الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: (ولا قصاص في اللسان ولا في الذكر .. إلى آخره).
جريان
القصاص في اللسان والذكر
أقوى، وهو قول الأكثرين لدخوله في قوله تعالى:{والجروح قصاص} والتفاوت الذي يبقى بعد تحري العدل يسير لا يمكن الاحتراز عن مثله في الأذن والأنف وهو ساقط الاعتبار فيهما فكذلك هاهنا بل قد ورد القصاص في اللطمة والضربة والشجة.
قال ابن المنذر: فممن روينا عنه أنه قال: في اللطمة القصاص، أبو بكر، وعثمان، وعلي، وخالد بن الوليد، وابن الزبير
وشريح والمغيرة بن عبد الله، وبه قال الشعبي والحكم وابن شبرمة وحماد ما أصيب به من سوط أو عصا أو حجر فكان دون النفس فهو عمد، وفيه القود.
قال أبو بكر: وهذا قول جماعة من أهل الحديث. انتهى.
وقد ذكر أبو داود وأبو خيثمة ابن أبي شيبة عمن ذكر من الصحابة
ما نسب إليهم من القصاص بأسانيدهم، ولولا خوف التطويل لسقت ما ذكروه مفصلاً ولكن الإشارة كافية هنا.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسمًا أقبل رجل فأكب عليه فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه فجرح وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تعلى فاستقد؟ فقال: بل عفوت يا رسول الله" رواه أبو داود والنسائي.
وعن عائشة رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقًا فلاجه رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: القود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكم كذا وكذا، فلم يرضوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يزيدهم حتى رضوا".
وقال عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا محمد بن مسلم عن يزيد بن عبد الله بن أسامة عن سعيد بن إبراهيم عن سعيد بن السيب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاد
من نفسه وأن أبا بكر أقاد رجلاً من نفسه، وأن عمر أقاد سعدًا من نفسه. انتهى.
فظاهر الكتاب والسنة يدل على القصاص وقد فهم ذلك من ذكر من الصحابة، ولم يعرف لهم مخالف، ونظر الصحابة واجتهادهم أكمل من اجتهاد من بعدهم.
وروى عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج وعن عطاء قال: الجروح قصاص، وليس للإمام أن يضربه ولا يسجنه، إنما هو القصاص، وما كان الله نسيًا، لو شاء لأمر بالضرب والسجن. انتهى. ولا شك أن المماثلة من كل وجه متعذرة أو متعسرة فلم يبق إلا أحد أمرين:
قصاص قريب إلى المماثلة، أو تعزير بعيد عنها في اللطمة والضربة أو حكومة عدل في بعض الجراحات وإن كان قد ورد فيها آثار لم تثبت،
فالآثار -المؤيدة بظاهر الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح- أولى أن يؤخذ بها، ويحمل ما ورد في حكومة العدل على الخطأ لأن موجبه المال مع أن ظاهر الرواية القصاص فيما دون الموضحة، وسيأتي ذلك في فصل الشجاج، وهو الصحيح.
قوله: (لقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه} الآية على ما قيل نزلت في الصلح، وقوله عليه السلام: "من قتل له قتيل" الحديث، والمراد به والله أعلم الأخذ بالرضا على ما بيناه وهو الصحيح بعينه).
وقد تقدم التنبيه على ما قيل في معنى الآية والحديث، وأن ذلك المعنى أظهر من هذا، وكأن المصنف رحمه الله لمح هذا فتوقف في أن معنى الآية والحديث الصلح، فقال في الآية:(على ما قيل) وقال في الحديث (والمراد به والله أعلم) وما هذه عادته، بل يجزم في كثير من المعاني التي تستنبط من
الكتاب والسنة من غير تردد، وتردده هنا دليل على توقفه في ذلك.
قوله: (وأصل هذا أن القصاص حق جميبع الورثة، وكذا الدية، خلافًا لمالك والشافعي رحمهما الله في الزوجين).
أما الدية فلا خلاف بين الأئمة الأربعة رحمهم الله في أن كلاً من الزوجين يرث من دية الآخر وكذلك سائر العلماء، وإنما يروى عن علي رضي الله عنه "أنه لا يرث الدية إلا العصبات" وروي عنه الرجوع إلى قول الجماعة، "وكان عمر رضي الله عنه يذهب إلى أن الدية لا يرثها إلا العصبات ثم رجع عنه لما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم توريث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم". رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وإنما اختلفوا في أنه هل تقضي منها ديونه وتنفذ وصاياه أم لا؟
ومنشأ هذا الاختلاف من أن الدية هل يستحقها المقتول ثم يخلفه فيها الوارث أم يستحقها الوارث ابتداء، وهما روايتان عن أحمد، أصحهما كقول الأكثرين أنها تقضى منها ديونه، وتنفذ منها وصاياه كسائر أمواله.
وأما استحقاق الزوجين القصاص فمذهب الشافعي وأحمد كمذهب أبي حنيفة في أن كلاً منهما يستحقه كسائر الورثة، والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة كما في النكاح، وليس للنساء عفو في الدم وهو قول الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة الليث والأوزاعي، وهو وجه لأصحاب الشافعي.
ولهم وجه ثالث أنه لذوي الأنساب دون الزوجين وهو قول ابن أبي ليلى حكى ذلك صاحب المغني بمعناه وغيره، ولكن مذهب الشافعي المعروف عنه استحقاق الزوجين للقصاص وقول مالك رحمه الله أقوى لأن
الله تعالى قال في القتل: {فقد جعلنا لوليه سلطانا} ، والولي لا يتناول جميع الورثة كما في النكاح، فإن الولي في النكاح العصبة، وكذلك الولي على الصغير.
وكذلك في قوله تعالى: {فليملل وليه بالعدل} فإن قيل: إن النكاح يحتاج إلى الرأي قيل: وكذلك في أمر الدم والمرأة ضعيفة الرأي قد يدخل عليها فتسقط الدم مجانًا، ويكون ذلك ذريعة إلى تمكن الظلمة من القتل إذ قد يكون القاتل من شياطين الإنس، وقد يكون أخذ المال أنفع إذا كانوا محاويج، وقد يكون العفو أنفع إذا كان القتل زلة من القتل فإذا عفي عنه حصل الأجر العظيم وكل ذلك يحتاج إلى الرأي والرجال أثبت وأعرف بذلك.
والله تعالى قال في الدية: {ودية مسلمة إلى أهله} ولم يقل إلى وليه، وقال في القتل:{فقد جعلنا لوليه سلطانًا} ولم يقل لأهله، فيجب أن يعطي القرآن حقه من الدلالة والبيان، فإن الولي: الناصر، والرجل لا ينتصر بالنساء وإنما ينتصر بعصبته، وأما الأهل فيتناول المرأة والبنات ونحوهن، قال تعالى:{فأسر بأهلك} وقال: {وسار بأهله} وقال: {قلنا احمل فيها من كلٍ زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول} ولا يعرف أن الزوجة تدخل
في لفظ الولي، وقال تعالى في قصة صالح عليه السلام:{وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون * قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله} .
ففرق بين الولي الذي ينصره وكانوا يخافونه من انتصاره له إذا بيتوه، وبين الأهل الذي يبيتونهم معه، والقرآن قد جعل الدية للأهل، والقتل للولي، وليس بين إرث الدية وإثر القتل تلازم، والعصبة هم الذين ينصرونه والعقل مبناه على النصرة، وقتل قاتله من باب النصرة قال تعالى:{ومن قتل مظلومًا فقد جعلنا لوليه سلطانًا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورًا} .
والسلطان إنما يليق بالرجال دون النساء سواء كان سلطان القدرة أو سلطان الحجة، والنساء ضعيفات الحجة والقدرة، وأيضًا فإن الوارث بالفرض إنما جعل له ميراث فيما يقبل القسمة فيكون له ثلث وربع ونحوه، والدم لا يتبعض ولا ينقسم فلا يسوغ في مثله أن يقسم على فرائض المال ولكن يثبت للعاصي وحده إن كان واحدًا، وإن كانوا جماعة كانوا كرجل واحد ليس اشتراكهم بفرائض محدودة، بل كما يقتل الجماعة بالواحد لأنهم كقاتل
واحد فكذلك الولاية عليه، وأيضًا فحق العصبة ثابت في الدم بالكتاب والسنة والإجماع وحق النساء ليس كذلك فلا يجوز إثباته بغير دليل شرعي وإسقاط حق العصبة المعلوم بأمر غير معلوم، وما ذكره الأصحاب من قوله عليه السلام:"من ترك مالاً أو حقًا فلورثته" إنما ورد "من ترك مالاً فلورثته" الحديث وليس فيه "أو حقا" مع أن الأصحاب لم لعملوا به في خيار الشرط وخيار الرؤية والشفعة.
قوله: (ثم يجب ما يجب من المال في ثلاث سنين -إلى آخره).
يعني ما يجب من المال لمن لم يعف من الورثة على القاتل في ثلاث سنين وسيأتي في باب المعاقل ما فيه من الإشكال إن شاء الله تعالى.
قوله: (ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدًا قبل أن تبرأ يده، أو قطع يده عمدًا ثم قتله خطأ، أو قطع يده خطأ فبرأت يده ثم قتله خطأ، أو قطع يده عمدًا فبرأت ثم قتله عمدًا، فإنه يؤخذ بالأمرين جميعًا).
فيه إشكال، فإن قوله:(قبل أن تبرأ يده) يوهم أنه قيد وليس كذلك فإن قيل: قال ذلك ليفهم أنه بعد البرء بطريق الأولى.
فالجواب: أنه زيادة في اللفظ ونقص في المعنى، فكان تركه أولى، والمسألة على ثمانية أوجه في ستة منها يؤخذ بالأمرين جميعًا وهي التي أرادها المصنف بهذا الكلام قطع خطأ ثم قتل عمدًا أو عكس قبل البرء أو بعده أو كانا خطأين أو عمدين وتخلل البرء بينهما، وفهمها من كلام المصنف عسر، وفي وجه يجمع بالإجماع وهو إذا كان خطأين ليس بينهما برء، وفي وجه خلاف وهو إذا كانا عمدين ليس بينهما برء، فعند أبي حنيفة: إن شاء الإمام جمع بين القطع والقتل وإن شاء اكتفى بالقتل، وعند صاحبيه يقتل ولا يقطع، والله أعلم.
* * *