الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحذافيرها وما تفرّق منها في سيرة نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وسليمان، وداود، وأيوب، ويونس، ويوسف، ويعقوب عليهم الصلاة والسلام، فكأنّ السيرة المحمدية بحر لجيّ تنصبّ فيه جميع الأنهار، وتتصل به كل البحار من سير الأنبياء والرسل، وهداهم، وسننهم.
روى الخطيب البغدادي «1» في تاريخه بإسناد ليّن: أن نداء سمع عند مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن طوفوا بمحمد جميع البلاد، واغطسوه في قعر البحار ليعرف العالم كلّه، ثم اذهبوا به إلى جميع الإنس، والطير، والحيوان، وأعطوه من خلق آدم، ومعرفة شيث، وشجاعة نوح، وخلّة إبراهيم، ولسان إسماعيل، ورضا إسحاق، وبلاغة صالح، وحكمة لوط، وشدّة موسى، وصبر أيوب، وطاعة يونس، وجهاد يوشع، ولحن داود، وحب دانيال، ووقار إلياس، وعفّة يحيى وزهد عيسى، واغمسوه في بحر أخلاق الرّسل كلّهم.
والعلماء الذين رووا هذه الرواية في كتبهم أرادوا بها أن يعربوا عن حقيقة سيرة الرسول، وأنّها كاملة جامعة، وأنّ ما أعطي الرسل جميعا متفرقين قد أوتيه محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وأن ما تفرّق من مكارم الأخلاق في الرّسل قد اجتمع فيه صلى الله عليه وسلم.
مقارنات بين النبي صلى الله عليه وسلم وإخوانه الأنبياء:
تأمّلوا سيرة محمّد صلى الله عليه وسلم؛ تجدوا فيها كلّ ما كانت به حياته المثالية كاملة.
أليس الرسول المكيّ الذي خرج من بلده مهاجرا إلى يثرب يشبه الرسول الإسرائيليّ الذي خرج من مصر يريد مدين؟ أليس الذي انزوى في غار حراء يعبد ربه كالذي قصد جبل سيناء ليناجي ربّه؟ إن هذا يشبه ذلك مع فارق بينهما، وهو أنّ عيني محمد كانتا مفتوحتين وعيني موسى كانتا مغمضتين،
(1) هو أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، المعروف بالخطيب، أحد الحفاظ المؤرخين المقدمين، كان فصيح اللهجة، ولوعا بالمطالعة والتأليف، توفي سنة 463 هـ، ومن أشهر كتبه «تاريخ بغداد» و «الكفاية في علم الرواية» .
وأنّ رسول الإسلام كان ينظر في داخله، ورسول بني إسرائيل كان ينظر إلى خارجه.
إنّ عيسى عليه السلام في ذهابه إلى جبل الزيتون ليلقي عظته يشابه محمدا صلى الله عليه وسلم وقد ارتقى جبل الصفا لينادي معاشر قريش. والذي قاتل مشركي بلاد العرب في بدر، وحنين، ويوم الأحزاب، وتبوك يشبه موسى الذي قاتل المؤابيين، والعموريين، والآموريين.
وإنّ الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم دعا على سبعة رجال من أعيان مكة فهلكوا، وموسى دعا على فرعون ومن التف حوله حين رأوا بأعينهم آية بينة من الله مرّة بعد أخرى، لكنّهم لجّوا في عتوّ ونفور؛ ولم يؤمنوا به، فهلكوا مغرقين في البحر الأحمر، فتشابهت سنة الرسول محمد وسنة الرّسول موسى عليهما الصّلاة والسلام.
إنّ محمدا نبيّ الله دعا بالخير لمن أراد قتله من المشركين يوم أحد، وإنّ عيسى عليه السلام لم يدع على أحد وما زال يبغي الخير لأعدائه، أليس هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يشابه من هذه الناحية هدي عيسى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وإنّ محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تراه في فناء المسجد يقضي بين الناس بالحقّ ويحكم بالعدل، أو في ساحات الحرب يقاتل الكفار والمشركين، فكأنك ترى موسى رسول الله وهو يجاهد أعداءه، ويقاتل الذين يعبدون الأوثان.
وحين ترى محمدا رسول الله يعبد ربّه، ويتضرّع إليه في خلوة عن الناس، إمّا في حجرة منفردة، أو في مغارة الجبل، وقد أرخى الليل سدوله، فكأنك ترى عيسى وقد خلا بنفسه يوحّد الله، ويناجيه بالعبودية له.
ولو رأيت نبي الإسلام وهو يذكر الله دائما، ويحمده، ويسبّحه في البكور والآصال وفي كلّ حال- فإذا بدأ بالأكل بدأه باسم الله، وإذا فرغ منه حمد الله، وإذا جلس مع أحد كان التذكير بالله من عمله في ذلك المجلس، وإذا نام نام وهو يذكر ربه، ويستعرض آلاءه عليه- فكأنك برؤية نبيّ الإسلام قد رأيت النبيّ صاحب الزبور في ترتيله محامد الله ونعمه. وكأنك ترى سليمان في جنوده وعليه جلال الملك، وأبهة السلطان حينما ترى
محمدا بين أصحابه، وقد فتح مكة، ودخلها تحت رايات المجاهدين بأيديهم السيوف مصلتة لإقامة الحقّ، والعوالي السمر مشرعة لتقويض دعائم الباطل. أما إذا رأيته وهو محصور مع ذويه في شعب أبي طالب، وقد منع دخول الطعام والشّراب إليه من الخارج، فكأنك ترى يوسف الصديق وهو في سجن مصر يعاني شدائد الظالمين، ويكابدها.
إنّ موسى قد جاء بالأحكام، وداود امتاز بدعاء الله، والتغني بمناجاته، وعيسى بعث ليعلم الناس مكارم الأخلاق، والزهد في الدنيا، وأما محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء بكل ذلك بالأحكام، ودعاء الله، والتوجيه إلى مكارم الأخلاق، والحضّ على الزهد في الدنيا وزينتها، وكلّ هذا تجده في القرآن الحكيم لفظا ومعنى، وفي السيرة المحمدية قدوة وعملا.
سادتي! وأحبّ أن ألفت أنظاركم إلى ناحية أخرى من نواحي السيرة المحمدية تدلّ على جامعيتها:
إنّ في الدّنيا نوعين من المدارس: نوع يختص بفرع واحد من فروع المعرفة، كالطبّ، أو الهندسة، أو التجارة، أو الصناعة، أو الفنون الحربية، أو الزراعة، أو الحقوق، أو اللغة والآداب. ونوع يجمع هذه المعاهد العلمية كلها، فمن قصده استطاع أن ينتسب إلى أيّ فرع شاء من فروع المعارف الإنسانية. وهذا النوع الثاني هو الذي تهرع إليه طوائف الطلبة من جميع البلاد، فيجد فيه كلّ منهم ما تميل نفسه إلى التخصص فيه من العلوم، وبهذا سمّيت مجموعة هذه المعاهد باسم (الجامعة) ، ومنها يتخرّج قضاة المحاكم، والأطباء، والمهندسون، وقادة الجند، والناهضون بعلوم الزراعة، أو الصناعة، أو التجارة، والمتخصصون بالآداب وعلومها، والثقافة العليا وفنونها.
ومن البيّن الواضح للمتأملين أنّ المجتمع الإنساني لا يتمّ كماله، ولا تسعد حياته بضرب واحد من العلوم، ولا بصنف خاصّ من أهل الحرف والصناعات، بل يحتاج إلى مجموع ذلك كلّه. وإذا استقصينا ما يعرفه التاريخ من سير الأنبياء، ولا حظنا ما خلفوه من ثمرات أشجارهم،
عملا بقول المسيح: «من ثمارهم تعرفونهم» ، فإننا نجد لهؤلاء المعلمين الربّانيين، والأنبياء والمرسلين تلاميذ ومهتدين، فالواحد منهم يكون له عشرة تلاميذ، وآخر منهم يكون له عشرون تلميذا، ونرى لبعضهم ستين، أو سبعين، ومئة أو مئتين، وألفا أو ألفين، ونادرا ما يكون لأحد الأنبياء من التلاميذ والأصحاب ما يبلغ خمسة عشر ألفا. أما المدرسة الأخيرة من مدارس النبوّة، وهي مدرسة خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان تلاميذها يعدون بمئات الألوف.
وإذا أردت أن تعلم من هم تلاميذ المدارس النبوية الآخرى؟ ومن أين جاؤوا إليها؟ وفي أيّ البلاد ولدوا؟ وما مبلغهم من العلم؟ ثم كيف كانت أخلاقهم؟ وكم أخذوا من أخلاق نبيهم وشمائله؟ وكم كان تأثير تعليم نبيهم فيهم؟ وما هي سيرتهم وهداهم؟ وكم صلحت أعمالهم بإصلاح رسولهم لهم؟ فإنك لن تجد لأسئلتك هذه أجوبة عليها إلا فيما يتعلق باخر مدارس النبوّة، فإنك تجد لها جوابا على كلّ سؤال من هذه الأسئلة كلّها بالتفصيل، وتستطيع أن تقيد في دفترك أسماء تلاميذ هذه المدرسة، وأماكن ميلادهم، ووصف ما تعلموه منها، ومبلغ تأثرهم بأخلاق نبيهم، ومعرفتهم بأحواله وشؤونه- كلّ ذلك تجده مسجلا، مدوّنا، مضبوطا بوضوح وجلاء.
وهلم بنا نعرّج على جهة أخرى: إنّ جميع أصحاب الملل والنّحل يدّعون أنّ أبوابهم مفتحة للجميع. فتعالوا نر من منهم كانت دعوته عامة لجميع الناس، وأبوابه مفتحة لمختلف الأمم والطوائف البشرية بلا استثناء. ومن منهم كانت حلقته في عهده مقصورة على رجال من أمة واحدة، وعلى طائفة خاصّة من تلك الأمّة. إنّ جميع أنبياء بني إسرائيل لم تتجاوز دعوتهم بلاد العراق، أو بلاد الشام، أو بلاد مصر، أي أنّهم لم يخرجوا من الأرض التي كانوا يسكنونها، ولم يوجهوا دعوتهم إلا لأمتهم من بني إسرائيل. ولذلك لا ترى في مدارس عيسى عليه السلام رجلا غير إسرائيلي، لأنه إنما كان ينشد الغنم الضالة من بني إسرائيل «1» وإنما اقتصر
(1) متى 7: 24.