المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ تخليل الخمر - التنبيه على مشكلات الهداية - جـ ٥

[ابن أبي العز]

الفصل: ‌ تخليل الخمر

منه داعيًا إلى كثيرة ولم يعارض المنع من القليل معارض أقوى منه ولا مساوٍ له من حاجة أو ضرورة -منع الشارع من المنع قليلة كما منع من كثيره، ولما أمكن ضبط القدر المتخم بضابط- وهو الزيادة على الشبع، وليس في الطبع ما يدعو إليه بل الطبع السليم ينفر من الأكل فوق الشبع- منع الشارع من الزيادة عليه إلا إذا عارض ذلك معنى آخر كمؤانسة الضيف أو التقوى على صوم الغد فيباح له الزيادة بقدر الحاجة، فلا يصح قياس المسكر على المتخم والحالة هذه، وأيضًا فإن التخمة لا تحصل إلا بالأكل الزائد على الشبع بخلاف السكر فإنه يحصل بتناول المسكر شيئًا فشيئًا فكان نظير القدح الأول اللقمة الأولى بعد الشبع، نظيره [أيضًا] إيقاد الحطب تحت قدر اللحم كلما أوقد عودًا ازداد اللحم نضجًا، فلا يحصل شيء من التخمة بالأكل دون الشبع ويحصل بعض السكر بتناول بعض المسكر كما يحصل بعض التخمة بتناول شيء بعد الشبع لكن لما لم يكن ضبط البعض -الذي يحصل به بعض السكر أو بعض التخمة- منع مطلقًا/ من الأكل فوق الشبع، ومن تناول شيء من المسكر سدًا للذريعة.

قوله: (ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "نعم الإدام الخل").

اختلف العلماء في جواز‌

‌ تخليل الخمر

، فعن عمر بن الخطاب عدم

ص: 841

جواز تخليلها وبه قال الزهري وأحمد ونحوه قول مالك وابن المبارك.

وقال الشافعي: إن ألقي فيها شيء يفسدها كالملح فتخللت فهي على تحريمها، وإن نقلت من شمس إلى ظل أو من ظل إلى شمس فتخللت ففي إباحتها قولان.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: تطهر بالتخيل، واتفق العلماء على أنها لو تخللت بنفسها طهرت وحلت، استدل من قال بجواز التخليل بما ذكره المصنف وهو حديث صحيح رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي من حديث جابر، وبما ذكره البيهقي وغيره عن جابر -رضي الله

ص: 842

عنه- أيضًا "ما أفقر أهل بيت من أدم فيه خل، وخير خلكم خل خمركم"، وهو حديث ضعيف، وبما ذكره الدارقطني عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدباغ يحل من الميتة كما يحل الخل من الخمر" وهو حديث ضعيف أيضًا واستدل من قال بعدم جواز التخليل بحديث أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ فقال: لا" رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه.

وعنه "أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرًا؟ قال: أهرقها،

ص: 843

قال: أفلا نجعلها خلاً؟ قال: لا"، رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد قال: "قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما حرمت الخمر: إن عندنا خمرًا ليتيم لنا؟ فأمرنا فأهرقناها" رواه أحمد.

وهذه نصوص في المسألة لا تصح معارضتها بما ذكره المجوزون أصلاً، فإن حديث "إن الدباغ يحل من الميتة كما يحل الخل من الخمر" لا تقوم به حجة، والحديث الذي فيه مدح خل الخمر ضعيف أيضًا، ولو ثبت يحمل على خل خمر تخللت بنفسها، والحديث الذي ذكره المصنف وإن كان صحيحًا فلا معارضة بينه وبين نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تخليل الخمر بل يج حمله على خل لم يكن أصلها خمرًا، أو كان أصلها خمرًا وتخللت بنفسها للجمع بين الحديثين، والفرق بين تخليل الخمر ودباغ جلد الميتة أن جلد الميتة لا محذور في إمساكه للدبغ، فإن الطباع تنفر من الميتة فلا يخاف مقارفتها بخلاف الخمر فإن الطبع قد يميل إليها، والشيطان لم يمت بعد فيخاف مقارفتها فيجب مفارقتها بإراقتها، والأمر فيها بالاجتناب منصوص عليه ونهيه عن تخليلها دليل على أن ذلك لا يصلحها، ولو كان إلى إصلاحها سبيل لم يجز إراقتها، بل كان أرشدهم إليه لاسيما وهي لأيتام يحرم التفريط في أموالهم، وقد تقدم نقله عن عمر رضي الله عنه ولا يعرف له مخالف من الصحابة فنزل منزلة الإجماع.

ص: 844

قالوا: بل أمره صلى الله عليه وسلم كافٍ في عدم جواز تخليلها لأنه لو جاز لبين جوازه؛ لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، كما قال في حق الشاة الميتة:"هلا دبغتم جلدها فانتفعتم به" كيف والأصحاب يدعون مالية الخمر دون مالية الميتة، وقد "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال" فلو جاز تخليلها لما أمر بإراقتها.

وقد أجيب عن هذا: بأن ذلك كان في الابتداء لينزجر الناس عنها وينتهوا عن شربها، وهذا الجواب فاسد، فإن الناس اليوم أحوج إلى شرع مثل هذا الزاجر من أهل ذلك الزمان، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أقرب إلى الانتهاء بمجرد النهي ممن بعدهم، ألا ترى "أن عمر رضي الله عنه زاد في حد الشرب إلى ثمانين" للزجر، ورأى أن أقل من ذلك لا يزجرهم لما رأى من حالهم، وأيضًا فإن المحرم لما نهي عن قتل الصيد لم يكن قتله ولا ذبحه إياه مبيحًا له فكذلك تخليل الخمر.

قوله: (فصل في طبخ العصير إلى آخره).

ص: 845

قد تقدم التنبيه على أن الشارع سوى بين المسكر من عصير العنب وبين غيره من المسكرات فطبخ العصير لا يفيد شيئًا بعد ثبوت ذلك، وأما ما روي عن عمر رضي الله عنه "أنه لما قدم الشام وأراد أن يطبخ للمسلمين شرابًا لا يسكر كثيره، طبخ العصير حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه وصار مثل الرب فأدخل فيه إصبعه فوجده غليظًا، فقال: كأنه الطلاء، يعني الطلاء الذي تطلى به الإبل، فسموا ذلك الطلاء. فهذا الذي أباحه عمر رضي الله عنه لم يكن يسكر ولكن نشأت شبهة/ من جهة أن هذا المطبوخ قد يسكر من جهة ما يضاف إليه من الأفاويه وغيرها مما يقويه ويشده حتى يصير مسكرًا أو من جهة أنه ربما يكون لبعض البلاد طبيعة يسكر فيها ما ذهب ثلثاه فيحرم إذا أسكر فإن مناط التحريم هو السكر لما تقدم، ولم يثبت عن عمر رضي الله عنه ولا غيره من الصحابة رضي الله عنهم أنه أباح قليل مسكر ولا كثيره، والله أعلم.

* * *

ص: 846