الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السيرة النبوية أوثق رواية وأكثر صحة من كل ما كتب في سيرة النبيين:
لقد ألف المسلمون في السيرة النبوية ألوف الكتب، بل أكثر من ذلك، ولا يزالون ماضين في التأليف فيها، وكلّ كتاب في السيرة المحمّدية مهما كان لا ريب أنّه أوضح بيانا، وأوثق رواية، وأكثر صحة من كل ما كتبه الناس في قصص النبيين وسيرهم عليهم السلام. والكتب الأولى في السيرة المحمدية تلقاها عن أصحابها مئون، وآلاف من تلاميذهم، وأتقنوها فهما، وأحكموها فقها ولم يتركوا فيها كلمة غامضة، ولا عبارة معضلة إلا أوضحوا مبهمها، وحلّوا معضلها. وأول كتاب عندنا في الحديث النبوية كتاب الموطأ للإمام مالك بن أنس، وقد سمعه من مؤلفه ستمئة من تلاميذه فيهم: الخلفاء، والولاة، والعلماء، والفقهاء، والأدباء، والزهّاد، والنسّاك. والجامع الصحيح لأبي عبد الله بن إسماعيل البخاري تلقاه ستون ألفا من أهل العلم عن تلميذ واحد من تلاميذه وهو الإمام الفربري «1» . فهل في العالم دين احتاط أهله مثل هذا الاحتياط، واهتمّوا مثل هذا الاهتمام في كلّ ما يتعلّق بأمر نبيهم وهدايته، وهل ألف في هذا الباب تأليف أكثر صحة، وأعظم ثقة، وتثبتا، وهل نال مثل هذه الصحّة التاريخية دين غيره، وهل حفظ التاريخ من تفاصيل حياة نبيّ من الأنبياء عليهم السلام مثل الذي حفظه من سيرة محمّد صلى الله عليه وسلم؟!
(1) هو محمد بن يوسف: صاحب البخاري. كان ثقة ورعا، رحل إليه الناس، وسمعوا منه صحيح البخاري. وهو أحسن من روى الحديث عن البخاري. توفي سنة (320 هـ) . شذرات الذهب (4/ 101) والعبر (2/ 189) وسير أعلام النبلاء (15/ 10- 13) .
المحاضرة الرّابعة في السّيرة المحمّديّة من ناحية كمالها وتمامها وإحاطتها بشؤون الحياة البشريّة
لا تكون حياة أحد كاملة إلا إذا كانت معلومة للناس، وحياة محمد صلى الله عليه وسلم من ميلاده إلى ساعة وفاته معلومة التفاصيل بجميع دخائلها.
سادتي وإخواني! موضوع كلامنا اليوم في أنّ السيرة المحمّدية هي السيرة التامّة الكاملة الشاملة لجميع أطوار الحياة، وما من حياة أحد- مهما بلغت من صحة التاريخ وثبوت الرواية- يصح أن يكون منها للناس أسوة تتبع ومثال يقتدى به إلا إذا كانت متصفة بالكمال، ولا تكون حياة أحد كاملة ومنزهة عن العيوب والمثالب إلا إذا كانت معلومة للناس بجميع أطوارها، ومتجلية لهم دخائلها من كلّ مناحيها. وحياة محمد صلى الله عليه وسلم من ميلاده إلى ساعة وفاته معلومة للّذين عاصروه، وشهدوا عهده، وقد حفظها التاريخ عنهم لمن بعدهم، وهو في
حياته لم يحتجب عن عيون قومه إلا مدّة يسيرة ليعدّ عدّته للمستقبل، وليهيّىء الأسباب لحياته القابلة. إنّ جميع شؤونه وأطوار حياته- من ولادته، ورضاعه، وطفولته إلى أن صار يافعا وشابا- كلّ ذلك ظاهر أمره، معلومة تفاصيله. وقد علم التاريخ عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم باشتغاله في التجارة، وكيفية زواجه، وعلم الناس سجاياه في صداقته، وفي وفائه للناس قبل النبوة، واتصلوا به حين اتخذوه أمينا، وأقاموه حكما فيما اختلفوا فيه من نصب الحجر الأسود في موضعه من الكعبة، ثم وقفوا على أمره حين حبّب الله إليه الخلوة، فاعتزلهم في غار حراء، ثم علموا حاله حين نزل عليه الوحي من ربّ العالمين، وحين بدأ أمر الإسلام يظهر للوجود، فأخذ يدعو الناس إليه، ويبلغ ما أنزل عليه.
وقد رأى التاريخ كيف خالفوه وعاندوه. وهل غاب عن التاريخ ما لقي صلى الله عليه وسلم في نشر الإسلام من جهد وعناء، وما قابله به أهل الطائف حين سار إليهم ينهاهم عن عبادة الأوثان؟ ويأمرهم بعبادة الرحمن. وهل نسي التاريخ حين أخبر أهل مكّة- وهم أقلية قليلة من المسلمين وأكثرية ساحقة من المشركين- بخبر العروج به إلى السماء؟ ثم هل خفي عن التاريخ أمر
هجرته، ومع من هاجر، والغزوات التي غزاها، والأسباب الباعثة عليها، وموقفه من الهدنة «1» إذا هادن، وعهوده إذا عاهد؟ وما صلح الحديبية بسرّ. والذين طالعوا كتب السيرة النبوية يعلمون ما ذكرنا، وما لم نذكر، وقد وقفوا على كتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، والأقيال، والولاة، يدعوهم فيها إلى دين الله، دين السلام والوئام، وعرفوا جهاده في سبيل الحق، وما بذله في تبليغ دعوة الإسلام إلى الناس، إلى أن أكمل الله للإنسانية دينها، وحجّ صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع، وتوفاه الله إليه. فهل في شيء من ذلك ما يجهله التاريخ، وهل فيما يتعلق بهذا الرسول الأعظم ورسالته ما أسدل عليه ستار من خفاء؟ إنّ كل ما ينسب إليه صلى الله عليه وسلم، أو يعزى إليه من حق أو باطل، وصدق أو كذب، وصحيح أو فاسد معلوم بالتفصيل، وواضح أمره للناقدين. وقد يخطر ببال سائل أن يسأل: ما بال المحدّثين حافظوا موضوعات الأحاديث وضعافها، وهلا اكتفوا بالصحيح وأهملوا غيره؟
والذي ينعم النظر في ذلك يبدو له من المصلحة ألايوجه القادحون اللائمة إلى المسلمين بأنّ هنالك مرويات قضوا عليها، وأخبارا نبذوها ليخفوا من أمر نبيهم ما فيه مغمز، كما يطعن الطاعنون في هذه الأيام على الأخبار المسيحية لأجل ذلك. أما المحدّثون الكرام من علماء المسلمين؛ فقد جمعوا كلّ ما له علاقة بالنبي صلى الله عليه وسلم صحيحا كان أو سقيما، حقا أو باطلا، وجعلوا لنقده قواعد، وأصّلوا لتحقيقه أصولا، يرجع إليها في تمييز الصحيح من الفاسد، والغثّ من السمين. وهم قد حافظوا شؤون حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحواله، وأخباره كلّها، ولم يتركوا أمرا من أموره، ولا شأنا من شؤونه إلا ذكروه. حتى لقد وصفوه في قيامه، وجلوسه، ونهوضه من النوم، وهيئته في ضحكه، وابتسامه، وعبادته في ليلة ونهاره، وكيف كان يفعل إذا اغتسل، وإذا أكل، وكيف كان يشرب، وماذا كان يلبس، وكيف يتحدث إلى الناس إذا لقيهم، وما كان يحبّ من الألوان، ومن الطيب، وما هي حليته وشمائله، ووصفوا جسده الطاهر وصفا كاملا كأنك
(1) الهدنة: المصالحة بعد الحرب.