المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌كان صلى الله عليه وسلم أول من يعمل بما يأمر الناس به: - الرسالة المحمدية

[سليمان الندوي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌ترجمة العلّامة سيّد سليمان الندوي

- ‌مقدمة المؤلف

- ‌المحاضرة الأولى سيرة الأنبياء هي الأسوة الحسنة للبشر

- ‌مسؤولية الإنسان بقدر مواهبه:

- ‌حكمة إرسال الله الرسل للبشر:

- ‌الفرق بين دعوة الرسل ودعاوى غيرهم:

- ‌خلود دعوة الرسل واضمحلال دعاوى غيرهم:

- ‌ما من طائفة من الناس أصلحت فساد المجتمع إلا الأنبياء:

- ‌إنّ الهداية والدّعوة لا تثمر ولا تبقى إلا بالقدوة والأسوة:

- ‌السيرة المحمّدية هي السيرة التاريخيّة:

- ‌سيرة متبوعي الهنادك ليست تاريخيّة:

- ‌سيرة بوذا ليست تاريخيّة:

- ‌الذي نعلمه عن كونفوشيوس أقلّ من الّذي نعلمه عن بوذا:

- ‌شكوك العلماء المحقّقين في كثير من سير أنبياء بني إسرائيل:

- ‌الكلام على الأناجيل من ناحية التّاريخ:

- ‌ليس في أصحاب الدّعوات من يمكن التأسّي به إلا محمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌ما يمكن معرفته من أسفار التوراة عن موسى:

- ‌شؤون حياة المسيح أخفى من غيره وأغمض:

- ‌الحياة المثالية هي التي يبدأ صاحب دعوتها بنفسه فيعمل بما يدعو إليه:

- ‌اشتراط أن تكون سيرة المتبوع تاريخية وجامعة وكاملة وعمليّة:

- ‌امتياز الإسلام بحفظ السيرة النبويّة وتراجم الصّحابة والتابعين والأئمة والمتبوعين:

- ‌عناية الصّحابة بحفظ الحديث النّبويّ وعناية التابعين والأئمة والمتبوعين:

- ‌آخر الصحابة موتا المدن التي توفوا فيها سنة الوفاة

- ‌الكلام على التابعين وأساتذتهم من الصحابة:

- ‌أسماء الرواة من الصحابة عدد مروياتهم سنة وفاتهم

- ‌المستشرقون وتشكيكهم في رواية الحديث، والكلام على الحفظ والكتابة:

- ‌كتابة الحديث في العهد النّبوي:

- ‌التابعون الّذين دوّنوا الحديث:

- ‌جمع الحديث له ثلاثة أطوار:

- ‌علم نقد الحديث من جهة الدراية والفهم:

- ‌ستة مصادر لسيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهديه:

- ‌[المصدر الأول من مصادر السيرة النبوية: ما اقتبس من القرآن الحكيم]

- ‌والمصدر الثالث: كتب المغازي

- ‌والمصدر الرابع: كتب التاريخ الإسلامي

- ‌والمصدر الخامس: [كتب الدلائل]

- ‌والمصدر السادس: كتب الشمائل

- ‌كتب السيرة النّبوية تعدّ بالألوف:

- ‌مرجليوث أشدّ المستشرقين تحاملا على الإسلام:

- ‌اعترافات كبار المستشرقين حول السيرة النبوية:

- ‌السيرة النبوية أوثق رواية وأكثر صحة من كل ما كتب في سيرة النبيين:

- ‌مثال من كتب الشمائل لتفاصيل ما يعرفه التاريخ عن محمد صلى الله عليه وسلم من جليل ودقيق:

- ‌كلمات المستشرقين الكبيرين عما يعرفه التاريخ من دخائل محمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌تفاصيل أخرى عما يعرفه التاريخ عنه صلى الله عليه وسلم:

- ‌استقصاء ابن القيم في «زاد المعاد» كلّ أحوال النبي صلى الله عليه وسلم الخاصّة وشؤونه اليومية:

- ‌إباحة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يذكروا عنه كل ما يعرفونه بلا تحفّظ:

- ‌كان الرسول صلى الله عليه وسلم معروف الدخائل لأعدائه أيضا فلم ينقلوا عنه إلا خيرا:

- ‌شهادة أبي سفيان (قبل إسلامه) للنبي صلى الله عليه وسلم عند هرقل:

- ‌رجاحة عقول العرب تجعلهم لا ينخدعون في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتبعوه وهم على بينة:

- ‌لو كتم الرسول شيئا لكتم ما في القرآن من مؤاخذته:

- ‌كلمات كبار المستشرقين في المقارنة بين محمد صلى الله عليه وسلم والذين قبله:

- ‌سنن الأمم السالفة في الأخلاق بادت ولم يبق إلا سنن الإسلام:

- ‌المسلمون لا يحتاجون من خارج دينهم إلى أصول وضوابط:

- ‌الأديان الآخرى تتحرى أقوال أنبيائها والمسلمون يتحرّون أعمال نبيّهم:

- ‌حياة محمد صلى الله عليه وسلم جمعت ما تفرق في الأنبياء مما امتازوا به:

- ‌انتباه أحد البراهمة لهذه الناحية من الحياة المحمّديّة:

- ‌ما أعطى الله الرسل جميعا متفرقين قد أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم وحده:

- ‌مقارنات بين النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء:

- ‌مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم كانت جامعة للطوائف وعامة للأمم:

- ‌استعراض نماذج من تلاميذ مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم:

- ‌إنّ العالم لا تتمّ هدايته إلا بالمصلح الأخير للدّنيا:

- ‌كيف نتّبع الرّسول صلى الله عليه وسلم وفيم نتبعه

- ‌مقارنة بين نتائج عظة جبل الزّيتون، ودعوة جبل الصّفا:

- ‌ما شهد به لمحمد صلى الله عليه وسلم أقرب الناس إليه وأعرفهم به:

- ‌كان صلى الله عليه وسلم أول من يعمل بما يأمر الناس به:

- ‌مقارنة بين عظة أحبوا أعداءكم ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأعدائه:

- ‌مقارنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين الأنبياء من آدم إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام:

- ‌ما هي السّيرة الكاملة الجامعة في الرّسول، وماذا بلغ عن ربّه

- ‌كفالة الله حفظ الرسالة المحمّديّة لأنها رسالة الحاضر والمستقبل:

- ‌الإسلام أول رسالة عامّة في تاريخ الإنسانية:

- ‌الدّين إيمان وعمل، ولم يجتمعا إلا في الإسلام:

- ‌مقارنات بما في رسالة الإسلام والرسالات الآخرى:

- ‌مقارنات بين الوصايا العشر والآيات من سورة الإسراء:

- ‌عناية الشّرع المحمديّ بكرامة الجنس البشريّ ومكانته من سائر المخلوقات:

- ‌الرسالة المحمدية عرفت الناس بأقدارهم وأنزلتهم منازلهم:

- ‌الإسلام وعقيدة التّوحيد:

- ‌فطرة الإنسان في الإسلام بريئة في الأصل ولم يولد آثما:

- ‌الدين والفطرة كلمتان لمدلول واحد:

- ‌الناس سواسية في الإسلام والدنيا كلّها لله وحده:

- ‌الإسلام سوّى بين جميع الأنبياء ودعا إلى الإيمان بهم جميعا:

- ‌دين الله بين الذين غلوا في الأنبياء والّذين فرّطوا فيهم:

- ‌فساد الأديان السابقة بسبب التشبيه وتجسيم الصّفات الإلهية:

- ‌فساد الأديان بسبب فصل الصفات الإلهية عن الذات:

- ‌فساد الأديان بسبب تعديد أهلها للفاعل بتعدّد أفعاله:

- ‌منشأ الخير والشرّ حسن استعمال الأمور أو سوء استعمالها:

- ‌الهدى والضّلال بما كسبت أيدي الناس:

- ‌تعبّد الضّالين بتعذيبهم أنفسهم:

- ‌التضحية والأضاحي والقربان:

- ‌النفوس ملك لله، فليس للإنسان أن ينتحر أو يحدّد النّسل:

- ‌قضاء الإسلام على نظام الطبقات، وعلى التفاضل بالمال والنسب واللون:

- ‌من أعظم الجرائم فصل الدين عن الدّنيا:

- ‌الإسلام إيمان بالحقّ وعمل به:

الفصل: ‌كان صلى الله عليه وسلم أول من يعمل بما يأمر الناس به:

‌كان صلى الله عليه وسلم أول من يعمل بما يأمر الناس به:

هذه شهادات أقرب الناس إليه صلى الله عليه وسلم ممّن خالطوه، وعاشروه، وعرفوا دخائله، وهي تدلّ على أن سيرته الطاهرة كانت أعلى ما تكون عليه سيرة أفضل البشر، ومن أفضل سيرته وأعلاها أنه بعد ما أوحي إليه لم يأمر أتباعه وأصحابه بأمر إلا وقد سبقهم إلى العمل به، فدعا الناس إلى ذكر الله ومحبته، ولو راقبت حياته نفسها لرأيتها ملائمة لهذه الدّعوة؛ لأنه لم تكن تمضي عليه ساعة من نهار أو ليل إلا وهو يذكر الله بقلبه، ويحمده بلسانه، فكان لسانه رطبا بذكر الله، لا يفتر عنه طرفة عين، فإذا أكل، أو شرب ذكر اسم الله، وإذا فرغ من ذلك حمد الله، وإذا أخذ مضجعه أو استيقظ من نومه ذكر الله، وإذا نهض، أو جلس سبّح الله، أو حمده، وإذا لبس جديدا شكر الله، حتى أن أذكاره ودعواته التي حفظها الناس عنه في مختلف الأحوال شغلت فراغا واسعا من كتب الحديث، وجمعت في كتاب (الحصن الحصين) الذي يبلغ مئتي صفحة، ومن قرأ هذه الأدعية يقضي العجب؛ ويوقن بأنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الله، ويخشاه، ويهاب جلاله، فكان كما وصف الله في القرآن عباده الصّالحين الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ [آل عمران: 191] وكما شهدت عائشة بأنّه صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله، ولا يغافل عن ذكره أبدا.

وأمر الناس بالصلاة، وحضّهم على إقامتها والمحافظة عليها أشدّ المحافظة، فماذا تحسبون الرسول كان يعمل في نفسه بما كان يأمر به غيره؟

إنه صلى الله عليه وسلم كان يقيم الصلاة، ويحافظ عليها أكثر من غيره، كان المسلمون يقيمون الصلوات المفروضة خمسا. وكان صلى الله عليه وسلم يتطوّع بالزيادة على ذلك في صلاة الضحى، وصلاة الإشراق، وصلاة التهجّد، وكان عامة المسلمين يصلون سبع عشرة ركعة المكتوبة عليهم، وكان هو صلى الله عليه وسلم يصلي في اليوم

- ومن أراد الاستزادة من قراءة الشمائل فليراجع «سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شمائله الحميدة وخصائله المجيدة» للعلامة المحدّث الشيخ عبد الله سراج الدين، وهو من أنفس الكتب الحديثة في الشمائل، طبع مكتبة دار الفلاح، حلب.

ص: 153

والليلة خمسين إلى ستين ركعة من المكتوبة والنوافل. لقد سقطت عن عامة المسلمين فريضة التهجّد بعد ما فرضت عليهم الصلوات الخمس، لكنّ الرسول كان يقوم الليل، ويصلي صلوات لا تسل عن حسنهن وطولهن حتى كانت قدماه تتورمان من طول القيام، فقالت له عائشة يوما- وقد رأت ما يعاني صلى الله عليه وسلم في قيام الليل-: إن الله قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر، فما بالك يا رسول الله! تلقى العناء، وتتعب هذا التعب الشديد؟ فأجابها صلى الله عليه وسلم:«أفلا أكون لله عبدا شكورا» «1» وكان في هذه الصلوات معنى محبة الله أغلب عليه صلى الله عليه وسلم من معنى الخوف، فكان يطيل الركوع حتى يخيل إلى من يراقبه أنه ربما قد نسي السجود، وكان يقيم صلاته من بدء الوحي في فناء بيت الله أمام المشركين الذين كانوا يعادونه، ويؤذونه إيذاء شديدا. وقد هجم عليه بعض المشركين وهو في الصلاة فلم يترك صلاته خوفا منهم. وكان جنباه يتجافيان عن المضجع، وكان قليلا من الليل ما يهجع، ويبيت ساجدا أو قائما والناس نيام، وأشد ما يكون إقام الصلاة حين يلتقي الجمعان في ساحة الحرب، والسيوف مصلتة، والرّماح مشرعة، والقلوب واجفة، ومع ذلك فإنه إذا حان وقت الصلاة صلى منفردا أو صلّى بأصحابه إماما.

فيتناوب بعضهم الصلاة، وبعضهم الحرب، وإمامهم ثابت في الحالين إلى أن يؤدوا فريضة الله، لا يمنعهم عنها مانع.

أيها القارئ! أحبّ أن أطوي لك من صحائف القرون السالفة ثلاث عشرة ورقة لأعود بك إلى السنة الثانية من الهجرة. فتعال معي تنظر إلى ساحة بدر: هؤلاء مؤمنون، وهؤلاء مشركون، لقد التقى الجمعان، واشتد القتال بين المشركين والمؤمنين، وحمي وطيس الحرب، أين هو الرسول يا ترى؟ هاهو ذا ساجد بين يدي رب العالمين، يدعوه ويسأله

(1) عن المغيرة بن شعبة- رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حتى تفطّرت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا. [البخاري (152) ومسلم (377) ] .

ص: 154

النصر المبين بقلب ذاكر، ولسان بالدعاء ناطق، وناصية لعظمة الله ساجدة على الأرض، لقد أقام الصلاة لأوقاتها، ولم يؤخرها إلا مرتين: فقد فاتته مرّة في غزوة الخندق حين تألب عليه المشركون واليهود، ولم يمهلوه حتى يؤديها في وقتها، ومرّة أدلج الليل بطوله، ثم غفا غفوة هو وأصحابه، فطلعت عليهم الشمس، ولم يستيقظوا حتى أيقظتهم بأشعتها، فقضى ما فاته من الصّلاة، ثم لم تفته صلى الله عليه وسلم حتى في مرضه الذي توفي فيه، بل قد اشتدّ به المرض، ووهنت قوته، فخرج مع ذلك متهاديا بين رجلين من حجرته إلى أن بلغ المسجد، وصلّى مع الجماعة، وقد غشي عليه ثلاث مرات قبل وفاته بثلاثة أيام، فكان كلما همّ أن يذهب إلى المسجد غشي عليه، ففاتته الصلاة مع الجماعة، هذا ما كان عليه الرسول من عبادة الله وذكره، وهذا ما تركه خلفه لم يأتسون به في عبادته، وذكره لله عز وجل.

وأمر المسلمين بالصوم، وليس على المسلمين إلا صوم رمضان، ولكن ما ظنّكم بالرسول صلى الله عليه وسلم وصومه؟ إنه قلّما يمرّ به شهر، أو أسبوع من شهر إلا كان يصوم فيه، تقول عائشة: كان صلى الله عليه وسلم يصوم حتّى يظنّ أنّه لن يفطر «1» . ونهى المسلمين عن صوم الوصال، لكنه يواصل الصوم يومين بل ثلاثة أيام متوالية، لا يأكل فيهن، ولا يشرب، وذلك الذي يقال له صوم الوصال. وكان بعض الصحابة يحبّ أن يقتدي به في ذلك، فيقول صلى الله عليه وسلم:

«لست كأحدكم، أيّكم مثلي إنّ ربّي يطعمني ويسقيني» «2» وربما كان يصوم شهرين متواليين: شعبان ورمضان. وكثيرا ما كان يصوم الأيام البيض (الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر) من كلّ شهر، وكان يصوم ستّا من شوال، ويوم عاشوراء من المحرم، وكثيرا ما كان يصوم يوم السبت

(1) وفي البخاري، عن عائشة- رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان. [البخاري (1969) ] .

(2)

وفي البخاري: عن أنس- رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تواصلوا» ، قالوا: إنّك تواصل، قال:«لست كأحد منكم، إنّي أطعم وأسقى، أو إنّي أبيت أطعم وأسقى» [البخاري (1961) ] .

ص: 155

ويوم الخميس من كلّ أسبوع، كذلك كان دأبه وهديه في الصّوم.

وأمر المسلمين بإيتاء الزّكاة، وإنفاق المال في الخير، لكنّه بدأ ذلك بنفسه. وقد علمت شهادة أم المؤمنين خديجة له في ذلك يوم قالت له: إنك تحمل الكل، وتعين على نوائب الحق، وتكسب المعدوم، إنه لم يأمر الناس بأن يتبعوه في ترك الدّنيا، ولم يقل لهم ضحّوا بكل ما في أيديكم من أموال، ولم يخبرهم بأنّ ملكوت السّماوات موصدة أبوابه في وجوه الأغنياء، وإنما الذي أوصاهم به أن يتصدقوا ببعض أموالهم كما قال الله عز وجل وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: 3] . هذا بينما رسول الله نفسه لم يكن يدّخر من المال شيئا في بيته، بل كان ينفق في سبيل الله جميع ما كان يملكه، ولم يكن قليلا ما كان يأتيه من خمس الغنائم من ذهب، وفضة، ومتاع، وغيره من عرض الدنيا، فكان يخرج عنه كله لغيره من الفقراء والمساكين، ولم يكن يتمتّع هو ولا أهل بيته بمتع الحياة الدنيا، فكان حظه وحظّ أهل بيته من الدنيا الفقر والتعفف، وكان من سنته بعد أن فتحت أرض خيبر أن يوزّع على أزواجه من الطعام والحبوب ما يكفيهم عاما، لكنه قبل أن ينقضي العام كان ينفد ما وزعه على أزواجه، فيمسهم الجوع والسغب «1» ؛ لأنه كان ينفق على المحتاجين وعلى الضيوف مما يجده في بيوت أزواجه، يقول عبد الله بن عباس: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسخانا وأجودنا، وهو أسخى ما يكون في شهر رمضان، ولم يقل لسائل:«لا» قطّ طول حياته، ولم يأكل شيئا وحده مهما كان قليلا، بل يشرك فيه أصحابه، وقد آذن الناس أن «من مات وعليه دين فدينه عليّ أقضيه عنه، وما ترك من ميراث فميراثه لورثته» .

جاءه يوما أعرابيّ، فقال: يا محمد! إن هذا المال ليس لك ولا لأبيك، فأوقر منه جملي، فحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشعير والتمر، ولم يسخط عليه ما أغلظه من القول، ثم قال: إنما أنا قاسم، وخازن، والله هو المعطي. يقول أبو ذر: كنت يوما أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّة المدينة،

(1) السغب: الجوع مع التعب.

ص: 156

فاستقبلنا جبل أحد، فقال:«أبا ذر!» قلت: لبيك يا رسول الله! قال:

«ما يسرّني أنّ عندي مثل أحد ذهبا تمضي عليّ ثلاث ليال، وعندي منه دينار، إلا شيء أرصده لدين» «1» .

إخواني! لا تحسبوا أن ما قاله صلى الله عليه وسلم إنما هو كلمات عذبة، وألفاظ يتجمّل بها، بل قال ما قاله عن عزيمة، ولم يظهر للناس إلا ما كان يكنّه صدره، ويعمل به مدّة حياته، جاءه مرة من البحرين ذهب، وفضّة، وأموال جمّة، فأمر بوضع ذلك كله في فناء المسجد، ثم غدا على الناس يصلي بهم الصبح دون أن تقع عينه على ذلك المال في الجهة التي وضع فيها، فلما انصرف من الصلاة دعا الناس، وطفق يوزع المال عليهم حتى فرغ منه، فقام ينفض يديه وثوبه لئلا يكون علق بثوبه الطاهر شيء من غبار ذلك المال، وجاءه من فدك أربعة جمال موقرة بالطعام، فقضى به بعض ديونه، وآتى منه بعض الناس، ثم سأل بلالا: هل بقي من ذلك الطعام شيء؟

فأجابه بلال: لقد بقي منه شيء وليس هاهنا من يأخذه. فقال صلى الله عليه وسلم: لا أدخل بيتي ما بقي منه شيء. وبات تلك الليلة في المسجد، فلما أصبح بشره بلال قائلا: إنّ الله قد وضع عنك. يعني: أنّ بقية الطعام قد قسمت ولم يبق منه شيء، فشكر الله. ودخل بيته ذات يوم بعد صلاة العصر على غير عادته، ولم يلبث أن خرج منه فاستغرب الناس ذلك، فقال لهم: إني تذكّرت في الصلاة أن في بيتي شذرة من الذهب فخشيت أن يجيء الليل، وهي في بيت محمد. ودخل بيته ذات يوم حزينا كئيبا، فسئل عن ذلك، فقال:

يا أمّ سلمة! إنّ ما جاءنا من الدنانير السبعة قد بقي في الفراش، وقد حان المساء. وممّا يدلّ على زهده صلى الله عليه وسلم في الدّنيا ومتاعها: أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم مرض مرضه الذي توفي فيه، وكان يتقلب على فراشه من شدّة المرض، فتذكر وهو في هذه الحالة أنّ في بيته دنانير، فأمر أن يتصدّق بها، وقال: أيلقى

(1) وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما يسرّني أنّ لي أحدا ذهبا تأتي عليّ ثالثة، وعندي منه دينار، إلّا دينار أرصده لدين عليّ» (أي أعدّه) . [مسلم (2302) ] .

ص: 157

محمد ربه وقد خلف في بيته دنانير؟! فهذا ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في حياته من إنفاق المال والصّدقة.

لقد رغّب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة، وزهّد في الدّنيا، وحثّ على القناعة بالقليل منها، والكفاف من العيش، فلننظر إلى عيشه كيف كان يعيش ويحيا، لقد علمتم أنّ الله بسط على المسلمين الدّنيا، ووسع في أرزاقهم، فكانت تجبى إليه الأموال من الخراج، والعشر، والجزية، والزكاة، والصدقات، وكانت قوافل الإبل تحمل الطعام والمال إلى المدينة، أمّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن له حظّ من تلك الأموال الكثيرة، وكان أهل بيته في ضنك وكفاف، تقول عائشة رضي الله عنها: توفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشبع يومين متواليين «1» . وتقول: لم يكن في بيته يوم التحق صلى الله عليه وسلم بالرّفيق الأعلى سوى صاع واحد من شعير، وكانت درعه مرهونة عند يهوديّ بصاع من شعير، كان الرّسول صلى الله عليه وسلم يقول:«ما لابن آدم من دنياه غير بيت يأوي إليه، وثوب يلبسه، وخبز جافّ يأكله، وماء يشربه» » .

ولم ينطق صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمات في الزهد بالدّنيا إلا وقد رضي لنفسه بهذا القدر، وعمل به طول حياته، ولم يمدّ عينيه إلى زهرة الدنيا وزينتها، فكانت له حجرة مطينة غير مشيدة جدرانها، وكان سقفها من الخوص والوبر. تقول عائشة: لم يطو ثوبه أبدا. تعني أنه لم يكن له ثوب آخر غير الذي على جسده الطّاهر، جاءه مرة سائل يشكو الجوع الشديد، فأرسل إلى أزواجه يطلب للسائل طعاما من بيوتهن، فلم يجد عند إحداهن شيئا غير الماء. ويقول طلحة «3» : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما مضطجعا على فرش المسجد، يتململ من الجوع، وشكا إليه بعض الصحابة الجوع ذات مرة،

(1) رواه البخاري في نفقة نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته (3097) وفي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم (4467) .

(2)

رواه الترمذي (2341) في الزهد، باب (30) وقال: حديث حسن صحيح.

(3)

هو طلحة بن عبيد الله بن عثمان التيمي القرشي، صحابي من الشجعان والأجواد، ومن المبشرين بالجنة، كان من دهاة قريش وعلمائهم، شهد سائر المشاهد، قتل يوم الجمل وهو بجانب عائشة رضي الله عنها، ودفن بالبصرة. وله 38 حديثا مرويا.

ص: 158

وكشفوا عن بطونهم، فإذا حجر قد شدّه كلّ واحد على بطنه، وأراهم صلى الله عليه وسلم بطنه، وقد شدّ عليه حجرين، وكان صوته صلى الله عليه وسلم يضعف أحيانا من شدة الجوع، وذهب مرّة إلى بيت صاحبه أبي أيوب الأنصاري «1» وهو جائع، فصنع له أبو أيوب طعاما، وقطف له بعض الرّطب من حديقته، فلما قدم إليه الطعام أخذ منه خبزا ووضع عليه شيئا من اللحم، وقال: ابعثوا به إلى فاطمة، فإنها لم تأكل شيئا منذ أيام، وكان يحبّ بنته وسبطيه حبا جما، غير أنّ حبّه لهم لم يحمله على أن يكسوهم لباسا ناعما، أو يحلي بنته حلية ثمينة، ورأى فاطمة قد لبست ذات يوم قلادة من الذهب جاءها بها زوجها عليّ كرّم الله وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم لها: يا فاطمة أتحبين أن يقال أن بنت محمد قد لبست طوقا من نار؟ فنزعت تلك القلادة من عنقها، واشترت بثمنها عبدا وأعتقته، ورأى عائشة قد لبست سوارين من ذهب، فأمرها أن تنزعهما، فنزعتهما حين قال لها: هذا لا ينبغي لآل محمد، وكان يقول: يكفي الإنسان من الدّنيا ما يتزود به الغريب في سفره، هذا قوله، أما عمله فيدلّ عليه ما روي أنّ أحد الصحابة دخل عليه فرآه قد أثر الحصير في جسمه الشريف، فقال: ألا نهدي إليك فراشا وثيرا؟ فأجابه: مالي ولدنياكم، ليس لي إليها حاجة إلا كما يستظلّ الراكب في طريقه؛ ليستريح ساعة من نهار، ثم يمضي قدما. وفي السنة التاسعة للهجرة وكانت رقعة الدولة الإسلامية قد امتدّت إلى اليمن، والشام، ولا ينفذ فيها إلا أمره، حتى أنّه لم يكن يملك إلا إزارا وسريرا خشنا، لا فرش له، ووسادة حشوها ليف، وقليلا من الشعير، وجلد حيوان في ناحية من البيت، وقربة ماء معلقة على وتد، فإذا كان ذلك هو تزهيده الناس في الدنيا، فهذا هو عمله الذي رأيتم.

(1) هو خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة، أبو أيوب الأنصاري، من أكابر الصحابة، شهد سائر المشاهد، كان شجاعا صابرا تقيّا محبا للغزو والجهاد، كان يسكن المدينة، فرحل إلى الشام، شارك في غزوة القسطنطينية مع يزيد، توفي فدفن في أصل حصن القسطنطينية، له 155 حديثا مرويا.

ص: 159

إخواني! لا شكّ أنّكم سمعتم كثيرا من الناس يخطبون في «الإيثار» ويحثّون الناس عليه، فهل رأيتم مثالا عمليا للإيثار في صحيفة حياة واعظ؟

إذا شئتم أن تروا الأمثلة عليه فالتمسوها في سيرة الرسول الأعظم الذي علم الإنسانية فضائل «الإيثار» وحذرها عواقب «الأثرة» . أنتم تعلمون مبلغ حبه لابنته فاطمة رضي الله عنها، ومع ذلك فإنها كانت تطحن بيدها حتى مجلت، وتحمل قربة الماء على صدرها حتى اخضرّ. فجاءته ذات يوم تسأله خادمة- والإماء يومئذ كثيرة- فقال لها: يا فاطمة! لم أفرغ بعد من حاجات أهل الصّفة، فكيف أقضي حاجتك؟ ويروى أنه قال لها: إن أيتام شهداء بدر سبقوك في أمر الخوادم والعبيد. وأهدت إليه صحابية رداء في أحد الأيام، فنظر إليه أحد الحاضرين، وقال: ما أجمل هذا الرداء! فدفعه إليه.

وأراد أحد الصّحابة أن يقيم مأدبة فرح له، ولم يكن عنده ما يقدّمه للأضياف، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستعينه، فأرسله إلى عائشة لتعطيه سلّة دقيق كانت في بيتها، فذهب ورجع بها، ولم يبق في بيت الرسول تلك الليلة ما يأكله.

هلمي ما عندك من طعام، فجيء بطعام من نخالة، فلم يشبعهم، فقال لها: هلمي شيئا آخر، فجيء بحساء من تمر، ثم بقدح من لبن، ولم يكن في بيته غير ذلك، فكان اللبن آخر ما قدمه للأضياف، فاثرهم بكلّ ما عنده.

وإن شئت أن تشاهد المثل الأعلى للثقة بالله، والاعتماد عليه؛ فشاهد ذلك في بيت هذا الرسول، فإنّ الله أمره بقوله: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35] فامتثل أمر ربه. وأنت تعلم أنّه بعث في أمّة أميّة ذات حميّة وأنفة تمنعها أن تسمع كلمة مخالفة لعقائدها ومزاعمها، وهان عليها أن تموت في سبيل ذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قام برسالته صابرا مثابرا، فكان يوحّد الله في المسجد الحرام، ويصلّي على أعين المشركين في فناء المسجد الذي كان ناديا لهم ومجتمعهم، فكان

ص: 160

يركع لله ويسجد أمامهم غير مبال بهم، ولما نزل قول الله سبحانه فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الحجر: 94] صعد بين جبل الصفا ونادى المشركين، فلما اجتمعوا إليه بلّغهم دعوة الله، وقد امتحنوه بضروب من الأذى، حتى ألقوا عليه مرّة سلى جزور وهو قائم يصلي في فناء البيت الحرام، بل أرادوا مرّة أن يخنقوه بالرداء، وألقوا الشوك في طريقه، لكنه صبر كما صبر أولو العزم من الرسل.

ولما همّ عمه أبو طالب أن يخرج من ذمّته، ويمسك يده عن حمايته، قال له وقد حميت أنفته:«يا عم! إنّ قريشا لو وضعوا الشّمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» «1» . وإنّ قريشا قد حصرته وبني هاشم في شعب أبي طالب مدّة ثلاثه أعوام، ومنعوهم الطعام، حتى كان الصبيان يتضورون جوعا، واضطر الرجال أن يقتاتوا بورق الشجر، ثم بيّتوا قتله، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يداخله الخوف، ولم يتردّد في تبليغ الرسالة التي بعث بها، ثم خرج إلى المدينة واختفى في طريقه مع صاحبه أبي بكر في غار ثور، وتتبعه المشركون حتى بلغوا مدخل الغار، واقتربوا منه، ولو نظروا إلى أقدامهم لرأوه، وفزع أبو بكر في تلك الساعة العصيبة، فقال: يا رسول الله! إنما نحن اثنان، فقال له صلى الله عليه وسلم بصوت تمازجه الطمأنينة:«ما ظنّك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إنّ الله معنا» «2» ووعدت قريش من يأتي به جائزة قدرها مئة من الإبل، فخرج سراقة بن جعشم «3» يركض فرسه، وبيده رمحه، حتى اقترب من الرسول، فقال أبو بكر: يا رسول الله! قد أدركنا،

(1) السيرة النبوية «لابن هشام» الجزء الأول، ص 100.

(2)

رواه البخاري في كتاب التفسير (4663) . وفي ذلك يقول الله تعالى: ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] .

(3)

هو سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، صحابي أسلم بعد غزوة الطائف سنة 8 هـ، أرسلته قريش ليقتاف أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الغار مع أبي بكر- رضي الله عنه توفي سنة 24 هـ، وله 19 حديثا مرويا في كتب الحديث.

ص: 161

وكان أبو بكر يكثر الالتفات يمينا ويسارا، أما الرسول فكان هادىء النفس، مطمئن القلب، يذكر الله، ولا يلتفت إلى شيء، وبعد أن نجاه الله وبلغ المدينة لم يأمن غوائل قريش، ومكايد اليهود، فكان محاطا بالأخطار من كلّ جانب، حتى كان المسلمون يحرسون بيته في الليل، فنزلت هذه الآية وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] فخرج لساعته من الخيمة وقال للذين يحرسونه: اذهبوا فإنّ الله وعدني بعصمته، وتولّى حفظي «1» .

ورجع من غزوة نجد «2» ، فاستظلّ بشجرة في ساعة الهاجرة، وتفرّق عنه أصحابه، ولم يبق عنده أحد، ولما غلبته عيناه جاءه أعرابي من المشركين وقد سلّ سيفه، فانتبه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال له الأعرابي:«من يعصمك منّي؟» (تأمل حرج هذا الموقف) ، فأجابه صلى الله عليه وسلم وجأشه رابط، وقلبه مطمئن بالإيمان:«الله!» فما طرقت هذه الكلمة سمع الأعرابي حتى تأثر بها وأغمد سيفه «3» .

وخرج المسلمون إلى ساحة بدر في قلّة من العدد والعدد، وهم لا يزيدون على ثلاثمئة وثلاثة عشر مقاتلا بعضهم معه سيف بلا رمح، وبعضهم معه رمح ولا سيف معه، وعدوهم نحو ألف مقاتل في سلاح تامّ وعتاد كامل، فالتقى الجمعان، وحمي وطيس الحرب. ترى أين هو قائد جيش المسلمين؟ انظر، هاهو قد اعتزلهم لاجئا إلى ربه يدعوه تارة،

(1) قالت عائشة- رضي الله عنها: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقلت: يا رسول الله! ما شأنك؟ قال: «ألا رجل صالح يحرسنا الليلة» . فقالت: بينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح، فقال:«من هذا» قال: سعد وحذيفة، جئنا نحرسك. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه، ونزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم، وقال:«انصرفوا يا أيها الناس، فقد عصمني الله» (أسباب النزول، للواحدي، ص 158) ، طبع دار ابن كثير بدمشق.

(2)

سميت هذه الغزوة «غزوة ذات الرقاع» .

(3)

انظر الحديث بكامله في صحيح البخاري في كتاب المغازي، باب «غزوة ذات الرقاع» (4135) .

ص: 162

ويستفتح على المشركين، ويسجد لله تارة وهو يقول:«اللهمّ أنشدك عهدك ووعدك! اللهمّ إن شئت لم تعبد بعد اليوم!» «1» .

وربما وقع الخلل في صفوف المسلمين، وتفرقوا عن الرسول، فيبقى هو ثابتا في موضعه كالجبل الذي لا يزعزعه شيء واثقا بربه متوكلا على تأييده راجيا نصره، كما وقع في سفح أحد حين تفرق عنه أكثر الصحابة، فثبت هو مكانه، والمشركون تارة يحملون عليه بالسيوف، وأخرى يشدّون عليه بالرماح، ويرمونه أحيانا بالحجارة والسهام، حتى انكسرت ثنيته، وشدخ رأسه، ودخلت في رأسه حلقة المغفر، ففي تلك الساعة الرهيبة كان واثقا بنصر الله الذي وعده بعصمته فلا يخذله، وكذلك وقع في حنين حين كانت سهام المشركين تقع على المجاهدين المسلمين كالمطر، فتفرّق المسلمون، لكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبرح مكانه، بل ظلّ ثابتا يدعو الناس إلى الله وهو يقول:

أنا النّبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب «2»

(1) راجع السيرة النبوية لابن هشام و «زاد المعاد» لابن قيم الجوزية، ورواه مسلم في كتاب الجهاد والسير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:«لما كان يوم بدر نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاثمئة وتسعة عشر رجلا، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مدّ يديه، فجعل يهتف بربّه «اللهمّ! أنجز لي ما وعدتني! اللهمّ آت ما وعدتني! اللهمّ! إنّك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض!» فما زال يهتف بربّه مادّا يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه. [مسلم (4588) ] . لقد شفع الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه العصابة المؤمنة في هذه الساعة الحاسمة الدقيقة، بالكلمة الوجيزة التي تجلت فيها الثقة والاضطراب والسكينة والافتقار جنبا لجنب، فكانت أدق تعريف بهذه الأمة وأدق تحديد لمركزها ومكانتها بين الأمم، وقيمتها وغنائها في هذا العالم، والثغر الّذي ترابط عليه، وهو الدعوة إلى الله، وإخلاص الدين، والعبادة له. وقد أثبت الانتصار الرائع المعجز الّذي أبطل كل تجربة، صدق هذه الكلمة ودقتها، وأنها كانت تصويرا دقيقا لهذه الأمة. (العلامة أبو الحسن علي الحسني الندوي في «السيرة النبوية» ص 223، طبع دار ابن كثير، دمشق) .

(2)

رواه البخاري في المغازي، باب غزوة حنين (2864) ومسلم في الجهاد والسير، باب غزوة حنين (4615) .

ص: 163