الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرّعدة، وقال «هكذا» أو «نحوذا» «أو قريب من ذا» «1» .
ومن المعلوم: أنّ ذاكرة العرب كانت قوية، وكانوا يحفظون آلافا من الشعر، وينشدونها عن ظهر قلب بلا زيادة ولا نقص. ومن طبيعة البشر أنهم إذا أكثروا استعمال قوة من قواهم تزداد هذه القوة قوة وحيوية. وقد مرن الصّحابة والتابعون على حفظ الأحاديث حتى بلغوا في ذلك شأوا بعيدا، وكانوا إذا سمعوا حديثا وعوه، وحفظوه كما يحفظ الصبيان سورة الفاتحة في هذه الأيام. والمحدّثون كانوا يحفظون ألوفا من أحاديث الرسول؛ بل مئات الألوف، ويكتبون بعد ذلك ما كانوا يسمعون ويحفظون، لكنهم لا يبلغون منزلة الإجلال والإكرام بين العلماء وعند الناس إلا بما يخفونه من المرويات عن ظهر قلب، ولذلك كانوا يخفون كراريسهم وصحائفهم عن الناس ويكتمونها؛ لئلا يظنّ الناس بهم أنهم يعتمدون في علمهم على هذه الصحائف، ولا يحفظون محتوياتها في صدورهم.
المستشرقون وتشكيكهم في رواية الحديث، والكلام على الحفظ والكتابة:
سادتي! إنّ بعض المستشرقين ودعاة المسيحية- وفي مقدمتهم السر وليم ميوروغولد زيهير- أرادوا أن يشكّكوا الناس في رواية الحديث بما
- ورعا واحتراما لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن هذا ما رواه عمرو بن ميمون قال:«ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» فلما كان ذات عشية قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» قال: فنكس، قال: فنظرت إليه، فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبا من ذلك، أو شبيها بذلك» (سنن ابن ماجه، ص 8- الجزء الأول) .
(1)
وقد غفل عن هذا بعض من تصدر للحديث من العصريين حيث عزا أحاديث كثيرة إلى مصادرها بغير لفظها، زاعما أنها «ليست قرآنا نتعبد بلفظه
…
!» . ينبغي لمن يروي حديثا بالمعنى أن يراعي جانب الاحتياط وذلك بأن يتبعه بعبارة: «أو كما قال» أو «نحو هذا» وما أشبه ذلك من الألفاظ، فعل ذلك ابن مسعود، وأنس وأبو الدرداء، وغيرهم رضي الله عنهم. (منهج النقد في علوم الحديث) للأستاذ الدكتور نور الدين عتر- حفظه الله تعالى ونفع به- ص: 228- 229 طبعة دار الفكر، (دمشق) .
زعموه من أنّ تدوين السنّة بدأ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بتسعين سنة، وقد ذكرت لكم فيما سلف كيف كان الصحابة والتابعون يعنون بالأحاديث، ويحفظونها، ويحتاطون في روايتها حتى لا يبقى مجال للشكّ في صحتها وصدقها.
والذي دعا الصحابة إلى ألايقيدوا الأحاديث بالكتابة ثلاثة أمور:
أولها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهاهم في بداية الأمر عن أن يكتبوا عنه غير القرآن؛ لكيلا يلتبس القرآن بغيره، فلما حفظ القرآن، فصار معروفا، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ أذن للصحابة بأن يكتبوا ما يسمعون منه، ومع ذلك بقي الصحابة يحتاطون في ذلك احتياطا شديدا، وكان معظمهم يتحرّجون في كتابة الحديث.
وثانيها: أن الصحابة كانوا يخشون أن يعتمد الناس في الحديث على الكتابة، فيقصّرون في حفظها وتدبّرها مرتكنين على أنّها مكتوبة عندهم، ويمكنهم الرجوع إليها عند الحاجة، وقد وقع الذي ظنوه، فإنه كلّما ازداد الاهتمام بالكتابة والتدوين قلّت العناية بالحفظ، وكذلك كان الصحابة يخشون أن يدّعي كلّ من تكون الأحاديث المكتوبة في متناول يده بأنه عالم، وقد وقع ما كانوا يحذرون.
وثالثها: أنّ العرب كانوا يعدون الاعتماد على الكتابة اعترافا بنقص مواهبهم، وضعف حفظهم، وفي ذلك غضّ من شرفهم، فكانوا يعتمدون على حفظهم، وإذا كتبوا شيئا ممّا يحفظون كتموا أمره.
كان المحدّثون يرون أنّ الحفظ في الصدور أصون من التدوين في السّطور؛ لأنّ ما يتناقله الناسخون بالكتابة معرّض للتّحريف، وأما ما يتلقّاه الحافظون الضابطون عن الحافظين الضابطين؛ فإنه لا يتطرّق إليه الخطأ، ولا يصيبه أيّ تحريف.
وإني لأكشف القناع لأول مرة في ناديكم هذا بأن من زعم أنّ الأحاديث النبوية لم تدوّن إلى مئة سنة أو تسعين سنة قد أخطأ، والتاريخ يعارضه، والسبب في هذا الخطأ ظنهم أنّ أول كتاب في الحديث النبوي كتاب الموطأ