الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجنايات
قوله: (ولنا ما تلونا من الكتاب وروينا من السنة، ولأن المال لا يصلح موجبًا لعدم المماثلة والقصاص يصلح للتماثل وفيه مصلحة الأحياء زجرًا أو جبرًا فيتعين، وفي الخطأ وجوب المال ضرورة صون الدم عن الإهدار ولا يتعين بعدم قص الولي بعد أخذ المال، فلا يتعين مدفعًا للهلاك).
فيه نظر من وجوه:
أحدها: قوله: ولنا ما تلونا، بعنى قوله تعالى:{كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية.
وجوابه: ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدية، فقال الله تعالى لهذه الأمة:{كتب عليكم القصاص في القتلى} الآية {فمن عفى له من أخيه شيء} ، قال: فالعفو أن
يقبل في العمد الدية والاتباع بالمعروف يتبع الطالب بمعروف ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذلك تخفيف من ربكم ورحمة} مما كتب على من كان قبلكم" رواه البخاري والنسائي والدارقطني.
والثاني: قوله: روينا من السنة، يعني قوله صلى الله عليه وسلم:"العمد قود".
وجوابه: أن هذا الحديث رواه أبو داود وابن ماجه بألفاظ متقاربة ولا ينافي التخيير الثابت في حديث أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يفدى وإما أن يقتل" رواه الجماعة، لكن/ لفظ الترمذي:"إما أن يعفو، وإما أن يقتل".
وعن أبي شريح الخزاعي قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أصيب بدم أو خبل- والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث إما أن يقتص أو يأخذ العقل أو يعفو فإن أراد رابعة فخذوا على يديه" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
والثالث: قوله: ولأن المال لا يصلح موجبًا لعدم المماثلة إلى آخره.
وجوابه: أن هذا تعليل في مقابلة النص فلا يقبل، وأيضًا فإن دخول المال قد يكون أصلح من القود للحاجة إليه وعدم المبالاة بفقد ذلك المقتول فيحصل به الزجر والجبر، وتمام التعليل معروف في موضعه.
والتخيير مذهب سعيد بن المسيب وابن سيرين والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، واختاره ابن المنذر، وقد أجاب الأصحاب عن الآية
والحديث بأن المراد أخذ الدية برضى القاتل وهو خلاف الظاهر وسر المسألة أن القاتل هل يجبر على بذل الدية من ماله إذا طلبها ولي المقتول ليخلص دمه، الظاهر إجباره؛ لأنه إذا قال: لا أعطيكم شيئًا، بل اقتلوا إن شئتم، فقد تخلى عن إحياء نفسه بماله فيجبر على إحياء نفسه بماله، وهذا المعنى عاضد لظاهر الحديث، والعمدة ظاهر الحديث لأنه سالم عن المعارض والله أعلم، وهذا معنى قول من قال بالتخيير.
قوله: (وله قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا وفيه مائة من الإبل" ولأن الآلة غير موضوعة للقتل ولا مستعملة فيه إذ لا يمكن استعمالها في غرة من المقصود قتله، وبه يحصل القتل غالبًا فقصرت العمدية نظرًا إلى الآلة فكان شبه العمد كالقتل بالسوط والعصا الصغيرة).
قول أبي يوسف ومحمد قول جمهور العلماء منهم الأئمة الثلاثة، وهو أقوى لحديث أنس رضي الله عنه "أن يهوديًا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها: من فعل هذا بك؟ فلان؟ أو فلان؟ حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها، فجيء به فاعترف فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بحجرين" رآه الجماعة، وعن حمل بن مالك قال: "كنت بين بيتي امرأتي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة وأن تقتل بها" رواه الخمسة إلا الترمذي.
والحديث الذي استدل به المصنف لأبي حنيفة رحمه الله حجة عليه لا له، فإن العصا لا تطلق إلا على ما لا تقتل غالبًا، ففي معناها الضرب باليد والرجل والحجر الصغير ونحو ذلك مما لا يقتل غالبًا، وأما الحجر الكبير والخشبة الكبيرة ونحو ذلك ففوق السوط والعصا، فلا يلحق بهما ولا تسمى الخشبة الكبيرة عصا، وإن كانت العصا تكون صغيرة وكبيرة، ولكن الجذع ونحوه لا يسمى عصا، وعمله فوق عمل العصا فلا يلحق بها، وقوله: ولأن الآلة غير موضوعة للقتل ولا مستعملة فيه إلى آخره.
جوابه: أن المثقل إنما لم يكن آلة للقتل لثقله ولكنه يعمل عمل الآلة الموضوعة للقتل وأبلغ، ولا عبرة للصور وإنما العبرة للمعاني.
حرمان الميراث بهذا الدليل الذي ذكره فيه نظر، فإن ميراث من ورثه الله في كتابه لا يستثنى منه إلا بسنة أو إجماع، فمن أجمعوا على حرمانه فهو محروم، واعتبار المخطئ بالعامد مشكل، وإنما أجمعوا على أن القاتل لا يرث من دية من قتله شيئًا، واختلفوا في ميراثه من مال من قتله خطأ سوى ديته فذهب إلى أن القاتل يرث من ماله ولا يرث من ديته سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والزهري والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ومالك، وإسحاق
وأبو ثور، واختاره ابن المنذر، ورواه ابن ماجه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
باب ما يوجب القصاص وما لا يوجب
قوله: (ولنا ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلمًا بذمي").
رواه أب داود في المراسيل وضعفه أهل الحديث، قال ابن المنذر: واختلفوا في قتل المؤمن بالكافر، فروي عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت أنهم كانوا لا يرون قتل المؤمن بالكافر، وبه قال عطاء والحسن وعمر بن
عبد العزيز وعكرمة/ ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقالت طائفة: إذا قتل المسلم اليهودي أو النصراني أو المجوسي قتل به المسلم، هذا قول أصحاب الرأي، وروي عن الشعبي والنخعي في اليهودي والنصراني خاصة، وثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يقتل مؤمن بكافر" وبه نقول، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يعارضه. انتهى.
وزاد في المغني: معاوية والزهري وابن شبرمة والأوزاعي وأبا عبيد، ويشير ابن المنذر بقوله: ثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل مؤمن بكافر" إلى ما رواه أحمد وأبو داود بهذا اللفظ، وفي لفظ:"لا يقتل مسلم بكافر"
رواه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي والترمذي، وابن ماجه.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: "من السنة أن لا يقتل مؤمن بكافر" رواه أحمد وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" رواه أحمد والنسائي وأبو داود.
وعن عثمان رضي الله عنه: "أن مسلمًا قتل ذميًا عمدًا فغلظ عليه، وأوجب عليه كمال الدية مثل دية المسلم" قال البيهقي: موصول، وقال:
ابن حزم: هو في غاية الصحة عن عثمان.
وقد تأول الأصحاب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" على أن معناه لا يقتل مؤمن بكافر حربي، ولا يقتل ذو عهد في عهد بكافر حربي، وفي هذا التأويل على تقدير صحة هذه الزيادة نظر، فإن فيه صرف الكلام عن ظاهره القوي إلى معنى ضعيف بل فاسد فإن الكافر الحربي مأمور بقتله، فلا يقال إنه لا يقتل قاتله، وإن حمل على أنه لا يقتل مسلم قتل حربيًا في دار الحرب وقد دخل دارهم بأمان أو من لا يحل قتلهم كالصبيان والنساء من أهل الحرب، فهذا هضم لمعنى الحديث ولفظه أعم من ذلك ولا يصح حمله على ما إذا قتل ذمي ذميًا ثم أسلم لأنه يقتل به قصاصًا.
حكى السغناقي الإجماع على ذلك ولكن دعوى غير صحيحة، فإن الأوزاعي قد قال إنه لا يقتل به ولما قال صلى الله عليه وسلم:"لا يقتل مسلم بكافر" علم أنه قد يتوهم من نفي القتل عن قاتل الكافر مطلقًا، جواز الإقدام على قتل الذمي المعاهد لأنه لا يقتل قاتله، فلعله أهدر دمه، فقال: "ولا ذو عهد في
عهده" أي ولا قتل ذو عهد في زمن عهده، فلم يكن قوله: "ولا ذو عهد في عهده" مغيرًا لما دل عليه قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" من العموم، بل فيه بيان واحتراز عن معنى لعله يفهم من الكلام الأول، ولو سلم أن الحديث يحتمل أن معناه: لا يقتل مسلم بكافر حربي، فلا يجوز قتل المسلم بالكافر بهذا الاحتمال الذي هو خلاف ظاهر النص، كيف وحديث علي رضي الله عنه الذي في صحيح البخاري جملة مستقلة قائمة الدلالة بنفسها لم يعطف عليها غيرها، وهو أصح ما في الباب وأصرح، وأيضًا فقوله: "تتكافأ دماؤهم" يدل على عدم القصاص لعدم المكافأة.
وكذا قوله: "وهم يد على من سواهم" يفهم منه نفي يد غيرهم عنهم كما قال تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} ولأن المستأمن لا يقتل المسلم بقتله وهو معاهد كالذمي، وهما في تحريم القتل سواء فكذلك الذمي، ولا يصح قياس من قاس قتل المسلم بالذمي على قطعه بسرقته مال الذمي؛ ولأن الأصحاب قالوا: الأطراف يجري فيها حذو الأموال بخلاف الدماء، ولأن القطع في السرقة حق الله تعالى ولهذا لا يشترط فيها الدعوى
في قول طائفة من أهل العلم، وهو رواية عن أحمد بخلاف القصاص، ولأن القياس لا يصح مع وجود النص، والقود يسقط للشبهة، وسيأتي ذلك في كلام المصنف نفسه فهلا سقط القود عن المسلم هنا للشبهة.
قوله: (لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقاد الوالد بوالده").
هذا الحديث ضعيف، ولا يكون حجة على مالك إلا بعد
ثبوته.
قوله: "ولنا وله عليه الصلاة والسلام: "لا قود إلا بالسيف").
أخرجه البيهقي وابن ماجه، وضعفه أهل الحديث، وقد ثبت في السنة خلافه، فعن أنس رضي الله عنه "أن يهوديًا رض رأسه جارية بين حجرين فقيل لها: من فعل بك؟ فلان أو فلان حتى سمي اليهودي، فأومأت برأسها فجيء به فاعترف فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه بحجرين" رواه الجماعة.
وفي حديث العرنيين الذين مثلوا بالراعي فمثل بهم النبي صلى الله عليه وسلم كما مثلوا به.
متفق عليه، وقد قال الله تعالى:{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} الآية.
وقال تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} الآية، ولا يعارض ذلك النهي عن المثلة، فإن المراد منها النكال، وهو الزيادة على القتل يقال: مثل به إذا قتله ثم قطع أطرافه، ونحو ذلك فليست المثلة من باب القصاص بالمثل بل من باب النكار والعبرة لينزجر المفسد عن مثل فعل ذلك المعاقب لئلا يفعل به مثل ما فعل به، ولهذا يقال: مثل بالقتيل في الحرب وغيرها إذا قطعت أطرافه وبقر بطنه أو نحو ذلك، وإن لم يكن ذلك القتيل فعل مثل ما فعل به، وهذه المثلة هي التي نهى الشارع عنها. قال عمران بن حصين رضي الله عنه:"ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة".
قوله: (وله قوله عليه الصلاة والسلام: "ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل
السوط والعصا" وفيه "وفي كل خطأ أرش").
هذا مركب من حديثين:
الأول: "ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا، فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها" أخرجه أصحاب السنن.
والثاني: "كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرش" رواه البيهقي، وفيه جابر الجعفي وهو ضعيف، والاستدلال على نفي القصاص بالتغريق نظير الاستدلال به على القتل بالمثقل، وقد تقدم التنبيه على ما فيه من الإشكال.
قوله: (قال عليه الصلاة والسلام: "من كثر سواد قوم فهو منهم").
هذا الحديث غير معروف، والمعروف:"من تشبه بقوم فهو منهم" أخرجه أبو داود.
* * *
باب القصاص فيما دون النفس
قوله: (ومن ضرب عين رجل فقلعها فلا قصاص عليه لامتناع المماثلة في القلع).
أكثر أهل العلم على أن القصاص مشروع في قلع العين لقوله تعالى: {العين بالعين} وقال أبو يوسف في رسالته إلى هارون الرشيد: وكذلك العين إذا ضربها عمدًا فذهبت ففيها القصاص، وكذلك الجروح كلها تكون في البدن ففيها القصاص، وذلك إذا كان يستطاع فيها القصاص، فإن لم يستطع فيها القصاص ففيها الأرض. انتهى.
والتعليل بامتناع القصاص لامتناع جريان المماثلة لا يقوى لأن التفاوت اليسير في مثل هذا ساقط الاعتبار، فإن قطع الأنف وقطع اليد من المفصل لابد أن يبقى فيه شيء يسير يتعذر أو يتعسر التحرز منه، بل قد ورد فيما هو أبلغ من ذلك وهو اللطمة والضربة وسيأتي التنبيه على ذلك إن شاء الله تعالى.
قوله: (ولا قصاص في عظم إلا في السن، وهذا اللفظ روي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، وقال عليه السلام: "لا قصاص في عظم").
لا يعرف هذا النقل المذكور عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولا الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن حكى البيهقي "أن عمر رضي الله عنه قال: لا أقيد من العظام" وحكى ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "ليس في العظام قصاص".
قوله: (ولنا أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت في القيمة، وهو معلوم قطعًا بتقويم الشرع فأمكن اعتباره بخلاف التفاوت في البطش؛ لأنه لا ضابط له فاعتبر أصله، وبخلاف الأنفس لأن المتلف إزهاق الروح ولا تفاوت فيه ويجب القصاص في الأطراف بين المسلم والكافر للتساوي بينهما في الأرش).
فيه نظر، فإن اعتبار الأطراف بالأموال لا يقوى، بل هي أشرف منها
وأعظم، والأموال تخلف وهي لا تخلف، وكونها ينتفع بها والأموال ينتفع بها لا يلزم منه أن يأخذ حكمها، والفرق بين الانتفاعين ظاهر، واعتبار الأطراف بالنفوس أظهر وأقوى من اعتبارها بالأموال فإن البعض يأخذ حكم الكل، وقوله تعالى:{وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص} دليل على أن حكم الأطراف حكم النفوس، ولم يعارض هذا المعنى الظاهر ما يوجب صرفه عما ظهر منه.
ولما كانت النفوس متكافئة وهي أعظم خطرٌ كان ما دون النفس أولى، وكما أن التفاوت ثابت بين أطراف الرجال وبين أطراف النساء في أمر الدية فهو ثابت بين نفوسها والتفريق بأن المتلف في النفوس إزهاق الروح ولا تفاوت فيه بخلاف الأطراف لا يقوى إذ لو كان كذلك لم يكن بين دية المرأة وبين دية الرجل تفاوت، وليس الأمر كذلك، بل دية المرأة على النصف من دية الرجل، ودية اطراف كل منهما معتبرة بدية نفسه، ولما كانت اليد الشلاء من كل منهما لا تساوي الصحيحة منه في الدية لم تقطع بها فلا يلزم من تفاوتها في ذلك تفاوت أطراف الرجل والمرأة مع اتحاد صفة الصحة والسلامة.