الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفترسة الكاسرة؛ لأنه قد اخترع بمواهبه العقلية أسلحة فاق بها على أسلحة سائر المخلوقات مجتمعة بلا استثناء.
مسؤولية الإنسان بقدر مواهبه:
سادتي: لا بدّ لكم أن تعترفوا- على اختلاف أديانكم، وتباعد أوطانكم، وتنوّع نزعاتكم وأفكاركم- بأنّ الإنسان قد انهالت عليه الواجبات، وتعدّدت المسؤوليات بسبب ما امتاز به من عقل راجح، ورأي حصيف، وفكر ثاقب، وفقه لطيف، وهذه الواجبات والمسؤوليات تسمّى بلغة الشرع «التكاليف» وهي موجهة إليه من ناحية قواه الظاهرة والباطنة، وكأنّ الإنسان قد خاطب الفطرة الإلهية بلسان مواهبه وقواه أن تفرض عليه عملا، فكان بسببها مكلفا بهذه الواجبات التي تملأ وسعه، وتتناسب مع طاقته، قال الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] .
وعبّر سبحانه عن هذا التكليف بالأمانة في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا [الأحزاب: 72] . ولا يتصف بالظلم والجهل إلا المكلّف بالعدل والعلم، والظلم والجهل من نعوت الإنسان لا ينعت بهما غيره؛ لأنه لم يكلف بالعدل والعلم إلا هو، فهاتان الصفتان من صفات الإنسان: الأولى ضد العدل، والآخرى ضد العلم. وذلك لا يوجد إلا في الإنسان، فالظلم تعدّي الإنسان حدوده، واستعماله قوّته الظاهرة العاملة في غير محلّها.
والجهل نقص يتطرّق إلى الإنسان من جهة قواه العلمية. والظلوم يقابله العادل، والجهول يضادّه العالم. والعدل والعلم يتصف الإنسان بهما بالقوة لا بالفعل، فيحتاج إلى العدل لتكميل قوته العملية، وإلى العلم والمعرفة لتكميل قوته العلمية. والقرآن الحكيم قد يسمي العدل بالعمل الصّالح، والعلم بالإيمان. قال الله عز وجل: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العصر: 1- 3] فمن لم يعمل صالحا؛ فقد ظلم نفسه، ومن لم يؤمن بالله؛ فقد جهل. ولا ينجو من الخسران إلا من آمن وعمل صالحا. وقد أشهد الله الزمان على خسران الإنسان. ومن الظاهر البيّن أنّ المراد بالزمان الحوادث التي حدثت فيه منذ بدء العالم، وقد صدق
كارليل «1» في وصفه التاريخ بأنه «سجل لأعمال العظماء وسيرهم» ، وتاريخ العالم أصدق شاهد على أنّ كلّ أمّة لم تؤمن بالله، ولم تعمل صالحا بأنها قد خسرت، وهلكت، وكذلك الأفراد الذين لم يؤمنوا بالله، ولم يعملوا صالحا أنهم قد خسروا، وهلكوا. والصّحف السّماوية والأسفار القديمة ملأى بأنّ الظلم والجهل ما وجدا في بيئة إلا وجرّا عليها الخراب والدّمار، والعدل والعمل الصّالح ما وجدا في أمة إلا نتج عنهما الحياة والعمران.
وتقصّ عليك هذه الكتب وغيرها أنباء الذين آمنوا وعملوا الصالحات كيف أفلحوا، وعمروا الدّنيا، وأخبار الذين طغوا وبغوا كيف بادوا، وهلكوا، وذهبوا أحاديث تروى، وتفرّقوا أيدي سبأ، فلم يبق لهم إلا أثر بعد عين.
وتثني هذه الكتب على الذين قاموا أحسن قيام بالواجبات المكلفين بها من قبل فطرتهم، فأدّوا ما عليهم منها خير أداء، كما تذمّ الذين أهملوا فرائضهم، ونبذوها وراء ظهورهم. وحتى الإلياذة «2» ، والشاهنامة «3» ، ومهابهارته «4» ، ورامائن «5» ، وغيتا «6» ، كل هذه الأسفار، تقص علينا أخبار الأمم الذين خلوا من قبل، وتحدّثنا بما وقع من القتال بين الظالمين والعادلين، وبين الكافرين والمؤمنين، وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار ممّن يعتبرون بتجارب الأمم، فينتهون عن الظلم والشر، ويرتدعون عن الكفر والشرك، ويقيمون الحقّ، ويتواصون بالخير ويعملون صالحا.
(1) كارليل توماس (Carlyle ،Tomas) أحد كبار المستشرقين، من أشهر كتبه «الأبطال» وقد عقد فيه فصلا رائعا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، نقله إلى العربية الأستاذ علي أدهم، مات سنة 1881 م.
(2)
الإلياذة: ملحمة يونانية عن حرب طروادة، من روائع الشعر العالمي، عرّبها شعرا سليمان البستاني.
(3)
شاهنامه: ملحمة للفردوسي من 000، 60 بيت في أخبار ملوك فارس وأساطيرهم.
(4)
مهابهارته: الملحمة القومية السنسكريتية للهندوس، يزيد عدد أشعارها على مئتي ألف بيت.
(5)
رامائن: ملحمة سنسكريتية تروي قصة إله الهندوس «راما» وفيها قصص وأمور فلسفية وروحيّة.
(6)
غيتا: كتاب مقدّس عند الهندوس.