الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولدوا في أواخر عهده فلم يروه، وإنما رأوا أصحابه، وأخذوا عنهم، وعلى أقل تقدير يعدّ تابعيا من ولد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (ربيع الأول سنة 11) ، وأعمال التابعين التي تنسب إليهم يبدأ عهدها من سنة 11 هـ، وليس من المحتم ألا ينسب إلى التابعين إلا ما صدر عنهم بعد وفاة آخر الصحابة بقاء على قيد الحياة، فاخر الصحابة بقاء على قيد الحياة امتدّ زمنه إلى أواخر المئة الأولى للهجرة، وأعمال التابعين- ومنها البدء بتدوين الحديث- ينبغي أن تنسب إلى زمنهم الذي بدأ من بعد سنة 11 هـ التي انتقل فيها النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الرّفيق الأعلى.
جمع الحديث له ثلاثة أطوار:
والحق أنّ جمع الأحاديث، والأحكام، والأخبار، وتدوينها عند المسلمين له ثلاثة أطوار: الطور الأول: هو الذي جمع فيه الرجال ما عندهم من العلم. والطور الثاني: هو الذي قام فيه أهل كلّ مصر من الأمصار الإسلامية بتدوين ما عند علماء ذلك المصر من العلم في كتب خاصّة بأهل مصرهم. والطور الثالث: هو الذي جمعت فيه علوم الدّين الإسلاميّ كلّها من جميع الأمصار، ودوّنت في الدواوين الكبرى، والمصنفات الجليلة، وهي التي صارت إلينا، ولا تزال بين أيدينا.
والطّور الأول استمرّ إلى سنة 100 هـ، وامتدّ الطّور الثاني إلى سنة 150 هـ، وبدأ الطور الثالث من سنة 150 هـ إلى القرن الثالث للهجرة، أو بعده بقليل. وإنّ الطّور الأول هو الذي كان فيه الصحابة، وكبار التابعين.
والطور الثاني هو الذي كان فيه صغار التابعين، وتابعو التابعين. والطور الثالث هو عهد المحدّثين، وأئمة السنة، كالإمام محمد بن إسماعيل البخاري، والإمام مسلم صاحب الجامع الصحيح، والإمام الترمذي، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم من المحدّثين. وما جمع في الطور الأول دوّن في كتب الطور الثاني، وما دوّن في الطور الثاني جمع، ونظم في كتب الطور الثالث. ونرى أمامنا أكثر ما جمع في الطورين الثاني والثالث مدونا في كتب كثيرة تشتمل على آلاف من الأوراق هي في الواقع من أثمن الذخائر
العلمية في العالم، بل لا يوجد في جميع ذخائر الدنيا العلمية أوثق منها سندا، وأصحّ تاريخا ورواية. ولقد صدق الأستاذ الكبير العلامة الشيخ شبلي النعماني «1» حين قال: (لما أرادت الأمم الآخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها، ورواياتهم كان قد فات عليهم زمن طويل، وانقضى بينها وبينهم عهد بعيد، فحاولوا كتابة شؤون أمّة قد خلت، ولم يميزوا بين غثّ ذلك الماضي وسمينه، وصحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار، ولا أسماءهم، ولا تواريخ ولادتهم، فاكتفوا بأن اصطفوا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين ورواياتهم ما يوافق هواهم، ويلائم بيئتهم، وينطبق على مقاييسهم.
ثم لم يمض غير زمن يسير حتى صارت تلك الخرافات معدودة كالحقائق التاريخية المدوّنة في الكتب، وعلى هذا المنهاج السّقيم صنّفت أكثر الكتب الأوربية مما يتعلق بالأمم الخوالي وشؤونها، والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السالفة، ومذاهبها، ورجالها.
أما المسلمون فقد جعلوا لرواية الأخبار والسير قواعد محكمة يرجعون إليها، وأصولا متقنة يتمسّكون بها، وأعلاها ألّا تروى واقعة من الوقائع إلا عن الذي شهدها، وكلّما بعد العهد على هذه الواقعة فمن الواجب تسمية من نقل ذلك الخبر عن الذي نقله عمّن شهد، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة، والتحدّث عنها إلى زمن وقوعها، والتثبت من أمانة هؤلاء الرواة، وفقههم، وعدالتهم، وحسن تحمّلهم للخبر الذي يروونه، وإذا كانوا على خلاف ذلك وجب تبيينه أيضا. وهذه المهمّة من أشقّ الأمور، ومع ذلك فإنّ مئات من المحدّثين تفرّغوا لها، ووقفوا أعمارهم على تحرّي ذلك، واستقصائه وتدوينه، وطافوا لأجله البلاد، ورحلوا بين الأقطار، باحثين دارسين لأحوال الرواة، وكانوا يلقون المعاصرين لهم من الرواة؛ لينقدوا أحوالهم، وإذا اطمأنوا إلى سيرة فريق منهم سألوهم عما
(1) هو أستاذ العلامة المؤلف، كان من كبار الباحثين والمؤرخين المصلحين في الهند، وقد سبقت ترجمته في صفحة (5) .