المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته: - الجامع لأحكام الصيام

[محمود عبد اللطيف عويضة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: صيام رمضان – أحكام عامة

- ‌فضل الصيام:

- ‌فضلُ رمضان:

- ‌متى شُرع الصيام الواجب

- ‌النيَّة في الصيام:

- ‌صوموا لرؤيته وأَفطروا لرؤيته:

- ‌هل يصح العمل بالحساب الفلكي

- ‌دعوى اختلاف المطالع:

- ‌الحساب الفلكي

- ‌كم الشهر الهجري

- ‌صوم الحائض والنُّفَساء:

- ‌صيام من أصبح جُنُباً:

- ‌إثم من أفطر في رمضان بغير عذر:

- ‌صوم الصبيان:

- ‌صوم الحامل والمرضع:

- ‌لا صوم على المجنون وعلى المغمَى عليه:

- ‌حِلُّ الجماع في ليالي الصيام:

- ‌لفصل الثاني: الفِطْر والسُّحُور

- ‌متى يفطر الصائم

- ‌ما يُستحبُّ للصائم أن يفطر عليه:

- ‌ما يقوله الصائم إذا أفطر:

- ‌ثواب من فطَّر صائماً:

- ‌الصائم إذا أفطر ناسياً:

- ‌حكم السُّحور:

- ‌وقت السُّحور:

- ‌الفصل الثالث: الصيام في السَّفر

- ‌حكمُ الصيام في السَّفر:

- ‌قدرُ مسيرةِ ما يفطر فيه:

- ‌الفصل الرابع: قضاء الصوم

- ‌ولاً: قضاءُ الصوم عن النفس:

- ‌قضاءُ الصوم المفروض:

- ‌ قضاء الصوم على المريض وعلى المسافر:

- ‌ قضاء الصوم على المرأة الحائض وعلى النُّفَساء:

- ‌ قضاء الصوم على المتقيء عمداً:

- ‌ قضاءُ الصوم على من أفطر قبل الغروب

- ‌ على المجنون وعلى المغمى عليه يصحوان في نهار رمضان

- ‌ على الحامل وعلى المرضع إن أفطرتا:

- ‌ على الصبي وعلى الكافر إذا وقع عليهما التكليف

- ‌ قضاءُ صوم التطوُّع:

- ‌ثانياً: قضاء الصوم عن الميت:

- ‌كيف ومتى يُقضى الصوم

- ‌الفصل الخامس: صيام التطوع

- ‌صوم المرأة بإذن زوجها:

- ‌الصائم المتطوع إذا دُعي:

- ‌الصوم في الشتاء:

- ‌الصومُ في الجهاد:

- ‌يصحُّ قطعُ صيام التطوع:

- ‌الصيامُ في أيام الأسبوع:

- ‌ أنواعُ صيام التطوع:

- ‌صيامُ ما تيسَّر من كل شهر:

- ‌صيامُ ثلاثة أيام من الشهر:

- ‌صيامُ الاثنين والخميس:

- ‌صيامُ ستة أيام من شوال:

- ‌الصيامُ في الأشهر الحُرُم:

- ‌الصومُ في شهر الله المحرَّم:

- ‌ صيامُ تسعٍ من ذي الحجة:

- ‌ الصيامُ في رجب:

- ‌صيامُ يوم عرفة:

- ‌صومُ عاشوراء:

- ‌صومُ شعبان:

- ‌الفصل السادس: الصيام المحرَّم الذي لا يجوز

- ‌صومُ الدهر:

- ‌صومُ يومي الفطر والأضحى:

- ‌صومُ أيام التشريق:

- ‌صومُ الوِصال:

- ‌الفصل السابع: الكفَّارات

- ‌ الكفَّاراتُ بالصيام

- ‌ صيامُ مَن جامع زوجته في نهار رمضان:

- ‌ صيامُ الحانث في يمينه:

- ‌ صيامُ الحانث في نذره:

- ‌ الكفَّاراتُ بالفِدْية

- ‌ الشخصُ يموت وعليه صيام:

- ‌ مقدارُ الفدية:

- ‌الفصل الثامن: ما يفطِّر الصائم

- ‌ السُّعوطُ:

- ‌ الجائفة والآمَّة

- ‌ إبرةُ الطبيب لا تفطِّر

- ‌الفصل التاسع: ما لا يفطِّر الصائم

- ‌الحِجامةُ:

- ‌السِّواك:

- ‌الفصل العاشر: قيام رمضان وليلة القدر

- ‌أوصافُ ليلة القدر:

- ‌ليلةُ القدر متى هي

- ‌الفصل الحادي عشر: الاعتكاف

- ‌حكمُ الاعتكاف:

- ‌أين يكونُ الاعتكاف

- ‌متى يكونُ الاعتكاف

- ‌متى يبدأُ الاعتكاف

- ‌مدةُ الاعتكاف:

- ‌هل الصيامُ شرطٌ في صحة الاعتكاف

- ‌ما يفعلُه المعتكِف وما لا يفعلُه:

- ‌الاجتهادُ في العشر الأواخر من رمضان:

- ‌الفصل الثاني عشر: زكاة الفطر

- ‌حكمُ زكاةِ الفطر:

- ‌وقتُ وجوبها:

- ‌وقتُ إخراجها:

- ‌على من تجب زكاة الفطر:

- ‌الأصنافُ التي تُجزئُ في زكاة الفطر:

- ‌مقدارُ زكاة الفطر:

- ‌مقدارُ الصاع النبوي:

- ‌إلى من تُدفعُ زكاة الفطر:

- ‌فهرست الكتاب

- ‌مصادرُ النصوص الواردة في الكتاب

الفصل: ‌صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته:

وعليه فإني أقول إن عقد نية صيام التطوُّع يصح في النهار، في أي جزء منه، ولو كان ذلك قبل الغروب بساعة لأنه لا يصح تقييده إلا بدليل صحيح صالح ولا دليل هنا. وبذلك يظهر خطأ الذين أوجبوا عقد النية قبل الظهيرة فقط ويظهر صواب رأي القائلين بجواز عقد النية قبل الظهيرة وبعدها، وهم عبد الله بن عباس وعائشة وحذيفة وأحمد والشافعي في أحد قوليه.

أما مسألة: هل تجب النية في رمضان لكل يومٍ أم أن الصائم تُجْزِئه نيةٌ واحدة لجميع الشهر؟ فالصحيح هو أن النية تجب في رمضان لكل يوم وليس صحيحاً أن نيةً واحدةً تُجزئُ لجميع الشهر، وذلك لأن صوم كل يوم هو عبادة مستقلة عما قبلها، وعما بعدها، يفصل بين الصوم والآخر إفطارٌ في الليل، وما دام صوم كل يوم عبادة مستقلة فإنه لا بد له من نية حتى يصحَّ، وهذا الفهم هو من باب تحقيق المناط.

بقي قول زُفَر وعطاء ومجاهد والزُّهري: إن الصيام يصح في رمضان في حق المقيم الصحيح بغير نيَّة. وقد قرأت رأي زُفَر في كتاب شرح فتح القدير لابن الهمام الحنفي هكذا [يتأدَّى صومُ رمضان بدون النية في حق الصحيح المقيم، لأن الإمساك مستحق عليه، فعلى أي وجه يؤديه يقع منه] وغفر الله لزُفَر ولمن قال بقوله، وكأنهم لا يعلمون أن العبادات كلها تحتاج إلى نية؟ ألم يسمعوا قوله عليه الصلاة والسلام كما رواه عمر رضي الله تعالى عنه {إنما الأعمال بالنيَّة

} رواه البخاري (6689) ومسلم؟ . وفي رواية أخرى له (1) بلفظ {إنما الأعمال بالنيَّات

} ؟ فكيف يقول: على أي وجه يُؤدِّيه يقع منه؟ بمعنى أنه لو أمسك عن الطعام ذلك اليوم بنيَّة تنحيف جسمه مثلاً فإن صيامه يكون عبادة صحيحة؟ إن هذا الرأي ليبلغ من الضعف درجة لا يحتاج معها إلى وقفة أطول.

‌صوموا لرؤيته وأَفطروا لرؤيته:

ص: 28

قال الترمذي [والعمل على هذا الحديث – حديث ابن عباس وسيأتي – عند أكثر أهل العلم، قالوا: تُقبل شهادة واحد في الصيام، وبه يقول ابن المبارك والشافعي وأحمد. وقال إسحق: لا يُصام إلا بشهادة رجلين. ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين] وقال الخطَّابي: لا أعلم اختلافاً في أن شهادة الرجلين العدلين مقبولة في رواية هلال شوال، وإنما اختلفوا في شهادة رجل واحد، فقال أكثر العلماء لا يقبل فيه أقل من شاهدين عدلين.

وقد ذهب الجمهور إلى القول بشهادة شاهد واحد عدلٍ في رؤية هلال رمضان، أي في بدء الصوم، وعندهم أنه إن شهد مسلم واحد عدل أنه رأى هلال رمضان فقد وجب الصيام على جميع المسلمين، قال أحمد: ولو كان عبداً أو امرأة، وهو قولٌ للشافعية. ومعتمد مذهب الشافعية أنه لا بد من أن يكون الشاهد حراً ذكراً وأجاز الأحناف شهادة العدل ولو كان عبداً أو أنثى إذا كان بالسماء غيم. وخالف الجمهورَ المالكيةُ وإسحقُ بن راهُويه، فأوجبوا لثبوت هلال رمضان شهادةَ شاهدين عدلين ذكرين حرَّين بالغين أو جماعةٍ كثيرةٍ وعندئذ لا يشترط أن يكونوا كلهم ذكوراً أحراراً عدولاً.

أما بخصوص ثبوت رؤية هلال شوال أي بدء الإفطار فذهب الجمهور والأئمة الأربعة إلى أنه لا بد من شهادة شاهدَيْن في ثبوت رؤية هلال شوال. وقال الأحناف بوجوب أن يكون الشاهدان عدلين حريَّن، أو حراً وحرَّتين بلفظ الشهادة. وخالفهم أبو ثور وابن المنذر من الشافعية، وابن رُشْد من المالكية والشوكاني، فأجازوا شهادة شاهد واحد عدل في إثبات رؤية هلال شوال أي بدء الإفطار.

ونحن ننظر في النصوص التالية لنرى الرأي في هذه المسألة بحول الله تعالى:

أولاً: النصوص المتعلقة برؤية هلال رمضان:

ص: 29

1-

عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال {جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبصرتُ الليلةَ الهلالَ فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؟ قال: نعم قال: قم يا فلان فأذِّن بالناس فلْيصوموا غداً} رواه ابن خُزيمة (1923) وابن حِبَّان. ورواه أبو داود (2340) بلفظ {

إني رأيت الهلال – قال الحسن في حديثه: يعني رمضان

} وروى الحديثَ أيضاً النَّسائي والترمذي وابن أبي شيبة، وصححه الحاكم والذهبي.

2-

عن حسين بن الحارث الجدلي، من جديلةِ قيس، أن أمير مكة خطب، ثم قال {عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَنْسُك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدلٍ نسكنا بشهادتهما

ثم قال الأمير: إنَّ فيكم من هو أعلم بالله ورسوله مني، وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأومأ بيده إلى رجل، قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي: من هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال: هذا عبد الله بن عمر، وصدق، كان أعلم بالله منه، فقال: بذلك أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه أبو داود (2338) والدارَقُطني وصححه. ورواه البيهقي. قوله ننْسُك: أي نعبد، وهنا معناه نحجُّ. وقوله ننْسُك للرؤية: الرؤية هنا رؤية هلال ذي الحجة.

3-

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال {تراءى الناسُ الهلال، فأخبرتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَني رأيته، فصامه وأمر الناس بصيامه} رواه أبو داود (2342) والدارمي والبيهقي. ورواه ابن حِبَّان والحاكم وابن حزم وصححوه.

ص: 30

الحديث الثاني، حديث أمير مكة، ليس هو في باب الصوم، وإنما هو في باب الحج فيبقى فيه، ونَدَعه هناك. فيبقى حديثا ابن عباس وابن عمر: الأول يذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أثبت رؤية هلال رمضان وأمر بالصيام لشهادة أعرابيٍّ واحدٍ. والحديث الثاني يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أثبت رؤية هلال رمضان، وأمر بالصيام لشهادة ابن عمر نفسه. وهذان حديثان صالحان للاحتجاج، ويدلان دلالة لا تقبل التأويل على أن ثبوت هلال رمضان وبدء الصوم يثبتان بشهادة شاهد واحد، وهذا ردٌّ على من أوجب شهادة شاهدَيْن اثنين، وهم المالكية وإسحق ابن راهُويه. والأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى وِقفة أطول.

ثانياً: النصوص المتعلقة برؤية هلال شوال:

1-

عن ربعي، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح صائماً لتمام الثلاثين من رمضان، فجاء أعرابيان فشهدا أن لا إله إلا الله وأنهما أَهَلَاّه بالأمس، فأمرهم فأفطروا} رواه الدارَقُطني (2/168) وقال [هذا صحيح] ورواه أبو داود والنَّسائي وأحمد.

2-

عن الحسين بن الحارث قال: سمعت عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب يقول {إنَّا صحبنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلمنا منهم، وإِنهم حدثونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أُغمي عليكم فعُدُّوا ثلاثين، فإن شهد ذوا عدلٍ فصوموا وأَفطروا وانْسُكوا} رواه الدارَقُطني (2/167) وأحمد والنَّسائي. ولفظ أحمد (19101){صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وأنْ انسكوا لها فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثلاثين وإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا}

3-

عن الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه قال {إذا شهد رجلان ذوا عدلٍ على رؤية الهلال فأفطروا} رواه ابن أبي شيبة (2/482) .

ص: 31

4-

عن أبي عُمَير بن أنس بن مالك قال: حدثني عمومتي من الأنصار، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا {أُغمي علينا هلالُ شوال فأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا وأن يخرجوا إلى عيدهم من الغَد} رواه ابن ماجة (1653) وأحمد والنَّسائي وابن حِبَّان والطحاوي. وقال الدارَقُطني [إسناده حسن] وكذا قال البيهقي، وقال [والصحابة كلهم عُدول سُمُّوا، أو لم يُسَمَّوْا] .

5-

عن أنس رضي الله تعالى عنه {أن قوماً شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال، هلالِ شوال، فأمرهم أن يفطروا، وأن يغدوا على عيدهم} رواه البزَّار (972) وأبو بكر القُطَيعي على مسند الإمام أحمد. قال الهيثمي [رجاله رجال الصحيح] .

الحديث الثاني عند الدارَقُطني وأحمد رواه الحجَّاج وهو ضعيف، فيُترك سنداً. أما من حيث المتن فإن الزيادة (فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا) غير محفوظة، وذلك أن صدر الحديث رُوي من عدة طرق في الصحاح، ليست فيها هذه الزيادة، فيُرَدُّ متناً. أما رواية النَّسائي فليس فيها الحجاج وإنما فيها إبراهيم بن يعقوب قال عنه الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال [متَّهم بالكذب تالف] فيُرَدُّ هذا الحديث أيضاً من رواية النَّسائي. أما الحديث الثالث فهو من رواية الحارث الأعور، وهو متَّهم بالكذب، فيُرَد الحديث. فتبقى عندنا الأحاديث ذوات الأرقام 1، 4، 5.

ص: 32

الحديث الأول يقول (فجاء أعرابيان فشهدا أن لا إله إلا الله، وأنهما أهَلَاّه بالأمس، فأمرهم فأفطروا) والرابع يقول (فجاء ركب من آخر النهار، فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا) والخامس يقول (أن قوماً شهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية الهلال، هلالِ شوال، فأمرهم أن يفطروا) بالنظر في هذه الألفاظ الثلاثة نجدها ذات نسق واحد، هو أن الذي حصل كان وقائع أعيَانٍ، أي وقائع حصلت مصادفةً لم تتضمَّن شرطاً أو شروطاً، فليس في أيٍّ منها ذِكرٌ لأي اشتراط بأن يكون الشهود اثنين أو ركباً أو قوماً، وإنما حصل أن جاء أعرابيان، وحصل أن جاء ركْبٌ، وحصل أن جاء قومٌ، فلا تفيد هذه النصوص لا لغةً ولا شرعاً أن أقل من ذلك لا يُقبل، فمن أدَّعى غير ذلك فليأتنا بالدليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردَّ شهادة شخص واحد في رؤية هلال شوال. والمعلوم أن وقائع الأعيان لا مفهوم لها ولا يقاس عليها، ولا تدل على اشتراط أو تقييد، وأَن كون الشهود أكثر من رجل واحد في هذه النصوص لا يعني أن شخصاً واحداً لا تكفي شهادته. فالقائل بكفاية شخص واحد إن جاءه اثنان أو خمسة أو عشرة أو مائة فإنه بلا شك سيقبلهم، وزيادة الخير خير كما يقال، وإنَّ الشخص الواحد الكافي ليدخل في الجموع ويتحقق المطلوب. وعليه فليس في هذه النصوص ما يدل على تقييدٍ أو اشتراطِ اثنين أو أكثر لرؤية هلال شوال.

ص: 33

وأقول لمن يرى في هذه النصوص أنها دالة على تقييدٍ أو اشتراطٍ: إنَّ الأخذَ بالحديث الرابع والحديث الخامس، حسب فهمهم، يعني أنه لا يصح قبول الشاهدَيْن فقط كما ورد في الحديث الأول، فالقائلون بأن هذه النصوص توجب التقيد بالعدد يصبحون في حيرةٍ، مالهم منها من خلاصٍ، فهم إما أن يُعمِلوا النصوصَ الثلاثة، وبذلك ينفون جواز الاثنين لأنهما أقل من الرَّكب ومن القوم، وإما أن يعتبروها متعارضة فيأخذ من شاء منهم بالاثنين ويرُدُّ الرَّكب والقوم، ويأخذ من شاء منهم بالرَّكب والقوم ويرد الاثنين!!

إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) فاشترطَ الرؤيةَ عمومَ الرؤيةِ، لرؤية هلال رمضان ولرؤية هلال شوال، ولم يفرِّق هذا النص البالغ الصحة بين الصوم والإفطار، فوجب القول بالتساوي بينهما نصوم للرؤية على عمومها، ونفطر للرؤية على عمومها، دون أن نجد مخصِّصاً واحداً لهذه الرؤية، وإنما وجدنا نصوصاً تذكر قبول الشاهد الواحد على الصيام، فنعمِّمُ القولَ بالشاهد الواحد كإثباتٍ على حصول الرؤية، وحيث أن الرؤية لهلال الصوم كالرؤية لهلال الإفطار فإن شاهداً واحداً قد ثبت قبولُه في أحدهما يجب أن يُقبَل في الآخر إلا أن تأتي نصوصٌ تستثني الآخَر من العموم، ولا نصوصَ مطلقاً.

وثمةَ نقطةٌ مهمة أذكرها هنا هي أن القول بقبول رؤية الشاهد الواحد لهلال رمضان يستلزم الإفطارَ عند تمام الشهر استناداً إلى قوله، وهذه الحالة تعني قبولَ رؤيةِ هذا الشاهد الواحد في ثبوت شهر شوال. وبذلك يظهر أنَّ الأئمة الأربعة أخطأوا في اشتراط الشاهدَيْن للإِفطار، ويظهر صواب رأي أبي ثور وابن المنذر وابن رشد والشوكاني القائلين بالمساواة بين رؤية هلال رمضان ورؤية هلال شوال.

ص: 34

وأما التفريعات المذكورة في ثنايا صدر البحث من حيث الحُرُّ والعبدُ والذكرُ والأنثى والغيومُ فلا محل لها هنا ولا دليل عليها. أما العبد فلم يعد له وجود فلا نُشغِلُ أنفسَنا به، وأما الذَّكَر والأنثى فإن العَدْل منهما تُقبل شهادته، فالعدالة في الإسلام لم تُعطَ للذكر فقط ولا للأنثى فقط، وإنما هما مشتركان فيها، وما جاء في النصوص من شهادة رجلين أو رجل وامرأتين فإنما يُقصَر على الموضوعات الواردة فيه، ولا يُعمَّم.

مسألة:

المعلوم أن الدولة، أو الخليفة، أو من يُوكَّل، يستقبلون الذين يرون الأهلَّة، فيعمِّمون الأمر بالصيام أو بالإفطار على الناس، بعد التثبت من أقوالهم ومشاهداتهم، والسؤال هنا هو: إذا رأى هلالَ رمضان أو رأى هلالَ شوال شخصٌ، فشهد أمام الخليفة، أو من وُكِّل أنه رأى هلال رمضان، أو رأى هلال شوال، فلم يُقبَل قولُه، ورُدَّت شهادته، فهل يلزمه هو العملُ بما رآه فيصوم وحده ويفطر وحده، أم يلتزم بقرار الخليفة؟ وثمة حالة ثانية، هي أن يكون الرَّائي بعيداً عن الخليفة، أو عمَّن وُكِّل بالأمر، بحيث لا يتمكن من أداء الشهادة، فهل يلزمه العملُ برؤيته هو أم يلتزم بقرار الخليفة؟

فذهب الأئمة الأربعة إلى وجوب الصوم على المنفرد برؤية هلال رمضان. واختلفوا في الإفطار برؤية هلال شوال وحده، فذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد إلى استمرار الصيام وعدم الإفطار برؤية هلال شوال وحده. وقالت الشافعية – وهو قولٌ للمالكية –: يلزمه الفِطرُ عملاً بقول الحديث (ولا تفطروا حتى تروه) ولكن يخفيه لئلا يُتَّهم. فأقول ما يلي، والله هو الموفق للصواب:

ص: 35

إن ما ذهب إليه الأئمة الأربعة من وجوب الصوم على المنفرد هو الصواب، وهو ما يتعين القول به فصوم يوم من آخر شعبان جائز شرعاً، وما رُوي من أحاديث تنهى عن التقدُّمِ قبل شهر رمضان فإنها تُحمل كلها على الكراهة كما سيأتي لاحقاً، في حين أن صيام من شاهد هلال رمضان واجب عليه لا شك فيه، والواجب مقدَّم على ترك المكروه، فوجب على من رأى هلال رمضان – وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صوموا لرؤيته – أن يصوم، لأن الرؤية قد حصلت لديه، وقد روى عبد الله بن أبي موسى قال {وسألتها – أي عائشة رضي الله عنها – عن اليوم الذي يُختَلَف فيه من رمضان، فقالت: لأَنْ أصوم يوماً من شعبان أحب إليَّ من أن أفطر يوماً من رمضان قال: فخرجت فسألت ابن عمر وأبا هريرة فكل واحد منهما قال: أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أعلم بذاك منا} رواه أحمد (25458) وسعيد بن منصور والبيهقي. قال الهيثمي [رجال أحمد رجال الصحيح] .

ص: 36