الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فساد الأديان السابقة بسبب التشبيه وتجسيم الصّفات الإلهية:
إخواني! اليوم آخر اجتماعي بكم، بعد أن استمرّ شهرا. ومحاضرة اليوم آخر المحاضرات الثّمان، وقد حاولت في المحاضرتين الماضيتين أن ألمّ بكلّ ما يتعلق بأصول الإسلام، وما يرجع إلى مبادئه، وقواعده، وسننه، ولكن أنّى لي أن أوفي ذلك؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يجمع ضوء الشمس بيده، أو يحصي نجوم السّماء؟!
إنّ الأديان السالفة قبل الإسلام، التي كانت دعوتها إلى توحيد الله، قد تطرّق إليها الفساد في أمر التّوحيد لوجوه ثلاثة: الأول التشبيه والتمثيل، أي: أنّهم قد شبهوا الله بغيره من خلقه، والثاني: أنّهم جعلوا صفات منفصلة عنه ومستقلة. والثالث: أنهم اغتروا بكثرة المظاهر في العالم، وخدعوا بضروب من مصنوعات الله، وآثار مقدوراته، فلما منّ الله على الإنسانية بالإسلام أزال به الأوهام، وكشف خفايا الشبهات، فانجلت عن البصائر غياهب التّمثيل، والتشبيه.
وإليكم أولا أمر التمثيل: فإن أهل الملل والنّحل من غير الإسلام اختاروا طرقا واتّخذوا وسائل لمعرفة ما لله عز وجل من الصفات الجليلة، والصّلة التي بينه وبين خلقه، فشبهوه جل جلاله بأجسام مختلفة، ومثّلوا صفاته في ضروب من الصّور والأشكال، فلما طال عليهم الأمد بقيت هذه السّور الممثل بها، وزال عن قلوب الناس اسم الله الذي لم يزل ولا يزال، فصارت المشبّه بها أوثانا، وأصناما، وتماثيل، وطفق الناس يعبدونها، ويسجدون لها ظنّا منهم بأنها مظاهر صفات الله، ومشاهد قدرته، وتفنّنوا في تصور صفات الله بهذه التماثيل المنحوتة، والأوثان المصنوعة، ومن ذا الذي يشكّ في أن الله يحبّ عباده، ويرأف بهم، ويحنّ عليهم؟ لكن الجاهلين جعلوا لحبّ الله عباده، ولرأفته بهم تمثالا من حجر أو غيره، والأمم الآرية اتخذت تمثال المرأة رمزا للحبّ الإلهي، فإنها عندهم مظهر
الحنان والأمومة، وإلهة الحبّ والغرام، فعبروا عن حبّ الله بنوع من العبادة، وعن حنانه عليهم بحنان الأم على ولدها، فانقلب الإله عندهم أما حنونا، ونحتوا له صورة أمّ حنون، وأخذوا يعبدونها، ويسجدون لها.
والطوائف الآخرى من الهنادك قد أظهروا هذا الحبّ الإلهي لعباده وحنانه عليهم بما بين الحليلة وزوجها من المودة والمحبة، فاختار لفيف من الرجال زيّ النّساء وهيئتهن، وتأنثوا، وتخنثوا شكلا وأخلاقا، على زعم أنّ الله يحبّهم كما يحبّ الزوج حليلته.
وكما ظهر الإله عند الروم والإغريق في صورة امرأة.
أما الأمم السّاميّة فقد تمثل الإله عندها رجلا وأبا؛ إذ كان ذكر المرأة عندها على ملأ من الناس مخالفا للآداب السّاميّة، وكان الأب هو رأس الأسرة وأصلها، ويدلّ عليه ما استخرج من بطون الأرض في بابل، وأثور، وديار الشام من تماثيل تصور الإله بصور الرجال، وكذلك بنو إسرائيل، يظهر أنهم في بدء أمرهم كانوا يتصوّرون الله بصورة الأب، ويحسبونه والدا، ويحسبون الملائكة وسائر الناس أولادا له، ثم ضاق نطاق تفكيرهم، فلم يبق للإله أولاد عندهم سوى بني إسرائيل.
ويوجد في بعض صحف بني إسرائيل ما يدلّ على أن الرابطة كانت بين الإله وبني إسرائيل كالرابطة التي تكون بين الزوج وحليلته، وأنّ بني إسرائيل وأورشلم حلائل، والإله زوجهن، تعالى الله عما يقولون ويتصورون!!.
وقد أخطأ المنتسبون إلى المسيح عليه السلام، فجعلوا ما كان بادىء بدء استعارة كأنّه حقيقة ثابتة. وانقلب تشبيه الإله بالأب لحنانه على نبيه عيسى عليه السلام، ورأفته به، فاعتبروه حقيقة، والإله الذي لم يلد ولم يولد اعتبروه والدا، وعيسى ولده.
وشبيه بذلك ما نجده عند قدماء العرب من ظنّهم بالله أنّه أب، والملائكة بنات له، فلما بزغت شمس الإسلام انكشفت ظلمات التشبيه، والتمثيل كلّها، وانجلى قتام الشّرك، وأهمل استعمال جميع الكلمات التي
تقضي إلى الإشراك بالله، منذ نادى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: 11] ثم نزلت سورة من قصار سور القرآن محت الأوهام الباطلة كلّها، والعقائد الفاسدة التي نسجها الناس حول وجود الله، وهي قول الله عز وجل قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص: 1- 4] فكان الإسلام بذلك طاهرا من دنس الشرك، نقيّا من كلّ شوائبه.
إخواني وخلاني! إيّاكم أن تظنّوا أنّ الرسالة المحمدية نفت شيئا ممّا لله عز وجل من عظيم الرأفة، وواسع الرحمة بعباده، أو أبطلت ما لله في عباده من حنان، إنّها لم تفعل ذلك، بل وثقت حبل الله الذي يسّره لعباده وزادته قوة. وإنما أبطلت ما زاد على ذلك من أوهام تفضي إلى تجسيم الله، أو تمثيله بشيء من خلقه، ومحت وسائل كاذبة تجرّ إلى الإشراك بالله ممّا اتخذته الأمم السالفة، فضلّت به، وأضلّت، وفيما عدا ذلك فإنّ الإسلام أشاد بما بين الله وعباده من رابطة هي أشدّ، وأقوى من كلّ ما يمتّ به المخلوقون بعضهم إلى بعض من نسب، ورحم، وآصرة، ودم، فالإنسان الذي يعيش في طاعة الله أقرب إلى الله من قرابة الولد لوالده، وقرابة الزوجة من زوجها.
انظروا كيف أراد الله أن يعلّم الصالحين من عباده بأنه يحبّهم كما يحبّ الأب أولاده، فأمرهم أن يذكروه كما يذكرون آباءهم، أو أشدّ ذكرا. فهو عز وجل لم يشبه نفسه بالأب، لكنّه شبه حبّه بحبّ الأب، واجتنب ما يدلّ على القرابة الواشجة، والرّحم الماسّة، فأبقى من هذه العلاقة ما يدلّ على الحبّ، ثم زاد الحثّ على أن يذكروه أشدّ، وأكثر مما يذكرون آباءهم بقوله أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [البقرة: 200] لأنّ الصلة بين العبد وخالقه أشدّ، وأسمى من جميع ما يمتّ به المرء إلى أحد من ذوي قرابته، فقال تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة: 165] ، والإسلام لا يسمّي الله أبا للناس، بل يدعوه «رب العالمين» لأنّ الربّ أعلى مكانا من الأب، وإنّ الصّلة بين الابن وأبيه عارض يفنى، والصّلة بين المربوب وربه أثبت وأبقى؛ لأنها مستمرة من أول نشأة المخلوق إلى أن تنتهي حياته بلا انقطاع،