الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
…
ومن ذلك يظهر صواب الرأي الذي نُسب للجمهور، وهو أن الغِيبة وما ذُكر معها لا تفطِّر الصائم. وأُضيف أنا إلى هذا القولِ القولَ إن الغِيبة وما ذُكر معها تُنقِص أجر الصائم وثوابَه، ولا تُحْبِطه كلَّه كما يقول الشافعي، وإِنَّ الصائمَ ليخسرُ من أجر الصيام وثوابه بقدر ما يرتكب من معاصٍ.
…
أما لماذا جاءت هذه الأحاديث بعبارة (فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) ؟ فالجواب عليه هو أن القصد منها، والله أعلم، نهيُ الصائم نهياً شديداً، وتحذيرُه تحذيراً قوياً من ارتكاب معاصي الغِيبة وما ذُكر معها في أثناء الصوم. وهذه نكتة لطيفة وجليلة ينبغي لكل مسلم أن يقف عليها ويدركها.
أما هذه النكتة فهي أن الشرع عندما يأمر بعبادة من العبادات فإنه إنما يأمر بها المسلم من أجل أن يجني منها الثوابَ والأجرَ، فإن قام المسلمٌ بارتكاب معصيةٍ في أثناء هذه العبادة، فإنه بذلك يكون قد خرق القصد من عبادته، ولم يتنبه للغايةِ منها، وهو بدلاً من أن يَجْني ثواب العبادة وأجرَها يقوم بجني الآثام والسيئات، فيلغي بفعله هذا القصد من العبادة، ولذا جاء النص الشرعي يحذر المسلم من أن يحصد إثماً ومعصية في موسم حصاد الأجر والثواب، ليبقى موسمُ الأجرِ والثوابِ موسمَ أجرٍ وثوابٍ.
الفصل العاشر: قيام رمضان وليلة القدر
الفصل العاشر
قيامُ رمضان وليلة القدر
فضلُ قيام رمضان وليلة القدر:
ورد في فضل قيام رمضان عامةً وليلة القدر خاصةً عددٌ من الأحاديث النبوية الشريفة، أذكر منها ما يلي:
1-
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال {مَن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه} رواه البخاري (37) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والترمذي. ولفظ مسلم (1780) والنَّسائي {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغِّب في قيام رمضان مِن غير أن يأمرهم فيه بعزيمة، فيقول: من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك} وجاءت العبارة عند البخاري (2009) هكذا {
…
والناس على ذلك} .
2-
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه - عبد الرحمن بن عوف – رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إن الله تبارك وتعالى فرض صيام رمضان عليكم وسننتُ لكم قيامَه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيومِ ولدته أمه} رواه النَّسائي (2210) وابن ماجة وأحمد.
3-
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال {مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه} رواه البخاري (2014) ومسلم وأبو داود والنَّسائي والدارمي وابن حِبَّان.
4-
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال {دخل رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر، مَن حُرِمَها فقد حُرِم الخيرَ كلَّه، ولا يُحْرَم خيرَها إلا محرومٌ} رواه ابن ماجة (1644) . ورواه أحمد والنَّسائي من طريق أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
قوله في الحديثين الأول والثاني (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه) هو بيانٌ لفضل قيام رمضان، وهل هناك ما هو أفضل للمسلم من غفران الذنوب؟ إن ابن آدم خطَّاء وإن ذنوبه لتوبِقُهُ وتدخلُه النار، فكان هو في أمسِّ الحاجة لمكفِّرات الذنوب وغفرانها حتى ينجو من النار ويدخل الجنة فكان أن أنعم الله سبحانه عليه بقيام رمضان ليغفر له ذنوبه ويكفِّرها ويغسله من الأوضار، ويجعله من أهل الجنة
…
وقد جاء قول الحديثين (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له) بتقييد قيام رمضان بالإيمان والاحتساب ولم يجيء الأمرُ بالقيامُ مطلقاً، ليُعلِم القائمين أنه لا يكفي أن يقوموا الشهر المبارك رياءً وسمعةً، أو أنْ يقوموه وظيفةً كحالِ كثير من الأئمة اليوم الذين يؤُمُّون الناس ابتغاءَ الرواتبِ والمصالح، أو أنْ يقوموه قياماً صُورياً بأداء الصلوات نقراً كنقر الديك ينتظرون اللحظة التي يفرغون فيها من صلواتهم. نعم لا ينتظر هؤلاء وأمثالهم غفرانَ ذنوبِهم، ولا يظنُّ هؤلاء وأمثالُهم أنَّ القول النبوي ينطبق عليهم، فقيام رمضان كصيامه يجب أن يكون (إيماناً واحتساباً) أي يدفعهم إيمانهم للقيام به برغبةٍ وصدقٍ وإخلاصٍ، ويدَّخرون ذلك ليوم الحساب، محتسبين راغبين في قبوله من العلي العظيم، فليتنبه القائمون لهذه النقطة فإنها حاسمة.
…
وقد خصَّ الله سبحانه رمضان ولياليَه بليلة القدر، وهي أشرف ليلة في العام، فكان اختصاص رمضان ولياليه بها فضلاً عظيماً فوق فضل عظيم، وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة اخترنا منها الحديثين الثالث والرابع كنموذجَين لفضل قيامها ولخيرها، كي يزيد المسلمون فيها من صلواتهم ودعائهم وصدقاتهم وصنوف الخير المختلفة، فهي خير من ألف شهر، وقد نزل فيها عددٌ من آيات الله البينات:
1-
قال تعالى {حم O والكتابِ المُبينِ O إِنَّا أنَزلناه في ليلةٍ مُبارَكةٍ إنَّا كنا مُنْذِرِين O فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ عظيمٍ O أَمْراً من عندِنا إِنَّا كنا مُرسِلين O رحمةً من ربِّك إنه هو السميعُ العليمُ O} الآيات الستُّ الأولى من سورة الدخان.
2-
وقال سبحانه {إِنَّا أَنْزلناه في ليلةِ القَدْرِ O وما أَدراكَ ما ليلةُ القَدْرِ O ليلةُ القَدْر خيرٌ من أَلْفِ شهرٍ O تَنَزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها بإِذنِ ربِّهم من كلِّ أمرٍ O سلامٌ هي حتى مطلعِ الفجرِ O} الآياتُ الخمسُ الأولى من سورة القَدْر.
في الآية الرابعة من سورة الدخان قوله سبحانه {فيها يُفْرَقُ كلُّ أمرٍ حكيمٍ} أي أن كل أمرٍ مُحْكَمٍ عظيمٍ يُقضَى ويقرَّر في ليلة القدر من العام إلى العام الذي يليه، فهي ليلة تقدير الأمور عند ربنا عز وجل، وهذا لا شك فيه فضلٌ أعلى ومنزلةٌ عليا لليلة القدر.
…
أما في سورة القدر ففضل ليلة القدر بارز واضح كل الوضوح في كل آية منها ففي الآية الأولى بيان أن القرآن قد أنزله الله فيها، وفي الآية الثانية التنبيه إلى فضلها، وفي الآية الثالثة أنها خير من ألف شهر، وحيث أنَّ الشهر ثلاثون يوماً فهي إِذن خيرٌ من ثلاثين ألف يومٍ ليس فيها ليلة القدر، وفي الآية الرابعة بيان تنزُّلِ الملائكةِ وجبريل فيها من كل أمرٍ أبرمه الله وقضاه، وفي الآية الأخيرة بيان أنها سلام، أي سلام من الشرور حتى الصباح. ولهذا جاء في الحديث الرابع (من حُرِمَها فقد حُرِمَ الخيرَ كله، ولا يُحْرَمُ خيرَهَا إلا محرومٌ) اللهم لا تحرمناها ما دمنا أحياءً، وآتنا بفضلك خيرَها يا رب العالمين، آمين.
وقد روى أحمد (25898) والنَّسائي والترمذي وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها قالت {يا نبي الله إنْ وافقتُ ليلةَ القدر ما أقول؟ قال: تقولين: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عني} قال الترمذي [هذا حديث حسن صحيح] .