المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب المزارعة قوله: (وله "أنه عليه السلام نهى عن المخابرة" وهي - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ٥

[ابن أبي العز]

الفصل: ‌ ‌كتاب المزارعة قوله: (وله "أنه عليه السلام نهى عن المخابرة" وهي

‌كتاب المزارعة

قوله: (وله "أنه عليه السلام نهى عن المخابرة" وهي المزارعة وأنه استئجار ببعض ما يخرج من عمله فيكون في معنى قفيز الطحان، ولأن الأجر مجهول أو معدوم، وكل ذلك مفسد، ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز).

فيه نظر من وجوه:

أحدهما: قوله: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة وهي المزارعة.

وجوابه: أنه جاء مفسرًا في الصحيح: أنهم/ كانوا يشترطون لرب الأرض زرع بقعة معينة فلهذا نهى عنها، وذلك في حديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال:"كنا أكثر الأنصار حقلًا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه، ولهم هذه فربما أخرجت هذه ولم تخرج تلك، فأما الورق فلم ينهنا" أخرجاه.

ص: 703

وفي لفظ: "كنا أكثر أهل الأرض مزدرعًا، كنا نكري الأرض بالناحية تسمى لسيد الأرض، قال: فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض، وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك، فنهينا، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ" رواه البخاري.

وفي لفظ قال: "إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات وإقبال الجداول، وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس"، رواه مسلم وأبو داود والنسائي.

ومعاملته صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج من ثمر أو زرع ثابت صحيح، رواه الجماعة.

ص: 704

والمصنف قد ذكر الاستدلال لهما قبل هذا الكلام، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخل؟ قال: لا، قالوا: تكفونا العمل، ونشرككم في الثمرة، فقالوا: سمعنا وأطعنا" رواه البخاري.

واستمر الناس على العمل بالمزارعة في زمن الخلفاء الراشدين فمن بعدهم إلى يومنا هذا من غير نكير، ولا يظن بالخلفاء الراشدين أنهم فعلوا ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من أقوى الأدلة على اختصاص النهي بالمزارعة التي فيها استثناء ما يخرج من بقعة معينة من الأرض المزارع عليها، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتعارض.

الثاني: قوله: وإنه استئجار ببعض ما يخرج من عمله فيكون في معنى قفيز الطحان.

وجوابه: أنه قد تقدم التنبيه على ضعف حديث قفيز الطحان، فلا يصلح لمعارضة ما ورد من معاملة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده رضي الله عنهم أجمعين، وإنما المزارعة بمنزلة المضاربة، قال أبو يوسف: المزارعة عندي بمنزلة المضاربة.

الثالث: قوله: ولأن الأجر مجهول أو معدوم، وكل ذلك مفسد.

ص: 705

وجوابه أن المضاربة والمزارعة والمساقاة من جنس المشاركات لا من جنس المعاوضات المحضة، وإن كان فيها شوب المعاوضة، فإن رب المال أو الأرض ليس له قصد في نفس عمل العامل كما في الإجارة، ولهذا لو لم يربح ولم تخرج الأرض شيئًا لم يكن له شيء وإنما هذه مشاركة، هذا بنفع ماله، وهذا بنفع بدنه، وما قسم الله من ربح كان بينهما على الإشاعة ولهذا لا يجوز أن يخص أحدهما بربح مقدر أو خارج مقدر؛ لأن هذا يخرجهما عن العدل الواجب في الشركة، وهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من المزارعة كما تقدم.

وهذا من كمال العدل فإن حصل ربح أو خارج اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الغرم، وذهب نفع بدن هذا كما ذهب مال هذا ولهذا كانت الوضعية في المضاربة على المال لأن ذلك مقابل ذهاب نفع المال، ولهذا قيل: إنه يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل كما ذهب إليه أحمد في رواية، فعطى العامل ما جرت به العادة أن يعطاه مثله من الربح

ص: 706

إما نصفه أو ثلثه.

فأما أن يعطى شيئًا مقدرًا مضمونًا في ذمة المالك فذلك ينافي العدل، فإنه قد يعمل سنين ولا يربح، فلو أعطي أجرة المثل لأعطي أضعاف رأس المال، وهو في الصحيحة لا يستحق إلا جزءًا من الربح إن كان هنالك ربح، فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف/ ما يستحقه في الصحيحة؟

ولا شك أن المزارعة أولى بالجواز من الإجارة بأجرة مضمونة في الذمة فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض، فإذا لزمته الأجرة، ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل، كان في هذا حصول أحد المتعاوضين على مقصوده من الآخر فأحدهما غانم ولابد، والآخر متردد بين المغنم والمغرم، وأما المضاربة فإن حصل الزرع اشتركا فيه وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر، فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة وإذا عرف هذا تبين ضعف قوله:(ولأن الأجر مجهول أو معدوم وكل ذلك مفسد).

الرابع: قوله: ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر كان خراج مقاسمة بطريق المن والصلح وهو جائز، وسيأتي في كلامه أيضًا في باب القسامة.

وأما أهل خيبر فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى في مرض موته بإخراجهم من جزيرة العرب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على إخراجهم منها قالوا: نحن أعلم بالأرض منكم دعونا نكون فيها ونعمرها لكم بشطر ما يخرج منها، ولو

ص: 707

كانت الأرض ملكًا لهم وما يؤخذ منهم خراجًا على أراضيهم لما أجلاهم عمر رضي الله عنه كلهم من أرضهم وكل ذلك ثابت صحيح.

ومن تأمل السير والمغازي حق التأمل تبين له أن خيبر إنما فتحت عنوة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استولى على أراضيهم كلها بالسيف قهرًا وغلبة وإنما اشتبه على من اشتبه عليه من الشافعية أن خيبر فتح شطرها عنوة وشطرها صلحًا لما رأوا "أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم شطرها، وأوقف شطرها، لم يقسمه، بل أعده لنوائب ومصالح المسلمين".

وأما القول بأنها كلها فتحت صلحًا فإنما يقوله من لا خبرة له بما وقع في تلك الغزوة، وقد روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:"سمعت عمر رضي الله عنه يقول: لولا أن يترك آخر الناس لا شيء لهم ما افتتح المسلمون قرية إلا قسمتها سهمانًا كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر سهمانًا" ذكره أبو عمر ابن عبد البر، ثم قال بعد ذلك: وأما من قال إن خيبر كان بعضها صلحًا وبعضها عنوة فقد وهم وغلط، انتهى.

ص: 708

وكلام المصنف هنا يناقض قوله في باب العشر والخراج أن أرض العرب كلها أرض عشر، فإن خيبر من أرض العرب، وقد تقدم التنبيه على هذا التناقض هناك.

قوله: (ثم المزارعة لصحتها- على قول من يجيزها- شروط- إلى أن قال- والثالث: بيان المدة لأنه عقد على منافع الأرض أو على منافع العامل، والمدة هي المعيار لها لتعلم بها).

الذي دل عليه أحاديث معاملة النبي صلى الله عليه وسلم أهل خيبر جواز المزارعة من غير بيان المدة، ولكنها لا تكون لازمة إلا ببيان المدة، والفرق بين الصحة واللزوم ظاهر، وهذا مذهب أحمد، وعليه عمل الناس وأن النبي صلى الله عليه وسلم وصارت كالمضاربة.

وقوله: (عقد على منافع العمل)، فيه نظر فإنها عقد عليهما عقد شركة كالمضاربة.

قوله: (وإذا فسدت فالخارج لصاحب البذر؛ لأنه نماء ملكه واستحقاق الأجر بالتسمية، وقد فسدت فبقي النماء كله لصاحب البذر).

ص: 709

تقدم في كتاب الغصب ذكر الرواية عن أحمد رحمه الله في المضاربة الفاسدة أن المضارب يستحق ربح المثل فيعطى العامل ما جرت العادة أن يعطاه مثله، إما نصف الربح أو ثلثه أو نحو ذلك، وإذا ثبت ذلك في المضاربة ففي المزارعة أولى؛ لأن رأس المال في المزارعة هو الأرض، والبذر يجوز أن يكون من العامل، ويجوز أن يكون من جهة رب الأرض، وهو يستهلك في الأرض بمنزلة ماء الفحل في رحم الأنثى، ولهذا قال/ النبي صلى الله عليه وسلم:"من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته" رواه الخمسة إلا النسائي.

وقال البخاري: هو حديث حسن، وقد قال بموجب هذا الحديث شريك بن عبد الله وأحمد في رواية عنه، واختاره تقي [الدين] بن السبكي، ولهذا تفسد المزارعة إذا شرطا رفع البذر واقتسام الباقي، بل

ص: 710

الواجب في المزارعة الصحيحة أن يقسم الخارج على ما شرطها ولا يلتفت إلى البذر أصلاً.

وإذا كان الواجب في الإجابة الفاسدة أجرة المثل من النقدين فالأعدل هنا تقدير ذلك من الخارج بجزء منه فإن الجزء المعين من الخارج في المزارعة بمنزلة القدر المسمى من النقدين في الإجازة، وقد تقدم أن التقدير بالجزء من الخارج في المزارعة الصحيحة أعدل من المقدار المعين في الإجارة، فينبغي إذا كانت المزارعة الفاسدة قد عقدت على أن لكل منهما الشطر. وعادة مثل تلك الأرض أن تزرع بالشطر على قياس قول من يقول أن الواجب في الإجارة الفاسدة أجرة المثل لا يزاد على المسمى، وهو الراجح ولا مانع من هذا، ولا نص مع مخالفه.

وقوله: (لأنه نماء ملكه) يعني صاحب البذر، يمكن أن يقال له: أنه نما من الأرض والماء والبذر والعمل، والأرض والماء والبذر والعمل، والأرض بمنزلة الأم، والولد يتبع الأم فكذلك الزرع يتبع الأرض، ويشهد لهذا الحديث المتقدم:"من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء وله نفقته".

ولكن الحديث نص فيمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم وفي المزارعة الفاسدة لم يكن الزارع متعديًا بل زارعًا بإذن فيستحق جزءًا من الخارج على الوجه الذي تقدم ذكره، والله أعلم.

* * *

ص: 711