الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نصف عشر دية الرجل، و
دية الجنين
لا تختلف باختلاف ذكورته وأنوثته فتسمية ما يجب في الذكر بنصف عشر دية الرجل، وتسمية ما يجب في الأنثى بعشر دية المرأة تطويل لا ثمرة له.
فإن قيل: تظهر ثمرة ذلك في حق الجنين المملوك، فإنه يجب نصف عشر قيمته حيًا إن كان ذكرًا، وعشر قيمته لو كان أنثى.
قيل: الكلام في الجنين الحر مع أن التفريق في الجنين المملوك بين الذكر والأنثى لا يقوى، والأئمة الثلاثة وغيرهم على أن الواجب فيهما سواء وهو عشر قيمة أمة كما أن غرة الجنين الحر يستوي فيها الذكر والأنثى ويكون الواجب فيهما عشر دية الأم، ولأنه لو اعتبر بنفسه لوجبت قيمته كلها كسائر المضمونات بالقيمة.
قوله: (وجه الاستحسان ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة، ويروى أن خمسمائة").
هذا اللفظ منكر، وحديث الغرة ثابت في الصحيحين من حديث
أبي هريرة ومن حديث المغيرة بن شعبة، وفي كل منهما:"أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة" وليس في شيء من طرقه: "قيمته خمسمائة" ولا "أو خمسمائة".
ولكن روي البيهقي بسند منقطع [عن عمر]"أنه قوم الغرة خمسين دينارًا" وروي تقدير الغرة بنصف عشر الدية عن عمر وزيد رضي الله عنهما وبه قال النخعي والشعبي وربيعة وقتادة وإسحاق الأئمة الأربعة.
وروي عن زيد مرفوعًا: "عبدًا، أو أمة، أو خمسمائة، أو عشرون ومائة شاة أو فرس"، وهو حديث ضعف.
وقال ابن المنذر: وقد روينا عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: "قيمة الغرة
أربعمائة درهم".
وقال طاووس ومجاهد وعروة بن الزبير: "الغرة عبد أو أمه أوفرس" وقال ابن سيرين: "الغرة عبد أو أمة أو مائة شاة"، وقال الشعبي:"مائة من الغنم". انتهى.
قوله: (وهو حجة على من قدرهما بـ: ستمائة، نحو مالك والشافعي هما الله).
لا يكون حجة عليهما إلا بعد ثبوته، ولم يثبت، بل لم يعرف ناقله.
قوله: (وهي على العاقلة عندنا إذا كانت خمسمائة درهم).
فيه نظر، فإن الغرة قد قدرها بخمسمائة درهم، فكيف يقول إذا كانت خمسمائة درهم، وإن كان مراده أنها على العاقلة لأنها مقدرة بخمسمائة درهم وهذا المقدار أقل ما يحمله العواقل عند أبي حنيفة، فحقه أ، يقول: إذا كانت خمسمائة درهم، بكلمة: إذ. لا بكلمة: إذا. وهي في نسخ الهداية
بـ: إذا.
قوله: (ولنا ما روي عن محمد رحمه الله أنه قال: بلغنا: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله على العاقلة في السنة").
يعني الغرة، ولم يثبت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكره أهل الحديث.
قوله: (وفي جنين الأمة إذا كان ذكرًا نصف عشر قيمته لو كان حيًا، وعشر قيمته لو كان أنثى).
لو قال: وفي الجنين المملوك لكان أولى من قوله: (وفي جنين الأمة) لأن جنين الأمة لو كان من مولاها أو من زوجها المغرور كان حرًا، وكان الواجب فيه غرة كما في جنين الحرة، وإذ قد قال (وفي الجنين الأمة) فحقه أن يحترز عن جنين الأمة من مولاها ومن زوجها (المغرور) ويقيد ما أطلقه.
* * *
باب جناية البهيمة الجناية عليها
قوله: (والراكب ضامن لما أوطأت الدابة وما أصابت بيدها أو رجلها).
هذا من لحن بعض الفقهاء أعني قوله: (أوطأت الدابة) قال في المغرب: وطئ الشيء برجله وطأ، ومنه وطئ المرأة: جامعها، وأوطأت فلانًا الدابة فوطئته أي ألقيته لها حتى وضعت عليها رجلها وعلى ذا قوله: ولو سقط فأوطأه رجل من المشركين بدابته؛ سهو، وإنما يقال: دابته، وكذا قوله: فأوطأت في القتال مسلمًا فقتله، الصواب: فوطئت. انتهى.
ولا شك أن (وطئ) متعد إلى واحد، وبالهمزة يتعدى إلى آخر كما يتعدى إليه بالباء والجمع بين الهمزة والباء لحن ظاهر.
قوله: (ويروى [ذلك] عن علي رضي الله عنه).
يعني إذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر.
وقوله: وروي عن علي رضي الله عنه "أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية".
وقوله: "ولنا ما روي" أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في عين الدابة بربع القيمة،
وكذا قضى عمر رضي الله عنه".
لم أر من ذلك سوى ما روي عن عمر رضي الله عنه في عين الدابة "أنه قضى فيها بربع ثمنها" رواه عبد الرزاق في مصنفه عنه وعن علي رضي الله عنه، وروي عن علي رضي الله عنه أيضًا:"أنه قضى في الفرس تصاب عينه بنصف ثمنه"، وروي عن شريح أيضًا:"انه قضى في عين الدابة إذا تلفت بربع ثمنها".
وقال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يجني على الدابة فتذهب عينها:
فقالت طائفة: في عين الدابة ربع ثمنها، روينا هذا القول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبه قال شريح والشعبي وعمر بن عبد العزيز، وقال مالك والشافعي وأبو ثور: عليه ما نقص من ثمنها.
قوله: (ولو انفلتت الدابة فأصابت مالاً أو آدميًا ليلاً أو نهارًا، لا ضمان
على صاحبها لقوله عليه الصلاة والسلام: "العجماء جبار").
مذهب مالك والشافعي وأحمد أن الدابة إذا انفلتت بالليل وأتلفت شيئًا أن على صاحبها الضمان، واحتجوا بقوله تعالى:{وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين} والنفش إنما يكون بالليل؛ ولأن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت فيه فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم"أن على اهل المواشي ما أفسدت ماشيتهم بالليل وعلى أهل الحيطان حفظ حيطانهم بالنهار" رواه وأحمد وأبو داود وابن ماجه، ولأن صاحبها إذا أرسلها بالليل كان مفرطًا فهو كما
لو أرسلها قرب زرع الناس أو لو كان معها قائد أو راكب أو سائق فصح تقييدًا إطلاق قوله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جبار".
قوله: (وفي عين بقرة الجزار وجزوره ربع القيمة
…
إلى آخره).
تقييد بالجزار مشكل؛ لأنه يوهم أنه قيد وليس كذلك، قال السغناقي: وإنما وضع المسألة على هذا الوجه ليبين أن البقر والإبل -وإن أعد للحم كما في الشاة- لا يختلف الجواب فيهما، بل سواء كانا معدين للحم أو للحرث والحمل والركوب ففيه ربع القيمة، كما في الذي لا يؤكل لحمه كالحمار والبغل، وإلى هذا أشار فخر الإسلام. انتهى.
قوله: (وإذا كان صبيًا ففي ماله).
يعني ناخس الدابة، وفيه نظر، وإنما حكم الناخس إذا كان صبيًا كحكم البالغ في أن ضمان الدية يكون على عاقلته، لأنه يؤاخذ بأفعاله كالبالغ وإنما يجب في ماله في الجناية على المال وما دون أرش الموضحة كما في البالغ.
* * *
باب جناية المملوك والجناية عليه
قوله: (وتعيين العشرة بأثر عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
يعني أن تعيين نقص عشرة دراهم في حق من قتل عبدًا خطأ أن عليه قيمته لا تزاد على عشرة آلاف، إلا عشرة دراهم، ولا يعرف ذلك في كتب الحديث لا عن ابن عباس ولا عن غيره من الصحابة.
قوله: (لما روي عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أنه قضى بجناية المدبر على مولاه).
لا يعرف هذا الأثر أيضًا في كتب الحديث، وقد تقدم في باب المدبر التنبيه على ما في حكم المدبر من الإشكال على مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
* * *
باب القسامة
قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه").
يريد بذلك الرد على مالك والشافعي رحمهما الله، ومعارضة ما استدلا به على يمين الأولياء بهذا الحديث، وهذا الحديث بهذا اللفظ أخرجه البيهقي وحسنه النووي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه الترمذي من حديث عمر بن شعيب عن ابيه عن جده، ولم يخرجه أهل
الصحيح بهذا اللفظ.
وروى الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر إلا في القسامة"، والذي في الصحيحين من حديث ابن عباس "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه".
وفي رواية: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو يعطي الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" رواه أحمد ومسلم.
ولا معارضة بين هذا وبين حديث القسامة وهو حديث سهل بن أبي حثمة قال: "انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذ
صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال: كبر كبر -وهو أحدث القوم- فسكت فتكلما فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم -أو صاحبكم- فقالوا: وكيف نحلف ولم نشهد ولم نر: قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا، فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار، فعقله النبي صلى الله عليه وسلم من عنده" رواه الجماعة، وفي رواية متفق عليها: "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته".
قالوا: أمر لم نشهده، كيف نحلف! قال: فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم، قالوا: يا رسول الله قوم كفار" وذكر الحديث بنحوه.
فإن الجميع بين الحديثين والعمل بهما أولى من إبطال أحدهما، كيف وقد ورد استثناء القسامة من عموم الحديث في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده، ولو لم يثبت الاستثناء نصًا لوجب المصير إليه لأن الأولياء في القسامة لم يستحقوا دم القاتل بمجرد دعواهم بل بأيمانهم بالمؤبدة بالظاهر الشاهد لصدقهم وهو اللوث أو العداوة، وحديث سهل المتقدم الذي لا ريب في صحته وثبوته وشهرته من أقوى الأدلة على ذلك، وكما أن اللعان مستثنى من عموما لحديث المذكور بنص الكتاب، وكذلك القسامة مستثناة بنص السنة، وقد قال بذلك أكثر العلماء منهم مالك والشافعي وأبو ثور ويحيى بن سعيد وربيعة وأبو الزناد والليث بن سعد وأحمد بن حنبل.
فإن قيل: قد روى الكوفيون حديث القسامة من طريق سعيد بن عبيد الكوفي روي عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: تأتوني بالبينة على من قتله، قالوا: ما لنا ببينة، قال: فيحلفون،
قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود" لم يذكر فيه الأيمان من جهة المدعي بالكلية.
فالجواب: "قال النسائي: لا نعلم أحدًا تابع سعيد بن عبيد على لوايته عن بشير بن يسار، وذكر الإمام أحمد حديث سعيد بن عبدي فنفض يده، وقال: ليس ذلك بشيء رواه على ما يقول الكوفيون، وقال: أذهب إلى حديث المدنيين حديث يحيى بن سعيد، وقال فيه غير ذلك، وأهل المدينة أعلم بذلك، والله أعلم.
قوله: (وروى ابن المسيب رحمه الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ باليهود بالقسامة، وجعل الدية عليهم لوجود القتيل بين أظهرهم").
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار عن رجال من الأنصار: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود -وبدأ بهم- يحلف منكم خمسون رجلاً، فأبوا، فقال للأنصار: استحقوا، قالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم دية علىليهود لأنه وجد بين أظهرهم" رواه أبو داود وحكى أبو عمر بن عبد العزيز بن المسيب مثل ما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمنوسليمان بن يسار، ولا يصلح ذلك لمعارضة الحديث الصحيح المتفق على صحته.
قوله: (ولأن اليمين حجة للدفع دون الاستحقاق، وحاجة الولي إلى
الاستحقاق، ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل، فأولى ألا يستحق به النفس المحترمة).
فيه نظر من وجهين:
أحدهما: أنه تعليل في مقابلة النص.
الثاني: أن الاستحقاق لم يكن باليمن المجردة بل بما انضم إليها من اللوث والعداوة، فإنه إذا وجد قتيل يتشحط في دمه وعدوه هارب بسكين ملطخة بالدم، وكيف يقال: القول قوله فيستحلف بالله ما قتله، ويخلى سبيله، ونظير هذا إذا رأينا رجلاً من أشراف الناس حاسر الرأس بغير عمامة، وآخر أمامه يشتد عدوًا، وفي يده عمامة وعلى رأسه أخرى، فإنا ندفع العمامة التي بيده إلى الحاسر الرأس، ولو اختصم رجلان في حائط، ولأحدهما عليها جذوع، أو بناؤه متصل ببنائه، فإنه يقضى له به، بل لو كان وجه الحائط أو قمط الخص إلى جهة أحدهما يقضى له به عند أبي يوسف
ومحمد وغيرهما، ويعارض قوله: فأولى ألا يستحق به النفس المحترمة، بأن صون الدماء فوق صون الأموال ولولا القسامة في الدماء لأفضى إلى سفكها، فيقتل الرجل عدوه خيفة ولا يمكن أولياء المقتول إقامة البينة، واليمين على القاتل والسارق والقاطع سهلة، فإن من يستحل هذه الأمور لا يكترث باليمين الفاجرة ولا يسع الناس في مثل هذا، الاكتفاء بيمين القاتل المتمرد الفاجر، ووجود العداوة واللوث بينة، وليس اسم البينة مقصورًا على الشهود، بل اسم البينة في الكتاب والسنة ولغة العرب أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء حيث خصوها بالشاهدين أو الشاهد واليمين عند من يقول بذلك، ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص، والبينة في كتاب الله اسم لكل ما يبين الحق.
قال تعالى: {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات} وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر} وقال تعالى: {وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد
ما جاءتهم البينة} وقال تعالى: {قل إني على بينة من ربي} .
ونظائر ذلك في القرآن كثيرة، والمراد بالبينة: ما يبين الحق من شهود أو دلالة، فإن الشارع صلوات الله عليه يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره من البنات التي هي أدلة عليه وشواهد له ولا يرد حقًا قد ظهر بدليله أبدًا، فتضيع بدليله أبدًا، فتضيع حقوق الله تعالى وحقوق عباده، بل لما ظن هذا من ظنه ضيعوا طريق الحكم فضاع كثير منه الحقوق لتوقف ثبوتها على طريق معين عندهم وصار الظالم الفاجر متمكنًا من ظلمه وفجوره ويقول: لا يقوم علي شاهدان عدلان، فضاعت حقوق كثيرة، وحينئذ أخرج الله أمر الحكم العام عن أيديهم ودخل فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويضيع به أخرى، ويحصل به العدوان تارة والعدل أخرى، ولو عرف ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمام المصلحة المغنية عن التفريط والعداوة وسياسة من لا يعرف الشريعة من الأمراء.
روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري قال: "دعاني عمر بن عبد العزيز فقال: إني أريد أن أدع القسامة، يأتي رجل من أرض كذا ورجل من أرض كذا فيحلفون قال: فقلت له: ليس ذلك لك قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده، وإنك إن تتركها أوشك أن يقتل عند بابك قتيل فيطل دمه،
وإن للناس في القسامة حياة". انتهى.
وقد حفظ الله أمر الشريعة على هذه الأمة، فإن هذا الحكم إن لم يقل به هذا الإمام، فقد قال به الإمام الآخر، فلا تجد الأمة قد اتفقت على قول باطل وتركوا الحق أبدًا، ولا تقوم مصالح الناس بالعمل بقول إمام معين لا يعدل عن قوله إلى قول غيره أبدًا، وهذا مما يبين لك فساد التقليد، ولهذا لما رأى الملوك وأهل الحل والعقد أن الناس قد أخلدوا إلىلتقليد المحض، وقد افترقوا، وأخذت كل طائفة بقول إمام معين لا تعدو قوله، أقاموا من كل فرقة قاضيًا لئلا تضيع بعض الحقوق باعتبار الوقوف عند قول بعض الأئمة دون بعض، وكان النهي عن الافتراق حين رأوهم افترقوا أولى من تقريرهم على الافتراق، وفعل ما يكون باعثًا لهم على الإصرار على الافتراق، ولم يكن هذا في صدر الإسلام، وإنما حدث هذا من نحو مائة سنة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قوله: (ولنا أنه عليه الصلاة والسلام مع بين القسامة والدية في حديث ابن سهل وفي حديث زياد بن أبي مريم، وكذا جمع عمر بينهما على وادعة).
فيه نظر من وجوه:
أحدها: قوله: إنه عليه الصلاة والسلام جمع بين القسامة والدية في حديث ابن سهل. ليس كذلك، والحديث قد تقدم ذكره، ولم تجر بينهم قسامة بالكية، وإنما واده النبي صلى الله عليه وسلم من عنده، وفي رواية:"من إبل الصدقة" كذا في الصحيحين وغيرهما.
الثاني: قوله: وفي حديث زياد بن أبي مريم، ولا يعرف هذا الحديث في كتب الحديث، وإنما رأيته في كتب الأصحاب.
الثالث: قوله: وكذا جمع عمر بينهما على وادعة، ويشير بذلك إلى ما روي "أن عمر رضي الله عنه كتب في قتيل وجد بين خيوان، ووادعه أن
يقاس ما بين الفريقين فإلى أيهما كان أقرب أخرج إليه منهم خمسون رجلاً حتى يوافوه مكة فأدخلهم في الحجر، فأحلفهم ثم قضى عليهم بالدية، فقالوا: ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا! قال عمر: كذلك الأمر" أخرجه البيهقي.
وقد أجاب المخالفون في ذلك وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم عن ذلك: أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وأحق بالاتباع من قول عمر رضي الله عنه، وأن قضية عمر رضي الله عنه يحتمل أنهم أنكروا العمد فأحفلوا على ذلك وألزموا بالمال بحكم أن القتل خطأ.
قالوا: وكيف أخذتم بهذا مع مخالفته للأصول، وهو إيجاب الأيمان على غير المدعى عليه، وإلزامهم الغرم مع عدم الدعوى عليهم والجمع بين تحليفهم وتغريمهم وحبسهم على الأيمان، وتركتم الأخذ بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه مخالفًا للأصول على زعمكم.
قالوا: وقولكم: إن اليمين شرعت ليظهر القصاص بتحرزهم عن اليمين الكاذبة لا لتجنب الدية إذا نكلوا، مجرد دعوى والقاتل غالبًا إنما يقتل خفية، ولا يمتنع عن الإقدام على اليمين الكاذبة بعد أن أقدم على قتل
النفس التي حرمها الله تعالى، إذ قتل النفس أعظم من اليمين الكاذبة وغيره من أهل المحلة يحلف صادقًا لأن القتل كان خفية لم يطلع عليه فحمل اليمين على هذه الفائدة والحالة هذه ضعيف.
قوله: (لما روي "أن عمر رضي الله عنه لما قضى في القسامة وافى إليه تسعة وأربعون رجلاً فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسون ثم قضى بالدية").
لم أر هذا في كتاب الحديث.
قوله: (لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بقتيل وجد بين قريتين فأمر أن يذرع").
أخرجه البيهقي بمعناه وضعفه.
قوله: (وأما أهل خيبر فالنبي صلى الله عليه وسلم أقرهم على أملاكهم فكان يأخذ
منهم على وجه الخراج).
قد تقدم في كتاب السير التنبيه على أن خيبر قسم رسول الله -صلى لله عليه وسلم- نصفها بين الغانمين وأبقى نصفها لنوائب المسلمين، وأقر أهلها عمالاً عليها على أن يجليهم عنها متى شاء، ولذلك أجلاهم عمر رضي الله عنه بعد ذلك عنها، ولو كانت ملكًا لهم لم يجلهم عنها والله أعلم.
* * *
[قوله]: كتاب المعاقل
كان الأولى أن يقول: العواقل لأن المعاقل جمع معقلة وهي الدية كما قال هو فكأنه قال: كتاب الديات، وقد تقدم تسمية الكتاب الذي قبله كتاب الديات فصار تكرارًا، والعواقل جمع عاقلة وهي من يتحمل الدية، وهذا هو المناسب هنا، والله أعلم.
قوله: (والأصل في وجوبها على العاقلة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حمل ابن مالك للأولياء: "قوموا فدوه").
هذا اللفظ غير معروف في حديث حمل بن مالك، ووجوب الدية على العاقلة ثابت مستفيض من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حمل بن مالك وغيره في الخطأ، وفي شبه العمد، قضى به الخلفاء الراشدون بعد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى جابر رضي الله عنه قال:"كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله" رواه أحمد ومسلم والنسائي، ولا خلاف في الخطأ. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن العاقلة لا تحمل دية العمد، وأجمعوا على أنها تحمل دية الخطأ، واختلفوا في الحر يقتل العبد خطأ، ثم قال: واختلفوا في شبه العمد، فقال الحارث العكلي وابن أبي ليلى وقتادة وابن شبرمة وأبو ثور: هو عليه في ماله، وقال الشعبي والنخعي والحكم والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: هو على العاقلة.
قال أبو بكر: قول الشعبي أصح لحديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضارب".
قوله: (وإنما خصوا بالضم لأنه إنما قصر لقوة فيه وتلك بأنصاره، وهم العاقلة فكانوا هم المقصرين في تركهم مراقبته فخصوا به).
هذا تعليل قاصر، ويجب حمل إيجاب الشارع على أكمل المعاني وأقوى من هذا المعنى وأكمل: أن جنايات الخطأ تكثر، ودية الآدمي كثيرة فإيجابها على الجاني في ماله يجحف به، فاقتضت الحكمة إيجابها على العاقلة أو ضم العاقلة إليه على سبيل المواساة له تخفيفًا عنه إذ كان معذورًا في فعله، وينفرد هو بالكفارة.
قوله: (والتقدير بثلاث سنين مروي عن النبي صلى الله عليه وسلم).
لم يثبت ذلك مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ثبت عن عمر وعلي رضي الله عنهما، ولا يعرف لهما مخالف، وروى البيهقي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: وجدنا عامًا في أهل العلم "أنه عليه الصلاة والسلام قضى في جناية الحر المسلم على الحر خطأ بمائة من الإبل بأسنان معلومة على عاقلة الجاني وأنها في مضي ثلاث سنين، كل سنة ثلثها".
قوله: (ولنا أن القياس يأباه، والشرع ورد به مؤجلاً، فلا يتعداه).
يعني أ، ما وجب على القاتل في ماله، يؤديه في ثلاث سنين؛ لأن القياس يأبى وجوب المال بمقابلة النفس، والشرع ورد بإيجاب الدية في ثلاث سنين فيقتصر فيه على ما ورد به النص، وفيه نظر منوجهين: أحدهما: قوله: إن القياس يأباه. وقد تقدم التنبيه على أن الشرع لم يرد على خلاف القياس الصحيح أصلاً، وإذا كان المراد من شرع القصاص حسم مادة
الفساد، فقد يحصل ذلك بالمال، وإذا كان القصاص قد سقط لشبهة كما في قتل الأب ابنه، فلو لم يجب المال لأدى ذلك إلى إهدار الدم، والتجري على الفساد، فكان إيجاب المال والحالة هذه على وفق القياس الصحيح.
الثاني: قوله: والشرع ورد به مؤجلاً فلا يتعداه. إنما ورد الشرع به مؤجلاً في دية الخطأ ويشبه العمد لا غير على ما تقدم، مع أن ذلك لم يثبت مرفوعًا، وإنما ورد عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا يصح اعتبار العمد بالخطأ وشبه العمد؛ لأن القاتل ثم معذور لكونه لم يقصد القتل، وإنما أفضى إليه على غير اختيار منه، ولهذا تحمله العاقلة، والعاقلة لم تصدر منهم جناية، وحملوا أداء المال مواساة، فلاق بحالهم التخفيف عنهم، وأما العمد فإن ما يحمله الجاني بسببه في غير حال العذر فوجب أن يكون ملحقًا ببدل سائر المتلفات.
قوله: (وإنما تعتبر مدة ثلاثة سنين من وقت القضاء بالدية لأن الواجب الأصلي المثل والتحول إلى القيمة بالقضاء فيعتبر ابتداؤها من وقته كما في ولد المغرور).
فيه نظر، وقد خالف في ذلك الشافعي وأحمد وغيرهما، وقالوا:
إن أول المدة في حين وجوب الدية، وقولهم أقوى، فإنه مال وجب مؤجلاً فكان ابتداء أجله من حين وجوبه كالدين المؤجل والسلم، وقوله: لأن الواجب الأصلي المثل. ممنوع، بل الواجب الأصلي المال لقوله تعالى:{ومن قتل مؤمنًا خطئًا فتحرير رقبةٍ مؤمنةٍ وديةٌ مسلمةٌ إلى أهله} الآية، فجعل جزاء القتل الخطأ الكفارة والدية، ولهذا وجبت على غير الجاني؛ لأنه معذور، وإنما يكون الواجب الأصلي المثل على خلاف فيه فيما إذا سقط القصاص لشبهة، وإن كان مراده أن الموجب الأصلي على مقتضى القياس المثل ممنوع أيضًا؛ لأنه ليس مقتضى القياس الصحيح وذلك لأن الموجود من القاتل خطأ جناية عن غير قصد، فلو قوبل بقتل مقصود لكان في ذلك زيادة على المثل، وما ورد به الشرع هو مقتضى الصحيح.
وقوله: والتحول إلى القيمة بالقضاء؛ ممنوع أيضًا؛ لأن الدية إن لم تكن واجبة بالشرع لم يكن للقاضي الإلزام بها، وإن كان واجبة بالشرع فالقاضي يلزم بما وجب بالشرع، وهذا هو الحق؛ فإن القاضي ليس بمشرع، وقد تقدم التنبيه على مثل هذا في مواضع.
وفي تسمية الدية قيمة نظر، ولو كانت قيمة لاختلف باختلاف الأشخاص، ودية الصحيح العالم العاقل كدية الأعمى الزمن المجنون
الجاهل الفاسق، وإنما تجب الدية صلة مبتدأة جبرًا لمصاب أولياء المقتول وكفًا لهم عن العدوان، ولهذا يحملها غير الجاني.
وقوله: كما في ولد المغرور ليس من باب الإلزام للمخالف بل من باب التنظير للتوضيح. يعني أنا كما قلنا في ولد المغرور قلنا في الدية، أما المخالف فلا يقول إن الموجب الأصلي القصاص ولكن عدل عنه إلى الدية بحكم الحاكم، بل يقول الموجب الأصلي الدية في الخطأ وشبه العمد والحاكم يلزم بذلك، والقول بأن قيمة ولد المغرور إنما تجب عليه بقضاء القاضي فيه نظر؛ لأن رد عينه متعذر قبل القضاء فلم يكن بالقضاء بالقيمة قد عدل عن تسليم العين إلى تسليم القيمة، بل ولد المغرور جزء من أمه، وهي أمة، وحقه أن يكون رقيقًا تبعًا لأمه وإن كان أبوه حرًا لكن لما كان الأب مغرورًا كان تمام النظر للجانبين العدول إلى قيمته يوم ظهر استحقاقه له إذ قبل ذلك لا ضباط له حتى يقال: وجبت له القيمة من حين كذا، فلم يكن للقضاء تأثير في إيجاب القيمة، وإنما هو إلزام بما وجب شرعًا.
قوله: (لا يزاد الواحد على أربعة دراهم في كل سنة، وينقص منها -إلى قوله- تحقيقًا لزيادة التخفيف).
اختلف العلماء فيما يحمله كل واحد من العاقلة: فمذهب أبي حنيفة
والشافعي ما ذكره عنهما المصنف، وعن أحمد في رواية كالشافعي، وذهب مالك وأحمد في المشهور عنه إلى أنهم يحملون ما يطيقون من غير تقدير، وإنما يفوض تقديره إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل واحد قدرًا يسهل عليه لأن التقدير لا يثبت إلا بتوقيف، ولا يثبت بالرأي والتحكم، ولا نص في هذه المسألة، فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات، وتختلف بالغنا والفقر والتوسط ويعتبر ذلك عند رأس الحلول لأنه حال وجوب الأداء وهذا القول في القوة كما ترى.
قوله: (لقول عمر رضي الله عنه: "لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة").
لا يعرف هذا عن عمر رضي الله عنه، ولكن العمل عليه عند أهل العلم، قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن المرأة والصبي الذي لم يبلغ الحلم لا يعقلان مع العاقلة، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق أصحاب الرأي، وأجمعوا على أن الفقير لا يلزمه من ذلك شيء.
قوله: (والأصل فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفًا عليه ومرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم "لا تعقل العواقل عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا ولا ما دون أرش الموضحة").
تقدم التنبيه على أن هذا لم يصح رفعه، وإنما ورد عن عمر وابن عباس وورد أيضًا عن الشعبي والزهري نحوه، ولكن ليس في شيء من ذلك "ولا ما دون أرش الموضحة" وقد اختلف العلماء في أقل ما تحمله العاقلة، فقال الزهري: الثلث فما دونه في مال الجاني، وقال سعيد بن المسيب: ما دون الثلث في مال الجانب، وبه قال عطاء ومالك وأحمد، وأبو حنيفة والثوري والشعبي: ما دون نصف العشر في مال الجاني، وقال الشافعي: تعقل العاقلة أرش الخطأ قل أو كثر، ولا يصح الاستدلال لأبي حنيفة بهذا الحديث الذي ذكره المصنف؛ لأن الصحيح أنه من كلام
الشعبي ولكن يستدل له بحديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية الجنين على عاقلة الضارب"، وفي الاستدلال به نظر.
* * *