الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرواية الصحيحة ـ كما سيأتي ـ، ثم إن الكلبي هنا يروي التفسير عن أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح لم ير ابن عباس، ولا سمع منه شيئًا، ولا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، فما رواه الكلبي لا يحل ذكره في الكتاب، فكيف الاحتجاج به؟ .
والمقصود: أن هذه الرواية لا تصلح للاحتجاج.
القول الثالث: إن أول شرك وقع في بني آدم إنما هو من قبل أبناء قابيل
.
وتدل عليه رواية ابن الكلبي في كتاب الأصنام، قال فيها: أخبرني أبي قال: (أول ما عبدت الأصنام أن آدم عليه الصلاة والسلام لما مات، جعله بنو شيث بن آدم في مغارة في الجبل الذي أهبط عليه آدم بأرض الهند). ثم روى عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: (وكان بنو شيث يأتون جسد آدم في المغارة فيعظمونه ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم: يا بني قابيل! إن لبني شيث دوارًا يدورون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء. فنحت لهم صنمًا، فكان أول من عملها).
فهذه الرواية أيضًا من قبل هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه، وهو عن أبي صالح عن ابن عباس. وقد تطرقت لهذا السند بالنقد في ما قبل، فلا أعيده هاهنا، وإنما المقصود بيان كونه قولاً ضعيفاً للغاية.
القول الرابع: إن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح
.
ويستدل لهذا القول بما يلي:
1 -
قوله تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)، والدليل على أن هؤلاء المذكورين كانوا في قوم نوح؛ الروايات الحديثية التي وردت في تفسير الآية.
من أشهرها: ما رواه الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم: أن أنصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت).
وما أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره، قال: (كانوا قومًا صالحين ـ يغوث ويعوق
…
ـ بين آدم ونوح، وكان لهم أتباع يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدرون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم، فصوروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال: إنما كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر، فعبدوهم).
قال ابن القيم: (قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم).
2 -
قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).
ويتضح وجه الاستدلال من الآية لمن اطلع على تفسيرها، وقد سبق معنا
بيانه في ما قبل.
3 -
ويدل عليه أيضاً: ما رواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين
…
).
4 -
وقد قال قتادة: (ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحًا، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض).
5 -
وعن عكرمة قال: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام).
فهذه أقوال صحيحة عن سلف هذه الأمة في بيان بداية الشرك في بني آدم، وهي ترجح هذا القول الرابع؛ بأن بداية الشرك كان في قوم نوح، وقبل هذا كانوا على الإسلام.
ومن غرائب ما في هذا الباب نسبة وجود الشرك في آدم عليه السلام استدلالاً بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ).
فإنه جاء في تفسير هذه الآيات آثار عن بعض السلف توهم وجود الشرك في زمن آدم عليه السلام، وهي ما يلي:
أولاً: ما روى الإمام أحمد بسنده عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لما ولدت حواء طاف بها إبليس ـ وكان لا يعيش لها ولد ـ، فقال: سمية عبد الحارث؛ فإنه يعيش، فسمته عبد الحارث فعاش، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره)) هذا هو الحديث المرفوع الوحيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن كثير: (وهكذا رواه ابن جرير عن محمد بن بشار بندار عن عبد الصمد بن عبد الوارث به، ورواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن محمد بن المثنى عن عبد الصمد به، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم، ورواه بعضهم عن عبد الصمد به ولم يرفعه، ورواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الصمد مرفوعًا، ثم قال: هذا
حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه الإمام أبو محمد ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي زرعة الرازي عن هلال بن فياض عن عمر بن إبراهيم به مرفوعًا، وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض عن عمر بن إبراهيم مرفوعًا؛ قلت ـ القائل هو الحافظ ابن كثير ـ: وشاذ هو هلال وشاذ لقبه).
ثانيًا: الآثار عن الصحابة:
أ- روي عن ابن عباس روايات بنحو ما ذكر:
1 -
من طريق محمد بن إسحاق بن يسار عن داود بن الحصين عن عكرمة عنه، وهذا السند غير مقبول عند المحدثين، فإن كل ما رواه داود بن الحصين عن عكرمة فهو منكر، بل ضعفه بعضهم.
2 -
من طريق عبد الله بن المبارك عن شريك عن خصيف عن سعيد بن جبير عنه، ففي هذا السند خصيف، وهو ضعيف، وشريك أيضًا مختلط،
فلا اعتبار بهذه الرواية.
3 -
ما رواه ابن جرير الطبري، قال: حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس (بنحوه). فهذه هي السلسلة العوفية المعروفة بالضعف من رواة التفسير عن ابن عباس.
4 -
ما رواه الطبري من طريق القاسم قال: ثنا الحسين قال: ثنا حجاج عن ابن جريج قال: قال ابن عباس. وذكر نحوه. فهذا أثر منقطع، ضعيف؛ فإن حجاج بن أرطأة ضعيف، وابن جريج لم يدرك ابن عباس.
ب- وفي الباب رواية عن أبيّ بن كعب نحوه، وقد رواه ابن عباس عنه.
قال ابن كثير: (وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس من أصحابه؛ كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة. ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي، وغير واحد من السلف، وجماعة من الخلف، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة. وكأنه ـ والله أعلم ـ أصله مأخوذ من أهل الكتاب؛ فإن ابن عباس رواه عن أبيّ بن كعب كما رواه ابن أبي حاتم)
…
وهذه الآثار يظهر عليها ـ والله أعلم ـ أنها من آثار أهل الكتاب، وقد صح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في عدم تصديق أهل الكتاب وفي عدم تكذيبهم أيضًا، ثم إن أخبارهم على
ثلاثة أقسام؛ فمنها ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ما علمنا كذبه بما دل على خلافه من الكتاب والسنة أيضًا، ومنها ما هو مسكوت عنه فهو المأذون في الحديث.
وهذا الأثر ـ المروي عن ابن عباس ـ ننظر إليه بهذه الاعتبارات الثلاثة، فهل يدل عليه من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء؟ . في الحقيقة: أن هذا فرع عن صحة الحديث الذي رواه سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ضعفه. أعني حديث: ((لما ولدت حواء طاف بها إبليس
…
)) إلخ.
فالمحدثون في هذا الحديث فريقان:
فريق: أخذوا الحديث بالتصحيح، ثم بدأوا يؤولون في معنى الحديث كي لا يؤدي إلى نسبة الشرك إلى آدم.
وفريق آخر يضعفون الحديث، ويفسرون الآية بما يوافق طبيعة اللغة العربية، وبما روي من آثار في ذلك.
فأما الذين قالوا بصحة الحديث أجابوا بأجوبة، منها:
أ- أن النفس الواحدة وزوجها آدم وحواء، والشرك الواقع منهما ليس شركًا في العبادة، وإنما هو شرك في التسمية، حيث سميا ولدهما (عبد الحارث) والحارث هو اسم إبليس، وآدم وحواء لم يعتقدا بتسمية ولدهما عبد الحارث أن الحارث ربهما، وقد ذكر هذا القول بعض المفسرين، كابن جرير الذي صوبه، ورجحه على غيره، وروى في تأييده آثارًا عن السلف.
فروى عن ابن عباس أنه قال: (أشركه في طاعته في غير عبادة، ولم يشرك بالله، ولكن أطاعه).
وعن قتادة قال: (وكان شركًا في طاعته، ولم يكن شركًا في عبادته).
وعن سعيد بن جبير قال: (قيل له: أشرك آدم؟ قال: أعوذ بالله أن أزعم أن آدم أشرك، ولكن حواء لما أثقلت أتاها إبليس فقال لها: من أين يخرج هذا؟ من أنفك أو من عينك أو من فيك؟ فقنطها، ثم قال: أرأيت إن خرج سويًا
…
أتطيعيني؟ قالت: نعم، قال: فسميه عبد الحارث، ففعلت
…
فإنما كان شركه في الاسم).
وعن السدي قال: (
…
فذلك حين يقول الله: (جعلا له شركاء فيما ءاتاهما) يعني في التسمية). وأيضاً يدل عليه قراءة من قرأ (جعلا له شركًا) بمعنى الشركة يعني بالاسم، وحتى يتفادى أصحاب هذا القول الاعتراض عليهم بأن قوله تعالى:(فتعالى الله عما يشركون) يفيد أن الذين أتوا بالشرك جماعة؛ إذ لو كان آدم وحواء لقال: فتعالى الله عما يشركان. فقد ذهبوا إلى أن في الآيتين قصتين: قصة آدم وحواء، والخبر قد انقضى عند قوله:(جعلا له شركاء فيما ءاتاهما).
وقصة مشركي العرب، والخبر عنها في قوله:(فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ)، والمعنى: فتعالى الله عما يشرك به مشركو العرب من عبدة الأوثان، واستأنسوا في ذلك بما روي من آثار، منها: ما روي عن السدي في قوله تعالى: (فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ)، يقول: هذه فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب.
ويروى عنه أيضًا أنه قال: (هذا من الموصول والمفصول، قوله: (جَعَلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) في شأن آدم وحواء، ثم قال الله تبارك وتعالى:(فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ) قال: عما يشرك المشركون، ولم يعنهما). وقد رواه ابن أبي حاتم أيضًا في تفسيره.
وأجابوا عما يقال: إن آدم وحواء إنما سميا ابنهما عبد الحارث والحارث واحد، وقوله (شركاء) جماعة، فكيف وصفهما جل ثناؤه بأنهما جعلا له شركاء، وإنما أشركا واحدً؟ قالوا في الجواب عن هذا السؤال: إن العرب تخرج الخبر الواحد مخرج الخبر عن الجماعة إذا لم تقصد واحدًا بعينه ولم تسمه، كقوله تعالى:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ)، وإنما كان القائل واحدًا، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن الجماعة؛ إذ لم يقصد
قصده، وذلك مستفيض في كلام العرب وأشعارها.
وممن استحسن هذا القول ودافع عنه، ورأى صحة الحديث الألوسي الذي قال:(لا يعد هذا شركًا في الحقيقة؛ لأن أسماء الأعلام لا تفيد مفهوماتها اللغوية، لكن أطلق عليها الشرك تغليظًا).
كما يُفهم من سياق كلام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أنه يرجع هذا التفسير؛ حيث أتى به في تفسير قوله تعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ)، مستدلاً به على منع التعبيد لغير الله.
كما أن الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يرى رجحان هذا التفسير في تيسير العزيز الحميد؛ حيث قال: (وإذا تأملت سياق الكلام من أوله إلى آخره مع ما فسره به السلف، تبين قطعًا أن ذلك في آدم وحواء عليهما السلام، فإن فيه غير موضع يدل على ذلك، والعجب ممن يكذب بهذه القصة، وقوله تعالى: (عَمَّا يُشْرِكُونَ) هذا ـ والله أعلم ـ عائد إلى المشركين من القدرية، فاستطرد من ذكر الشخص إلى الجنس، وله نظائر في القرآن). وقال أيضًا: (قوله: شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته: أي
لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث، لا أنهما عبداه، فهو دليل على الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: (قال العماد ابن كثير: ((وكان أصله ـ والله أعلم ـ مأخوذ من أهل الكتاب)). قلت ـ القائل هو الشيخ عبد الرحمن بن حسن: وهذا بعيد جدًا).
وقال الشيخ محمد خليل هراس بعد أن استعرض كلام ابن كثير: (هكذا ترى ابن كثير
…
يحاول الخروج على ظاهر الآية وينكر الأحاديث والآثار الموافقة لها وينسبها إلى أخبار أهل الكتاب
…
ـ ثم قال: ـ محاولة الدفاع عن آدم وحواء بأن شركهما إنما كان في التسمية لا في العبادة، وكان على سبيل الخطأ غير المتعمد وقد عوتبا عليه).
ب- وهناك من يجيب بأنه ليس فيه دليل على الشرك في الألوهية، بل فعله هو الميل إلى طاعة الشيطان وقبول وسوسته مع الرجوع عنه إلى الله، وذلك غير داخل تحت الاختيار، أو لعله قبل النبوة.
واستدرك على القول بأنه كان (قبل النبوة): أن الكفر ممتنع حتى قبل النبوة، وأجيب عنه بأن إشراكهما بالله؛ أنهما أطاعا إبليس في تسمية
ولدهما بعبد الحارث ـ كما مر في القصة ـ وليس ذلك كفرًا، بل ذنبٌ يجوز صدوره قبل النبوة.
وسيأتي مناقشة هذا القول قريبًا، عندما نأتي إلى بيان متى تكون الطاعة لغير الله شركًا، ومتى تكون ذنبًا؟ .
ج- وهناك من يجيب: (بأنهما لم يذهبا إلى أن الحارث ربهما بتسميتهما ولدهما عبد الحارث، لكنهما قصدا إلى أن الحارث كان سبب نجاة الولد فسمياه به كما يسمي الرجل نفسه عبد ضيفه على جهة الخضوع له، لا عن أن الضيف ربه، كما قال حاتم:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا
…
وما فيَّ إلا تيك من شيمة العبد)
ولكن السؤال هنا في شيئين:
1 -
هل التعبيد لغير الله ـ وإن كان بمجرد التسمية ـ يعتبر ذنبًا أم شركًا أصغر؟
2 -
وإذا كان من الشرك، فهل يمكن صدوره عن الأنبياء؟
أما حكم التعبيد لغير الله: فقال الإمام ابن حزم رحمه الله: (اتفقوا
على تحريم كل اسم معبد لغير الله؛ كعبد عمرو وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك. حاشا عبد المطلب).
فهذا الحكم من حيث الأحكام التكليفية، وأما من حيث ذنبه هل يعتبر شركًا أم كبيرة من الكبائر؟ ففيه خلاف؛ قال بعض العلماء: إن علة التحريم في النهي عن التعبيد لغير الله هي كونه شركًا في الربوبية والإلهية؛ لأن الخلق كلهم ملك لله وعبيد له، استعبدهم لعبادته وحده، وتوحيده في ربوبيته وإلاهيته، فالتعبيد لغير الله يكون شركًا، فإن كان عابدًا حقيقة بأن تعلق به في الخوف أو الرجاء أو المحبة، كما كان الواجب تجاه الرب، أو شارك الرب في هذه الأشياء فقد أشرك بالله شركًا أكبر، وإن انحصر التعبيد في مجرد إسداد النعمة إلى غير الله فهو شرك أصغر.
ولهذا تطرق العلماء لهذا الشيء عندما تكلموا في أنواع الشرك الأصغر، فذكروا في أمثلة الشرك الأصغر باللسان: التعبيد لغير الله؛ كعبد النبي وعبد الرسول. فأدرجوا ضمن الشرك الأصغر القولي مثل الحلف بغير الله، وقول:(ما شاء الله وشئت)، وقول:(قاضي القضاة، أو ملك الأملاك) سواء بسواء.
قال ابن القيم: (لا تحل التسمية بعبد علي، وعبد الحسين، ولا عبد
الكعبة، وقد روى ابن أبي شيبة عن هانئ بن شريح قال: وفد على النبي صلى الله عليه وسلم قوم فسمعهم يسمون رجلاً عبد الحجر، فقال له:((ما اسمك؟ )) قال: عبد الحجر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إنما أنت عبد الله)).
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية في بيان حكم التعبيد لغير الله؛ بأن المشركين كانوا (يعبدون أنفسهم وأولادهم لغير الله؛ فيسمون بعضهم عبد الكعبة، كما كان اسم عبد الرحمن بن عوف، وبعضهم عبد شمس كما كان اسم أبي هريرة، واسم عبد شمس بن عبد مناف، وبعضهم عبد اللات، وبعضهم عبد العزى، وبعضهم عبد مناة، وغير ذلك مما يضيفون فيه التعبيد إلى غير الله؛ من شمس، أو وثن، أو بشر، أو غير ذلك مما قد يشرك بالله،
ونظير تسمية النصارى عبد المسيح، فغيَّر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وعبدهم لله وحده، فسمى جماعة من أصحابه: عبد الله وعبد الرحمن، كما سمى عبد الرحمن بن عوف ونحو هذا، وكذا سمى أبا معاوية وكان اسمه عبد العزى فسماه عبد الرحمن، وكان اسم مولاه قيوم فسماه عبد القيوم، ونحو هذا من بعض الوجوه ما يقع في الغالية من الرافضة ومشابههم الغالين في المشايخ، فيقال: هذا غلام الشيخ يونس أو للشيخ يونس، أو غلام ابن الرفاعي أو الحريري، ونحو ذلك مما يقوم فيه للبشر نوع تأله، كما قد يقوم في نفوس النصارى من المسيح، وفي نفوس المشركين من آلهتهم؛ رجاء وخشية، وقد يتوبون لهم، كما كان المشركون يتوبون لبعض الآلهة، والنصارى للمسيح أو لبعض القديسين
…
وشريعة الإسلام الذي هو الدين الخالص لله وحده: تعبيد الخلق لربهم كما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتغيير الأسماء الشركية إلى الأسماء الإسلامية، والأسماء الكفرية إلى الأسماء الإيمانية
…
).
قال ابن القيم: فإن قيل: كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير الله، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم:((تعس عبد الدينار)) الحديث، وصح عنه أنه قال:((أنا النبي لاكذب، أنا ابن عبد المطلب)).
فالجواب: أما قوله: ((تعس عبد الدينار)) فلم يرد به الاسم، وإنما أراد به الوصف، والدعاء على من يعبد قلبه للدينار والدرهم فرضي بعبوديتهما عن
عبودية الله تبارك وتعالى.
أما قوله: ((أنا ابن عبد المطلب)) فهذا ليس من باب إنشاء التسمية بذلك، وإنما هو من باب الإخبار بالاسم الذي عرف به المسمى دون غيره، والإخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم. ولا وجه لتخصيص أبي محمد ذلك بعبد المطلب خاصة، فقد كان أصحابه يسمون عبد شمس، وبني عبد الدار بأسمائهم، ولا ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فباب الأخبار أوسع من الإنشاء، فيجوز فيه ما لا يجوز في الإنشاء.
فعلى هذا لا تجوز التسمية بعد المطلب ولا غيره مما عبد لغير الله، وكيف تجوز التسمية، وقد أجمع العلماء على تحريم التسمية بـ عبد النبي، وعبد الرسول، وعبد المسيح، وعبد علي، وعبد الحسين، وعبد الكعبة؟ وكل هذه أولى بالجواز من عبد المطلب لو جازت التسمية به، وأيضًا فقد نصّ النبي صلى الله عليه وسلم على أن التسمية بعبد الحارث من وحي الشيطان (على فرض صحة الحديث).
وأما ما قيل: من أن المراد: (شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته) بمعنى أنهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث، لا أنهما عبداه، فهو دليل على الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة، ولكن يستشكل عليه بأنه تفسير للعبادة بالطاعة، فيلزم من قول قتادة أن يكون الشرك في العبادة هو الشرك بالطاعة أيضًا.
ويجاب عن هذا بأن تفسير العبادة بالطاعة من التفسير اللازم؛ فإن لازم العبادة أن يكون العابد مطيعًا لمن عبده بها، فلذا فسرت بالطاعة، أو يقال: هو
من التفسير بالملزوم وإرادة اللازم؛ أي لما كانت الطاعة ملزومًا للعبادة والعبادة لازمة لها، فلا تحصل إلا بالطاعة: جاز تفسيرها بذلك.
أو يقال: ليس كل طاعة تسمى شركًا، بل المقصود بالطاعة التي تدخل بها إلى العبودية هي الطاعة الخاصة، مثلاً في تحليل الحرام أو عكسه، وأما في بعض الذنوب، فحكمهم كحكم سائر أصحاب المعاصي، فهذا ضابط الطاعة التي تكون شركًا والتي لا تكون، وكما قال شيخ الإسلام: (هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين الله فيتبعونهم على هذا التبديل، فيقلدون في تحليل ما حرم الله أوتحريم ما أحل الله، اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركًا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله، كان مشركًا مثل هؤلاء.
الثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحرام وتحليل الحرام ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب
…
).
فلعل المراد من الذين قالوا: (شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته) هو هذا الثاني، فلا يكون شركًا، والله أعلم.
فهذا هو الحكم على القول بأن التعبيد لغير الله يكون شركًا أكبر إذا أراد الحقيقة من معناه، وأما إن أراد مجرد الالتفات إلى السبب، وجعله سببًا في حصول النعم فلا يكون شركًا أكبر، بل يكون من الشرك الأصغر، وهذا هو القول الراجح لديّ.
وقد سماه بعضهم بـ (الشرك في التسمية)، ومثلوا له بأن ينسب الأولاد إلى الأولياء بمعنى أنهم من عطاء غير الله وهبة غير الله؛ كنحو عبد النبي، وهبة علي، هبة حسين، هبة المرشد، هبة المدار، هبة سالار، وذلك طمعًا في رد البلاء عنهم
…
كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح الإنسان به مشركًا.
وقال بعضهم: (ومن المشاهد اليوم أن كثيرًا من الناس يستعينون بالمشايخ والأنبياء
…
وقد ينسبون إليها أبناءهم طمعًا في رد البلاء، فيسمي بعضهم ابنه بعد النبي، وبعضهم بعلي بخش، وحشين بخش، وبير بخش، ومدار بخشر، وسالار بخش
…
كان ذلك شركًا لا شك فيه،
…
كل ذلك يتحقق منه الشرك، ويسمى (الإشراك في العبادة)؛ يعني أن يعظم غير الله في الأعمال التي اعتادها تعظيمًا لا يليق إلا بالله
…
).
وهناك فئة من الناس ترى: أن التسمية بالتعبيد لغير الله لا تكون شركًا، فقال بعض من ابتلى منهم: (إن إضافة العبد إذا كان إلى غير الله، فلا يخلو إما أن يكون العبد معبودًا من دون الله أو لا، وعلى الثاني إما أن يكون موهمًا لها أو
لا، فالأول حرام، والثاني إن كان موهمًا كره، كعبد النبي، وإلا فلا، فعبد العزى حرام، وعبد النبي مكروه، وعبد المطلب جائز). ونسي هذا المستدل قوله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ
…
).
فهذا القول باطل عاطل، وفاسد كاسد، ولا مبرر لقائله، ولا دليل على هذا التقسيم الذي اخترعه من عند نفسه.
وعلم بهذا كله: أنه على القول بصحة هذه القصة عن آدم، فيه نسبة الشرك الأصغر إليه، أو على الأقل نسبة الذنوب إليه، فهل الأنبياء عندهم ذنوب؟ هذا السؤال يقودنا إلى مسألة أخرى وهي:
هل الأنبياء معصومون عن الذنوب؟
المسألة خلافية، والخلاف فيها من عدة أوجه، وضبط القول فيه أن يقال: الاختلاف في هذا الباب يرجع إلى أقسام أربعة:
أ- ما يقع في باب الاعتقاد.
ب- ما يقع في باب التبليغ.
ج- ما يقع في باب الأحكام والفتيا.
د- ما يقع في أفعالهم وسيرتهم.
ثم اختلفوا في وقت العصمة على ثلاثة أقوال:
أحدها: قول من ذهب إلى أن وقت عصمتهم من مولدهم، وهو قول الرافضة.
ثانيها: قول من ذهب إلى أن وقت عصمتهم وقت بلوغهم، ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكبيرة والكفر قبل النبوة، وهو قول كثير من المعتزلة.
ثالثها: قول من ذهب إلى أن ذلك لا يجوز وقت النبوة، أما قبل النبوة فجائز.
والحديث في المسألة ذو شجون، ولكنني سأقتصر الكلام على ما يتعلق بالمتفق عليه من هذه الأقسام، وهل تصدر المعاصي والذنوب من الأنبياء؟ ، دون أن أتطرق إلى بيان حكم الأقسام الأخرى؛ لكونها لا تتعلق برسالتي.
المتفق عليه: اتفقت الأمة على أن الرسل معصومون في تحمل الرسالة، فلا ينسون شيئًا مما أوحي إليهم إلا شيئًا قد نسخ، فهم معصومون في التبليغ، قال الرازي:(قد أجمعت الأمة على كونهم معصومين عن الكذب والتحريف فيما يتعلق بالتبليغ، وإلا لارتفع الوثوق بالأداء، واتفقوا على أن ذلك لا يجوز وقوعه منهم عمدًا كما لا يجوز أيضًا سهوًا، ومن الناس من جوز ذلك سهوًا، قالوا: لأن الاحتراز عنه غير ممكن). أما ما يتعلق بباب الاعتقاد فالخطأ فيه غير جائز، فعلى المنع لا يمكن صدور التعبد لغير الله عن آدم عليه الصلاة والسلام ألبتة.
والخلاف الذي سبق معنا كله إنما هو على فرض ثبوت الحديث.
وأما الذين قالوا بتضعيف الحديث فهم كنز ـ وهو الصحيح إن شاء الله كما سيأتي ـ، قالوا: إن الحديث ضعيف، فبعض منهم ضعف رواية، وبعضهم ضعفه دراية.
أما الذين ضعفوا من جهة الرواية فهم الجهابذة من المحدثين، منهم الحافظ ابن عدي؛ حيث إنه أعله بتفرد عمر بن إبراهيم، وقال:(وحديثه عن قتادة مضطرب).
وأما الحافظ ابن كثير فقال: إن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري، وقد وثقه ابن معين، ولكن قال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، ولكن رواه ابن مردويه من حديث
المعتمر عن أبيه عن الحسن عن سمرة مرفوعًا، فالله أعلم.
الثاني: أنه قد روي من قول سمرة نفسه، ليس مرفوعًا، كما قال ابن جرير
…
الثالث: أن الحسن ـ نفسه ـ فسر الآية بغير هذا، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعًا لما عدل عنه إلى الذي أورده ابن جرير بسنده عن الحسن (جَعَلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا)، قال: كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم.
وبسنده عن الحسن قال: عني به ذرية آدم ومن أشرك منهم بعده.
وبسنده عن الحسن قال: هم اليهود والنصارى؛ رزقهم الله أولادًا فهودوا ونصّروا.
ثم قال ابن كثير: هذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت عليه الآية، ولو كان هذا الحديث محفوظًا عنده من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره، ولا سيما مع تقواه لله وورعه، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب من آمن منهم مثل كعب، ووهب بن منبه، وغيرهما.
وزاد الشيخ محمد ناصر الدين الألباني ـ حفظه الله ـ علة أخرى؛ وهي الآتي ذكرها في الوجه الرابع.
الرابع: أن الحسن في سماعه من سمرة خلاف مشهور، ثم هو مدلس، ولم يصرح بسماعه عن سمرة، وقال الذهبي في ترجمته في الميزان:(كان الحسن كثير التدليس، فإذا قال في حديث: (عن فلان) ضعف احتجاجه).
ولكن يفهم من صنيع الحافظ العلائي أن رواياته عن سمرة تحمل على السماع، وقد ذكر لذلك شاهدًا، فلم يبق من العلل إلا ما ذكره ابن كثير.
أما من حيث الدراية: فأيضًا لا يصح؛ فإنه لم يثبت لدينا أن إبليس كان اسمه حارث، ثم ليس لدينا ما يدل على أن آدم كان يموت له الأولاد في حياته غير هابيل، ثم إن هذا خلاف مقتضى إرساله إلى الأرض من الله جل وعلا، فإنه أرسل لعمران الأرض، فلو مات له الأولاد لا يحصل هذا المقصود ألبته، فهذا مما يضعف الحديث دراية، ولهذا قال ابن حزم رحمه الله: (وهذا الذي نسبوه إلى آدم عليه السلام من أنه سمى ابنه عبد الحارث خرافة موضوعة
مكذوبة، من تأليف من لا دين له ولا حياء، لم يصح سندها قط، وإنما نزلت في المشركين على ظاهرها).
وقال ابن القيم: (فالنفس الواحدة وزوجها آدم وحواء، واللذان جعلا له شركاء فيما آتاهما المشركون من أولادهما، ولا يلتفت إلى غير ذلك مما قيل: إن آدم وحواء كانا لا يعيش لهما ولد
…
).
من وجوه ضعف هذا القول ما يلي:
1 -
أن آدم عليه السلام كان أعرف بإبليس وعداوته الشديدة له، وأن اسم إبليس هو الحارث ـ لوصح ـ فكيف مع هذا يسمى ولده عبد الحارث؟
2 -
جمع الشركاء في قوله تعالى: (جَعَلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) يدل على أن المتخذ شريكاً لله جماعة، في حين أن المتخذ شريكًا لله على هذا القول واحد وهو إبليس، فالتعبير بالجمع يدل على ضعف هذا القول.
3 -
أنه لم يجر لإبليس في الآية ذكر، فلو كان هو المتسبب في تسمية ـ التي أطلق عليها شرك ـ على حد هذا القول ـ لجرى له ذكر، فالمقام مقام التحذير من الانخداع بوسوسة إبليس يقتضي ذكر اسم إبليس؛ لئلا ينخدع أحد بعده.
4 -
أنه تعالى قال بعده: (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)، وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.
5 -
لو كان المراد إبليس لقال: (أيشركون من لا يخلق شيئًا). ولم يقل: (ما لا يخلق شيئاً)؛ لأن العاقل إنما يذكر بصيغة (من) لا بصيغة (ما).
وأما تفسير الآية على القول بتضعيف هذه الرواية فكما يلي:
1 -
أن الآيتين في حق آدم وحواء، ويدفع الإشكال في قوله:(جَعَلا لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا) بأن الكلام على حذف مضاف، والتقدير:(جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما)، والتثنية على أن ولده قسمان: ذكر وأنثى؛ أي صنفين ونوعين، فزال الإشكال عن (جعلا) و (آتاهما). وفي قوله تعالى:(فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ) بلفظ الجمع باعتبار الأولاد.
2 -
أن الخطاب لجميع الناس، والضمير في (جعلا) و (آتاهما) يعود على النفس وزوجها، لا إلى آدم وحواء، وعلى هذا: النفس، غير ما ذكروه في تأويله، وهذا أقرب وأبعد من التأويل المتكلف.
3 -
أن الخطاب في (خلقكم) لقريش، وهم آل قصي، فإنهم خلقوا من نفس قصي، وكان له زوج من جنسه عربية قرشية، وطلبا من الله أن يعطيهما الولد، فأعطاهما أربعة بنين فسماهم بـ عبد مناف، عبد شمس، عبد العزى، عبد الدار.
4 -
أن المراد بالنفس الواحدة آدم، وزوجها المجعول منها حواء، والذي
طلبه آدم وحواء من الله صالحًا هو النسل السوي بصنفيه الذكور والإناث، ولكن أولاده جعلوا لله شركاء من الأصنام والأوثان فيما أتاهم، فتعالى الله عن إشراك المشركين من هذا النسل.
فقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً) جنس الولد الصالح في تمام الخلق بدنًا، وقوة، وعقلاً، فكثروا صفة للولد وهو الجنس، فيشمل الذكر والأنثى والقليل والكثير، فكأنه قيل:(فلما أتاهما أولاداً صالحي الخلقة من الذكور والإناث جعل النوعان (له شركاء) بعضهم أصنامًا، وبعضهم نارًا، وبعضهم شمسًا، وبعضهم غير ذلك.
والمقصود: أنه لم يثبت أن آدم عليه السلام وقع في الشرك، بل الصحيح الثابت ما سبق أن ذكرناه أن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح.
قال شيخ الإسلام: (إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام، وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص، كما كان عليه أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان، بدعة من تلقاء أنفسهم، لم ينزل الله بها كتاباً ولا أرسل بها رسولاً، بشبهات زينها الشيطان من جهة المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة؛ قوم منهم زعموا: أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية.
وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين.
وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين.
وقوم على مذاهب آخر.
وأكثرهم لرؤسائهم مقلدون، وعن سبيل الهدى ناكبون، فاتبعث الله نبيه نوحًا عليه السلام، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهاهم عن عبادة ما سواه، وإن زعموا أنهم يعبدونهم ليقربوهم إلى الله زلفى ويتخذوهم شفعاء).
الفصل الثاني
وقوع الشرك في الأمم السابقة