الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
هل الأصل في الإنسان التوحيد أو الشرك
؟
هذا السؤال يتطلب جوابه أن نرجع إلى أصل الإنسان، فالذين يقولون: إن أصل الإنسان أنهم خلقوا من نفس واحدة، كما قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، قالوا: إنهم خلقوا من آدم، وعليه اتفاق جميع الأديان السماوية، وعليه اتفقت كلمة أصحاب الملل ـ اليهود والنصارى والمسلمون ـ إلا من شذ منهم واتبع الملاحدة في أقوالهم، وآرائهم، فجميع أصحاب الأديان السماوية يقولون: إن الأصل في الإنسان هو التوحيد، والشرك طارئ عليهم.
ويستدل عليه من وجوه:
أولاً: أن الإنسان الأول هو آدم عليه السلام كان نبيًا يعبد الله وحده لا شريك له، وعلم أبناءه التوحيد؛ حيث سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي هو؟ قال: ((نعم، نبي مكلم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه روحه
…
)). ثم وقع بنو آدم في الشرك بعده بأزمان ـ وهذا يقر ويقول به كل من يؤمن بأن الله هو الخالق، وكل من يؤمن بالأديان السماوية الثلاث؛ الإسلامية والنصرانية واليهودية،
إلا من تابع قول الملحدين منهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (ولم يكن الشرك أصلاً في الآدميين، بل كان آدم ومن كان على دينه من بنيه على التوحيد لله، لاتباعهم النبوة
…
فإن آدم أمرهم بما أمره الله به، حيث قال له:(فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كفروا باياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
…
، فهذا الكلام الذي خاطب الله به آدم وغيره لما أهبطهم قد تضمن أنه أوجب عليهم اتباع هداه المنزَّل).
ثانياً: بيَّن الله سبحانه أن البشرية كانت في أول أمرها على التوحيد، ثم طرأ عليها الشرك وتعدد الآلهة، لقوله تعالى:(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).
وجمهور المفسرين يقولون بأن الناس كانوا أمة واحدة على الهدى والتوحيد، فظهر فيهم الشرك عن طريق تعظيم الموتى، فبعث الله إليهم رسله ليردوهم إلى التوحيد. قال الطبري:(وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة، وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة في عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام كما روى عكرمة عن ابن عباس، وكما قاله قتادة).
ويؤيده ما جاء في قراءة أبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ
…
) الآية.
كما يؤيده قوله تعالى: (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا).
وهو الذي رجحه ابن كثير معللاً بقوله: (لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام ـ فبعث الله إليهم نوحًا عليه السلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)، ويقول:(ثم أخبر الله أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام).
ثالثاً: أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه أن الفطرة التي فطرت عليها البشرية كلها هي فطرة الإسلام التي هي التوحيد الخالص، قال تعالى:(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ).
فهاتان الآيتان تبينان أن العباد كلهم مفطورون على التوحيد وأنه الأصل في بني آدم، وقد فسر مجاهد الفطرة بأنها الإسلام.
رابعًا: بيَّن الله في كتابه: أن التوحيد هو أصل دعوة الرسل وإليه دعوا أقوامهم، قال تعالى:(شرع لكم من الدين ما وصى به نوحًا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)، وقال تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، وقال تعالى:(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)، وقال تعالى:(وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ). وكل رسول افتتح دعوته لأمته بالدعوة إلى عبادة الله، فقال:(اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (إن الناس كانوا بعد آدم عليه السلام وقبل نوح عليه السلام على التوحيد والإخلاص كما كان أبوهم آدم أبو البشر عليه السلام، حتى ابتدعوا الشرك وعبادة الأوثان بدعة من تلقاء أنفسهم لم ينزل الله بها كتاباً ولا أرسل به رسولاً، بشبهات زينها الشيطان من جهة
المقاييس الفاسدة والفلسفة الحائدة، قوم منهم زعموا أن التماثيل طلاسم الكواكب السماوية والدرجات الفلكية والأرواح العلوية، وقوم اتخذوها على صورة من كان فيهم من الأنبياء والصالحين، وقوم جعلوها لأجل الأرواح السفلية من الجن والشياطين، وقوم على مذاهب أخرى، فابتعث الله نبيه نوحًا عليه السلام يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وينهاهم عن عبادة ما سواه
…
وجاءت الرسل بعده تترى، إلى أن عم الأرض دين الصابئة والمشركين كما كانت النماردة والفراعنة، فبعث الله تعالى إليهم إمام الحنفاء وأساس الملة الخالصة والكلمة الباقية إبراهيم خليل الرحمن فدعا الخلق من الشرك إلى الإخلاص ونهاهم عن عبادة الكواكب والأصنام))،
…
فجعل الأنبياء والمرسلين من أهل بيته، وبعث الله بعده أنبياء من بني إسرائيل
…
ثم بعث الله عيسى المسيح بن مريم
…
).
خامسًا: ويدل عليه ما روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)).
وقد قال قتادة: ((ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عليهما السلام عشرة قرون
كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق، ثم اختلفوا بعد ذلك، فبعث الله عز وجل نوحًا، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض)).
سادسًا: ما رواه عياض بن حمار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانًا)).
سابعاً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيما من جدعاء؟ ))، ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الحديث: (فالصواب أنها فطرة الإسلام وهي الفطرة التي فطرهم عليها يوم قال: (ألست بربكم قالوا بلى)، وهي السلامة من الاعتقادات الباطلة والقبول للعقائد الصحيحة
…
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فقال: ((كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ )) بيَّن أن سلامة القلب من النقص كسلامة البدن، وأن العيب حدث طارئ).
وقال ابن القيم: (فجمع عليه الصلاة والسلام بين الأمرين؛ تغيير الفطرة بالتهويد والتنصير، وتغيير الخلقة بالجدع، وهما الأمران اللذان أخبر إبليس أنه لابد أن يغيرهما، فغيَّر فطرة الله بالكفر وهو تغيير الخلقة التي خلقوا عليها، وغير الصورة بالجدع والبتك، فغير الفطرة إلى الشرك، والخلقة إلى البتك والقطع، فهذا تغيير خلقة الروح، وهذا تغيير خلقة الصورة).
ويقول كذلك: (فالقلوب مفطورة على حب إلهها وفاطرها وتأليهه، فصرف ذلك التأله والمحبة إلى غيره تغيير للفطرة).
ومن هذا يتبين لنا أن الشرك لم يكن أصلاً في بني آدم، بل كان آدم ومن جاء بعده من ذريته على التوحيد إلى أن وقع الشرك.
فإن هذه الأدلة تنص على أن بني آدم عبدوا الله فترة من الزمن، وهي عشرة
قرون كما يذكره ابن عباس رضي الله عنهما، ثم انحرف من انحرف عن هذا المنهج القويم، فبعث الله إليهم الرسل ليردوهم إلى التوحيد.
وهناك رواية أخرى تبين لنا كيف بدأ وقوع بني آدم في الشرك، فقد أخرج البخاري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله عز وجل:(وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)، قال:((هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسوا إليها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت)).
فهذا كان مبدأ وقوع بني آدم في الشرك وانحرافهم عن توحيد الله عز وجل.
أما الذين يقولون: إن أصل الإنسان ليس هو نفسًا واحدة بل الإنسان على هذه الصورة الموجودة نتيجة التطور والارتقاء، اختلفوا في ذلك اختلافاً شديدًا، وصدق فيهم قول الله عز وجل:(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
فقالوا: إن أصل الإنسان هو الشرك ثم حدث فيهم التوحيد، بل قال بعضهم: إن الإنسان ما كان يعرف عن الديانة شيئًا، وإنما الدين وجد بعد مرور الزمان والأيام، وحصول الوحشة لدى بعضهم. واختلفوا في بيان هذه الأشياء التي اضطرتهم إلى التدين، فمن أقوالهم ومذاهبهم في هذا الباب ما يلي:
1 -
ما يسمى بالمذهب الطبيعي:
وقد نادى إليه (ماكس مولر) سنة: 1856 م، و (كوهن) سنة: 1859 م، و (شغارتز) سنة: 1863 م، وملخصه: أن الإنسان البدائي عندما نشأ وجد نفسه ضعيفًا بين المظاهر الكونية المختلفة، كالشمس والقمر والنجوم والرياح والصواعق والأنهار وغيرها، فاعتقد أن باستطاعتها أن تنفعه أو تضره، فأخذ يتقرب إليها ويقدم لها سائر أنواع العبادات دفعًا لشرها.
ورد (جيفونس) و (دركايم) على هذا المذهب بأن الخوف لا يصلح سببًا لنشوء العقيدة؛ لأن مع مرور الزمان يألف الإنسان هذه الأشياء بتكررها على نسق واحد، ويذهب خوفه منها ويترك التقرب إليها.
وأصحاب هذا القول يرون: أن الإنسان إنما هونتيجة الطبيعة؛ حيث كان (أميبا) ثم تطور بفعل الرطوبة، حتى وصل بعد أزمان عديدة إلى صورة القرد، ثم تطور حتى أصبح ما يسمى إنسانًا، فزعموا: أن هذا الإنسان ـ وكان في ذلك الوقت في طور الطفولة البشرية ـ أخذ يبحث عن إله يعبده، فتوجه إلى عبادة الآباء والأجداد والأشجار والحيوانات الضخمة والشمس القمر، إلى غير
ذلك من الأشياء التي يستعظمها في نفسه، ثم بدأ هذا الإنسان يتطور في عقله وأحاسيسه، فبدأ يتخلى عن كثير من الآلهة التي كان يعبدها، حتى توصل في عهد الفراعنة إلى التوحيد، ولا يعني ذلك عندهم عبادة الله وحده لا شريك له، وإنما المراد: عبادة إله واحد وهو (رع) الذي يرمز له بقرص الشمس.
ولهذا قال داروين: إن الإنسان إنما هو نتيجة التغير في الناموس الوراثي، فتوصل في بحثه إلى أن الإنسان ترقى من حشرات إلى فقاريات، إلى القردة، فالإنسان.
2 -
ما يعرف بمذهب النمو:
قالوا: إن الديانة نمت كما تنمو كل مصلحة إنسانية، ويقينًا أنه لم يكن في مقدور الإنسان البدائي ـ بله أسلافه القردة وأسلافه من الثدييات ـ فكرة عن الرب والدين، فلم يستطع ذهنه وقوى فهمه أن تصبح قادرة على تصور هذه الأفكار العامة إلاّ ببطء شديد، فالدين شيء نمى مع الترابط الإنساني.
وقال بعضهم: إن الدين بدأ في صورة الخرافة والوثنية، والإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج نحو الكمال في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم: أن عقيدة (الإله الأحد) عقيدة حديثة، وأنها عقلية خاصة بالجنس السامي.
3 -
ما يسمى بالمذهب الإغريقي: ـ وهي من فكرة السوفسطائيين ـ:
قالوا: إن الإنسان كان في أول نشأته يعيش بغير رادع من قانون ولا وازع من خلق، وأنه كان لا يخضع إلا إلى القوة الباطشة، ثم لما وضعت القوانين اختفت المظاهر العلنية من هذه الفوضى البدائية، ولكن الجرائم السرية ما برحت سائدة منتشرة، فهنالك فكر بعض العباقرة في إقناع الجماهير بأن في السماء قوة أزلية أبدية ترى كل شيء، تسمع كل شيء، وتهيمن على كل شيء! .
4 -
المذهب الروحي:
وقد نادى إليه (سبنسر وتيلور). وملخصه: أن الإنسان البدائي عندما كان يرى الأحلام فيرى أشخاصًا كانوا قد ماتوا، اعتقد ببقاء أرواح الموتى وأن لها القدرة على الإيذاء أو النفع، وكان يعلل كل ما يصيبه من أمراض بغضب هذه الأرواح عليه وخاصة أنها تمثل أرواح أسلافه، فأخذ يتقرب لها بالعبادة خوفًا من شرها وتقديسًا لآبائه وأجداده.
وقال بعضهم: إن أول ما عرفت العبادة كان بسبب أحلام منامية يراها الإنسان؛ كأن يرى قريبه الميت يأتيه في نومه ويقول له: اذهب إلى المكان الفلاني ستجد فيه كذا وكذا، فيذهب بعد يقظته إلى هذا المكان، فيجد ما أخبره به في منامه، فإذا تحقق لواحد من هؤلاء مثل هذه الرؤية أخذ يعظم قبر الميت، وصارت تعظمه جماعته كذلك، إلى أن صاروا يعبدونه، فيسألونه حوائجهم ويتضرعون إليه ويستعينون به، ويعكفون عليه.
ورد (دور كايم) على هذا المذهب بأن اعتقاد الإنسان الأولى ببقاء الأرواح لا يكفي لنشوء عقيدة دينية؛ لأن عبادة الأسلاف وجدت عند الأمم المتحضرة كما وجدت عند الأمم البدائية، بجانب عبادة أشياء أخرى، بل بعض الأمم لم تعبد الأسلاف، فلا يكفي هذا لتفسير نشأة العقيدة.
5 -
المذهب الطوطمي:
قالوا في الإنسان: إنه كان في الأصل من الحيوانات المائية، التي يقدرون لها آلاف السنين الغابرة، ويطلقون عليه في هذه الفترة (الإنسان المائي)، وبعد مرور آلاف السنين أخذ هذا الحيوان المائي يخرج إلى شاطئ البحر، ويأكل الحشائش النابتة عليها ثم يرجع إلى البحر يعيش فيه كالتمساح، ويطلقون عليه هذه الفترة (الحيوان البرمائي)، ثم بعد آلاف السنين استطاع هذا الحيوان أن ينطبع بطباع البر وأن يعيش فيه طول حياته وأن يترك حياة البحر، ويطلقون عليه هذه الفترة (الإنسان البري)، إلا أنه لم يتميز عن كثير من الحيوانات البرية المعروفة، منذ ذلك الوقت صار يستعمل أنواعًا من الآلات كالحجارة ونحوها، فارتفع وارتقى عن باقي الحيوانات التي تتميز
…
.
فهذا الإنسان الذي أصله من الحيوان ـ كما زعموا ـ عرف الدين بطريقة يسمونها (طوطمية) ـ أو توتمية ـ، وهي شعار تتخذه العشيرة شعارًا لوحدتها وقوتها، وتعتقد أنه جدها الأعلى ومنه تناسلت، فتقدس العشيرة هذا
التوتم ولا تسمح للنساء والغرباء بلمس هذا التوتم، وتحمله معها في الحروب للنصر، وقد يكون التوتم جمادًا أو نباتًا أو حيوانًا، وعندها يحرم أكله وقتله.
وقد رد كل من (لانج وتيلور وفوكارت وفريزر وشميث) على هذا المذهب بأن هذا التوتم لا يصلح كمبدأ للعقيدة؛ لأنه من خلال الأبحاث الكثيرة تبين أن هناك أممًا بدائية كانت تعبد مع التوتم آلهة أخرى، وربما لم تعبد التوتم إطلاقًا، وإن كان رمزًا لها.
6 -
ما يسمى بالفرويدية:
قالوا: إن سبب العبادة الأولى هو جريمة الولد بقتل الأب حسدًا وبغضًا؛ لأن الأب منع الابن أن يستمتع معه بأمه، فقتله، فندم على ذلك، وأنكر على نفسه فعلته وحرم عليها الاقتراب من نساء أبيه تنفيذًا لأوامر الميت، وعكف على قبره فأكرمه وعظمه، فلما ظهرت له شناعة جريمته تعاهد مع الآخرين على صيانة حياتهم، وحرم الواحد على نفسه قتل أخيه، وأبيه، فأصبح هذا عامة للقبائل عمومًا، وبهذا تعارف الناس على التقاليد والأديان والعبادة تدريجيًا.
ولا يخفى أن هذا من الهراء الذي لا قيمة له في العقل البشري.
هذا هو ملخص أقوال أصحاب النحل، ولكنهم جميعاً متفقون على:
أن الأديان من صنع البشر، وليست من قبل الله عز وجل، وأن الأصل هو الشرك.
والعجيب أن يوافقهم على هذه الخزعبلات بعض من يسمى بالمفكرين في الإسلام كعباس محمود العقاد في كتابه (الله جل جلاله، وعبد الكريم الخطيب في كتابه (قضية الألوهية بين الفلسفة والدين)، وثريا منقوش في كتابها (التوحيد في تطوره التاريخي).
وقد زعم أصحاب هذا القول أن لهم عليه دليلين:
أولاً: القياس على الصناعة، فكما أن الإنسان قد تطور في صناعته فهو كذلك تطور في ديانته.
ثانياً: أن الحفريات دلتهم على أن الناس وقعوا في الشرك وتعدد الآلهة، وأن الإنسان عرف التوحيد متأخرًا.
مناقشة أقوال هؤلاء الملحدين:
أ- هذه الأقوال ـ كما يتضح لدى القارئ ـ إنما هي سخافات وأحاجي فارغة ينطبق عليها المثل القائل: (إن الغريق بكل حبل يمسك)، فمن أين لهم أنهم هم أنفسهم كانوا حشرات وجراثيم فأصبحوا بشرًا؟ من جاءهم بهذا القول؟ ومن أي مصدر أخذوه؟ ومتى تم ذلك؟ وكيف اكتشفوا؟ ولماذا لا تتطور النملة فتصبح فيلاً أو الحنظل عنبًا أو تمرًا؟ !
وأيضاً: لماذا لا تتطور تلك الحيوانات التي كانت في البر قبل وصول الإنسان إليها من البحار والمياه الآسنة؟ ما الذي حال بينها وبين التطور والارتقاء ما دامت قد سكنت البر قبله؟
وأيضاً: ما الذي حال بين الإنسان وبين التطور إلى صفة أخرى أعظم من البشرية؟ لابد أن قدرة خارجة عن نطاق قوته جعلته إنسانًا لا يختلف شكله على طورا لدهور، ولا يلتبس شكله وقوامه بشكل الذرة أو البعوضة، أو الفيل، فجعلت تلك القوة الإنسان إنسانًا والحيوان الغير ناطق حيوانًا، والنخلة نخلة والذرة ذرة
…
إلى آخر هذه المخلوقات التي تملأ الأرض. إنها سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً. فجعلت تلك السنة الإلهية القمر في مكانه والشمس في مكانها، والنجوم في مكانها، والأرض والجبال والبحال كلاً في مكانه، وفي فلك يسبح فيه، فالشمس التي كانت قبل ملايين السنين هي نفسها شمس اليوم، وكذلك القمر والنجوم والأرض وهيئة الكون، إنها قوة إلهية، يعجز أولئك الملاحدة أن يأتوا بدليل يقنع أحدًا سليم العقل والفطرة، وصدق الله العظيم رب الأولين والآخرين حين قال:(مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا).
ب- يرد عليهم كذلك: بأن المنهج الذي سلكه العلماء القائلون بنظرية التطور حتى توصلوا لما توصلوا إليه من نتائج تطورية، هو منهج خاطئ؛ لأن مقارنتهم كانت لا تفرق بين الدين الصحيح والخرافات الأسطورية الهمجية التي كانت منتشرة عند الشعوب القديمة عن الأرواح والأحلام وما إلى ذلك، فجعلوا عقيدة التوحيد على قدم المساواة بالعقائد الأخرى الباطلة، فهم لا يفرقون بين اليهودية والنصرانية والصابئية، والمجوسية والبوذية والهندوكية، وسائر أنواع الشرك من جهة، وبين الإسلام من جهة أخرى.
ج- ونرد عليهم كذلك: بأن بحوثهم قامت على افتراضات وتخمينات
بسبب أنهم بحثوا في أمم مر عليها آلاف السنين، وهي تعتبر في عالم الغيب الذي لا مصدر صحيح لمعرفته إلا بالوحي، ولذلك جاءت أبحاثهم مناقضة للبحث العلمي والمنهج العلمي الصحيح؛ لأنهم بحثوا فيما لا يستطيع العقل أن يبحث فيه، وكانت أقوالهم رجمًا بالغيب؛ ليأتوا بما يوافق أهواءهم من النتائج.
د- وأما ردنا على هذه النظرية من أبحاث العلماء القائلين بنظرية أصالة التوحيد المنكرين لنظرية التطور، فنقول:
انقسم علماء الأجناس ومقارنة الأديان إلى فريقين:
1 -
فريق قال بنظرية التطور، وقد سبق ذكرها.
2 -
وفريق آخر من العلماء قال بنظرية معاكسة تمامًا للنظرية الأولى، ومن أمثال هؤلاء العلماء: لانج، وشريدر، وفريزر شميدث، وبتاتزوني، وفوكارت، فقد توصل هؤلاء العلماء من خلال أبحاثهم التي قاموا بها إلى أن الأصل هو التوحيد وليس الشرك، وسموا نظريتهم:(نظرية فطرية التوحيد وأصالته)، وقد انتصر لهذه النظرية فريق كبير من العلماء وأيدوها بما توصلوا إليه من اكتشافات وحفريات قديمة تدل على أن هناك أممًا عريقة في القوم لم تكن تعرف تعدد الآلهة، وكانت تؤمن بالإله الواحد. وبنوا عليه أن عقيدة الوحدانية هي أقدم ديانة عرفها البشر، وأن التعدد والوثنية طارئة ومتطفلة على عقيدة التوحيد.
وأما ما تمسك به أولئك الخارجون عن الحق بتقدم الصناعات على تقدم الديانات فلا شك أن هذا في الواقع قياس فاسد واستدلال باطل، وقياس مع الفارق؛ لعدة أمور:
أولاً: أن الصناعات من الأشياء المادية، والأديان من الأشياء المعنوية، فكيف يقاس معنوي غير محسوس على شيء مادي محسوس؟ ! فهو كمن يقيس الهواء على الماء.
ثانياً: أن الصناعات تقوم على التجربة والملاحظة، وتظهر النتائج بعد استكمال مقوماتها، بخلاف الدين الذي لا يقوم على ذلك ولا تظهر نتائجه في هذه الحياة الدنيا.
ثالثاً: يلزم من هذا القياس شيئان:
1 -
أن يكون الإنسان في هذا الزمن صادق التدين خالص التوحيد، لأن الصناعة قد بلغت مبلغًا عاليًا من التطور، والواقع خلاف ذلك، فإن الإنسان في العصر الحاضر أحط ما يكون من الناحية الدينية؛ إذ الإلحاد متفش في أكثر بقاع العالم.
2 -
كما يلزم منه ألاّ يوجد شرك في هذا الزمن، والواقع خلاف ذلك؛ حيث إن الشرك متفش في الشرق والغرب.
وأما ما تمسكوا به ـ على قولهم الباطل ـ بالحفريات ومخلقات الأمم السابقة، فيقال عنه:
أولاً: إن هذه الحفريات ناقصة، فلا دلالة فيها على ما ذكروا سوى التخمين ومحاولة الربط بين أمور متباعدة، وغاية ما تدل عليه الحفريات والآثار: إن الأمم السابقة وقعت في الشرك، وهذا لا ننكره نحن، بل القرآن
والسنة نصا على ذلك وبيناه، وأما عبادة الإنسان الأول وعقيدته فلا يمكن معرفتها من خلال الآثار حتى يعثروا على الإنسان الأول ويجدوا آثارًا تدل على عقيدته وعبادته.
ثانياً: من المؤكد أن الأمم تتقلب في عبادتها فتنتقل من التوحيد إلى الشرك، ومن الشرك إلى التوحيد، فمعرفة عبادة أمة من الأمم لا يعني أنها لم تعرف سوى هذه العبادة، بل يعني ذلك أنها كانت على هذه العبادة في تلك الفترة فقط.
ثالثًا: أن الحفريات ومخلفات الأمم السابقة كما استدل به بعضهم على القول بالشرك في الأمم هكذا استدل به فريق آخر على توحيد بعض الأمم، فقد قال به فريق من العلماء أمثال (لانج وشريدر، وفريزر، وشميدث، وبتاتزوني، وفوكارت)، وغيرهم، فقد توصلوا من خلال أبحاثهم التي قاموا بها إلى أن الأصل هوالتوحيد وليس الشرك، وسموا نظريتهم (نظرية فطرية التوحيد وأصالته)، وقد انتصر لهذه النظرية فريق كبير من العلماء، وأيدوها بما توصلوا إليه من اكتشافات وحفريات قديمة تدل على أن هناك أممًا عريقة في القدم لم تعرف تعدد الآلهة، وكانت تؤمن بالإله الواحد، وبنوا على هذه الحفريات والكتابات المكتشفة نظريتهم القائلة بأن عقيدة الوحدانية هي أقدم ديانة عرفها البشر، وأن التعدد والوثنية طارئة ومتطفلة على عقيدة التوحيد.
وبهذا يظهر جليًا واضحًا فساد هذه الأقوال المنحرفة عن الحق، وأن ما استدلوا به ليس إلا تخرصات وتوهمات لا تقوم على وجه الحق الواضح البين
الذي سبق أن ذكرناه؛ وهو أن الإنسان أصله التوحيد، والتوحيد هو أول ما عرفه الإنسان، ثم بدأ بالانحراف فتدرج أمره حتى وقع في الشرك، وذلك هو الحق الذي لا ريب فيه.
ثم إن هذا القول الموافق للقرآن والسنة والفطرة والعقل الصريح الموافق للنقل الصحيح قد اهتدى إليه بعض علماء الآثار والباحثون في الأديان من الغربيين وغيرهم، نذكر هنا نماذج من أقوالهم:
1 -
يقول الباحث (أدمسون هيوبل) المتخصص في دراسة الملل البدائية: (لقد مضى ذلك العهد الذي كان يتهم الرجل القديم بأنه غير قادر على التفكير فيما يتعلق بالذات المقدسة أو في الله العظيم، ولقد أخطأ (تيلور) حيث جعل التفكير الديني الموحد نتيجة للتقدم الحضاري والسمو المعرفي، وجعل ذلك نتيجة لتطور بدأ من عبادة الأرواح والأشباح، ثم التعدد، ثم أخيرًا العثور على فكرة التوحيد).
2 -
ويقول الباحث (أندري لانج) من علماء القرن الماضي: إن الناس في استراليا وأفريقيا والهند لم ينشأ اعتقادهم في الله العظيم على أساس من الاعتقاد المسيحي، وقد أكد هذا الرأي العالم الأسترالي (وليم سميث) حيث ذكر في كتابه (أسس فكرة التوحيد) مجموعة من البراهين والأدلة جمعها من عدة مناطق واتجاهات تؤكد أن أول عبادة مارسها الإنسان كانت تجاه الله الواحد العظيم.
ويقول الدكتور (الحاج أورانج كاي) من علماء الملايو في إندونيسيا: (عندنا في بلاد (أرخبيل) الملايو دليل أكيد على أن أهل ديارنا هذه كانوا يعبدون الله الواحد، وذلك قبل أن يدخل الإسلام إلى هذه الديار، وقبل أن
تدخل النصرانية.
وفي عقيدة جزيرة (كلمنتان) بأندونيسيا لوثة من الهندوسية ورائحة من الإسلام، مع أن التوحيد كعبادة لأهل هذه الديار كان هو الأصل قبل وصول الهندوسية أو الإسلام إليها.
وإذا رجعنا إلى اللغة الدارجة لأهل هذه الديار قبل استخدام اللغة السنسكريتية أو قبل الهجرة الهندوسية أو دخول الإسلام تأكدنا من أن التصور الاعتقادي لأجدادنا ـ حسب النطق والتعبيرات الموروثة ـ هو: أن الله في عقيدتهم واحد لا شريك له).