما كان طلب المواثبة لا ينفك عن الإشهاد في حق علم القاضي سمى هذا الطلب إشهادًا، والدليل على هذا ما ذكره من التعليل في حق ترك طلب المواثبة مثل ما ذكره من التعليل هاهنا انتهى.

وفي هذا الجواب نظر، فإن كون طلب المواثبة لا ينفك عن الإشهاد في حق علم القاضي/ مشكل لأن الشاهد لا يمكنه أن يطلع على باطن الأمر، وأن هذا الشفيع حين علم بالبيع طلب الشفعة لأنه يحتمل أن يكون الشفيع قد علم بالبيع قبل مجلس الإشهاد فكيف يشهد أن الشفيع حين علم أشهد على نفسه بالطلب، وإن كان قد يتصور في بعض الصور فلا يتأتى في كل الأحوال فكان في اشتراط الإشهاد من الحرج ما لا يخفى، وينبغي أن يكون القول قول

ص: 694

الشفيع في أنه طلب حين علم مع يمينه لأن مثل هذا لا يعلم إلا من جهته فيكون القول قوله مع يمينه.

قوله: (لقوله عليه السلام: "لا شفعة إلا في ربع أو حائط").

لا يعرف هذا اللفظ في كتب الحديث، وأخرج أبو حنيفة عن عطاء ابن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شفعة إلا في دار أو عقار" وأخرجه البيهقي من جهته.

قوله: (وإن ابتاع منها سهمًا بثمن ثم ابتاع بقيتها فالشفعة للجار في السهم الأول دون الثاني؛ لأن الشفيع جار فيهما إلا أن المشتري في الثاني شريك فيقدم عليه).

قال الشيخ حافظ الدين النسفي- في المنافع شرح النافع-: وتأويل المسألة

ص: 695

إذا بلغه بيع سهم منها فرده، أما إذا بلغه البيعان فله الشفعة فيهما. انتهى.

وينبغي أن يكون الحكم كما ذكره الشيخ حافظ الدين من هذا التأويل، وإن كان عامة الأصحاب أطلقوا أن للجار الشفعة في السهم الأول دون الثاني، ولم يقيدوه بما إذا بلغه البيع الأول فرده، كما ذكره الشيخ حافظ الدين ولا شك أن حق الشفيع مقدم على حق المشتري، فإذا أخذ الجار السهم الأول بالشفعة خرج المشتري ولم يبق شريكًا، فلا يستحق شفعة في السهم الثاني فيأخذ الجار السهمين، إما بالجوار في السهمين باعتبار علمه بهما وأخذهما جملة، أو بالجوار في الأول وبالشركة في الثاني لأن البيع الأول تتحول فيه الصفقة من البائع ويخرج المشتري كأن لم يكن فيصير الشفيع في حق السهم الثاني شريكًا.

قوله: (ولا تكره الحيلة في إسقاط الشفعة عند أبي يوسف، وتكره عند محمد لأن الشفعة إنما وجبت لدفع الضرر، ولو أبحنا الحيلة ما دفعناه ولأبي يوسف أنه منع من إثبات الحق فلا يعد ضررًا، وعلى هذا الخلاف الحيلة في إسقاط الزكاة).

ص: 696

قول محمد أقوى من قول أبي يوسف، والمكروه عنده حرام، فلا يجوز فعل مثل هذه الحيلة عنده، وهو الحق، ولا ينبغي للحاكم أن يعين على فعل هذا المحرم لأن قصد هذا المتحيل منع حق الشفيع، وحق الشفيع ثابت شرعًا، ومن الممتنع أن يشرع الله حق الشفعة ويشرع الحيلة على إسقاطه، ويجب صيانة الشريعة عن مثل هذا؛ لأنه يبقى من باب العبث، وذلك محال في الشريعة وقد قص الله تعالى علينا قصة أصحاب السبت، وما فعلوا وما فعل بهم لنعتبر وننزجر عن مثل ذلك الفعل.

وكذلك قص الله علينا قصة أصحاب الجنة: {إذ أقسموا ليصر منها مصبحين {17} ولا يستثنون {18} فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون}، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا تفعلوا كما فعلت اليهود، تستحلوا محارم الله بأدنى الحيل"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها

ص: 697

فباعوها وأكلوا ثمنها"، وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" الحديث.

فمن تحيل على إبطال شفعة الشفيع فقد نوى إبطال حق شرع الله، وقد ورد عن السلف في ذم الحيل/ وأهلها ما يضيق عنه هذا المختصر، فمنه: قول أيوب السختياني في أهل الحيل: يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة" وهذا نص في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق، فإذا فرق بين المجتمع تحيلًا على إسقاط الزكاة لا تسقط عنه بالفرار منها كما في طلاق الفار، وحرمان القاتل عن الميراث.

وكذلك إذا تحيل على إسقاط الشفعة يجب أن يعامل بضد قصده، وهذا

ص: 698

مذهب مالك وأحمد وغيرهما في كل متحيل قصد إبطال حق أو تحقيق باطل، أو تحليل حرام، أو تحريم حلال.

وفي رسالة أبي يوسف إلى هارون الرشيد: ولا يحتال في إبطال الصدقة بوجه، ولا سبب، بلغنا عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ما مانع الزكاة بمسلم ومن لم يؤدها فلا صلاة له.

هذا كلام أبي يوسف رحمه الله فالظاهر أنه رجع إلى هذا في آخر أمره والله أعلم، وأقوى ما استدل به من قال بالحيل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وأبي سعيد:"بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا".

وليس فيه دليل على جواز الحيل الباطلة، فإنه إنما أمره بالبيع الصحيح،

ص: 699

فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأذن في العقد الباطل فالعقد المتنازع فيه إن كان باطلًا لم يدخل تحت الإذن، وإن كان صحيحًا فلا حاجة إلى الاستدلال بهذا الحديث على صحته، فلا يصح الاستدلال بهذا الحديث على جواز البيع من ذلك الرجل الذي يقصد أخذ الصاع منه بالصاعين بما يظهره من العقد الذي ليس بمراد.

ونكتة الجواب أن يقال: إن الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ومن سلم لكم أن هذه الصورة التي تواطأ فيها البائع والمشتري على الربا وجعل السلعة الدخيلة محللًا له غير مقصودة بالبيع بيع صحيح.

وإذا كان لفظ الحديث ليس فيه عموم، وإنما هو مطلق فلا يتناول كل بيع فلا يصح الاستدلال به على بيع متنازع فيه، والكلام على الحيل مبسوط في موضعه فلا ينبغي لمن نصح نفسه أن ينظر في كلام أحد الفريقين دون الآخر، وإذا نظر في كلاميهما ينجلي قلبه من الهوى وبالله التوفيق.

ص: 700