المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل فيما يتغير بعمل الغاصب: - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ٥

[ابن أبي العز]

الفصل: ‌فصل فيما يتغير بعمل الغاصب:

‌فصل فيما يتغير بعمل الغاصب:

قوله: (و [و] جه آخر لنا فيه أن فيما ذهب إليه ضررًا بالغاصب بنقص بنائه الحاصل من غير خلف، وضرر المالك فيما ذهبنا إليه مجبور بالقيمة فصار كما إذا خاط بخيط مغصوب بطن جاريته أو عبده أو أدخل اللوح المغصوب في السفينة).

للمخالف أن يجيب عن هذا بأن الضرر الذي يحصل للغاصب هو الذي جناه/ على نفسه وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ليس لعرق ظالم حق» ولا يصار إلى جبر ضرر المالك بالقيمة مع قيام عين ماله واعتباره بما إذا خاط بخيط بطن أمته أو عبده لا يقوى فإن في هذا إتلاف النفس ولا يمكن تدارك النفس بعد إتلافها بخلاف البناء خصوصًا نفس الآدمي حتى لو كان خاط بالخيط بطن شاة أو نحوها، فهو نظير البناء فيؤخذ الخيط وإن خيف تلف الشاة تذبح.

ص: 673

وكذلك اعتباره بإدخال اللوح المغصوب في السفينة لا يقوى فإن فيه تفصيلًا عند المخالفين فإن كان اللوح في أسفل السفينة وهم في لجة البحر يأخذ القيمة وله أن يعيد القيمة إذا وصلوا إلى الساحل ويأخذ لوحه.

وإن كانت السفينة بالشط فله قلع اللوح من السفينة، وكذلك إن كان في أعلى السفينة بحيث لا يخشى من قلعة الغرق فله قلعه، وإن كانوا في لجة البحر، فبطل الإلزام بالخيط واللوح فإن المخالفة لم يعتبر مطلق الضرر، وإنما اعتبر الضرر الكامل الذي يلزم منه إتلاف الأنفس، فلا يقاس عليه ما هو دونه.

وتفصيل الكرخي والفقيه أبي جعفر بين ما إذا بنى على الساحة أو

ص: 674

بنى حولها لا يقوى؛ لأنه في كلا الموضعين متعد على مال الغير ظالم مستول عليه بغير حق، فدخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم:«ليس لعرق ظالم حق» فليس لما بناه الغاصب وأعلاه حرمة، ولصاحب الحق اليد واللسان ويستحق الإعانة على ظالمه من كل قادر على إعانته.

قوله: (فإن كانت الأرض تنقص بقلع ذلك فللمالك أن يضمن له قيمة البناء والغرس مقلوعًا ويكون له؛ لأن فيه نظرًا لهما ودفع الضرر عنهما).

وقوله: (قيمته مقلوعًا، معناه: قيمة بناء أو شجر يؤمر بقلعه لأنه حقه فيه إذ لا قرار له [فيه]، فتقوم الأرض بدون الشجر والبناء، وتقوم وبها شجر أو بناء لصاحب الأرض أن يأمر بقلعه فيضمن فضل ما بينهما).

فيه نظر من وجهين:

أحدهما: أنه ينبغي أن لا يحتاج إلى ما ذكره أخيرًا من تقويم الأرض

ص: 675

بالبناء والغرس، وتقويمها بدونها، بل يقوم البناء أو الغرس مقلوعًا ويضمن له قيمته كما قال أولًا، فإن قيل: إنما يفعل ذلك فرارًا من تملك مال الغير بغير رضاه، قيل: هكذا قد قلتم هنا، وإنما اختلفت العبارة وطالت فقط.

الثاني: أن قواعد المذهب تقتضي أن يكون الحكم الذي ذكره المؤلف فيما إذا كانت قيمة البناء أو الغرس أقل من قيمة الأرض، وأما إذا كانت أكثر فلا يقال للغاصب: اقلع، بل يضمن الغاصب قيمة الأرض.

وكذا حكى أبو علي النسفي عن الكرخي، وحكى مثله في الساجة، وحكى مثله عن محمد في الدجاجة إذا ابتعلت لؤلؤة لغير مالكها ونحو ذلك من المسائل وإن كانت القاعدة ضعيفة من أصلها.

ص: 676

قوله: (ولنا أنه ملك البدل بكماله، والمبدل قابل للنقل من ملك إلى ملك، فملكه دفعًا للضرر عنه).

للمخالف أن يقول: إنما أخذ البدل بناءً على تلف المغصوب، فإذا كان المغصوب قائمًا فوجوب رده باقٍ على الغاصب بمنزلة البيع الباطل وقبوله للناقل مشروط بالتراضي في الشرع، ولم يوجد من حيث الحقيقة وإن كان من حيث الصورة، والعبرة للحقائق.

وقوله: (دفعًا للضرر) يعني عن الغاصب - فيه نظر، فإنه في حقيقة الأمر ظالم بدفعه القيمة ليملك العين بذلك، يستحق أن يعامل بضد قصده كما في قتل المورث وطلاق الفارّ، ولا يعامل بما يختاره مع عدوانه وظلمه، ولا يصلح أن يكون العدوان المحض سببًا للملك الشرعي.

وقد قال بعض الأصحاب: إن الملك يثبت للغاصب شرطًا للقضاء بالقيمة

ص: 677

لا حكمًا ثابتًا للغصب مقصودًا، ولا يفيد هذا الكلام شيئًا أيضًا فإن القضاء لا يغير الوصف الشرعي عما هو عليه فلا يجعل الحرام حلالًا ولا الحلال حرامًا.

قوله: (ولنا أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في إمكانه إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك لأنها أعراض [لا تبقى] فيملكها دفعًا لحاجته، والإنسان لا يضمن ملكه، كيف وإنه لا يتحقق غصبها وإتلافها لأنه لا بقاء لها، ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان، وقد عرفت هذه المآخذ في المختلف، ولا نسلم أنها متقومة في

ص: 678

ذاتها بل تتقوم ضرورة عند ورود العقد، ولم يوجد العقد).

فيه نظر من وجوه: أحدها: قوله: أنها حصلت على ملك الغاصب لحدوثها في إمكانه، وهذا ممنوع، وإنما [حصلت على ملك المغصوب منه لحدوثها في ملكه إذ الأعراض قائمة بالأعيان لا قيام لها بأنفسها، والأعيان [حصلت] على ملك المغصوب منه فالأعراض كذلك، والغاصب ظالم معتد ليس له حق في الأعيان ولا في منافعها فكيف تكون حاصلة على ملكه.

والثاني: قوله: إذ هي لم تكن حادثة في يد المالك لأنها أعراض، فيملكها دفعًا لحاجته.

وجوابه: أن حدوثها في ملكه كاف في ثبوت الملك له فيها إذ قيامها بالأعيان التي هي ملك له، والغاصب أجنبي عنها، ظالم باستيلائه عليها خصوصًا على قول من يقول بغضب العقار فإنه عنده في يد مالكه المغصوب منه لم تزل يده عنه فتكون منافعه حادثة على ملكه وفي يده فكيف يقال: إن الغاصب يملكها والحالة هذه والحاجة لا توجب له ملك مال غيره بغير ضمان،

ص: 679

هذا على تقدير تسليم ثبوت الحاجة.

الثالث: قوله: كيف وإنه لا يتحقق غصبها وإتلافها لأنه لا بقاء لها.

وجوابه: أنه يتحقق غصبها وإتلافها كما يليق بها، ولهذا يقال: أتلف منافع الدار وعطل منافعها، غاية ما يقال: إنها ليست كالأعيان لقيامها بغيرها لا بأنفسها وهذا لا يخرجها عن كونها أموالًا عرفًا وشرعًا، ومالية الأعيان باعتبار منافعها لكن منها ما تنفع به مع بقاء عينه كالعقار ونحوه. ومنها ما ينتفع به مع اتلافه كالمأكول والمشروب والملبوس ونحوه.

فإذا غصب ثوبًا ثم أعاده بعد سنة مثلًا على حاله لم يلبسه لم يعدم شيئًا من منافعه، بل عاد إليه بمنافعه، وإذا أعاد العقار بعد سنة مثلًا فقد فوت عليه من منافعه ما خلق له في تلك المدة التي استولى عليه فيها، فإن الثوب إذا لم ينتفع به في تلك السنة توفر إلى الأخرى، والعقار ما يفوت من منافعه يعدم، فظهر الفرق باعتبار توفر هذا وعدم هذا.

الرابع: قوله: ولأنها لا تماثل الأعيان لسرعة فنائها وبقاء الأعيان، وقد عرف ما فيها من الأشكال مما تقدم وأن هذا فرق صوري غير مؤثر في كونها أموالًا متقومة مخلوقة لأجلنا لإقامة مصالحنا وحاجتنا إليها سواء، فلا يقوى الفرق بسرعة فنائها في مقابة الجامع بحاجتنا.

ص: 680

الخامس: قوله: ولا نسلم أنها متقومة في ذاتها بل تتقوم ضرورة عند ورود العقد، ولم يوجد العقد.

وجوابه: أن هذا مجرد دعوى لم يُقم عليها دليلًا بل تقومها بالعقد دليل على تقومها في أنفسها فإنه لا يُقوم بالعقد إلا ما هو متقوم في نفسه ولا يقوم بالعقد ما لا قيمة له، ولهذا تجب أجرة المثل إذا انقضت مدة الإجارة، والأرض مشغولة بزرع المستأجر لمدة الشغل من غير عقد.

وقد ذكر السغناقي دليلًا على عدم تقومها بغير العقد فقال: وحجتنا في ذلك حديث علي وعمر رضي الله عنهما فإنهما حكما في ولد المغرور،

ص: 681

أنه حر بالقيمة وأوجبا على المغرور رد الجارية/ ولم يوجبا قيمة الخدمة، مع علمهما أن المغرور كان يستخدمها ومع طلب المدعي لجميع حقه، فلو كان ذلك واجبًا لما حل لهما السكوت عن بيانه.

ثم قال بعد ذلك: كذا في المبسوط، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الزوج كان مغرورًا لم يكن غاصبًا فلا يلزم من وجوب بدل الخدمة عليه عدم وجوب على الغاصب الظالم فاكتفى بإنفاق المغرور عليها في مقابلة خدمتها كسائر الزوجات بخلاف الغاصب.

ثم قال: ولأنا نقول: إن إتلاف المنفعة لا يتصور فلا يجب الضمان وذلك لأنه لو تصور، إما أن يصور قبل وجود المنفعة أو مقارنًا للوجود أو بعد الوجود، لا وجه للأول لأنها معدومة، والمعدوم غير قابل للإتلاف، ولا وجه للثاني لأن الإتلاف إذا طرأ على الموجود يبطل الوجود وإذا قارن الوجود يمنع من الوجود، والإتلاف إنما يرد على الموجود، ولا وجه للثالث؛ لأنها إذا وجدت فنيت فكان بعد الوجود زمان الفناء، وزمان الفناء زمان العدم، وإتلاف الشيء في زمان عدمه لا يتصور لما قلنا: إن الإتلاف على المعدوم لا يرد. انتهى.

ص: 682

وهذا يشبه أن يكون من باب الجدل المذموم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل» ، ثم تلا:{ما ضربوه لك إلا جدلًا بل هم قوم خصمون} رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

وإنما قلت: إن هذا يشبه الجدل المنهي عنه؛ لأنه إذا كان إتلاف المنافع لا يتصور، فلا يتصور الانتفاع بالأشياء المنتفع بها، والانتفاع بها معلوم تصوره بالضرورة، والضرورة لا يقدح فيها بالنظر، فإن الضرورة إذا خالفت النظر دل على أن ذلك النظر مغلطة ليس بنظر صحيح، ولا شك أن من سكن دارًا سنةً مثلًا فقد استوفى منفعتها في تلك المدة واستهلكها.

وكذلك من ركب دابة يومًا فقد استوفى منفعتها، وكذلك من استخدم عبدًا أو استغل مرنة، ونحو ذلك، ولا يصح أن يقال: متى استوفى منفعة ركوب الدابة لا جائز أن يكون قبل الركوب ولا معه ولا بعده، وكذلك منفعة السكنى لا جاًئز أن يقال إنه لم يستوف منفعة سكنى الدار؛ لأنه لا يجوز أن يكون مستوفيًا لها قبل السكنى أو معها أو بعدها، فإذا

ص: 683

صح أن يقال: إن المالك بالسكنى في داره قد استوفى منفعتها، فإذا أخرجه الغاصب منها وسكنها فقد استوفى منفعة الدار واستهلكها وأتلفها على مالكها، وإن لم يسكنها فقد فوتها على مالكها حتى تلفت وهلكت فصار بمنزلة من غصب عينًا فتلفت في يده، ولو تلفت العين في يد الغاصب لضمنها فكذلك المنفعة.

وجواب ما ذكره من نفي الإتلاف قبل وجود المنفعة ومع وجودها وبعده أن قول من قال من أهل الكلام المذموم أن العرض لا يبقى زمانين قد رده طائفة من العقلاء، وقالوا: إن العرض يقبل الامتداد والاقتصار وتظهر قوة هذا القول في الألوان ونحوها، فإن سواد الأسود وبياض الأبيض لا يتغير بتغير اللحظات، والناظر إليه يعلم أن سواده وبياضه باق عليه ما دام متصفًا بصفة السواد والبياض.

وكذلك من سكن دارًا سنة فما لم ينتقل عنها هو ساكن فيها، والقول بأنه يتجدد له الآنات التي لا تحصى- سكنى متغايرة يستحيل عليها الضبط، يأباه العقل السليم كما يأبى ما ادعوه من تركيب الأجسام/ من الجواهر المفردة وكل هذا من باب التدقيق الذي ليس معه تحقيق.

ص: 684