الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفرق بين دعوة الرسل ودعاوى غيرهم:
لقد مضى في سالف الأيام كثير من العظماء، دعوا الناس إلى أن يقتدوا بأخلاقهم وأعمالهم، منهم ملوك جبابرة عاشوا في قصورهم الشامخة بين ندمائهم وجلسائهم وملؤوا القلوب مهابة وجلالة، ومنهم قادة جيوش عاشوا بين ضباطهم وجنودهم، يرهبون الناس، ويخيفونهم بشدّة بأسهم، وضخامة أجسامهم، ورواء هندامهم «1» ، ومنهم حكماء وفلاسفة كانوا إذا نطقوا أبانوا، وإذا خطبوا أبدعوا، ونثروا من درر الحكمة ما شاءت بلاغتهم وطلاقة ألسنتهم، فملكوا القلوب، وبهروا النفوس. وترى بجانب هؤلاء طائفة الشعراء ممّن إذا أنشدوا أطربوا، وإذا رتلت أناشيدهم غلبوا السّامعين على أهوائهم، ولعبوا بالقلوب كيف شاؤوا. وقد خلا كثير من الفاتحين الذين دوخوا البلاد، واستولوا على المماليك، كما مرّ في مواكب التاريخ كثير من المثرين والأغنياء الذين كانت أقدامهم تطأ البسط الناعمة والزرابي «2» الوثيرة، ويمشون على الحرير الفاخر والإستبرق «3» الزاهر، اكتنزوا القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، واسترعوا أنظار بني آدم بما كانوا فيه من ترف، وعظمة، وسعة. وقد كان هنيبعل القرطاجني «4» ، والإسكندر المقدوني، وقيصر الروم، ودارا «5» الفارسي، ونابليون الفرنسي يملأ كلّ منهم عيون بني آدم بعظمته، وأحداث حياته، ومختلف أعماله، وكذلك نجد سقراط، وأفلاطون، وديوجنس «6» ، وغيرهم من
(1) الهندام: حسن القدّ، وتنظيم الملابس.
(2)
الزّرابيّ (جمع الزّربية) : الوسادة تبسط للجلوس عليها، وفي القرآن: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ [الغاشية: 16] .
(3)
الإستبرق: الديباج الغليظ.
(4)
هنيبعل القرطاجني: قائد قرطاجني فينيقي الأصل (247- 183 ق. م) أشعل الحرب الفونية ضد روما.
(5)
دارا: ملك الفرس.
(6)
هو: ديوجنس لا يرتيوس: فيلسوف يوناني صقلي، مؤلف أول تاريخ للفلسفة اليونانية.
حكماء اليونان وغير اليونان مثل: سبنسر «1» وأضرابه، تجتذب سيرتهم النفوس، وتروق القلوب، وإن اختلفت مظاهر عظمتهم عن مظاهر عظمة الآخرين ممّن ذكرت أسماءهم قبلهم. فهل ترى في حياة هؤلاء وأولئك ما يضمن فلاح بني آدم؟ ومن منهم تؤدي سيرته ودعوته إلى صلاح الإنسانية وسعادتها؟
إنّ في هؤلاء وأولئك لقادة فتحوا البلاد، ودوّخوا المماليك، واقتحموا أقصى الأرض، وأدناها، وذلّلوا ما اعترض سبيلهم من صعاب، وسخّروا الملوك بظبا سيوفهم. ولكن من منهم ترك لمن أتى بعده أسوة يؤتسى بها في تعميم الخير؟ ومن منهم إذا اهتدى الناس بهديه ينجون من المهالك، ويسلكون سبيل السعادة والهناء؟ ومن من هؤلاء استعملوا سيوفهم البواتر «2» في قطع حبائل العقائد الفاسدة، وتخليص العقول من الأوهام الواهية والأفكار الباطلة؟ ومن منهم وقف حياته على حلّ معضلات بني آدم، وكان حريصا على عقد أواصر الإخاء بينهم على الحق والتواصي في الخير؟ وهل يوجد في حياة من ذكرنا من هؤلاء العظماء ما يستعين به بنو الإنسان على تخفيف ما يعانونه من الغمرات في حياتهم الاجتماعية؟ أم في أخلاقهم وأعمالهم ما ييسر للإنسانية الشفاء من أمراضها الخلقية وأوصابها النفسية؟
أم في دعوتهم ما يجلو صدأ القلوب ورينها، أو يرتق فتقا في الحياة الاجتماعية؟
لا شكّ أنّ الشعراء نالوا إعجاب الناس بأناشيدهم الرنّانة، وملكوا النفوس، وتصرّفوا فيها بشعرهم البليغ وقصائدهم الغرّ. ولكن هل نعوا الإنسانية وهم يهيمون في أودية الخيال؟ كلّا! ولذلك لم يكن لهم في جمهورية أفلاطون نصيب، ولا منصب. والشعراء- من هوميروس «3» إلى
(1) هو سبنسر هربرت (1820- 1903 م) فيلسوف وعالم اجتماع إنكليزي، صاحب مذهب قائم على التطوّر الطبيعي (أي: مذهب النشوء والارتقاء) .
(2)
سيوفهم البواتر: سيوفهم القاطعة.
(3)
هوميروس (Homers) شاعر ملحمي يوناني من القرن التاسع قبل المسيح، نسب-
امرىء القيس فمن بعده من شعراء الأمم- لم يكن منهم إلا إثارة كامن العواطف، وتنبيه النائم من الأفكار، أو إحداث لذة، أو ألم في النفوس، ولا ينتظر منهم أن يحلّوا معضلات الحياة الإنسانية، وعويصات مشاكلها. وسبب ذلك أنّهم في سيرتهم وأعمالهم لا يقدمون للناس المثل التي تحتذى، والأسوة التي يقتدى بهم فيها. ولقد وصفهم القرآن الكريم الحكيم أصدق وصف عند ما ذكر سيرتهم بقوله: وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الشعراء: 224- 227] وبهذا سجّل القرآن الحكيم على الشعراء أنّهم لا يؤثّرون بشعرهم اللطيف الحلو على المجتمع البشري؛ لأنهم يهيمون في أودية الأفكار والعواطف بلا إيمان، ولا عمل صالح، ولو اجتمعت لهم هاتان الخصلتان- الإيمان والعمل الصالح- لكان لشعرهم أثر بارز في المجتمع البشري، وعلى كلّ فإنهم ليسوا من الإصلاح في شيء، ولا الإصلاح من شأنهم، ولذلك لا يقدرون على القيام بمهمة إصلاح العالم، وقيادة الناس إلى الرشاد الكامل والفلاح الشامل، ويشهد على صدق هذه الحقيقة تاريخ الأمم في غابرها وحاضرها.
وكذلك نرى الفلاسفة والحكماء بهروا عقول الناس بفلسفتهم، وحاولوا تغيير تيار الحياة البشرية، فعرضوا على الناس من طريف الأفكار ومستحدث النظريات ما حيّر العقول، وأدهش النفوس، لكنّهم لم يقدّموا للناس من سيرتهم أسوة يؤتسى بها، ولا أناروا ظلمات الحياة بقبس من أعمالهم تتضح به مشاكل الإنسانية، فتتمكن من حلّ معضلاتها. وهذا أرسطو قد وضع في فلسفة الأخلاق قوانين أسّس بنيانها، ووطّد أركانها، ولا تزال الجامعات وأساتذتها عاكفين على دراستها: يلقون المحاضرات على طلبتهم في فلسفته، ونسمعهم يثنون على ثقوب فكره، وبعد نظره،
- إليه المؤلفون اليونان أشعار «الإلياذة» و «الأوديسة» و «الأغاني الهوميرية» التي أثّرت تأثيرا عميقا على مستقبل الشعر اليوناني.
وحصافة رأيه، ورجاحة عقله، ولكنّنا- والحقّ يقال- لم نجد رجلا اهتدى بدراسة فلسفة أرسطو، أو وصل بها إلى السعادة المنشودة.
وكذلك نرى في الكلّيات أفاضل من العلماء، وفحول الأساتذة والمدرسين يعجب الطلبة فصيح كلامهم، وبراعة بيانهم، وبليغ حوارهم، وعذب حديثهم، وهم يؤثّرون فيهم بذلاقة ألسنتهم، واتساق أفكارهم، وترتيب معانيهم، لكنّهم لا تعدو محاضراتهم جدران كلياتهم، وقاعات محاضراتهم، وإذا خرجوا منها أصبحوا كعامّة الناس، لا يمتازون عليهم بعمل تتخذه الإنسانية مثالا يحتذى، ولا بخلق يختلفون به عن غيرهم هديا وسمتا.
لقد رأينا على مسرح العالم كثيرا من الملوك الجبابرة الذين حكموا العالم، واستولوا على المماليك، واستعبدوا الأمم. وكم من أرض عمروها، ومدينة دمّروها، وكم وضعوا شعوبا، ورفعوا آخرين، وكم سلبوا، ومنحوا، وضرّوا، ونفعوا، فكانوا في سيرتهم كما قال الله عز وجل على لسان ملكة سبأ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [النمل: 34] . نعم إنّ السيوف البواتر في أيدي بعض الملوك قد قذفت الرّعب في قلوب المجرمين، فكفّوا عن اقتراف الجرائم علانية، وفي وضح النهار، مستترين وراء مكامن الريب، أو قابعين في بيوتهم.
لكنّ سيوف الملوك عجزت عن أن تستلّ الرذائل من قلوب أهلها، وأن تحسم مادة الشرّ في نفوسهم، وأن تطهّر صدورهم من فساد السّرائر، ذلك الفساد الذي يحمل أهله على ارتكاب المعاصي واقتراف السيئات. وأقصى ما يترتّب على رهبة المجرمين والمرجفين من سيف الملوك المسلط عليهم أن يسود الأمن والسّلام سبل البلاد، وأسواق المدن، وشوارعها، وحاراتها، أما إصلاح القلوب، وتهذيب النفوس؛ فمما يخرج عن سلطان السيف، بعجز عن إرادة الملوك. بل الحق- والحقّ أحقّ أن يقال- أنّ رأس كلّ شرّ إنما نجم من قصور بعض الملوك. وإنّ كلّ فساد نبت نابته في فناء حصونهم، بل في قصورهم نبعت عيون الفواحش والجرائم، ومن حصونهم انفجرت ينابيع الظّلم والعدوان، وعلى أيديهم تفاقم كلّ شرّ،
ومن أخلاقهم سرت العدوى إلى أخلاق الناس، ولفساد قلوبهم وسوء أعمالهم اتّسع الخرق على الراقع، حتّى أعيا الأطباء داء المجتمع البشري.
وهل خلف لنا الإسكندر المقدوني، وقيصر روما الأعظم مثالا من أعمالهما يصلح المجتمع إذا اقتدى به، وسار على أثرهما فيه؟
وهل نالت حظّا من البقاء والدّوام أيّة سنّة سنّها عظاماء المفكرين للمجتمع البشري من أمثال سولون «1» وغيره من واضعي الشرائع التي يعتبرونها عادلة قيّمة، مع أنّهم أبدعوا فيها ما شاءت لهم أفكارهم الثاقبة، وأنظارهم البعيدة، وقرائحهم المتوقّدة. ولو سأل سائل عن تلك الشرائع القيّمة والقوانين العادلة كم استمرت؟ لما استطاع أحد من أتباعهم وأنصارهم إلا أن يعترف بأن بقاءها كان قصير الأمد، وأنّ نقّادها أكثروا من نقدها، بل شكّ حتى أتباعهم وأنصارهم في نصح أولئك المفكرين، ونقاء سرائرهم، وصفاء قلوبهم، وفي إخلاصهم للإنسانية وللبشر جميعا؛ لأنهم لم يجدوا فيها الحياد الصّادق، والنّصفة المحضة، والعدل الصريح، وبراءة الذمّة من المحاباة، ومن جرّاء ذلك نشأ بعدهم قوم آخرون نبذ حكامهم تلك الشرائع، ومحوها كما يمحو المصححون أخطاء الحروف في الكتابة، ثم شرع هؤلاء الآخرون في سنّ قوانين غيرها تلائم مصالحهم، وتوافق مطامعهم، فجاءت القوانين الجديدة كأختها التي سبقتها غير مراعى فيها حقوق بني آدم كلّهم، ومصالح الأمم بلا استثناء. وفي أيامنا هذه نرى مجالس التشريع في البلاد المتمدينة لا تفتأ تنسخ قوانين كان معمولا بها، وتسنّ بدلا منها قوانين أخرى جديدة، حتى صارت كلّ يوم شريعة تشرّع في مكان شرعية تنسخ، وقانون يسنّ بدلا من قانون يلغى. كل هذا طمعا في بقاء دولة، وتثبيت أركانها، واستيلاء رجالها على مناصبها، ورغبة منهم في زخرف الدنيا وزينتها ونعيمها، لا تحفزهم إلى ذلك مصالح الناس، ولا منافع الأمة كلّها.
(1) سولون 558 -640) (Solon) ق. م) : مشرّع أثيني، أحد حكماء اليونان السبعة، سنّ قوانين إصلاحية اجتماعية وسياسيّة مهّدت الطريق لظهور ديموقراطية كليستنس.
سادتي: لقد حدّثتكم عن الطبقة العليا من بني آدم، ممّن يظنّ بهم أنّهم معقد الرّجاء في إصلاح الحياة الاجتماعية وتوجيهها نحو الإرشاد. وقد علمتم من أحوالهم وسيرهم كيف خابت فيهم الآمال، وأخفق الرجاء.
والحقّ أنّ كلّ خير ترون له أثرا في بقعة من بقاع الأرض، وكلّ نور يومض «1» في أيّة أمّة حتى لو كان ضئيلا، وكلّ إثارة من صلاح، أو كرم خلق، أو صفاء سريرة وطهارة قلب، فإن ممّا لا ريب فيه أن مردّه في الأصل إلى رسالات الله، أي إلى هداية النبيين عليهم السلام. فإذا وقعت أنظاركم في بقعة من أرض الله على مظهر من مظاهر العدل يسود الناس، أو رحمة في قلوب طائفة يتبادلونها بينهم، أو وجدتم فئة تتعامل بالتواسي ويساعد أيسارهم ذوي فاقتهم، وأقوياؤهم المظلومين منهم، وأهل العافية فيهم يغيثون الملهوفين، ويطعمون الأيتام، ويعولون الأيامى؛ فاعلموا جازمين غير مرتابين بأنّ هذه الفضائل من آثار تعاليم تلك الطائفة الطاهرة التي تسمّى «الأنبياء» صلاة الله وسلامه عليهم. وذلك لأنّ أقطار الأرض كلّها- على سعتها- قد بلغتها دعوة الأنبياء، وطرقت مسامع أهلها سنن هدايتهم، وأحكام تشريعهم، وحكمة رسالتهم، وما من أمّة إلّا وقد أرسل الله فيها رسله منذرين ومبشرين وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] ولولا الأنبياء لتهارج الناس كالبهائم، ولتهارشوا كالسّباع الضّواري. فحيثما رأيتم شيئا من الصلاح، وقليلا من الخير، أو كثيرا منه؛ فهو من تعاليمهم، وكلّ دعوة للحقّ في مكان ما من الأرض فإنّما هي صدى لرسالات الله. وحتى الهمج في مجال إفريقية، فضلا عن الأمم الغربية المتمدينة، كل أولئك استقوا من منهل النبوات الصّافي، واستضاؤوا بأنوار الله التي بعث بها أنبياءه، ولا يزالون يستنيرون بهم في كل ما يسمّى حقّا، وكل ما تدلّ عليه عناوين الخير.
(1) أومض: لمع خفيفا وظهر.