المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب الإجارة الفاسدة - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ٥

[ابن أبي العز]

الفصل: ‌باب الإجارة الفاسدة

‌باب الإجارة الفاسدة

قوله: (ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها، بل بالعقد لحاجة الناس إليها فيكتفي بالضرورة في الصحيح منها، إلا أن الفاسد له تبع).

هذا الكلام مرتب على ما تقدم من أن الإجارة على خلاف القياس وتقدم الكلام في ذلك وأنها على وفاق القياس الصحيح ولا فرق في التحقيق بين تقويم الأعيان بالنقدين وبين تقويم المنافع بها ومعرفة ثمن المثل بمنزلة معرفة أجرة المثل، وسواء قيل إن العوض لا يبقى زمانين أو يبقى فإن ذلك لا

ص: 606

يمنع من معرفة مقدارها وضبطه، وجمهور العلماء على أن تقوم المنافع لا يتوقف على العقد وسيأتي لذلك زيادة بيان في الغصب إن شاء الله تعالى.

وقد أفتى متأخرو المشايخ بأن منافع الوقف تضمن بالغصب من غير عد لما رأوا من ضعف هذا الأصل وفساد لازمه، وإذا قيل بتقويم منافع الوقف فما الفرق بينهما وبين منافع مال اليتيم إذ الولاية عليهما نظرية؟ بل أي فرق بينهما وبين مال المسلم؟ بل ومال المعاهد فإن ذلك كله معصوم يجب صيانته تغريم المعتدى عليه.

قوله: (وله أنه متى تم الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة وهكذا إلى آخر السنة ونظيره العدة، وقد مر في الطلاق).

فيه نظر من وجهين:

أحدهما: قوله: وقد مر في الطلاق. فإنه لم يمر في الطلاق ذكر هذا الاختلاف وهو أن الأشهر كلها عند أبي حنيفة تعتبر بالأيام، وعندهما الباقي بعد الأول والآخر بالأهلة.

ص: 607

والثاني: كون ابتداء الثاني بالأيام ضرورة بعد تكميل الأول بالأيام فإنه إنما يتيم الاستدلال به على أن الأشهر كلها بالأيام ثلاثين ثلاثين أن لو كان تكميل الأول من الثاني بالأيام ضروريًا، وهو إنما قال: متى تم الأول ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة وإذا لم يثبت أن تكميل الأول من الثاني بالأيام ضروري لم يثبت أن تكميل الثاني والثالث ضروري وهلم جرًا.

ولا حاجة أن يقول بالعدد، بل ينظر اليوم الذي هو المبدأ من الشهر الأول فتكون النهاية مثله من الشهر الآخر، فإن كان أول ليلة من الشهر الأول كانت النهاية في مثل تلك الساعة بعد كمال الشهور، وهو أول ليلة بعد انسلاخ الشهور وإن كان في اليوم العاشر من المحرم كانت النهاية في اليوم العاشر من الحرم أو غيره على قدر عدد الشهود المحسوبة وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه، وعليه عمل الناس إلا من غير عن فطرته بتقليد أو شبهة.

ويؤيده اتفاق أهل النقل على أن الأربعة الأشهر المذكورة في قوله تعالى: {فسيحوا في الأرض أربعة أشهرٍ} ، كانت عشرين من ذي الحجة والمحرم وصفرًا وربيع الأول وعشرًا من ربيع الآخر.

وهذا قول زفر حكاه عنه أبو بكر الرازي في أحكام القرآن ولا يلزم أن

ص: 608

تكون الشهور المحسوبة بالأيام ثلاثين ثلاثين وإن كنا قد أمرنا إذا غم علينا الهلال في شعبان أن نكمل العدة لأن الشهر كما يكون ثلاثين يومًا يكون تسعة وعشرين يومًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"الشهر هكذا وهكذا وهكذا. وخنس إبهامه في الثالثة" ليبين أن الشهر الشرعي يكون تسعة وعشرين، كما يكون ثلاثين.

فمن التزم كونه ثلاثين أو تسعة وعشرين فقد أخطأ، أو ليبين أن عدد الشهر اللازم الدائم تسعة وعشرون، فأما اليوم الزائد فأمر جائز يكون في بعض الشهور دون بعض، وهو صلى الله عليه وسلم "لما آلى من نسائه شهرًا دخل على عائشة في اليوم الثلاثين وأخبر أن الشهر تسعة وعشرون".

وفي رواية متفق عليها "أن الشهر يكون تسعًا وعشرين" فيحتمل أن

ص: 609

ذلك الشهر الذي آلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أنه أخذ بالرخصة فحسب الشهر تسعة وعشرين؛ لأنه يكون تسعة وعشرين و"ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا".

قوله: (وقد قال عليه الصلاة والسلام: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن").

إنما يعرف هذا من كلام عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخرجه أحمد وعثمان بن سعيد الدارمي وابن بطة.

ص: 610

قال ابن عبد الهادي في الكلام على أحاديث المختصر: وقد أخطأ بعضهم فرفعه ثم قال: وقد روي مرفوعًا من حديث أنس لكن إسناده ساقط.

قوله: (وفي آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي "وإن اتخذت مؤذنًا فلا يأخذ على الأذان أجرًا").

ليس لفظ الحديث هكذا، وإنما لفظه: عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه قال: "إن آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا". أخرجه/ أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والترمذي

ص: 611

وقال: حديث حسن.

قوله: (وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم لأنه ظهر التواني في الأمور الدينية، ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن، وعليه الفتوى).

في التعليل نظر فإن مقتضاه جواز دفع الأجرة لا جواز قبضها لأنه يكون بمنزلة الرشوة من صاحب الحق فإنه يجوز له الدفع إذا لم يمكنه الوصول إلى حقه إلا بذلك ويحرم على الآخذ ولا يصح أن يقال: إنه لما ظهر التواني في الأمور الدينية قلنا بجواز دفع الأجرة وجواز أخذها بعد أن لم يكن ذلك جائزًا فإن لازم هذا جواز تغيير المشروع لما يظن بالرأي أنه مصلحة وهذا فاسد ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ولكن قد اختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن:

قال ابن المنذر: ثبت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج رجلاً امرأة بما معه من القرآن"، واختلف أهل العلم في أجور المعلمين وكسبهم فرخص فيه قوم

ص: 612

وكرهه آخرون، فمن رخص فيه عطاء وأبو قلابة ومالك والشافعي وأبو ثور.

وقالت طائفة: لا بأس به ما لم يشترط، وكرهت الشرط، وممن كره الشرط الحسن وابن سيرين والشعبي، وكرهت طائفة تعليم القرآن بالأجرة؛ كره ذلك الزهري وإسحاق والنعمان، وقال النعمان: لا يحل ولا يصلح.

وقال عبد الله بن شقيق: هذه الرغف التي يأخذها المعلمون من السحت، قال أبو بكر: القول الأول أصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أجاز أن يأخذ الرجل على تعليم القرآن عوضًا في باب النكاح، ويقوم مقام المهر، جاز أن يأخذ المعلم على تعليم القرآن الأجر. انتهى.

وعن أحمد في المسألة روايتان، وقد تأولت كل من الطائفتين ما

ص: 613

استدلت به الطائفة الأخرى من السنة فيحصل من مجموع ذلك أن الأولى ترك الأجرة والتورع عنها توفيرًا للأجر الأخروي، وصونًا له عن النقص أو الإبطال والاكتساب بغير التعليم كالعامل في مال اليتيم، فإنه إذا لم يكن محتاجًا كان في تعففه -عن أخذ أجرة عمله من مال اليتيم- توفير أجره، وإذا كان محتاجًا كان أخذه للأجر أولى من أخذه من الصدقات ونحوها.

وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله تعالى: {ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} والخلاف في ذلك معروف، وكما في كسب الحجام فإنه وإن كان قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم خبيثًا، فقد احتجم وأعطى الحجام أجره.

قال ابن عباس: ولو كان سحتًا لم يعطه، فتبين أنه لم يرد بتسميته خبيثًا تحريمه كما لم يرد بتسمية الثوم والبصل الشجرتين الخبيثتين تحريمهما ولكن

ص: 614

خبثهما باعتبار رائحتهما.

وكذلك كسب الحجام لأنه عوض عن معالجة الدم ونحوه من النجاسات فكذلك كسب تعليم القرآن ردئ باعتبار كونه منع عن تحصيل أجر كثير بتعليم القرآن على جهة التبرع بمنزلة من اشتغل بالمباحات عن الطاعات ولو اشتغل العبد بالمفضول عن الفاضل لكان مضيعًا ناقصًا فكيف إذا اشتغل بالمباح عن الطاعة.

وهذا القول أعدل الأقوال الثلاثة في المسألة، قال أحمد: أجرة التعليم خير من جوائز السلطان، وجوائز السلطان خير من صلة الإخوان، وأصول الشريعة مبنية على هذا الأصل أنه يفرق في المنهيات بين المحتاج وغيره، وأصل ذلك في ولي اليتيم.

قال تعالى: {ومن كان غنيًا فليستعفف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف} ، وقد جعل الله تعالى للعاملين على الصدقات نصيبًا منها، وإن كان العمل على الصدقة عبادة، ولكن ينبغي لمن يعلم القرآن بالأجرة أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى، ويقصد بأخذ الأجرة التقوي على التعليم فيكون أخذ الأجرة وسيلة، والتعليم مقصودًا أصليًا، ولا يجعل التعليم وسيلة

ص: 615

إلى تحصيل الأجرة.

وكذلك الفقيه ينبغي له أن يأخذ المعلوم ليشتغل بالعلم، ولا يشتغل بالعلم لأجل المعلوم، وكذلك المدرس والإمام والمؤذن والقاضي والشاهد ونحوهم.

وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم: "مثل المجاهد في سبيل الله كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها" وهذا كما قال الأصحاب في الحاج عن الغير أنه يرد ما يفضل من النفقة بعد كلفة الحج إلى الآمر لا إلى ورثته؛ لأن المال المدفوع إليه وسيلة إلى تحصيل الحج الذي هو المقصود وقد حصل، وهو قول في غاية القوة لأن المراد من الجانبين بذل المال لتحصيل الحج، لا فعل الحج لتحصيل المال.

أما من جانب المحجوج عنه فظاهر، وكذلك يجب أن يكون من جانب الحاج إنفاق المال في تحصيل عبادة الحج كما لو حج عن نفسه، وإلا فإذا حج ليأخذ المال كان المال عوضًا عن عبادة الحج فخلا عن الثواب لأن الأعمال بالنيات فماذا يحصل من الثواب للآمر والمأمور، وكم قد ضعينا من عبادة الإشتغال والإشغال بالعلم لخلوها عن النية الصالحة وبالله التوفيق.

ص: 616

قوله: (ولا يجوز إجادة المشاع عند أبي حنيفة رحمه الله -إلى آخر المسألة-).

قولهما أظهر، ولا زال عمل الناس على ذلك وأكثر العلماء على جوازه وتسليم كل شيء بحسبه ولم يرد ما يرد جوازها من كتاب ولا سنة.

قوله: (ثم قيل: إن العقد يقع على المنافع وهي خدمتها للصبي والقيام به واللبن مستحق عليهما على طريق التبع بمنزلة الصبغ في الثوب، وقيل: إن العقد يقع على اللبن، والخدمة تابعة، ولهذا لو

ص: 617

أرضعته بلبن شاة لا تستحق الأجرة، والأول أقرب إلى الفقه؛ لأن عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان مقصودًا كما إذا استأجر بقرة ليشرب لبنها).

في جعله الأول أقرب إلى الفقه نظر، بل الثاني أقرب منه وأحق فإن الأعيان التي تحدث شيئًا فشيئًا مع بقاء أصلها بمنزلة المنافع فتجوز إجارتها كالعارية لمن ينتفع بالمتاع ثم يرده، والعرية لمن يأكل ثمرة الشجرة ثم يردها، والمنحة لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها.

وإجارة الظئر ثابتة بنص القرآن الموافق للقياس الصحيح فيجب أن يكون أصلاً يقاس عليها إجارة الشجر لثمرها، وإجارة البقرة للبنها، والشاة ونحوها، لا أن تجعل إجارة البقرة لشرب لبنها باطلة ويقاس عليها إجارة الظئر كما ذكره المصنف.

وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدةً للبنه، ثم من أصحابه من جوز ذلك مطلقًا تبعًا لنصه، ومنهم من منعه، ومنهم من شرط فيه شروطًا، وقد ورد عن عمر رضي الله عنه أنه: ضمن حديقة أسد بن حضير ثلاث

ص: 618

سنين وهذا بمشهد من الصحابة، ولم يرد أن أحدًا منهم أنكره عليه، وجوز ذلك بعض أصحاب أحمد رحمه الله، وهو اختيار تقي الدين السبكي.

ص: 619

وجوز مالك ذلك تبعًا للأرض في قدر الثلث، والذين منعوا ذلك توصلوا إلى جوازه بالحيلة الفاسدة فإنهم يؤجرونه للأرض وليست مقصودة، ويساقونه على الشجر بجزء من ألف جزء مثلاً مساقاة غير مقصودة فيجعلون غير المقصود مقصودًا، ويجعلون المقصود غير مقصود فحابوا في المساقاة أعظم محاباة وذلك غير جائز اتفاقًا في بستان اليتيم والوقف، وإن كانوا قد حصلوا ربحًا من جهة الأرض فلا تجوز لهم تلك المحاباة لأجل هذا الرحب بل يقدح ذلك في نظره ووصيته وهو نظير أن يبيع له سلعة يربح ثم يشتري له سلعة بخسارة يوازن ذلك الربح.

وأيضًا فإن كل واحد من العقدين سفه، فإن استئجار أرض تساوي مائة بألف من أفعال السفهاء المستحقين للحجر، وكذلك المساقاة على الشجر بجزء

ص: 620

من ألف لصاحبها هو من أفعال السفهاء التي يستحق فاعلها الحجر عليه، فإن قيل محاباة هذا العقد لما يحصل من محاباة العقد الآخر.

قيل: إن كان هذا مستحقًا لزم أن يكون أحد العقدين شرطًا في الآخر، وقد ورد النهي عن صفقتين في صفقة، وإن لم يكن مستحقًا كان هذا يشبه القمار، ولهذا لو فاتت الثمرة وطولب المستأجر بجميع الأجرة لاستغاث وتحيل على إبطال العقد بكل طريق فأين هذا من فعل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.

والفرق بين بيع الثمرة قبل وجودها أو قبل بدو صلاحها وبين ضمان الشجر، هو الفرق بين الحب حتى يشتد وبين إجارة الأرض للمزارعة، فإن المستأجر مقصوده الحب بعمله يحرث الأرض ويسقيها، ويقوم عليها، وكذلك مستأجر الشجرة يقوم عليها ويسقيها، والحب نظير الثمر، والشجر نظير الأرض، والعمل نظير العمل، بخلاف المشتري فإنه يشتري ثمرًا وعلى البائع مؤنة الخدمة والسقي والقيام على الشجر فهو نظير من يشتري الحب وعلى البائع مؤنة الزرع والقيام عليه، ولا شك أن المقصود من الظئر إنما هو اللبن.

وأما الحمل والخدمة فتبع، وإذا قيل: إن الخدمة هي الأصل كان في ذلك قلب الموضوع، ونظير ذلك ما قيل في دخول الحمام، إن الأجرة في مقابلة العقود في الحمام، وأن استعمال الماء الحار فيه تبع، وهذا قلب الموضوع أيضًا، بل الحق أن استئجار الظئر إنما هو إرضاع الولد بلبنها على جاري العادة في

ص: 621

ذلك، وأن حمله وإلقامه الثدي ونحو ذلك تبع غير مقصود بالقصد الأول، ومن كابر في ذلك كان بمنزلة المكابر في الحسيات.

وكذلك دخول الحمام إنما المقصود فيه بالقصد الأول استعمال مائه، وكذلك من استأجر بستانًا وساقى على شجره بجزء يسير من الخارج منه إنما المقصود بعقد الإجارة الثمر، وعقد المساقاة غير مقصود ولهذا إنما يطالب فيه بالأجرة لا بالجزء المسمى في المساقاة.

قوله: (ومن دفع إلى حائك غزلاً لينسجه بالنصف فله أجر مثله، وكذا إذا استأجر حمارًا يحمل طعامًا بقفيز منه، والإجارة فاسدة لأنه جعل الأجر بعض ما يخرج من عمله فيصير في معنى قفيز الطحان وقد نهى عنه عليه الصلاة والسلام، وهو أن يستأجر ثورًا ليطحن له كذا كذا حنطة بقفيز من دقيقه، وهذا أصل كبير يعرف به فساد كثير من الإجارات -إلى آخر المسألة-).

نهيه صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولفظه: "نهي عن عسب الفحل وعن قفيز الطحان". وهو ضعيف.

ص: 622

قال ابن قدامة في المغني: وهذا الحديث لا نعرفه ولا تثبت عندنا صحته، وقال شمس الدين ابن القيم: إن هذا الحديث لا يثبت بوجه. انتهى، مع أن قوله: نهي مبينًا لما لم يسم فاعله فلا يلزم أن يكون الناهي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأي فرق بين أن يستأجره ليطحن له حنطة بقفيز من طحينها أو قفيز من طحين غيرها، بل هذا فرق صوري لا تأثير له ولا يتعلق بذلك مفسدة قط لا جهالة ولا ربا ولا غرر ولا منازعة ولا ضرر، وأي غرر أو مفسدة في أن يدفع إليه غزله لينسجه ثوبًا بذراع منه، أو زيتونة ليعصره زيتًا بجزء معلوم منه وأمثال ذلك مما هو مصلحة محضة للمتعاقدين فقد لا يكون معه أجرة سوى ذلك الغزل أو الحب ويكون الآجر محتاجًا إليه وقد تراضيا بذلك فجوازه على وفاق القياس، وحاجة الناس، وهو قول عطاء والزهري وأيوب ويعلى بن حكيم وقتادة وأحمد وإسحاق.

واحتج أحمد بحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى خيبر على الشطر".

ص: 623

ولم يثبت عن الشارع ما يمنع منه، ولا يترتب عليه شيء من الفساد بل هو مصلحة محضة، ولم يقم المصنف دليلاً على ما ادعاه من الفساد سوى أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر، وهو بعض المنسوخ أو المحمول وحصوله بفعل الأجير فلا يعد هو قادرًا بفعل غيره وهذا لا يقوى فإن المزارع يأخذ جزءًا من الخارج والمضارب جزءًا من الربح.

والمعنى المذكور موجود في كل منهما، بل هذا أولى بالجواز من المزارعة والمضاربة فإن الذي وجد منه الجزء هنا محقق الوجود وهناك معدوم على خطر الوجود، ولم يكن هذا المعنى مانعًا من جواز المزارعة والمضاربة فهنا أحق وأولى أن لا يمنع.

وأيضًا فإنه في معنى ما يأخذه العامل على الصدقة فإنه إذا أحضر الزكوات من أرباب المواشي أخذ جزءًا منها، وحكى السغناقي في شرحه عن جماعة من المشايخ أنهم كانوا يفتون بجواز هذه الإجارة في الثياب ويخصصون النص بالتعامل.

ص: 624

وقال أيضًا: إن الحيلة في ذلك لمن أراد الجواز أن يشترط صاحب الحنطة قفيزًا من الدقيق الجيد، ولا يقول من هذه الحنطة ثم يعطيه من هذه الحنطة إن شاء وهذا مما يبين ضعف القياس هنا مضافًا إلى ضعف النص، ويدل على ضعف النص المذكور أيضًا مكيال لأهل العراق يشهد لذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم" شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه، أخرجه مسلم، ولا يتعامل أهل الحجاز بالقفزان فيبعد رفع مثل هذا اللفظ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قوله: (وهذا بخلاف ما إذا استأجره بحمل نصف طعامه بالنصف الآخر حيث لا يجب الأجر؛ لأن الأجير ملك الأجر في الحال بالتعجيل فصار مشتركًا بينهما).

ص: 625

في قوله: حيث لا يجب الأجر، نظر؛ لأن الأجر قد وجب، وقد قبض وهو نصف الطعام فكيف يقال: لا يجب الأجر بحمل نصفه الآخر، وقد جعل نصفه أجرة لحمل نصفه الآخر، والقول بأن النصف الباقي للمستأجر لا يجب بحمله أجرة -مع أن النصف الآخر أجرة حمله- قول عجيب وهو يشبه قول ابن سريج في مسألة الطلاق السريجية.

قوله: (ومن استأجر رجلاً لحمل طعام مشترك بينهما لا يجب الأجر لأن ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه فلا يتحقق تسليم المعقود عليه).

في قوله: (لأن ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه) نظر، فإن هذا ممنوع؛ لأن صورة المسألة أن الطعام مشترك بينهما، فكيف يقال: إن كل جزء

ص: 626

منه يكون الشريك الحامل له عاملاً لنفسه وإن كان مراده أنه ما من جزء إلا وهو مشترك فيكون بهذا الاعتبار عاملاً لنفسه، يعكس عليه.

ويقال: إنه إذا كان ما من جزء إلا وهو مشترك بينهما فيكون بهذا الاعتبار عاملاً لشريكه ولكن الحق أن الجزء الذي لشريكه ليس هو عاملاً لنفسه فيه بل لشريكه فهو في الحقيقة عامل لنفسه، وعامل لشريكه فأخذه الأجرة في مقابلة عمله لشريكه.

ولو قال: ما من قفيز أو ما من حبة أو نحو ذلك لكان أقرب من قوله: ما من جزء؛ لأن الجزء ينطلق على الشائع، والتعميم فيه ممنوع، وقد ذكر المصنف رحمه الله بعد ذلك مسألة استئجار أحد الشريكين الآخر لحمل طعام مشترك بينهما، وذكر فيه خلاف الشافعي رحمه الله.

وزاد هناك في تعليل المسألة أنه استأجره لعمل لا وجود له؛ لأن الحمل فعل حسي لا يتصور في الشائع، وهذا أيضًا ممنوع، بل لعمله وجود، وإلا يلزم أن الحصة التي لشريكه لا وجود لها لكونها شائعة، ولو كان ذلك صحيحًا لكانت حصته أيضًا لا وجود لها لكونها شائعة وهذا من نوع السفسطة، وإنكار الحقائق وأي فرق بين ما إذا استأجر أجنبيًا لحمل طعام مشترك بينهما، وبين ما إذا استأجر أحدهما الآخر لحمل نصيبه.

فالحامل لطعام مشترك بينه وبين آخر حامل لملكه وملك غيره، فلا يمنع حمله لنصيبه من استحقاقه الأجرة في مقابلة حمله لنصيب شريكه كما لو كان

ص: 627

مقسومًا في وعاءين وحملها ولا فرق بينهما إلا من حيث الصورة، وذلك غير موثر، والعبرة للمعاني، والفرق إذا لم يكن مؤثرًا من حيث المعنى فهو ساقط.

ص: 628