الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمّد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنّ حكمه ما زال ولن يزال باقيا على الدّهر، وأوامره نافذة، وسنته متبعة في كلّ زمان ومكان.
ما من طائفة من الناس أصلحت فساد المجتمع إلا الأنبياء:
سادتي وأصدقائي: أظنّكم قد استمعتم لما ألقيت عليكم من الأدلة العقلية والبراهين التاريخية، وإخالها قد تركت فيكم أثرا أورث في قلوبكم يقينا بأنّه لم تكن طائفة من الناس أصلحت من فساد الأخلاق، وقوّمت من عوجها، وهذبت النّفوس وهدتها من ضلال البشر مثل الذي قام به الأنبياء عليهم السلام، فهم الذين أصلحوا الحياة الاجتماعية، وعلّموا الناس الاقتصاد في المعيشة والاعتدال في كلّ شيء. وهم الذين أقاموا العدل في الدنيا، وحكموا بالقسط بين الناس، وزكّوا القلوب، وأخذوا بيد الإنسانية إلى الحق والخير، وأنقذوها من حمأة الرذائل. وإنّ الله سبحانه قد بعثهم ليخرجوا الناس من الظلمات- ظلمات العقائد، وظلمات الأخلاق، وظلمات الأعمال- إلى النور: نور الإيمان، ونور الخلق الكريم، ونور العمل الصّالح. وتركوا بعدهم سنة للناس، يتبعها السّوقة، ويعمل بها الملوك، وينتفع بها صغار الناس وكبارهم، ويتمتّع بخيراتها الأغنياء والبؤساء على السّواء. وإن مثل الأسوة بهم كمثل عين ثرّة فيّاضة تروي البلاد، وتسقي العباد، يشرب منها كلّ عطشان بقدر حاجته، ويرتوي بمائها العذب الزلال كلّ ظمان، فينقع غلّته وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: 83- 90] .
ترون في هذه الآيات ذكر طائفة خاصّة، وسمّي فيها بعض الذين بعثهم الله لهداية الناس، وفوّض إليهم أمر إصلاح المجتمع: فهم الشّفاء لمرضى القلوب، وبهم البرء لسقام النفوس، وهم هداة الغاوين، الآخذون على أيدي الطغاة، والمرشدون لأهل البغي، والناهون عن المنكرات، وهم الطائفة المقدّسة التي عمّ هديها، وجاد غيثها جميع أنحاء المعمورة، فاستضاء الناس كلّهم بنور هؤلاء الرسل في مختلف الأزمنة وشتّى العصور.
وإنّ الذي نراه في الأمم من الخير والصلاح، وكرم الخلق، وحسن العمل، وطهارة السيرة، وعلوّ النفس، وزكاء الرّوح، ونزاهة القلب، إنّما هو قطرة من بحر تعاليم الأنبياء عليهم السلام، ولمحة من جمال شرائعهم، وأثارة من بركات سيرتهم. وإنّ الإنسانية القلقة المتألمة لا تزال تفتقد آثارهم، وتحرص على اتباع سننهم، ليذهب بذلك روعها، ويطمئنّ قلبها، فتقر الحياة الاجتماعية، وتجد بعض راحتها. ولو أنّ الناس اتبعوا سنن الأنبياء، واستقاموا على الطريق الذي دلوهم عليه؛ لساد الوئام بين الأمم، وعمّ السلام في العالمين.
لقد كان الأنبياء جميعا على خلق عظيم، وقد أوتوا من حميد الخصال، ومعالي الأخلاق ما لم يؤت أحد غيرهم مثله. غير أنّ منهم من تجلّى فيه خلق من الأخلاق، فكان فيه أبرز من غيره وأظهر، فنبيّ الله نوح كان متحمسا في تبليغ الدّين، وإبراهيم كان شديد العناية بأمر التوحيد، وورثه في ذلك إسحاق، وحبب الإيثار إلى إسماعيل، وجاهد موسى جهادا عظيما، وآزره في الحق أخوه هارون، وظهرت الإنابة والاعتراف بالخطأ في يونس، وكان لوط مجاهدا، وغلب على يعقوب التسليم والرضا بأمر الله، وكان داود يرثي للحقّ وخذلانه، وامتلأ قلب سليمان بالحكمة، وكان زكريا متعبدا، وتجلّى في يحيى العفاف، وطهارة النفس، أما عيسى فكان مظهر الزّهد في الدّنيا والرّغبة عن زهرتها، وكان أيوب صبورا على الآلام. وهذه الخصال العالية والأخلاق الفاضلة هي التي يتشرّف بها العالم، وتسعى الأمم للتحلّي بها، وحيثما وجدتم من هذه الخصال
الحميدة والفضائل النبيلة أثرا؛ فكونوا على يقين بأنها من نفثات أولئك الأنبياء، ومن آثار تعليمهم.
إنّ تقدّم المدنيّة الصّالحة، وتوفير عوامل الهناء والرّغد للنّاس، وبلوغ الإنسانية مقام الشّرف، قد ساهمت فيه جميع الطوائف التي اشتركت في عمارة العالم: فعلماء الهيئة اكتشفوا للناس نظام سير الكواكب، والحكماء دلّوا على خواص الأعمال وتأثيرها في الأخلاق، ووصف الأطباء النّطاسيّون خواص العقاقير وتأثير الأدوية في الأدواء، وتفنّن المهندسون في تشييد المباني ومرافقها، وإقامة القصور ومعالمها، وعقدوا على الأنهار القناطر والجسور، واتّسع أهل الصناعات في تنويعها، وإتقانها، وتيسير الأعمال للعمال، فكان من مجموع هذه الجهود عمارة الأرض، ولكلّ فريق من أصحاب هذه الجهود يد في اكتمال المدنية، وتقدّم الحضارة، ونحن نذكر لهم ذلك بالثناء والشكر، غير أننا لا نستطيع أن ننسى أنّ أنبياء الله وحملة رسالاته هم الذين غمرونا بالمنن العظمى؛ لأنّهم عملوا لإصلاح فساد القلوب، واستئصال كوامن الشرور، وتطهير النفوس، وتزكيتها من الأهواء الفاسدة، والأطماع السافلة، والميول المهلكة، فنهجوا بذلك منهج السعادة للحياة الاجتماعية، وبيّنوا للناس ما تعلو به نفوسهم، وما تسفل به، وما تكون به شريفة أو منحطة، فكملت الثقافة الإنسانية برسالاتهم، وبلغت الحضارة بذلك مبلغ الكمال، وتيسّر للمجتمع البشري أن يكون صالحا إذا شاء، وقد أصبح من المتعارف عند الناس أنّ الأخلاق الفاضلة، والسيرة الطاهرة هي شرف الإنسانية ومجدها، ومكارم الأخلاق، ومحاسن العوائد أصل الإنسانية وجوهرها.
وبتعاليم الأنبياء توثّقت العلاقة بين الخلق وخالقه، وحسنت الرابطة بين العبد ومولاه، فتذكّر الإنسان عهده الأزليّ الذي أخذه على نفسه لربه، ولولا الأنبياء، وتعاليمهم، وتجليتهم أسرار النفوس، وكشفهم عن غرائز الفطرة الإنسانية، وما يسعد به المرء أو يشقى؛ لم تبلغ الإنسانية ما بلغته، ولذلك كانت الإنسانية مثقلة بمنن الرسل سلام الله عليهم، فإنّ لهم علينا من الأيادي البيضاء ما لا كفاء له. ومن عرف هذا عرف معه ما يجب لأنبياء