المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحياة المثالية هي التي يبدأ صاحب دعوتها بنفسه فيعمل بما يدعو إليه: - الرسالة المحمدية

[سليمان الندوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌ترجمة العلّامة سيّد سليمان الندوي

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌المحاضرة الأولى سيرة الأنبياء هي الأسوة الحسنة للبشر

- ‌مسؤولية الإنسان بقدر مواهبه:

- ‌حكمة إرسال الله الرسل للبشر:

- ‌الفرق بين دعوة الرسل ودعاوى غيرهم:

- ‌خلود دعوة الرسل واضمحلال دعاوى غيرهم:

- ‌ما من طائفة من الناس أصلحت فساد المجتمع إلا الأنبياء:

- ‌إنّ الهداية والدّعوة لا تثمر ولا تبقى إلا بالقدوة والأسوة:

- ‌السيرة المحمّدية هي السيرة التاريخيّة:

- ‌سيرة متبوعي الهنادك ليست تاريخيّة:

- ‌سيرة بوذا ليست تاريخيّة:

- ‌الذي نعلمه عن كونفوشيوس أقلّ من الّذي نعلمه عن بوذا:

- ‌شكوك العلماء المحقّقين في كثير من سير أنبياء بني إسرائيل:

- ‌الكلام على الأناجيل من ناحية التّاريخ:

- ‌ليس في أصحاب الدّعوات من يمكن التأسّي به إلا محمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌ما يمكن معرفته من أسفار التوراة عن موسى:

- ‌شؤون حياة المسيح أخفى من غيره وأغمض:

- ‌الحياة المثالية هي التي يبدأ صاحب دعوتها بنفسه فيعمل بما يدعو إليه:

- ‌اشتراط أن تكون سيرة المتبوع تاريخية وجامعة وكاملة وعمليّة:

- ‌امتياز الإسلام بحفظ السيرة النبويّة وتراجم الصّحابة والتابعين والأئمة والمتبوعين:

- ‌عناية الصّحابة بحفظ الحديث النّبويّ وعناية التابعين والأئمة والمتبوعين:

- ‌آخر الصحابة موتا المدن التي توفوا فيها سنة الوفاة

- ‌الكلام على التابعين وأساتذتهم من الصحابة:

- ‌أسماء الرواة من الصحابة عدد مروياتهم سنة وفاتهم

- ‌المستشرقون وتشكيكهم في رواية الحديث، والكلام على الحفظ والكتابة:

- ‌كتابة الحديث في العهد النّبوي:

- ‌التابعون الّذين دوّنوا الحديث:

- ‌جمع الحديث له ثلاثة أطوار:

- ‌علم نقد الحديث من جهة الدراية والفهم:

- ‌ستة مصادر لسيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهديه:

- ‌[المصدر الأول من مصادر السيرة النبوية: ما اقتبس من القرآن الحكيم]

- ‌والمصدر الثالث: كتب المغازي

- ‌والمصدر الرابع: كتب التاريخ الإسلامي

- ‌والمصدر الخامس: [كتب الدلائل]

- ‌والمصدر السادس: كتب الشمائل

- ‌كتب السيرة النّبوية تعدّ بالألوف:

- ‌مرجليوث أشدّ المستشرقين تحاملا على الإسلام:

- ‌اعترافات كبار المستشرقين حول السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية أوثق رواية وأكثر صحة من كل ما كتب في سيرة النبيين:

- ‌مثال من كتب الشمائل لتفاصيل ما يعرفه التاريخ عن محمد صلى الله عليه وسلم من جليل ودقيق:

- ‌كلمات المستشرقين الكبيرين عما يعرفه التاريخ من دخائل محمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌تفاصيل أخرى عما يعرفه التاريخ عنه صلى الله عليه وسلم:

- ‌استقصاء ابن القيم في «زاد المعاد» كلّ أحوال النبي صلى الله عليه وسلم الخاصّة وشؤونه اليومية:

- ‌إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يذكروا عنه كل ما يعرفونه بلا تحفّظ:

- ‌كان الرسول صلى الله عليه وسلم معروف الدخائل لأعدائه أيضا فلم ينقلوا عنه إلا خيرا:

- ‌شهادة أبي سفيان (قبل إسلامه) للنبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل:

- ‌رجاحة عقول العرب تجعلهم لا ينخدعون في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتبعوه وهم على بينة:

- ‌لو كتم الرسول شيئا لكتم ما في القرآن من مؤاخذته:

- ‌كلمات كبار المستشرقين في المقارنة بين محمد صلى الله عليه وسلم والذين قبله:

- ‌سنن الأمم السالفة في الأخلاق بادت ولم يبق إلا سنن الإسلام:

- ‌المسلمون لا يحتاجون من خارج دينهم إلى أصول وضوابط:

- ‌الأديان الآخرى تتحرى أقوال أنبيائها والمسلمون يتحرّون أعمال نبيّهم:

- ‌حياة محمد صلى الله عليه وسلم جمعت ما تفرق في الأنبياء مما امتازوا به:

- ‌انتباه أحد البراهمة لهذه الناحية من الحياة المحمّديّة:

- ‌ما أعطى الله الرسل جميعا متفرقين قد أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم وحده:

- ‌مقارنات بين النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء:

- ‌مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم كانت جامعة للطوائف وعامة للأمم:

- ‌استعراض نماذج من تلاميذ مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌إنّ العالم لا تتمّ هدايته إلا بالمصلح الأخير للدّنيا:

- ‌كيف نتّبع الرّسول صلى الله عليه وسلم وفيم نتبعه

- ‌مقارنة بين نتائج عظة جبل الزّيتون، ودعوة جبل الصّفا:

- ‌ما شهد به لمحمد صلى الله عليه وسلم أقرب الناس إليه وأعرفهم به:

- ‌كان صلى الله عليه وسلم أول من يعمل بما يأمر الناس به:

- ‌مقارنة بين عظة أحبوا أعداءكم ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأعدائه:

- ‌مقارنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين الأنبياء من آدم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام:

- ‌ما هي السّيرة الكاملة الجامعة في الرّسول، وماذا بلغ عن ربّه

- ‌كفالة الله حفظ الرسالة المحمّديّة لأنها رسالة الحاضر والمستقبل:

- ‌الإسلام أول رسالة عامّة في تاريخ الإنسانية:

- ‌الدّين إيمان وعمل، ولم يجتمعا إلا في الإسلام:

- ‌مقارنات بما في رسالة الإسلام والرسالات الآخرى:

- ‌مقارنات بين الوصايا العشر والآيات من سورة الإسراء:

- ‌عناية الشّرع المحمديّ بكرامة الجنس البشريّ ومكانته من سائر المخلوقات:

- ‌الرسالة المحمدية عرفت الناس بأقدارهم وأنزلتهم منازلهم:

- ‌الإسلام وعقيدة التّوحيد:

- ‌فطرة الإنسان في الإسلام بريئة في الأصل ولم يولد آثما:

- ‌الدين والفطرة كلمتان لمدلول واحد:

- ‌الناس سواسية في الإسلام والدنيا كلّها لله وحده:

- ‌الإسلام سوّى بين جميع الأنبياء ودعا إلى الإيمان بهم جميعا:

- ‌دين الله بين الذين غلوا في الأنبياء والّذين فرّطوا فيهم:

- ‌فساد الأديان السابقة بسبب التشبيه وتجسيم الصّفات الإلهية:

- ‌فساد الأديان بسبب فصل الصفات الإلهية عن الذات:

- ‌فساد الأديان بسبب تعديد أهلها للفاعل بتعدّد أفعاله:

- ‌منشأ الخير والشرّ حسن استعمال الأمور أو سوء استعمالها:

- ‌الهدى والضّلال بما كسبت أيدي الناس:

- ‌تعبّد الضّالين بتعذيبهم أنفسهم:

- ‌التضحية والأضاحي والقربان:

- ‌النفوس ملك لله، فليس للإنسان أن ينتحر أو يحدّد النّسل:

- ‌قضاء الإسلام على نظام الطبقات، وعلى التفاضل بالمال والنسب واللون:

- ‌من أعظم الجرائم فصل الدين عن الدّنيا:

- ‌الإسلام إيمان بالحقّ وعمل به:

الفصل: ‌الحياة المثالية هي التي يبدأ صاحب دعوتها بنفسه فيعمل بما يدعو إليه:

والفحص، فلم يجدوا الصفحات المفقودة عن حياة نبيهم. وقد استفرغ العلامة رينان «1» جهده، ولقي من العناء والنصب مبلغا عظيما ليقف على حياة عيسى كاملة تامّة، ومع ذلك فإنّ شؤون عيسى عليه السلام وأحواله لا تزال سرا مكنونا في ضمير الزّمن لم يبح به لسانه بعد.

إنّ عيسى عليه السلام عاش في هذه الدنيا ثلاثا وثلاثين سنة كما يروي الإنجيل، والأناجيل الموجودة في الأيدي- على ما في رواياتها من ضعف ولبس- مقصورة على ذكر أحواله لمدة ثلاث سنوات من أواخر حياته وحسب، فنحن لا نعلم عن حياته علم اليقين إلا أنّه ولد، وجيء به إلى مصر، وأراه الله آية أو آيتين في صباه، ثم غاب عن الناس، وظهر لهم وهو في الثلاثين من عمره، فنراه قائما يعظ الملّاحين، وصيادي السّمك على الشواطىء، وفي بعض الرّبوات، فصحبه جماعة من حوارييه، وقد جادل اليهود، وناظرهم في بعض الأحيان، إلى أن حمل اليهود الحكام الروميين على القبض عليه، ورفع أمره إلى محكمة يرأسها قاض من الروم، فقضى عليه بالصّلب، وبعد ثلاثة أيام وجد قبره خاليا من جسده عليه السلام.

أين قضى عيسى عليه السلام الثلاثين أو الخمس والعشرين سنة على الأقل من حياته؟ وفيم قضاها؟ وبأيّ الأعمال شغل هذا الفراغ الواسع من عمره؟ إنّ الدّنيا لا تعلم عن ذلك شيئا ولن تعلم. والسنوات الثلاث الأخيرة ماذا نجد فيها؟ آيات ومعجزات معدودات، وبعض العظات، ثم قيل: إنّه صلب، فانطوت صحيفة حياته.

‌الحياة المثالية هي التي يبدأ صاحب دعوتها بنفسه فيعمل بما يدعو إليه:

من الشروط المحتّمة التي لا بدّ منها لكلّ من يرجّى أن تكون سيرته وهدايته أسوة للبشر: الكمال، والتّمام، والجمع. والمراد بالكمال، والتمام، والجمع: أنّ الطوائف الإنسانية المتفرقة والطبقات البشرية

(1) هو أرنست رينان (Aurnest Renan) مستشرق وفيلسوف فرنسي، تضلّع من اللغات الشرقية، أخذ بمذهب حرية الفكر، فصنف كتابه «حياة يسوع» . عني بالعقائد الإسلامية، مات سنة 1892 م.

ص: 51

المختلفة تحتاج إلى أمثلة كثيرة ومتنوعة تتخذها منهاجا لحياتها الاجتماعية.

وكذلك الأفراد في المجتمع البشريّ هم في حاجة إلى مثل عليا يقتدون بها في مناحي حياتهم البيتية؛ لتتوثق الروابط بين الأفراد، وتحسن العلاقات بين شتّى الطوائف في داخل الأسرة وخارجها. لذلك ينبغي أن تكون تلك المثل كلّها واضحة في حياة الإنسان العظيم الذي يتّخذ مثالا في الحياة. وإذا صحّت هذه النظرة- وهي صحيحة- لم نجد في سالف الأيام قدوة واضح الحياة غير محمّد خاتم النبيين عليه وعليهم السّلام. والدّين هو طاعة المخلوق للخالق، وبالدّين يتعلّم المرء ما فرضه الخالق على خلقه من فرائض، وما أوجبه من واجبات، فيؤمن بها، ويحقّقها بالعمل. وإذا أردنا أن نعبّر عن الدّين بعبارة أخرى قلنا: هو القيام بحقوق الله، وحقوق خلقه، إذا فيجب على كلّ متّبع لدين أن يتعرّف هذه الحقوق، والفرائض، والواجبات من سيرة نبيه، والأحوال التي كان عليها صاحب ملّته، ثم يقتدي بها، ويفرغ حياته في قالبها. وإذا نظرنا إلى سير الأنبياء هذه النظرة، وحاولنا معرفة حقوق الله، وحقوق خلقه كاملة تامّة من سيرتهم؛ لم نجد ذلك إلا في سيرة محمّد صلى الله عليه وسلم المبعوث إلى الناس كافّة.

والدّيانات إذا تأملناها يبدو لنا أنها على نوعين: نوع لا نجد فيه ذكر الله تعالى البتة، ومن هذا النوع دين «بوذا» ودين الصين، فليس فيهما ذكر الله تعالى، ولا لصفاته، وليس فيهما فرائض وواجبات على الإنسان، ومن باب أولى ليس فيهما ذكر للحبّ في الله، وتوحيده، والإخلاص له، فالذي يبحث فيهما عن هذه الأمور لا يخرج من بحثه بشيء.

ونوع آخر ورد فيه ذكر الله عز وجل، وسلّموا فيه بوجوده على وجه ما، وآمنوا به إيمانا بالجملة، لكنّك لا ترى في سير أنبيائه، أو في تعاليم دعاته ما يعرف منه الإنسان كيف يعتقد بربه، وكيف يؤمن به، وبأيّ الأوصاف يصفه، وكيف كان هؤلاء يعتقدون بالله، وإلى أيّ حدّ تأثّروا بتلك العقائد في أعمالهم وأخلاقهم، وفي أيّ صورة من صور الأعمال تجلّت عقائدهم، وبرزت للوجود. كلّ هذا لا نرى له أثرا في سير هؤلاء. اقرأ التوراة، واستقص النظر في فصولها، وفقراتها، وتدبّر ذلك ما استطعت فإنك لن

ص: 52

تجد فيها إلا توحيد الله، وشرائط القربان، وشيئا من الأحكام، أما إذا أردت أن تعرف من الأسفار الخمسة التي تتألف منها التوراة شيئا عمّا كان في قلب موسى عليه السلام من الحبّ لله، والشّوق للقائه، وكيف كان يطيع الله ويعبده، وكيف كان توكّله على الله، ويقينه به، وكم أثرت الصفات الإلهية على قلبه، فإنّك لا تجد فيها شيئا من ذلك. ولو كانت الشرعية الموسوية وأحكامها عامّة للبشر، دائمة بدوام الدّهر؛ لكان واجبا على أتباع موسى عليه السلام أن يقيّدوها بالحفظ والكتابة، وأن يصونوها من عبث الدّهر بها، لكن الله عز وجل لمّا لم يرد أن تكون شريعته عامّة خالدة لم يتح لها هذه العناية في الحفظ والتّخليد.

والإنجيل مرآة صافية، تجلّت فيها حياة عيسى عليه السلام، لكننا نجد فيه أن الله (تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا) هو أبو عيسى عليه السلام.

أما كيف كانت رابطة الأبوّة بين هذا الولد المقدّس ووالده، فإن الولد يخبرنا بأن أباه كان يحبه حبّا جمّا، لكنّنا لم نعلم إلى أيّ حدّ بلغ حبّ الولد لوالده، وكيف كانت طاعة الابن لأبيه، وهل كان يركع له، ويسجد في النّهار، أو في الليل، وهل سأله شيئا غير خبز يومه، وهل دعا أباه بدعوة في ليلة من الليالي قبل الليلة التي اعتقل في نهارها؟ إنّنا لا نعلم هذا ولا ذاك.

ولو أنّ سيرة سيدنا عيسى عليه السلام المذكورة في الإنجيل تحتوي على بيان العلاقة بين المخلوق وخالقه، وتهدي المرء إلى ذلك هداية تامّة؛ لما احتاج أول ملوك المسيحية أن يعقد مجلسا شهده ثلاثمئة حبر من أحبار الكنيسة بعد ثلاثة قرون ونصف قرن من المسيح، ليبتوا الحكم في أمر المسيحية. ومع ذلك بقي أمر سيدنا عيسى عليه السلام سرّا من أسرار الزّمان، وسيبقى سرّا في ضمير الزمان، لا يعرب عنه لسان البحث.

هذا فيما يتعلّق بحقوق الله، أما حقوق الخلق؛ فلا تراها مفصّلة أحكامها، محكمة أصولها وأركانها في سيرة أحد من الأنبياء، وتعاليمهم غير محمد صلى الله عليه وسلم.

ص: 53

أما «بوذا» «1» فإنّه منذ هجر أهله وعياله إلى الصحارى والغابات لم يرجع قطّ إلى خليلته التي كانت حبيبة إلى قلبه، ولم ير ولده الوحيد مرّة أخرى، وترك خلانه، وأحباءه، فخفّف عن كاهله أعباء الحكم، وارتضى الموت آخر وسيلة له إلى النجاة، فكان الأجل المحتوم الغاية القصوى للحياة البشرية عنده. فمن ذا الذي يرضى بأن يتّخذ من حياة «بوذا» أسوة في هذه الدّنيا التي لا بقاء لها، ولا عمران إلا بالحياة الاجتماعية، والروابط العمرانية، والأواصر الإنسانية، ولا بدّ فيها من راع يرعى رعيته، وصديق يألف صديقه، ووالد يشفق على ولده، وأمّ تحنّ على فلذة كبدها. وهل في حياة «بوذا» شيء من ذلك يكون به أسوة للجميع: من الرهبان الذين انقطعوا للآخرة، إلى الآباء ذوي العيال وأصحاب الضياع والمزارع والمصانع والأموال؟ كلا ثمّ كلا، لم تكن سيرة «بوذا» قطّ أسوة للهناء العائلي، ولا لأهل الصناعات والمتاجر، ولو اتخذ أتباع «بوذا» قدوة لهم من حياة «بوذا» لما قامت لهم هذه الدّول في «الصّين» و «اليابان» و «سيام» و «تبت» و «برما» ، ولما عمرت للتجارة في بلادهم سوق، ولا دبّت الحياة في صناعاتهم ومصانعهم. ولو اختار أهل تلك البلاد سيرة متبوعهم سيرة لهم، وساروا عليها؛ لأقفرت الأرض العامرة، وتحوّلت إلى صحارى قاحلة، ولأصبحت المدن خرابا، أو أرضا جرداء.

وأما موسى عليه السلام فلا نعلم عن حياته- حسب الأسفار الخمسة من التوراة- إلا قتاله وقيادته في الحرب وبسالته فيها. أما النّواحي الآخرى من

(1) هو المفكر الهندي «جوتام بوذا (Gautam Buddah) «يرجع تاريخ ولادته حسب تحديد المؤرخ الغربي أدوارد توماس إلى 536 قبل الميلاد، ووفاته 544 قبل الميلاد، ومن المعلوم أن «بوذا» لم يضع كتابا خاصا، أو دستورا جامعا واضح المعالم يحتوي على تعاليم دعوته، ومبادىء فلسفته، ولكنه نشر فلسفته بطريق خطبه أمام أتباعه وتلاميذته، فقام عدد منهم بتأليف كتب تضم القواعد والمبادىء الدينية التي بشّر بها «بوذا» في مواعظه وخطبه، والحكم والكلمات السّديدة التي لقنها في مختلف المناسبات، وتجلّت منها بوضوح الأهداف المنشودة من هذه الفلسفة ومبادئها الجوهرية.

ص: 54

حياته، كالحقوق في أمور الدّنيا، والفرائض، والواجبات؛ فلا نتبيّنها بوضوح وجلاء، لذلك يتعذّر على المرء أن يتّخذ منها أسوة في أعماله.

ومن يحاول أن يقف على ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوج وزوجه، والولد ووالده، وشروط الصداقة بين الصديقين، وأساليب الهدنة بين الفريقين المتقاتلين، وكيف ينفق المرء أمواله، وفيم ينفقها؟

وكيف يعامل اليتامى والفقراء والمساكين؟ فإنّ من يحاول معرفة ذلك من سيرة موسى عليه السلام فسيرى: أنّ صحيفة حياته قد خلت من ذكر هذه الأمور، مع أنّ موسى كان له زوج، وإخوة، وأقارب، ولا ريب أنّ موسى كان يعاشرهم أحسن معاشرة، فكان خير زوج لأهله، وأفضل أخ لإخوته، وأوفى صديق لأصدقائه، والأسوة به في ذلك كلّه مرغوب فيها، محمود أثرها، لكن كتبهم التي استعرضت سيرته خالية من ذلك. والتاريخ لم يطرق سمعه شيء عن هذه الأنباء من حياة موسى؛ ليتسنى للناس أن يتّخذوا منها أسوة في الحياة.

وكان لعيسى عليه السلام أمّ، والإنجيل يخبرنا بأنّه كان له أخ وأخت، بل كان له والد أيضا كما يكون لعامة الأبناء آباء وأمهات، لكن قصة حياته لا تدلّنا على كيفية معاملته لذويه، وكيف كان يعاشرهم، مع أنّ الدّنيا معمورة بالإخوة، والخلّان، وذوي القربى، وستبقى حافلة بهم، وقد اعتنت الدّيانات بحقوق هؤلاء وأولئك، وفرضت كثيرا من فرائضها المتعلقة بحقوق الأسرة والعائلة، وحثّت على القيام بتلك الفرائض.

إنّ عيسى عليه السلام عاش عيشة المغلوبين المحكومين، فلا غرو إذا لم نجد في حياته مثالا من واجبات الحاكم الغالب. ولم يكن له عليه السلام زوجة، لذلك لا نرى في حياته مثالا لما ينبغي أن يتبادله الزّوج والزوجة من واجبات وحقوق، خصوصا وأنّ الذي بين الزوجين من الصلة أوثق، وأشدّ من الذي بين الأولاد وآبائهم كما جاء في سفر التكوين من التوراة «1» : أنّ هذه الدنيا معظم سكانها يعيش عيشة الزواج والمناكحة، فليس له في حياة

(1) لعلّ العلّامة المؤلف يشير إلى ما جاء في سفر التكوين: (1: 27 و 8: 15- 19) .

ص: 55

عيسى عليه السلام مثال. وأنّ العالم الذي يحتاج سكانه في حياتهم إلى أسوة تامّة ليعلموا كيف تكون الرابطة بين الزوج وزوجه، وبين الصديق وأصدقائه، والأب وبنيه، والمقاتل وأعدائه، والهدنة بين المتحاربين، وكيف تنعقد، لا يستطيع أن يجد له أسوة في حياة من لا يجد لهذه الأمور ذكرا في سيرته. ولو أنّ الناس في أيامنا هذه آثروا التأسي بحياة عيسى عليه السلام، وأرادوا أن يعيشوا كما عاش؛ لخربت الدّنيا واستحال عمرانها خرابا يبابا، ولأصبحت القرى مقابر تتردّد في أنحائها أصوات البوم. أما الحضارة، وتقدّمها فسرعان ما يعتريهما الزوال، ويمحى اسمهما، وأوربا المسيحية لن تبقى بعد ذلك يوما واحدا.

إنّ الحياة المثالية لن تكون أسوة الناس ما لم تكن أعمال صاحبها- الذي يؤسس دينا، ويدعو الناس إليه- مثالا وأنموذجا لمن يدعو إليه، ولا يتطرّق الشكّ إلى الناس بأنّ ما يدعو إليه هو مما يعمل به. ومن السّهل أن يدعو الدّاعي إلى فلسفة تحظى بإعجاب الناس، وإلى فكرة يستحسنونها، أو نظرية جديدة في الحياة تروق لهم. وكلّ ذلك مما يقدر عليه كثير من الناس متى شاؤوا وأين شاؤوا. أما الذي لا يستطاع دائما فهو عمل الدعاة بما يدعون إليه، وليست الأفكار الصّحيحة، والنّظريات الشائقة، والأقوال الحسنة هي التي تجعل الإنسان إنسانا كاملا، وتجعل من حياته أسوة للناس، ومثلا أعلى في الحياة، بل أعمال الدّاعي وأخلاقه هي التي تجعله كذلك. ولولا ذلك لما كان هناك فرق بين الخير والشر، ولما تميّز المصلح عن غيره. ولا متلأت الدّنيا بالثرثارين والمتفيهقين الذين يقولون ما لا يفعلون.

وهنا ينبغي لنا توجيه السؤال إلى العالم أجمع: من ذا الذي تعدّ حياته أسوة للبشر، وفيها المثل الأعلى للبشر، من بين مئات الألوف من الرسل والأنبياء، وعظاماء المصلحين ممّن شرعوا للإنسانية دياناتها، وسنّوا السنن للناس؟

«تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك. أحبب

ص: 56

أعداءك. من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا. من سخّرك ميلا فاذهب معه ميلين. من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك؛ فاترك له الرداء أيضا. اذهب وبع أملاكك، وأعط الفقراء. واعف عن أخيك سبعين مرّة.

يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السموات» .

إنّ هذا وأمثاله لا شكّ أنّه من الموعظة الحسنة المحببة إلى النفوس، لكنّها لا تعدّ سيرة ما لم يقترن بها العمل. نعم إنّها قول ليّن وحديث لذيذ، ولكنّ الذي لا يغلب عدوه كيف يتسنّى له العفو، ومن لا يملك، ومن لا يكون له مال كيف يتصدّق على الفقراء والمساكين واليتامى، وكيف يقضي لهم حاجاتهم؟ ومن لا زوج له، ولا ولد، ولا أهل كيف تكون حياته أسوة للأزواج، وذوي البنين، والمتأهلين، وهم هم الناس الذين تعمر الدنيا بهم؟ ومن لم يتفق له أن يصفح عن أحد في حياته كيف يقتدي به من كان شديد الغضب، سريع البادرة.

الحسنات قسمان: قسم سلبي، وآخر إيجابيّ. وأنت إذا اعتزلت الدّنيا في غار بسفح جبل تعبد فيه ربّك، ولم تبرحه طوال حياتك، تصرف فيه أوقاتك بالتبتّل إلى الله، فإنّ أحسن ما يقال في مدحك: إنك اتقيت الشرّ، ولم تقترف سيئة تذمّ عليها، وذلك من الحسنات، إلا أنها حسنات سلبية.

ولكن ماذا فعلت من الناحية الإيجابية من خير: هل حملت كلّا، أو نصرت مظلوما، أو كسبت معدما، أو أطعمت جائعا، أو كسوت عاريا، أو ساعدت فقيرا، أو ذدت عن ضعيف، أو هديت ضالّا؟ إن الأخلاق الحسنة ومكارمها من العفو، والسماحة، والقرى، وبذل المال، والصّدق بالحق، والحميّة في قمع الباطل، والجهاد في أداء الواجب لا تعدّ مكارم أخلاق لأجل ترك الدّنيا، والتبتّل في عزلة عن المجتمع، وليست الحسنات من الأمور السلبية فحسب، بل معظم الحسنات ترجع إلى العمل الإيجابيّ الذي يقوم به المرء، ولا يكفي فيها ترك المعاصي، واجتناب السّوء. وهذا كلّه يدلّ على أنّ حياة العظيم لا تكون فيها الأسوة للناس ما لم تصدر عن صاحبها الأعمال الإيجابية المحمودة، والأخلاق النّافعة الكريمة ممّا يوافق

ص: 57