الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صالحة تضيء لك بنورها دياجي الحياة، وينجلي لك بضوئها ظلام العيش، فتصلح ما اضطرب من أمورك، وتثقف بهديه أودك، وتقوّم بسنته عوجك. وإنّ السيرة الطيبة الجامعة لشتّى الأمور هي ملاك الأخلاق، وجماع التعاليم لشعوب الأرض، وللناس كافّة في أطوار الحياة كلّها، وأحوال الناس على اختلافها، وتنوّعها. فالسيرة المحمدية نور للمستنير، وهديها نبراس للمستهدي، وإرشادها ملجأ لكلّ مسترشد.
انتباه أحد البراهمة لهذه الناحية من الحياة المحمّديّة:
كان الواعظ الذائع الصيت الأستاذ حسن علي «1» رحمه الله يصدر في (بتنه) قبل خمسين عاما مجلة (نور الإسلام) وقد قال في جزء منها: إن صديقا له من البراهمة قال له: إني أرى رسول الإسلام أعظم رجال العالم، وأكملهم. فقال له الأستاذ حسن علي: وما هي منزلة المسيح عيسى ابن مريم عندك من رسول الإسلام؟ فأجابه: إنّ المسيح ابن مريم عندي في جانب محمّد صلى الله عليه وسلم كمثل ولد صغير يتكلم بكلام عذب، ويتحدّث حديثا حلوا عند أعقل أهل زمانه، وأكثرهم حزما. ثم سأله حسن علي: وبماذا كان رسول الإسلام عندك أكمل رجال العالم؟ فأجاب: لأني أجد في رسول الإسلام خلالا مختلفة، وأخلاقا جمّة، وخصالا كثيرة لم أرها اجتمعت في تاريخ العالم لإنسان واحد في آن واحد: فقد كان ملكا دانت له أوطانه كلّها، يصرّف الأمر فيها كما يشاء، وهو مع ذلك متواضع في نفسه يرى أنه لا يملك من الأمر شيئا، وأن الأمر كلّه بيد ربه. وتراه في غنى عظيم تأتيه الإبل موقرة بالخزائن إلى عاصمته، ويبقى مع ذلك محتاجا، ولا توقد في بيته نار لطعام في الأيام الطوال، وكثيرا ما يطوي على الجوع. ونراه قائدا عظيما يقود الجند القليل العدد الضعيف العدد، فيقاتل بهم ألوفا من الجند المدجّج بالأسلحة الكاملة، ثم يهزمهم شرّ هزيمة. ونجده محبّا للسلام، مؤثرا للصلح، ويوقع شروط الهدنة على القرطاس بقلب مطمئن، وجأش هادىء، ومعه ألوف من أصحابه كلّ منهم شجاع باسل، وصاحب حماسة
(1) أحد كبار الكتاب والوعاظ في الهند في مطلع القرن العشرين، توفي سنة 1921 م.
وحميّة تملأ جوانحه، ونشاهده بطلا شجاعا، يصمد وحده لآلاف من أعدائه غير مكترث بكثرتهم، وهو مع ذلك رقيق القلب، رحيم رؤوف، متعفف عن سفك قطرة دم. وتراه مشغول الفكر بجزيرة العرب كلّها، بينما هو لا يفوته أمر من أمور بيته، وأزواجه، وأولاده، ولا من أمور فقراء المسلمين ومساكينهم، ويهتمّ بأمر الناس الذين نسوا خالقهم، وصدّوا عنه، فيحرص على إصلاحهم. وبالجملة: إنّه إنسان يهمه أمر العالم كله، وهو مع ذلك متبتل إلى الله، منقطع عن الدّنيا، فهو في الدّنيا وليس فيها، لأنّ قلبه لا يتعلّق إلا بالله، وبما يرضي الله. لم ينتقم من أحد قطّ لذات نفسه، وكان يدعو لعدوه بالخير، ويريد لهم الخير، لكنّه لا يعفو عن أعداء الله، ولا يتركهم، ولا يزال ينذر الذين قد صدّوا عن سبيل الله، ويوعدهم عذاب جهنم. تراه زاهدا في الدّنيا، عابدا، يقوم الليل لذكر الله ومناجاته. كما تتصور من شمائله: أنّه الجنديّ الباسل المقاتل بالسّيف.
وتراه رسولا حصيفا، ونبيا معصوما في الساعة التي تتصوره فيها فاتحا للبلاد، ظافرا بالأمم. وإنّه ليضطجع على حصير له من خوص، ويتكىء على وسادة حشوها من ليف حينما يخطر على بالنا أن ندعوه بسلطان العرب، وننادي به ملكا على بلاد العرب. ويكون أهل بيته في فاقة وشدّة عقب استقباله الأموال العظيمة آتية إليه من أنحاء الجزيرة العربية، فتكون في فناء مسجده أكواما، وتأتيه بنته وفلذة كبده فاطمة تشكو إليه ما تكابده من حمل القربة والطّحن بالرّحى حتى مجلت يداها، وأثّرت القربة في جسمها، والرسول يومئذ يقسم بين المسلمين ما أفاء الله عليهم من عبيد الحرب وإمائها، فلا تنال بنته من ذلك إلا دعاءه لها بكلمات يعلّمها كيف تدعو بها ربّها. وجاءه ذات يوم صاحبه عمر، فأجال بصره في الحجرة فلم يجد إلا حصيرا من خوص قد اضطجع الرسول عليه، وأثر في جنبه، وكل ما في البيت صاع من شعير في وعاء، وعلى مقربة منه شنّ معلّق على وتد. هذا كل ما كان يملك رسول الله يوم دان له نصف العرب. فلما رأى عمر ذلك لم يتمالك نفسه من دموع تذرفها عيناه، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك يا عمر؟! فقال: ومالي لا أبكي، إنّ قيصر، وكسرى يتمتعان بالدّنيا،
وينعمان بنعيمها، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يملك إلا ما أرى! فقال له الرسول سلام الله عليه: أما ترضى يا عمر أن يكون ذلك نصيب كسرى وقيصر من نعيم الدّنيا، وتكون لنا الآخرة خالصة من دون الناس؟!
وعند ما أحدق النبيّ صلى الله عليه وسلم بجيوشه ليفتح مكة قام أبو سفيان إلى جانب العباس عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ينظران إلى المجاهدين من المسلمين تتقدّمهم الأعلام الكثيرة، وكان أبو سفيان لا يزال على ما كان عليه من المخالفة للإسلام، فراعه ما رأى من كثرة جموع المسلمين ومن انضوى إليهم من القبائل المسلمة، وأنّهم يزحفون على بطحاء مكة كالسيل الجارف لا يصدّه صادّ ولا يمنعه شيء، فقال لصاحبه: يا عباس! إنّ ابن أخيك أصبح ملكا عظيما. فأجابه العباس وهو يرى غير الذي يراه أبو سفيان: ليس هذا من الملك في شيء يا أبا سفيان، هذه نبوّة ورسالة.
وعدي الطّائي «1» ، كان سيد طيىء، وحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو لا يزال على المسيحية، فشاهد إعظام الصّحابة للرسول، وعليهم عدّة الجهاد من الأسلحة واللأمة للدّفاع، فاشتبه عليه أمر النبوة بأمر السّلطان، وتساءل في نفسه: أهذا ملك من الملوك، أم رسول من رسل الله؟ وفيما هو كذلك جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقيرة من إماء المدينة، وقالت له: أريد يا رسول الله! أن أسرّ إليك شيئا. فقال لها: انظري في أي سكك المدينة شئت أخل لك. ثم نهض معها، وقضى لها حاجتها. فلما رأى ابن حاتم الطائي هذا التواضع العظيم من الرسول العظيم، وهو بين أصحابه في مثل عظمة الملك، انجلى عنه ظلام الباطل، وتبيّن له الحقّ واضحا، وأيقن أنّ هذا الأمر من رسالات الله، فعمد إلى صليبه، فنزعه عنه، ودخل مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في نور الإسلام.
(1) هو عدي بن حاتم بن عبد الله الطائي، أبوه الذائع الصيت الّذي تضرب به الأمثال في الجود والسخاء، وكان عدي نصرانيا فأسلم سنة تسع، وقد ثبت على الإسلام كما ثبّت قبيلته عليه زمن الردّة، وجاء بصدقة قومه إلى أبي بكر- رضي الله عنه، شهد فتوح العراق، ثم نزل الكوفة، وتوفي بها سنة 68 هـ، وله ستة وستون حديثا مرويا.
وفي الجملة: إنّ كلّ ما ذكرته آنفا ليس من الإطراء في الثناء ولا من المبالغة في المدح، بل هو من حقائق الواقع التي سجّلها التاريخ بأصحّ ما استطاع أن يسجّل به حقائقه. ومما لا ريب فيه أنه لا يستحق إنسان أن يكون قدوة للعالم في جميع مناهج الحياة إلا إذا اجتمعت فيه الخلال الشريفة كلّها، والخصال الإنسانية الكاملة بأجمعها ممّا يحتاج إليه الناس في معايشهم، فتكون لهم في سيرته أمثلة كثيرة، وفي هديه أمور متنوعة، تستنير بها كلّ طائفة من طوائف الناس، وكلّ فرقة في كلّ أمّة من أممهم، فيتخذون في أنفسهم سننا، وآدابا، ومناهج من حياته الشريفة لحياتهم الاجتماعية والعائلية، وبذلك يكون الشخص العظيم المقتدى به هاديا للناس بأعماله، وأخلاقه، وخصاله عند ما يكون في حالات الغضب، أو الرحمة، أو الجود، أو الفاقة، أو الشجاعة، أو رقّة القلب، فيهتدون به في هذه الأحوال بدنياهم كما يهتدون به بصحة الاعتقاد وسلامة العبادة لآخرتهم. فهو يجمع إلى إسعاد الناس في آخرتهم إسعادهم في حياتهم الدّنيا وأحداثها اليومية، فييسر لهم خلافة الله على الأرض كما يدلّهم على مقام الكرامة في ملكوت السّماء. وهو مع ذلك يسنّ لهم السّنن، ويشرّع لهم الأحكام لينظموا حياتهم في الأرض والسماء. وإن العفو، والمسامحة، واللين، وخفض الجناح للآخرين من قوام الحياة الإنسانية، ولا يسعد الإنسان إلا بلين القول، والعفو عن الناس، وخفض الجناح لهم، ومن كان نصيبه وافرا من هذه الخصال كان المعلم العظيم، والمحسن الكبير، وإني أسائلكم فأجيبوني: هل هذه الخصال وحدها هي التي تكون في الإنسان، أم تكون في أضدادها أيضا؟ أليس في خصال الإنسان الغضب بجانب ما فيه من رحمة، والعداوة بجانب الصداقة والخلّة، والطّمع مع القناعة، والشّره مع العفّة. أليس ينزع إلى الثأر كما يميل إلى العفو، أليس هذا كله مما تقتضيه جبلّة الإنسان وغريزته؟ إنّ المعلم الكامل هو الذين يستطيع أن يعتدل بين هذه الأحوال والخصال المتضادّة، ويقيم الميزان في هذه النزعات والعواطف حتى يكسر سورتها، ويخفف من شدّتها، ويكون عادلا معتدلا، فتكون له من سجاياه الطيبة مطية كريمة تبلغ به الغاية