الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ترجل عن مطيته وقال: «أنا عبد الله ورسوله» ورفع يديه يسأل الله ويدعوه.
إخواني! هل سمعتم بقائد باسل لا يبالي بقلّة جيشه، ونقص عدّتهم، ولا ينكص على عقبيه، ولا ينسحب من ساحة القتال، وإن تفرّق عنه جنده، ويستغني عن سلاحه باستنجاد ربه، وطلب نصرته؟ ذلك كان مبلغ ثقته بالله، ويقينه بنصرته، واعتماده على مدده «1» .
مقارنة بين عظة أحبوا أعداءكم ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأعدائه:
وإخالكم سمعتم بواعظ يعظ الناس بأن يحبّوا أعداءهم، ويحثهم على مودة مبغضيهم، وأن يزجروا الطير تمرّ سعدا للذين يزجرون لهم الطير تمرّ نحسا، لكنّي لا أحسبكم رأيتم مثالا عمليّا لاتّعاظ الناس بهذه المبادىء، فتعالوا معي إلى مدينة الرسول؛ لنرى أمثلة رائعة للعمل بالمبادىء، لا أظنكم ترون مثلها في أمكنة أخرى، واتركوا ما جرى في مكّة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن له فيها قوة، فلا نضرب المثل منها للحلم، والعفو عن مقدرة، لكنّه لما خرج من مكة ومعه صاحبه أبو بكر تعقّبهما سراقة، وهما في طريقهما إلى المدينة، وكان يطمع بجائزة قريش وهي مئة من الإبل لمن يأتيها برأس الرسول، فجعل يركض فرسه والطمع في الجائزة يستفزه حتى دنا منهما، وخاف أبو بكر على الرسول، ودعا الرسول ربه أن يعصمهما من شره، فساخت قوائم فرس سراقة في الرّمل، فاضطر أن يترجّل، وجعل يستقسم بالأزلام كعادتهم في الجاهلية فخرج له الذي يكره ثلاث مرات، ومع ذلك ظلّت قوائم الفرس في الرّمل فأيقن سراقة بالشرّ، وعزم على الرجوع، فنادى الرسول وطلب منه الأمان، وأن يكتب له بذلك كتابا، وألايؤاخذه يوم تعلو كلمته، فيتغلب على قريش، فأمر الرسول أبا بكر، فكتب له كتاب الأمان، فلما فتحت مكة ورأى سراقة بعينه كيف
(1) وكان هذا يعني أن معيار صدقي ليس بانهزام جيش أو انتصار جيش، ولكن معيار صدقي نابع من ذاتي (أي من كونه صلى الله عليه وسلم نبي الله ورسوله)[رحمة للعالمين، للشيخ سليمان المنصور فوري، ص 118، طبع دار السلام، الرياض] .
تغلّب الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلت كلمته دخل في الإسلام ولم يؤاخذه الرسول بما كان يريده من قتله، بل لم يسأله عن ذلك البتّة.
وقد علمتم أبا سفيان ومكانته من مشركي قريش، ونشاطه في مقاومة الإسلام، حتى لم يدع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقرّ قراره، ويطمئن باله في المدينة، وهو الذي زحف بالجيوش، وعبأ المشركين في بدر، وأحد، والخندق، وكان قائدهم في معظم الحروب التي قامت بين المسلمين ومشركي العرب، وكم من مسلم قتل، وجريح جرح في تلك المعارك، لكن أبا سفيان هذا مع كلّ ما تقدّم منه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه العباس قبل فتح مكة، ولو أنه قتله لكان بذلك معذورا، لكنّه- وهو الذي بعث رحمة للعالمين- وقد وسعت رحمته أبا سفيان فشمله بعفوه «1» ، ولم يكتف بالعفو حتى أكرمه وأعزّه ونادى في الناس يوم فتح مكة:«من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» .
وعرفتم هندا زوج أبي سفيان في الحروب، وهي التي كانت مع لدّاتها من نساء المشركين ترجز، وتحرض على القتال، وتخطب في غزوة أحد، وهي التي مثلت بعمّ النبي صلى الله عليه وسلم حمزة، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بعد الحرب، وقد مثّل به، جزع لذلك المنظر المؤلم، ومع كل هذا فقد أتته هند يوم الفتح متنقبة فلم يتعرّض لها، ولم يسألها عما فعلت، بل عفا
(1) انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة في عشرة آلاف من المسلمين، وبعد أن ساروا مرحلتين لقيهم أبو سفيان وعبد الله بن أمية، وكانوا من الّذين بالغوا في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وحاولوا كل محاولة للقضاء على الإسلام، فرآهما الرسول صلى الله عليه وسلم، وأعرض عنهما، فقالت له أم سلمة: يا رسول الله! أبو سفيان ابن عمّك، وعبد الله ابن عمتك، وبعدها قال علي- رضي الله عنه لأبي سفيان أن يأتي النبي بمثل ما قاله إخوة يوسف وذلك طلبا لعفو الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو سفيان، وقرأ للنبي الآية: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ [يوسف: 91] فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92](زاد المعاد، 1/ 413، وابن هشام 2/ 401) . وهاهو أبو سفيان بعد أن ظلّ يؤلب الجيوش ضدّ الرسول صلى الله عليه وسلم سبع سنوات، ويلهب نار الحرب ضدّ المسلمين في جميع البلاد، يعلن اليوم الإسلام، ويرسل حاكما على منطقة نجران النصرانية.
عنها، وصفح. فلما رأت هذا العفو النبيل أكبرته، ولم تتمالك أن صاحت قائلة: يا محمد! لم يكن أهل خباء أبغض إليّ من أهل خبائك قبل اليوم، وأنا اليوم ليس أهل خباء أحبّ إلي من أهل خبائك!
وبعد فتح الطائف خرج وحشيّ «1» قاتل حمزة رضي الله عنه هاربا يلتمس مكانا آخر، فاختبأ به، فلما أظلّ سلطان الإسلام هذا المخبأ الذي لجأ إليه وحشيّ قال له قائل: إنك لا تعلم ما نعلم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، إنك لن تجد لنفسك مأمنا إلا عنده، فحضره خائفا، فلما وقع عليه نظر النبي صلى الله عليه وسلم غضّ عنه بصره، وتذكر في تلك اللحظة عمه حمزة، وقتله بيد هذا الرجل، فذرفت الدّموع من عينيه الشريفتين، وهاهو القاتل أمامه، ولو أراد أن يقتصّ منه لكان ذلك حقا وعدلا، لكنه عفا عنه، واكتفى بأن صرفه قائلا:
«إليك عني! فإني إذا رأيتك تذكرت عمّي حمزة وشهادته» .
وهذا عكرمة «2» وأبوه أبو جهل كانا أعدى عدوّ للإسلام، والمسلمين، ولرسول الله خاصّة، فأبو جهل آذى النبي الكريم أذى لم يؤذه أحد مثله، وابنه عكرمة قاتل المسلمين، فلمّا فتح الله مكة لرسوله خاف على نفسه مما فعله هو وأهل بيته بالنّبيّ والمسلمين، ففرّ ناجيا بنفسه إلى اليمن، وكانت زوجه قد أسلمت من قبل، وعرفت الرسول حقّ المعرفة، فذهبت بنفسها إلى اليمن، وربطت على قلب زوجها، وهدّأت روعه، ورجعت به إلى المدينة، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قدومه سارع إليه يرحب به، حتى سقط عنه رداؤه، ثمّ قال لعكرمة بن أبي جهل وهو فرح مسرور:«مرحبا بالرّاكب المهاجر» وهل تعلمون بمن يرحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو هذا القادم الذي فرح صلى الله عليه وسلم بقدومه حتى سقط عن منكبه رداؤه، وشمله بعفوه، وصفحه؟
(1) بعد إسلامه كان لا يرفع وجهه أمامه صلى الله عليه وسلم خجلا وندامة، ثم كفّر عن جريمته السابقة بقتل مسيلمة الكذاب.
(2)
هو عكرمة بن أبي جهل عمرو بن هشام المخزومي القرشي، من صناديد قريش في الجاهلية والإسلام، بعد إسلامه كان من أجلاء الصحابة، وكبار المجاهدين، والفاتحين، استشهد في اليرموك سنة 13 هـ.
إنّ هذا كلّه لرجل سبق منه قبل إسلامه أن قاتل المسلمين وآذاهم، بل هو ابن الذي ألقى على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلى جزور، والذي همّ أن يهجم عليه، وهو يصلي في المسجد الحرام، والذي همّ أن يخنقه بالرداء، والذي أشار في دار الندوة بقتل حامل هذه الرسالة الإلهية إلى الإنسانية، والذي أوقد نار الحرب بساحة بدر، وكاد للإسلام المكايد، ولم يقبل الصلح. هذا ابن ذلك العدو الألدّ، ولم يكن هذا الولد قد اعتزل أباه، بل شاركه في جميع فعلاته، فلما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في أوج قوّته هشّ له، وبشّ، ورحّب به، واستقبله بوجه طلق، وصدر رحب.
وهبار بن الأسود «1» هو الذي كان في الحقيقة قاتل زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم، وله فعلات أخرى، وجرائم شتّى، وقد خالف المسلمين أشدّ الخلاف، فلما فتح الله مكة لنبيه أهدر صلى الله عليه وسلم دمه، فأراد هبار أن يهرب إلى فارس، ثم عدل عن ذلك، وبدا له أن يحضر مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه قال: يا رسول الله! كنت هممت أن أفرّ إلى بلاد فارس، لكنني تذكرت عفوك العام، وصفحك الشامل، فجئتك معترفا بجميع ما بلغك من ذنوبي، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم اعترافه، شمله بعفوه الذي وسع أعداءه جميعا، وفتح له باب رحمته الذي ما زال مفتوحا للجميع.
وعمير بن وهب «2» تامر على قتل النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية بعد وقعة بدر، فخرج إلى المدينة يترصّد النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعه سيف مسموم، فوقع
(1) هو هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد العزى، هو الذي عرض للسيدة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تركب الهودج من مكة إلى المدينة فنخس بها البعير حتى سقطت، وأسقطت جنينها، وتوفيت في النهاية من جراء هذه الصدمة. هجا الأسود النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه، وقد أسلم فيما بعد وحسن إسلامه. توفي بعد 15 هـ.
(2)
هو عمير بن وهب بن خلف الجمحي، أبطأ في قبول الإسلام، لكن بعد إسلامه كان من الشجعان، شهد مع المسلمين أحدا وما بعدها، توفي بعد سنة 22 هـ.
أسيرا بأيدي المسلمين، وثبتت عليه جرائمه، فخلّى النبيّ صلى الله عليه وسلم سبيله، ولم يمسه بسوء.
وكان صفوان بن أمية «1» لما تامر مع عمير بن وهب على حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحرّض عميرا على إتمام هذه الجريمة تعهّد لعمير بأن يعول عياله، ويقضي عنه ديونه لو أنه هلك في هذه المغامرة، فلما فتح الله مكة للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فرّ صفوان هاربا من مكة إلى جدة ليركب منها البحر إلى اليمن، فجاء عمير إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الأمان لصفوان، فطلب عمير من النبي صلى الله عليه وسلم أمارة على أمان صفوان فأعطاه عمامته، فلما لقي عمير صفوان، وألحّ عليه بالرّجوع أبدى له الخوف على نفسه، فذكّره عمير بما كان من النبيّ صلى الله عليه وسلم لما وقع في أسر المسلمين، وحدّثه بما جبل عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من كرم النفس، وسعة الصّدر، وسجاحة الخلق، وعظيم العفو، فانقاد له صفوان، وذهب إلى المدينة، فلما حضر مجلس النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال له: بلغني أنّك قد أعطيتني الأمان، فهل هذا حقّ؟
فأجابه صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لست داخلا بيتك حتى تمهلني شهرين، فأجابه: لقد أمهلتك أربعة أشهر. ولم تنقض تلك المدة حتى صلح حال صفوان، وتغيّر قلبه، ودخل في الإسلام.
ولما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر معقل اليهود العظيم، وحصنهم المنيع، صنعت يهودية طعاما ودعت إليه النّبي صلى الله عليه وسلم، فأجاب دعوتها: فقدّمت له لحما مسموما، فلما تناول منه؛ أعلمه الله بذلك، فأمسك يده عنه، ودعا باليهودية، فسألها عن الشاة المسمومة، فاعترفت بجريمتها، وقد بلغ من حلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجاوز عنها ولم يؤاخذها على ذلك بسوء، وبقي مدة حياته صلى الله عليه وسلم يشعر بأثر ذلك السّم.
وتقدّم آنفا أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من نجد استظلّ في الهاجرة
(1) هو صفوان بن أمية بن خلف بن وهب الجمحي، صحابي، فصيح، جواد، كان من أشراف قريش في الجاهلية والإسلام، أسلم بعد الفتح، وكان من المؤلفة قلوبهم، شهد اليرموك، وتوفي بمكة سنة 41 هـ وله 13 حديثا مرويا.
بشجرة، وعلّق فيها سيفه، ثم ساوره النوم، وقد ابتعد عنه الصحابة، وتفرقوا لحاجاتهم؛ إذ جاءه أعرابيّ من المشركين كان يرصده، فأخذ السيف، واخترطه، ودنا من الرسول، فاستيقظ صلى الله عليه وسلم، فقال له الأعرابيّ:
من يعصمك مني؟ فقال له الرسول وقلبه مطمئن وجأشه رابط: الله! فلما سمع المشرك هذا الجواب الذي لم يكن يرتقبه تأثر، وأغمد السيف، وفي غضون ذلك رجع بعض الصحابة والأعرابيّ لابث لم ينصرف، فلم يتعرض له الرسول، ولم يعاقبه على ما كان همّ به. وكذلك وقع في أسر المسلمين أعرابيّ كان راصدا لقتل الرسول، فلما أحضر إليه صلى الله عليه وسلم ذعر الأسير، فسكّن الرسول روعه وخفف عنه وقال له: لو أردت قتلي؛ ما قدرت عليه.
وقبض المسلمون على ثمانين من المشركين يوم فتح مكة، وكانوا ممّن يحرصون على قتل الرسول، فلما بلغه أمرهم؛ أمر بتخلية سبيلهم، ولم يمسسهم بسوء.
إخواني! إنكم تعلمون الطائف وأهلها، وكيف قابلوا الرسول بالشرّ والأذى أيام كان في مكة يعاني صنوفا من المصاعب والمعضلات، إنّ أهل الطائف لما عرض عليهم الرسول نفسه ليجيروه؛ جبهوه، وردّوه أقبح ردّ، ولم يصغوا إلى دعوته، إنّ سيد الطائف ورئيسها عبد ياليل «1» استهزأ به هو وعشيرته، وأغرى به طغام أهل الطائف، وسفلتها؛ ليسخروا منه، فلما مر بالطريق وقد اصطفوا صفّين رموه بالحجارة، فجرحت قدماه، وسالت منهما الدّماء على حذائه، وكان صلى الله عليه وسلم كلما جلس يستجمّ من التعب يمنعونه من الجلوس، وإذا مرّ بهم يرجمونه بالحجارة «2» . وإن ما لقيه من أذى أهل
(1) هو عبد ياليل الثقفي، الّذي كان قد أرسل العبيد والغلمان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطائف ليرموه بالحجارة، يحضر في النهاية إلى المدينة، ومنها حمل إلى قومه جواهر الإيمان واليقين.
(2)
ولكن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم كان مملوآ بحب الله وعظمته بعد ما كابد في هذا السفر من الأذى والألم، فدعا الله بالكلمات التالية: «اللهمّ إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ-
الطائف لم ينسه طول حياته. ولقد سألته عائشة بعد ذلك بتسع سنين عن أشدّ ما لقيه من بلاء فأخبرها بأنه يوم الطائف، وكان بعد ذلك أن زحف المسلمون على الطائف في السنة الثامنة للهجرة، وحاصروها، فأطالوا حصارها، واستعصى عليهم حصنها الحصين الذي قتل فيه كثيرون منهم، فهمّ الرسول أن يرجع عنهم، لكن أصحابه أبوا إلا الفتح، وسألوا النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يدعو على أهل الطائف، فرفع يديه إلى السماء يدعو فقال: اللهمّ اهد أهل الطّائف، اللهمّ ألن قلوبهم للإسلام، ومكّنه فيها» .
هذه هي رحمة الرسول، وسعة صدره، وسجاحة خلقه، وكرم نفسه، يدعو بالخير للذين آذوه بالشرّ أشدّ الأذى، وأبوا أن يجيروه حين استجار بهم، ثم قاتلوه أشدّ القتال، ومع كل هذا لم يسأل الله لهم إلا أعظم ما يعلمه من الخير، وهو الهدى. أرأيتم رجلا آخر في الدنيا بلغت الرحمة من قلبه هذا المبلغ؟ أجيبوني بالله عليكم، ولا تقولوا إلا الصدق.
دارت رحى الحرب على المسلمين بعد أن كانت الغلبة لهم، وذلك لأنهم خالفوا أمر الرسول، واستهوتهم أموال المشركين، فاشتغلوا بجمع الغنائم، وحينئذ كرّ عليهم العدوّ، فانهزموا، وزلزلت أقدامهم، فأحاط المشركون بالرسول، ورموه بالسهام والحجارة، وقاتلوه بالسلاح، فانكسرت ثنيته، وشجّ رأسه، ودخل فيه ثلاث حلقات من البيضة، وتضرّج بالدم، فلم يزد صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف الرهيب على أن قال:«كيف تفلح أمّة تقتل نبيّها؟ اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون!» ، وإذا كان المسيح عيسى ابن مريم قد قال في عظة الجبل «أحبب عدوك» فإن محمّدا رسول الله لم يقتصر على إرشاد الناس بلسانه بأن يحبوا أعداءهم، بل أراهم بسيرته وعمله كيف يكون موقفهم من أعدائهم.
- غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي أعوذ بنور وجهك الّذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحلّ عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . وجاء هذا الدعاء في تاريخ الطبري بهذه الألفاظ [الطبري 2/ 230] .
إنّ عبد يا ليل- وأظنكم تذكرون اسمه- قد جبه الرسول هو وعشيرته بالمكروه، وآذوه أذى شديدا. فلما نزل مع قومه على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد ذلك أنزله في مسجده، وضرب له قبّة فيه، وجعل يزوره بعد كلّ عشاء، ويقصّ عليه ما كان يلقى وهو في مكة من عناء وجهد، ومن هو عبد يا ليل؟ هو الذي استقبل الرسول صلى الله عليه وسلم في الطائف بالأذى، ورجمه بالحجارة، وسامه الخسف، فهل عهد من أحد فيما مضى أن يحبّ عدوّه، ويعفو عنه بمثل هذه السماحة عند المقدرة؟ ولما فتح المسلمون مكة، ودخلوها أعزة ظافرين؛ اجتمع رجال قريش، وأشرافها بفناء المسجد الحرام، وفيهم من كان قد شتم الرسول، وأذاقه ضروب الأذى، وفيهم من كان قد ائتمر عليه بالقتل، وفيهم من كذب برسالته وافترى عليه، وفيهم من قاتله، وتذرّع بكل وسيلة لمحو الإسلام، وفيهم من طعن النبي بالرمح، وضربه بالسّيف، وفيهم من آذوا فقراء المسلمين، وضعفاءهم، وكووا صدورهم وظهورهم بالجمر الملتهب، كل أولئك من رجال قريش وساداتها كانوا يوم فتح مكة واقفين منكسي رؤوسهم صاغرين، ولعلهم كانوا يتذكرون ما سلف منهم، وتحز ذكراه في ضمائرهم مترقّبين أن يوقع بهم الرسول جزاء ما اقترفوا، وحقّ لهم أن يخافوا، فإن الذي أجلوه عن وطنه، وأخرجوه من داره قد عاد إليهم فاتحا عزيزا، يقود تحت راياته عشرة آلاف من الأبطال الباسلين؛ الذين ينتظرون أوامر سيدهم لينفذوها.
في ذلك الموقف الرّهيب سألهم الرّسول: ماذا ترون أنّي فاعل بكم؟
قالوا: خيرا. أخ كريم، وابن أخ كريم. فقال صلى الله عليه وسلم: أقول اليوم ما قال يوسف لإخوته لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92] اذهبوا فأنتم الطّلقاء «1» .
هذه هي محبّة الأعداء، والعفو عنهم. وهذا ما حقّقه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب به المثل للسماحة التي لا عهد للدّنيا بمثلها، فذلك هو العفو والصفح، وتلك هي دماثة الخلق، وسعة الصدر، وكرم
(1) زاد المعاد، ج 1، ص 424.
المعدن. إنّه لم يدع الناس إلى فضيلة إلا بدأ بها بنفسه. لم تكن دعوته كلمات عذبة يرسلها على الناس، ولكنها كانت عملا يتقدّم به إلى الإنسانية؛ ليكون لها منه أسوة وقدوة.
إنّ دعاة الديانات الآخرى يسمعون الناس مواعظ حلوة من أقوال أنبيائهم، ومصلحيهم. أما دعاة الإسلام فيقدّمون للإنسان أمثلة عملية من سنة نبيهم وهديه. ولذلك كتب الله الخلود لهذه السنة وهذا الهدى، والدّين الإسلاميّ كما يدعو الأمم إلى كتاب الله يدعوها كذلك إلى سنة نبيه الكريم:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21] . إنّ هذا يدلّ على أنّ الرسول نفسه مثال لهذه الدعوة، وحياته حياة مثالية للبشر جميعا، وهذا من خصوصيات الإسلام، فكما سنّ الإسلام للناس القوانين والأحكام، عرض عليهم كذلك حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم لتكون مثلا لهم يقتدون بها في حياتهم.
ولذلك كان يقول لهم: «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» «1» . وكانوا يتداولون أخباره في آداب المعاشرة مع الأولاد، والأزواج، ويروون قوله صلى الله عليه وسلم:«خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» «2» .
ولما وقف بعرفات في حجّة الوداع كان عدد أصحابه من حوله نحو مئة ألف أو يزيدون، فبلغ رسالات ربه الأخيرة، وأعلن فيهم أحكامه، وأبطل بقايا رسوم الجاهلية، ومحا ما بقي عالقا من آثار مفاسدها، واستأصل شرّها، وأزال أسباب الحروب بين الأمة العربية، وأبطل دواعي الملاحم التي لم تكن قبل ذلك تنقطع. لكنّه لما أعلن إبطال دواعي الجاهلية بدأ بنفسه أولا، فقدّم من عمله ما يدعو الناس إلى أن يقتدوا به، فخاطب مئة ألف من العرب الذين شهدوا موسم الحج قائلا لهم:
(1) رواه البخاري عن مالك بن حويرث، في الأذان باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة (631) .
(2)
رواه الترمذيّ عن عائشة- رضي الله عنها في المناقب باب في فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم (3895) .
«إنّ دماء الجاهليّة موضوعة تحت قدمي، وأوّل دم أضعه دم ابن ربيعة ابن الحارث «1» » «2» .
وأبطل ربا الجاهلية، وأول ربا أبطله ربا عمه العباس بن عبد المطلب.
وتأتي الكرامة والشرف مع النفس والمال. وإنّ معالجة الأمور المتعلقة بأعراض الناس وشرفهم من أشدّ الأمور وأعضلها، وإصلاح ذلك يعد غضّا من كرامات الناس، ونيلا من شرفهم، لذلك قلما اجترأ المصلحون على إصلاح الرسوم الفاسدة المتمكنة من نفوس الناس، والضاربة جذورها في أعماق قلوبهم، حتى إنّها لتجري في عروقهم مجرى الدم. أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه علّم الناس المساواة بين جميع الطبقات، ودعاهم إلى الأخوة الإنسانية بأدقّ ما تصل إليه معانيها، حتى إنّ الرقيق الذي كان في اصطلاح الجاهلية
(1) اسم هذا القتيل إياس، كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل.
(2)
هذه قطعة من الخطبة، ونذكر هنا نص الخطبة بكاملها، للموعظة البليغة، والفوائد الكثيرة التي تشتمل عليها وهي:«يا أيها الناس! إني لا أراني وإياكم نجتمع في هذا المجلس أبدا. إنّ دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كلّه، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهم ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهنّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، وأديت، ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكبها إلى الناس: «اللهمّ اشهد» ثلاث مرات (معدن الأعمال (1107) - عن وابصة رضي الله عنه رواه ابن عساكر- وروى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جابر: ولما فرغ الرسول صلى الله عليه وسلم من الخطبة نزلت هذه الآية الكريمة في نفس المكان: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً [المائدة: 3] .
أذلّ الناس، وأحقرهم، دعاه صلى الله عليه وسلم بنفسه، فاتخذ غلامه زيدا بمنزلة الابن، وسوى بين الرقيق والعربي الحرّ الكريم المحتد، الشريف النّجار. وكان قد بلغ الإباء والفخر والخيلاء بالعرب إلى أن كانوا يراعون ذلك في الحرب أشدّ المراعاة، فكانت القبائل تتفاضل في درجات الشرف والكرم، والذي يزعم لنفسه أنه أشرف من غيره، وأرفع قدرا يشمخ بأنفه مترفعا عن أن يدنس «1» سيفه في القتال بدم من يراه دونه شرفا، وكرما، ومنزلة. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد أذّن في الناس: أنّ الناس كلّهم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وبهذا التعليم الجديد أعلن أنّ الناس كلّهم سواسية إلا بالفضائل، فلا تعلو طبقة على طبقة، ولا طائفة من القوم على طائفة أخرى، وأصبح السيد، والمولى، والغني، والفقير سواء، لا يتفاضلون إلا بالنفوس الرضيّة، والأعمال الصالحة. ولم يبق للنسب وزن في ميزان الإسلام. واحتاج هذا التعليم إلى عمل يؤيده، ويقويه، ويقيم له وزنا في أعين الناس. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما تبنّى «2» زيد بن حارثة زوّجه زينب بنت جحش (وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم وكان المتبنّى في نظام الجاهلية مثل الولد من الصّلب، فكانوا يحرمون على أنفسهم نكاح حلائل من اتخذوه ابنا لهم، كما يحرمون على أنفسهم نكاح حلائل الأبناء من الصلب، وقد جرّ هذا الحكم الجاهلي مفاسد عظيمة في حياة الأسرة عند العرب، فلما جاء الإسلام بإصلاح رسوم الجاهلية الفاسدة؛ أبطل بعضها، وعدّل بعضها، فلما أراد أن يبطل أحكام الجاهلية في المتبنّى، مست الحاجة إلى أن يبطل هذا الحكم الفاسد بعمل من أعمال الرسول، ولا يخفى أنّ الشرف من أشدّ ما يحافظ عليه الناس، ولا سيما العرب، فأقدم الرسول على ما دعا إليه من إبطال حكم التبني، وتزوج زينب حليلة زيد
(1) يدنّس سيفه: يوسّخه.
(2)
تبنّى فلانا: اتخذه ابنا.