الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هـ «1» يطالع كتابا، يعني أنه قد تغيّر حفظه «2» . ومما يثير العجب والاستغراب أنّ الإمام معاذ بن معاذ تقدّم إليه رجل بألف دينار على ألا يكتب في كتابه شيئا عن رجل سماه، فلا يوثقه، ولا يجرحه، بل يسكت عنه، فرفض الإمام ذلك المال بشدّة، وقال: إنّي لا أكتم الحق «3» ، فهل يعرف أحد في تاريخ البشر مثالا للاحتياط في العلم والأمانة للحقّ والاستقامة على منهج الصّدق أعلى من هذا المثال؟ على أنّ جميع مرويات السنة لا تزال محفوظة كما هي إلى زماننا هذا، وإنّ قواعد النقد الموضوعة، وأحوال الرواة الممحّصة، قد يسّرت لكلّ من شاء حتى في زماننا هذا وفي كل زمان أن يميز بها بين الصحيح والسقيم، والغثّ والسمين، والرّاجح والمرجوح، والقويّ والضعيف.
ستة مصادر لسيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهديه:
سادتي: لقد شغلت شطرا من وقتكم الثمين بإيراد هذه الأمور العلمية التي قلّما يستطيبها السّامعون، لكنّي فيما أظنّ قد استعرضت لكم أنحاء مختلفة من السّيرة النبوية، ومثلت أمامكم جوانبها التاريخية المتنوعة، وأريد أن ألفت أنظاركم إلى المصادر التي أخذت عنها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، وكيف دوّنت تلك المصادر وجمعت،
[المصدر الأول من مصادر السيرة النبوية: ما اقتبس من القرآن الحكيم]
وإنّ أهمّ ما في سيرته صلى الله عليه وسلم، وأوثقها، وأكثرها صحة هو ما اقتبس من القرآن الحكيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، تنزيل من عزيز حميد، وهو الذي لم يشك في صحته العدوّ اللدود فضلا عن الحبيب الودود. والقرآن يقصّ علينا جميع مناحي السيرة النبوية، وطرفا من حياته صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، فيذكر لنا يتمه، وفقره، وتحنثه، كما يذكر لنا شؤونه بعد النبوة من هبوط الوحي الإلهي عليه، وتبليغه إيّاه، والعروج به، وعداوة الأعداء، وهجرته، وغزواته، وفي القرآن الكريم ذكر أخلاقه صلى الله عليه وسلم، كلّ ذلك تراه مذكورا في
(1) هو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الملك بن مسعود، توفي سنة 165 هـ.
(2)
تهذيب التهذيب، الجزء السادس، ص 11.
(3)
نفس المرجع.
القرآن ببيان واضح، وأسلوب متين رائق، ومن ذلك تعلمون أنّه لم تتطرّق أذن التاريخ سيرة رجل بأحسن، ولا أصحّ، ولا أوثق من سيرة محمّد صلى الله عليه وسلم.
والمصدر الثاني من مصادر السيرة النبوية «1» : كتب الحديث
، وهي كتب حفظت لنا من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعاله، وأحواله ما يبلغ مئة ألف حديث، وقد امتاز الصحيح منها عن الضعيف والموضوع، والقوي منها عن غير القوي. ومن الكتب المصنفة في الحديث الكتب الستة الصحاح التي محّص العلماء كلّ ما ورد فيها، وذكروا شواهده، ومتابعاته، حتى لم
(1) تأتي كتابة السيرة النبوية- من حيث الترتيب الزمني- في الدرجة الثانية بالنسبة لكتابة السنة النبوية، فلا جرم أن كتابة السنة- أي الحديث النبوي كانت أسبق من كتابة السيرة النبوية عموما، إذا السنة بدأت كتابتها كما هو معلوم، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن بل بأمر منه عليه الصلاة والسلام، وذلك بعد أن اطمأن إلى أن أصحابه قد تنبهوا للفارق الكبير بين أسلوبي القرآن المعجز والحديث النبوي البليغ، فلن يقعوا في لبس بينهما. أما كتابة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه بصورة عامّة فقد جاء ذلك متأخرا عن البدء بكتابة السنة، وإن كان الصحابة يهتمون بنقل سيرته ومغازيه شفاها. ولعلّ أول من اهتم بكتابة السيرة النبوية عموما، هو عروة بن الزبير المتوفى 92 هـ ثم أبان بن عثمان المتوفى 105 هـ، ثم وهب بن منبه المتوفى 110 هـ ثم شرحبيل بن سعد المتوفى سنة 123 هـ، ثم ابن شهاب الزّهري المتوفى 124 هـ. إنّ هؤلاء يعدّون، ولا ريب، في مقدمة من اهتموا بكتابة السيرة النبوية، غير أن جميع ما كتبه هؤلاء قد باد وتلف مع الزمن، فلم يصل إلينا منه شيء، ولم يبق منه إلا بقايا متناثرة، روى بعضها الطبري، ويقال: إنّ بعضها الآخر- وهو جزء مما كتبه وهب بن منبه- محفوظ في مدينة هايدلبرج بألمانيا. ولكن جاء في الطبقة التي تلي هؤلاء من تلقّف كلّ ما كتبوه، فأثبتوا جلّه في مدوناتهم التي وصل إلينا معظمها بحمد الله وتوفيقه، ولقد كان في مقدمة هذه الطبقة محمد بن إسحاق المتوفى عام 152 هـ، وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يعدّ من أوثق ما كتب في السيرة النبوية في ذلك العهد ولئن لم يصل إلينا كتابه «المغازي» بذاته، إلا أن أبا محمد عبد الملك المعروف بابن هشام قد جاء من بعده، فروى لنا كتابه هذا مهذبا منقحا، ولم يكن قد مضى على تأليف ابن إسحاق له أكثر من خمسين سنة (فقه السيرة النبوية، للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي مع اختصار، ص 226) .