الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية
معنى الشرك وأنواعه
معناه اللغوي:
جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس: مادة (الشرك) المكونة من حرف الشين والراء والكاف أصلان:
أحدهما: يدل على مقارنة وخلاف انفراد.
والآخر: يدل على امتداد واستقامة.
أما الأول: فهو (الشرك) بالتخفيف أي بإسكان الراء، أغلب في الاستعمال، يكون مصدرًا واسمًا، تقول: شاركته في الأمر وشركته فيه أشركه شركًا، بكسر الأول وسكون الثاني، ويأتي: شركة، بفتح الأول وكسر الثاني فيها. ويقال: أشركته: أي جعلته شريكًا.
فهذه اشتقاقات لفظ الشرك في اللغة على الأصل الأول.
ويطلق حينئذ على المعاني الآتية:
1 -
المخالطة، والمصاحبة، والمشاركة.
قال ابن منظور: الشَّرْكة والشَّرِكة سواء؛ مخالطة الشريكين، يقال: اشتركنا بمعنى تشاركنا، وقد اشترك الرجلان وتشاركا، وشارك أحدهما الآخر والشريك: المشارك، والشِّرك كالشريك، والجمع أشراك وشركاء.
قال ابن فارس: الشركة هو أن يكون الشيء بين اثنين لا ينفرد به أحدهما، ويقال: شاركت فلانًا في الشيء إذا صرت شريكه، وأشركت فلانًا، فإذا جعلته شريكًا لك، قال تعالى حكاية عن موسى عليه الصلاة والسلام:(وأشركه في أمري)، ويقال في الدعاء:(اللهم أشركنا في دعاء المؤمنين) معنى الآية: اجعله شريكي فيه، ومعنى الدعاء: اجعلنا شركاء في دعائهم.
قال الراغب: الشركة والمشاركة: خلط الملكين، وقيل: هو أن يوجد شيء لاثنين فصاعدًا عينًا كان ذلك الشيء أو معنى، كمشاركة الإنسان والفرس في الحيوانية.
2 -
ويطلق أيضاً على النصيب والحظ والحصة.
قال الأزهري: يقال: شريك وأشراك، كما قالوا: يتيم وأيتام، ونصير
وأنصار، والأشراك أيضًا جمع الشرك وهو النصيب، كما يقال: قسم وأقسام، وقد ذكر هذا المعنى كل من الزبيدي وابن منظور، ومنه الحديث:((من أعتق شركًا له في عبد)) أي حصة ونصيبًا.
3 -
ويطلق أيضًا على التسوية: قال ابن منظور: يقال: طريق مشترك: أي يستوي فيه الناس، واسم مشترك: تستوي فيه معاني كثيرة.
4 -
ويطلق على الكفر أيضاً، قال الزبيدي: والشرك أيضاً: الكفر.
وأما الأصل الثاني: وهو الذي يدل على الامتداد والاستقامة، فأيضًا يطلق على معان:
1 -
الشراك ككتاب، سير النعل على ظهر القدم، يقال: أشركت نعلي وشركتها تشريكًا: إذا جعلت لها الشراك.
2 -
الشرك (بفتحتين) حبالة الصائد، الواحدة منها: شركة، ومنه قيل:(وأعوذ بك من الشيطان وشركه) بفتح الراء.
3 -
الشركة (بسكون الراء): بمعنى معظم الطريق ووسطه
…
جمعها: شرك (بفتحتين).
فهذه هي المعاني لكلمة (الشرك): والكلمات ذات المادة الواحدة غالبًا يكون فيما بينها ترابط في المعنى، فإذا تأملنا مدلولات المادة السابقة نجد الترابط واضحًا بينها، فالمشرك يجعل غير الله مشاركًا له في حقه، فله نصيب مما هو مستحق لله تعالى، فهو سوى بين الله وبين من أشركه في حق الله، بمعنى أنه جعل من تألهه من دون الله مقصودًا بشيء من العبادة، ولا يلزم أن يساوي بين الرب جل وعلا، وبين من أشركه معه في القصد والتعبد من كل وجه، بل يكفي أن يكون في وجه من الوجوه. وهو (الشرك) حبائل الشيطان؛ به يصيد أهله، وهو شبكة إبليس، أدخل أهله فيها، والذي يوجد فيه هذا الشرك لا يعتبر مسلمًا.
وقد جاء في كتاب الشيخ مبارك الميلي (الشرك ومظاهره) ذكر مثل هذا الترابط؛ بأن مرجع مادة الشرك إلى الخلط والضم، فإذا كان بمعنى الحصة من
الشيء يكون لواحد وباقيه لآخر أو آخرين، كما في قوله تعالى:(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ)، فالشريك مخالط لشريكه وحصته منضمة لنصيب الآخر.
وإذا كان بمعنى الحبالة، فإنه ما يقع فيها من الحيوان يختلط بها وينضم إلى ملك الصائد.
وإذا كان بمعنى معظم الطريق، فإن أرجل السائرين تختلط آثارها هنالك وينضم بعضها إلى بعض.
وإذا كان بمعنى سير النعل، فإن النعل تنضم به إلى الرجل فيخلط بينهما.
وإذا كان بمعنى الكفر فهو التغطية، والتغطية نوع من الخلط.
ثم إن اجتماع الشركاء في شيء لا يقتضي تساوي أنصبائهم منه، ولا يمنع زيادة قسط للآخر، فموسى عليه السلام سأل ربه إشراك أخيه في الرسالة، وقد أجيب سؤاله، لقوله تعالى:(قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى)، ومعلوم أن حظ هارون من الرسالة دون حظ موسى، ولهذا تقول: فلان شريك لفلان في دار أو بضاعة، ولو لم يكن له إلا معشار العشر، هذا في الحسيات، ومثله في المعنويات: تقول: الأبوان شريكان في طاعة ابنهما لهما، وإن كان حق الأم في الطاعة أقوى، وتقول: أبنائي شركائي في محبتي، وأنت تحب بعضهم أشد من بعض، فهذا تقرير معنى الشرك في اللغة.
معنى الشرك في الشرع:
لقد اختلفت عبارات العلماء في بيان معنى الشرك في الدين، وإن كانت
هذه العبارات تكمل بعضها الأخرى، وفيما يلي بيان لبعض أقوالهم.
أ- بعض العلماء بدأ بالتقسيم قبل التعريف، ثم عرفه من خلال التعريف بأقسامه، منهم الراغب في المفردات، والذهبي في كتابه الكبائر ـ المنسوب إليه ـ، والإمام ابن القيم في مدارج السالكين.
ب- ومنهم من عرف الشرك في ثنايا كلامه ـ وإن كان التعريف لم يكن مقصودًا بذاته في ذلك الكلام ـ ولهم في ذلك عبارات مختلفة، منها:
1 -
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ: هو (تشبيه للمخلوق بالخالق ـ تعالى وتقدس ـ في خصائص الإلهية، من ملك الضر والنفع، والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده).
2 -
وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب: (هو صرف نوع من العبادة إلى غير الله، أو: هو أن يدعو مع الله غيره، أو يقصده بغير ذلك من أنواع العبادة التي أمر الله بها).
3 -
وقال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله: (هو أن يجعل لله ندًا يدعوه كما يدعو الله، أو يخافه، أو يرجوه، أو يحبه كحب الله، أو يصرف له نوعًا من أنواع العبادة).
4 -
وقال أيضاً: (حقيقة الشرك بالله: أن يُعبد المخلوق كما يعبد الله، أو يعظم كما يعظم الله، أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية). قلت: هذا التعريف شامل لجميع مدلولات الشرك.
5 -
وقيل: (هو كل ما ناقض التوحيد أو قدح فيه، مما ورد في الكتاب والسنة تسميته شركًا).
6 -
وقيل: هو (أن يثبت لغير الله سبحانه وتعالى شيئًا من صفاته المختصة به؛ كالتصرف في العالم بالإرادة الذي يعبر عنه بكن فيكون، أو العلم الذي هو من غير اكتساب بالحواس
…
أو الإيجاد لشفاء المريض واللعنة لشخص والسخط عليه حتى يقدر عليه الرزق أو يمرض أو يشفى لذلك السخط، أو الرحمة لشخص حتى يبسط له الرزق أو يصح بدنه ويسعد
…
).
7 -
وقيل: (الشرك هو أن يعتقد المرء في غير الله صفة من صفات الله؛ كأن يقول: إن فلانًا يعلم كل شيء، أو يعتقد أن فلانًا يفعل ما يشاء، أو يدعي أن
فلانًا بيده خيري وشري، أو يصرف لغير الله من التعظيم ما لا يليق إلا بالله ـ تعالى ـ، كأن يسجد للشخص أو يطلب منه حاجة أو يعتقد التصرف في غير الله).
8 -
وقال الشيخ محمد إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي رحمه الله: (إن الشرك لا يتوقف على أن يعدل الإنسان أحدًا بالله، ويساوي بينهما بلا فرق، بل إن حقيقة الشرك: أن يأتي الإنسان بخلال وأعمال خصها الله ـ تعالى ـ بذاته العلية وجعلها شعارًا للعبودية ـ لأحد من الناس؛ كالسجود لأحد، والذبح باسمه والنذر له، والاستعانة به في الشدة والاعتقاد أنه ناظر في كل مكان، وإثبات التصرف له، كل ذلك يثبت به الشرك ويصبح به الإنسان مشركًا). قلت: هذا التعريف فيه تصور كامل لحقيقة الشرك، ولكنه غير منضبط.
9 -
وقيل: هو (إشراك غير الله مع الله في اعتقاد الإلهية، وفي العبادة). وهذا تعريف مختصر جامع.
10 -
وقال الشوكاني: (إن الشرك هو دعاء غير الله في الأشياء التي تختص به، أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه).
11 -
وقيل: (الشرك: إسناد الأمر المختص بواحد إلى من ليس معه أمره).
قلت: هذا التعريف غير مانع، فإنه ليس كل إسناد مختص بواحد إلى من ليس معه أمره يعد شركًا، بل ربما يكون ظلمًا أو فسقًا.
فهذه ـ كما ترى ـ أقوال العلماء في تصور حقيقة الشرك، بعض منها جامع وليس بمانع، وبعضها ناقص، وبعضها كمثابة التمثيل على بعض ما وقع فيه الناس من أفراد الشرك في العبادة أو في الاعتقاد، وليس المراد: أنهم ما كانوا عارفين بالشرك، ولكن لما كان من دأبهم ذكر النماذج دون إرادة الاستقصاء، ذكروا بعض الجوانب من الشرك، والجوانب الأخرى أشاروا إليها من خلال مصنفاتهم، ومؤلفاتهم، ومن فاته شيء منها ذكره الآخرون منهم، كما هو واضح في كتابتهم ومناظرتهم مع الذين وقعوا في الشرك في زمانهم.
والذي يظهر من هذه الأقوال: أن الشرك حقيقته في اتخاذ الند مع الله، سواء كان هذا الند في الربوبية أو الألوهية.
وبهذا يتفق قول العلماء المحققين في حقيقة الشرك مع قول أصحاب المعاجم بأن أصل الشرك اتخاذ الأنداد مع الله.
فأصل الشرك ـ كما علمنا من البيان السابق ـ ما هو إلا اتخاذ الند مع الله، وهذا ما سيتضح لنا أكثر عند بيان حقيقة الشرك في نصوص القرآن والسنة.
إذا نظرنا إلى حقيقة الشرك في القرآن الكريم نرى: أن الله عز وجل بينها في كتابه بيانًا شافيًا واضحًا لا لبس فيه ولا غموض. فقال تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
معنى الآية: النهي عن اتخاذ الأنداد مع الله بأي وجه من الوجوه، وقد نقل عن السلف في تفسير الآية مثل هذا القول، فمثلاً:
1 -
قال ابن عباس: الأنداد: الأشباه، والند: الشبه، يقال: فلان ند فلان، ونديده: أي مثله وشبهه، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئت: ((أجعلتني لله ندًا))، وكل شيء كان نظيرًا لشيء وشبيهًا فهو له ند.
2 -
قال ابن مسعود: الأنداد: الأكفاء من الرجال تطيعونهم في معصية الله، فهذا المعنى بمعنى الشرك بالله باتباعهم الناس في معصية الله جل وعلا، فقد بين القرآن ذلك فقال:(وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ).
قال الطبري: فإن اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً هو ما كان بطاعة الأتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله، وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا).
وقال الطبري: قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال:((يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك)) فطرحته وانتهيت إليه وهو يقرأ في سورة براءة، فقرأ هذه الآية:(اتخذوا أحبارهم ورهبنهم أرباباً من دون الله). قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدهم، فقال:((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ )). قلت: بلى، قال:((فتلك عبادتهم)). ففي هذا القول أيضاً: إثبات كون الشرك هو اتخاذ الند، فإن من أثبت حق التشريع والتحليل والتحريم لغيره ـ سبحانه ـ فقد أثبت له الند.
3 -
قال عكرمة: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً) (أي تقولوا: لولا كلبنا لدخل علينا اللص الدار، لولا كلبنا صاحٍ في الدار، ونحو ذلك، فنهاهم الله تعالى أن يشركوا به شيئاً، وأن يعبدوا غيره، أو يتخذوا له ندًا وعدلاً في الطاعة، فقال: كما لا شريك لي في خلقكم وفي رزقكم الذي أرزقكم، وملكي إياكم، ونعمتي عليكم، فكذلك فأفردوا لي الطاعة، وأخلصوا لي العبادة، ولا تجعلوا لي شريكًا وندًا من خلقي، فإنكم تعلمون: أن كل نعمة عليكم
مني).
4 -
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الأنداد: الآلهة التي جعلوها معه، وجعلوا لها مثل ما جعلوا له. فمعنى الأنداد على هذا المعنى هي الآلهة، والآلهة عند الكفار بمعنى الشفعاء لهم عند الله، وقد سماهم الله عز وجل شركاء، فقال ـ في الرد على اتخاذهم آلهة ـ:(وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ).
5 -
قال مجاهد: الأنداد: العدلاء.
والعدلاء هنا أيضًا بمعنى الشركاء لله في عبادته، قال الله تعالى:(ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) أي يشركون، ويقال: من مساواة الشيء بالشيء: عدلت هذا بهذا، إذا ساويته به عدلاً.
قال الطبري: يجعلون شريكًا في عبادتهم إياه، فيعبدون معه الآلهة والأنداد والأصنام والأوثان، وليس منها شيء شاركه في خلق شيء من ذلك، ولا في إنعامه عليهم بما أنعم عليهم، بل هو المنفرد بذلك كله وهم يشركون في عبادتهم إياه غيره.
6 -
قال الطبري: الأنداد جمع ند، والند: العدل، والمثل.
والمقصود: أن اتخاذ الشبيه والكفؤ لله يسمى شركًا بالله، ولهذا أخبر
سبحانه وتعالى أنه لم يكن له كفؤ ولا شبيه ولا نظير، لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، قال تعالى:(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ). قال أبو العالية في معنى الآية: لم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شيء، أي كيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه، تعالى وتقدس وتنزه، وهو الواحد الأحد، لا نظير له ولا وزير ولا نديد، ولا شبيه ولا عديل.
هكذا بيَّن الله في كتابه حقيقة الشرك بالله بيانًا واضحًا، وهو: اتخاذ الند مع الله، وكل ما ذكر في معاني الند من الكفؤ، والشبيه، والمثل، والعدل، والآلهة، كلها معاني متقاربة تدل على معنى الشرك بالله، والتي تدل صراحة أن الشرك في الحقيقة: اتخاذ الند بمعنى الشبيه لله عز وجل كما سيأتي.
كما أن هذا المعنى هو المستفاد من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي فيها بيان حقيقة الشرك، والدليل عليه:
1 -
ما روى الشيخان عن ابن مسعود قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك))
…
الحديث.
2 -
ما رواه مسلم أيضاً عنه: قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الذنب أكبر عند الله؟ قال:((أن تدعو لله ندًا وهو خلقك))
…
الحديث ـ وفي آخره ـ فأنزل الله عز وجل تصديقها: (والذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما).
3 -
وروى الشيخان عن أبي بكرة قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر: ـ ثلاثاً ـ الإشراك بالله
…
)) الحديث.
ففي هذا الحديث ذكر أكبر الكبائر بأنه الشرك، فهو بمثابة التفسير للند المذكور في الحديثين السابقين.
وبهذا يحصل لنا حقيقة الشرك بلسان الرسول عليه الصلاة والسلام؛ حيث فسر اتخاذ الند بالشرك، بأن الشرك أكبر المعاصي وأكبر الكبائر، وهو أن تجعل لله ندًا ومثلاً وشبيهًا وعديلاً في العبادة وكفؤًا في الطاعة، فمن جعل لله ندًا وشبيهًا فقد أشرك.
وأيضاً اتضح لنا من خلال ما ذكرنا: أن الشرك إنما هو اتخاذ الند والشبيه لله من
خلقه فيما يستحقه عز وجل من الإلهية والربوبية، فمن صرف شيئًا من هذه الخصائص لغيره فهو مشرك، فأصل الشرك وحقيقته إنما هو في التشبيه والتشبه.
قال ابن القيم: (حقيقة الشرك: هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به،
…
). فالمشرك مشبه للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية.
فإن من خصائص الإلهية:
1 -
التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده، فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، ومن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات، بالقادر الغني بالذات.
2 -
ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوبة والتوكل والاستعانة، وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلاً وشرعًا وفطرة أن يكون لغيره، فمن جعل شيئًا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له، ولا مثيل له، ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله.
3 -
ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية. فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبه به في خالص حقه.
4 -
ومن خصائص الإلهية: السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به، وهكذا:
5 -
التوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به.
6 -
والتوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.
7 -
والحلف باسمه تعظيمًا وإجلالاً له، فمن حلف بغيره فقد شبهه به.
8 -
والذبح له، فمن ذبح لغيره فقد شبهه به.
9 -
وحلق الرأس (تعبدًا
…
)، إلى غير ذلك.
كل هذا في جانب التشبيه.
وأما في جانب التشبه به: (تشبه المخلوق بالخالق) فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفاً ورجاءً والتجاءً واستعانةً، فقد تشبه الله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابًا يوم القيامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((أشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم)) وذلك لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن
بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟ !
وفي الصحيحين عنه صىلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا ذرّة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة))، فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منهما وأكبر.
والمقصود: أن هذا حال من تشبه به في صنعة صورة، فكيف حال من تشبه به في خواص ربوبيته وإلهيته، مثلاً:
1 -
العظمة والكبرياء، ولهذا جاء في الصحيح أنه عليه السلام قال:((يقول الله عزوجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدًا منهما عذبته)).
2 -
وكذلك من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا لله وحده، كملك الأملاك، وحاكم الحكام ونحوه، وقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((إن أخنع الأسماء عند الله رجل يُسمى بشاهنشاه ـ أي ملك الملوك ـ لا ملك إلا الله))، وفي لفظ:((أغيظ رجل على الله رجل يسمى بملك الأملاك)).
فهذا مقت الله وغضبه على من تشبه به في الاسم الذي لا ينبغي إلا له، فإنه سبحانه ملك الملوك وحده، لا غيره.
(وبالجملة: فالتشبيه والتشبه هو حقيقة الشرك، ولذلك كان من ظن أنه إذا تقرب إلى غيره بعبادة ما، يقربه ذلك إليه تعالى، فإنه يخطئ لكونه شبهه به، وأخذ ما لا بنيغي أن يكون إلا له، فالشرك منعه سبحانه وتعالى حقه، فهذا قبيح عقلاً وشرعًا، ولذلك لم يشرع ولم يغفر لفاعله).
فعلمنا من هذا البيان الطويل أن حقيقة الشرك في الدين بنصوص القرآن والسنة وأقوال سلف هذه الأمة: اتخاذ الند والشبيه والمثل والعديل مع الله سبحانه، وذلك إما:
باتخاذ الند في الربوبية بالتعطيل أو بالأنداد والتمثيل، أو باتخاذ الند في العبادة.
فهذا مجمل البيان في أنواع الشرك في ضوء نصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة.
مفهوم ضال في معرفة حقيقة الشرك:
لقد تغير هذا المفهوم عند بعض المتكلمين، والمتصوفة، فإنه لما كان التوحيد عندهم أمر اعتقادي بحت، فإن الشرك في الإرادة (إرادة غير الله
بالعبادة أو بطلب النفع أو دفع الضرر) إذا لم يتضمن الشرك في الاعتقاد لا يكون شركًا عندهم.
فاتخاذ الوسائط بالسؤال والطلب ليس شركًا عندهم بمجرد طلب غير اله ما لا يقدر عليه إلا الله ـ مثلاً ـ بل لابد أن يتضمن ذلك اعتقاد استقلالية المطلوب منه وقدرته على الاختراع (الذي هو حقيقة الألوهية عندهم).
وهكذا: صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله ليس شركًا لذاته ـ عندهم ـ إلا إذا تضمن استحقاق العبادة لمن صرفت له.
ولهذا يقولون في تعريف الشرك:
1 -
(الذي يقدح في التوحيد هو اعتقاد التأثير لغير الله، أو اعتقاد الألوهية واستحقاق العبادة لغير الله، وأما مجرد النداء من غير اعتقاد شيء من ذلك فلا ضرر فيه).
2 -
(الشرك والعبادة لا يتحققان إلا باعتقاد الربوبية لغيره تعالى، والاستقلال بالنفع والضر والإيجاد والخلق ونفوذ المشيئة لا محالة، والتأثيرات بالذات دون الحاجة إلى الغير، فليس من المسلمين الموحدين المستغيثين بالصالحين شرك، وهم برآء من الشرك).
3 -
(الذي يوقع في الإشراك هو اعتقاد الألوهية غير الله سبحانه، أو اعتقاد التأثير لغير الله ولا يعتقد أحد من المسلمين ألوهية غير الله، ولا تأثير أحد سوى الله).
وعلى هذا: فكل من انتسب إلى الإسلام لا يتصور ـ عندهم ـ وقوع الشرك منه، فالشرك ينحصر عندهم في الأمور التالية:
1 -
أن يشرك في الربوبية والخلق والتدبير والإيجاد والإحياء والإماتة ونحوها، أو:
ب- اعتقاد التأثير لغير الله بالاستقلال فيه بالنفع والضر بنفسه وبذاته، ونفوذ المشيئة له لا محالة، وتأثيره في الكائنات من تلقاء نفسه بدون حاجته إلى الله تعالى، أو:
ج - إذا صاحب الشرك اعتقاد الألوهية واستحقاق العبودية لغير الله.
ولهذا قال بعضهم: (المستغيث لا يعتقد أن المستغاث به من الخلق مستقل في أمر من الأمور غير مستمد من الله تعالى أو راجع إليه، وذلك مفروغ منه، ولا فرق في ذلك بين الأحياء والأموات، فإن الله خالق كل شيء).
وقال آخر: (وأنت إذا نظرت إلى كل فرد من المسلمين ـ عامتهم وخاصتهم ـ لا تجد في نفس أحد منهم غير مجرد التقرب إلى الله لقضاء حاجتهم الدنيوية والأخروية بالاستغاثات، مع علمهم بأن الله هو الفعال المطلق المستحق للتعظيم بالأصالة وحده لا شريك له).
الرد: تعريفهم لحقيقة الشرك بما ذكر، باطل عقلاً ونقلاً.
وقد سبق بيان حقيقة الشرك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار السلفية مما فيه كفاية، ولنا عود ـ إن شاء الله ـ إلى هذا الموضوع في الباب الرابع عند بيان شبهات القبورية وردها.
بقي أن أقول: إن الحقيقة التي يجب التأكيد عليها هنا: أنه لم يقع في تاريخ البشرية الشرك باعتقاد استقلال أحد غير الله بالخلق والإيجاد، إلا ما يذكر عن الفلاسفة الذين يرون: أن الموجودات قد وجدت بطريق السببية الضرورية الحتمية من ذات الموجودات لا من خلق الله وتدبيره، الذي ليس له عندهم أي علاقة بالعالم لا علمًا ولا إرادة ولا قدرة.
أما الشرك الذي وقع فيه الجماهير من الناس قديمًا وحديثًا فهو شرك الطلب من غير الله تعالى ما لا يطلب إلا من الله، لا على سبيل أن من يطلب منه العطاء والرزق مالك له على سبيل الاستقلال والخلق، بل على سبيل أن من يطلب منه ذلك قريب من الله جاهًا ومنزلة، وأنه لذلك يعطي من يشاء ما يشاء بمجرد إرادته هو.
وهكذا لم يقع عن أحد من المشركين قديمًا ـ الذين أرسل إليهم الرسل ـ اعتقاد أن غير اله يستحق العبادة لذاته، وذلك: أن شرك العبادة لا يتضمن الشرك في الربوبية؛ لأن شرك العبادة متعلق بالإرادة ولازمها من العمل، وأما شرك الربوبية فمتعلق بالاعتقاد وإثبات الكمال لله في ذاته وصفاته وأفعاله.
ولهذا ذكر الله عن المشركين أنهم يعتقدون أن الله هو المتفرد بتدبير الأمور، لكنهم أشركوا بالله من جهة التوسط في الطلب أو في العبادة، والآيات
الدالة على هذا المعنى كثيرة، من أبرزها قوله تعالى:(ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله)، وقوله تعالى:(قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)، وقوله تعالى:(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)).
فكما أن اعتقاد كون الله متفردًا بالكمال في ذاته وصفاته وأفعاله لا يكفي لتحقيق التوحيد بل لابد من إرادة الله وحده بالقصد والعمل، فكذلك ليس الشرك محصورًا في الاعتقاد، بل هو شامل للشرك في الإرادة المستلزمة للعمل، بل إن الشرك في الإرادة هو حقيقة الشرك الذي أرسل الله الرسل وأنزل الكتب من أجل إخراج الناس منه إلى توحيده وعبادته وحده، فالعبادة ليست مجرد اعتقاد.
وغالب ما يكون من الذبح وتقريب القرابين والنذور لغير الله، فالغاية منه استجلاب الخير واستدفاع الضر عمن عبد بذلك.
وهذا الشرك مع أنه استعاثة بغير الله تعالى ففيه عبادة غير الله بالتقرب والنسك الذي لا ينبغي صرفه إلا لله وحده، فهو ضلال وشرك في الطلب والعبادة معًا، ولهذا ترى أن الله عز وجل نفى أن ينفع المعبودون عابديهم، بل نفى الضر أيضًا، وأن ذلك كله لله وحده، لا يملكه سواه، فلا يطلب غيره ولا يعبد
غيره.
وبهذا يتبين: أن شرك العبادة ليس شركًا اعتقاديًا يستلزم أن يكون المعبود عند من عبده مستحقًا للعبادة من دون الله، وإنما شرك في إرادة غير الله بالعبادة، ولو كان من تحقق منه ذلك معتقداً أن الله هو الذي يستحق العبادة، وإنما يصرفها لغيره على جهة التوسط إلى الله لكان بذلك مشركًا به، سواءً كان ذلك التوسط بالشفاعة عنده في قبول العبادة، أو في قبول الشفاعة مطلقًا، أو رجاء نفع المعبود مع اعتقاد أنه ليس له التدبير والتصريف، وأن ذلك كله لله، لكن لجاه المعبود في ذلك ـ بحسب ظن المشرك ـ صرف له العبادة التي هي حق الله الخالص.
فعلى هذا: (كما يكون الشرك بالاعتقاد، كذلك يكون بالإرادة والعمل، ولا فرق). فلا يحتاج إلى اشتراط مصاحبة اعتقاد الألوهية أو استحقاق العبودية لمن يعبده لكونه شركًا.
الآثار المترتبة على الخطأ في معرفة حقيقة الشرك عند المتأخرين:
لقد نتج عن سوء فهمهم لحقيقة الشرك مفاسد عظيمة، منها:
1 -
كل ما لا يؤدي إلى الشرك في الربوبية، والخلق والتدبير، والإحياء والإماتة، وكل ما لا يؤدي إلى اعتقاد التأثير لغير الله بالاستقلال فيه بالنفع والضر، ونفوذ المشيئة، وكل ما لا يصاحبه اعتقاد الألوهية واستحقاق العبودية لغير الله لا يكون شركًا ـ عندهم ـ ولو كان سجودًا أو استغاثة أو نذرًا أو ذبحًا، أو غيرها.
2 -
محاولة تغيير بعض الحقائق الشرعية لما رأوا أنها تسمى شركًا في
النصوص، فمنها: قولهم في تبرير اشتراط تاثير الله بالاستقلال، لما رأوا النصوص الشرعية تخالفهم في ذلك ـ بل وصفت النصوص اعتقاد التأثير لغير الله بدون الاستقلال بالنفع والضر أيضًا بالشرك ـ قالوا: إن المشركين لم يكونوا صادقين في قولهم: إن الله هو الخالق وهو مدبر الأمر! ! ، ولم يكونوا جادين في أنهم يعبدون غير الله من أجل التقرب والشفاعة، لا على جهة استحقاق العبادة من دون الله.
ومنها قولهم: إذا وجد في كلام المؤمنين إسناد شيء لغير الله تعالى يجب حمله على المجاز العقلي، ولا سبيل إلى تكفيرهم، فإذا قال العامي من المسلمين: نفعني النبي أو الصحابي أو الولي، فإنما يريد الإسناد المجازي، والقرينة عليه أنه مسلم.
ومنها: أنهم لما قالوا في التوحيد بأنه مجرد اعتقاد تفرد الله في ذاته وصفاته وأفعاله، وأن الإله هو القادر على الاختراع، وبالتالي: إن مجرد الطلب، والتقرب إلى غير الله بالعبادة لا يكون شركًا لذاته ـ عندهم ـ ما لم يتضمن شرك الاعتقاد، عارضتهم النصوص التي فيها إطلاق الشرك على الطلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله، وإطلاق الشرك أيضًا على عبادة غير الله، قالوا في الجواب عن هذا الإشكال: إن لنا فيه تخريجين:
الأول: أن ذلك مقيد بالشرك في الاعتقاد، لا بمجرد الإرادة والعمل.
الثاني: أن ذلك شرك ولكنه شرك أصغر، فهو من المعاصي التي لا يخرج
فاعلها عن الملة.
ومنهم قولهم: إن الاستغاثة بغير الله هو التوسل به، وجعلهما مترادفين، والاستدلال بجواز أحدهما في بعض الصور على جواز الآخر من غير تفريق.
ومنها: قولهم: إن الدعاء الوارد في الآيات (التي فيها ذكر الشرك بالدعاء) إنما هو عبادة لا طلب ومسألة، وفرق بين العبادة والمسألة.
ومنها: جعلهم توحيد الربوبية هو الغاية، وقد تمت الإجابة عليه فيما سبق.
ومنها: عدم التفريق بين توحيد الربوبية والألوهية، نتيجة عدم التفريق بين الرب والإله.
ومنها: اتهامهم أهل السنة بإنزال الآية التي نزلت في الكفار على المسلمين.
وستأتي الردود على هذه الأقوال مفصلة في الباب الرابع ـ إن شاء الله ـ عند ذكر شبهات القبوريين وردها.
أنواع الشرك
تنوعت عبارات أهل العلم في بيان أنواع الشرك، ولكنها لا تخرج عن المدلول الشرعي للشرك الذي سبق معنا، فمن عباراتهم في بيان أنواع الشرك ما يلي:
أ- أن الشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر.
ب- ويقول بعضهم: إنه على ثلاثة أقسام: أكبر، وأصغر، وخفي.
ج- والبعض يقسمه حسب أجزاء التوحيد الثلاثة.
د- وبعضهم يقسمه إلى نوعين: الشرك في الربوبية، والشرك في الألوهية، ويدخل الشرك في الأسماء والصفات ضمن النوع الأول.
هذه الأقوال ليست متباينة، بل بعضها يوافق بعضًا، فمن قسم الشرك إلى قسمين: أكبر وأصغر، نظر إلى حقيقة الشرك وأحكامه من حيث خروجه من الإسلام وعدم خروجه. والذي قسم الشرك إلى ثلاثة أنواع: الأكبر والأصغر والخفي، فإنه لم يخالف القول السابق؛ لأنه إنما أراد إظهار أهمية الشرك الخفي، وإلا فالشرك الخفي داخل تحت النوعين السابقين، فإن الشرك الخفي
بعضه من الشرك الأكبر المخرج من الملة، وبعضه من الشرك الأصغر الذي هو أكبر من المعاصي (الكبائر) ولكنها لا تخرج من الملة، وإنما أراد من أبرزها كنوع ثالث بيان خفائها على كثير من الناس وكثرة وقوعها، كما سيأتي بيانه فيما بعد.
أما الذي قسمه حسب أنواع التوحيد الثلاثة والذي قسمه إلى نوعي الشرك في الربوبية والشرك في الألوهية فليس بينهما إلا إجمال وتفصيل.
فهذه الأقوال صحيحة وشاملة. وهناك أقوال أخرى للعلماء في بيان أنواع الشرك، وهي غير شاملة، منها:
هـ - أن أقسام الشرك أربعة:
الأول: شرك الاحتياز: وهو أن يكون غير الله مالكًا لشيء يستقل به، ولو كان في الحقارة مثقال ذرة.
الثاني: شرك الشياع: أن يكون لغيره نصيب يشاركه فيه، كيفما كان هذا النصيب في المكان والمكانة.
الثالث: شرك الإعانة: وهو أن يكون له ظهير ومعين من غير أن يملك معه، كما يعين أحدنا مالك متاع على حمله مثلاً.
الرابع: شرك الشفاعة: وهو أن يوجد من يتقدم بين يديه يدل بجاهه، ليخلص أحدًا بشفاعته.
ويبدو ممن قال بهذا القول: أنه قسم الشرك حسب متعلقه وحسب باعث الناس على الشرك، وهذه الأنواع كلها داخلة تحت الشرك الأكبر، وهذه من
أفراده، وكان قد أخذه من قوله تعالى:(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)
و- وقال بعضهم: إنه على ستة أنواع:
1 -
شرك الاستقلال: وهو إثبات شريكين مستقلين، كشرك المجوس.
2 -
شرك التبعيض: وهو تركيب الإله من آلهه كشرك النصارى.
3 -
شرك التقريب: وهو عبادة غير الله إلى الله زلفى، كشرك متقدمي الجاهلية.
4 -
شرك التقليد: وهو عبادة غير الله تبعًا للغير، كشرك متأخري الجاهلية.
5 -
شرك الأسباب: وهو إسناد التأثير للأسباب العادية، كشرك الفلاسفة، والطبائعيين، ومن تبعهم في ذلك.
6 -
شرك الأغراض: وهو العمل لغير الله.
يلاحظ أن أقسام الشرك التي ذكرها هي مجرد صور للأعمال الشركية التي تقع في بعض المجتمعات الإسلامية لعموم الجهل، وهناك صور أخرى للشرك لم يتعرض لها، ولا يمكن حصر جميع الصور بهذه الطريقة.
ز- وهناك تقسيم للإمام ابن القيم رحمه الله ذكره في كتابه: ((الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي))، يمكن أن يوصف بأنه أكثر دقة في استقصاء أنواع الشرك؛ حيث قال: (الشرك شركان: شرك يتعلق بذات
المعبود، وأسمائه وصفاته وأفعاله، وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه ـ سبحانه ـ لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله). ثم بدأ الإمام في بيان التفريعات فيهما.
التقسيم المختار:
ولعل التقسيم الذي يجمع بين هذه التقسيمات هو أن يقال:
الشرك على نوعين: أكبر، وأصغر.
أما الأكبر:
فهو أن يتخذ شريكًا أو ندًا مع الله ـ تعالى ـ في ذاته أو في أسمائه وصفاته، أو أن يعدل بالله ـ تعالى ـ مخلوقاته في بعض ما يستحقه وحده.
أو يقال: هو أن يجعل الإنسان لله ندًا في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته.
وهو من حيث تعلقه بالتوحيد ينقسم قسمين:
القسم الأول: شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله (الشرك في الربوبية والأسماء والصفات).
تعريف الشرك في الربوبية:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أما النوع الثاني: فالشرك في الربوبية، فإن الرب سبحانه هو المالك المدبر، المعطي المانع، الضار
النافع، الخافض الرافع، المعز المذل، فمن شهد أن المعطي أو المانع، أو الضار أو النافع أو المعز أو المذل غيره، فقد أشرك بربوبيته).
وقال في موضع آخر: (فأما الأول ـ الشرك في الربوبية ـ فهو إثبات فاعل مستقل غير الله، كمن يجعل الحيوان مستقلاً بإحداث فعله، ويجعل الكواكب، أو الأجسام الطبيعية، أو العقول أو النفوس، أو الملائكة، أو غير ذلك مستقلاً بشيء من الأحداث، فهؤلاء حقيقة قولهم: تعطيل الحوادث عن الفاعل
…
).
أو بعبارة مختصرة يقال: من أشرك مع الله غيره في خصائص الربوبية أو أنكر شيئًا منها، أو شبهه بغيره، أو شبه غيره به، يعد مشركًا بالله، سواء كان في ذاته أو أفعاله أو أوصافه.
وهذا الشرك ينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفورًا.
وهو على نوعين:
النوع الأول: شرك التعطيل؛ وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال:(وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)، وقال تعالى مخبرًا عنه ما قال لهامان:(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً).
وإنما قلنا لهذا التعطيل بأنه شرك؛ لأن الشرك والتعطيل متلازمان، فكل
معطل مشرك، وكل مشرك معطل، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقرًا بالخالق سبحانه وصفاته، ولكنه عطل حق التوحيد وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها هو التعطيل، وهو على ثلاثة أقسام:
1 -
تعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه، ومنه شرك الملاحدة القائلين بقدم العالم وأبديته، وأنه لم يكن معدومًا أصلاً، بل لم يزل ولا يزال، والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى أسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها بالعقول والنفوس، ومنه الإلحاد بإنكار الخالق للكون.
2 -
تعطيل الصانع ـ سبحانه ـ عن كماله المقدس بتعطيل أسمائه وأوصافه وأفعاله، ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب تعالى وأوصافه وأفعاله من غلاة الجهمية، والقرامطة، فلم يثبتوا له اسمًا ولا صفة، بل جعلوا المخلوق أكمل منه؛ إذ كمال الذات بأسمائه وصفاته.
ويدخل في ذلك شرك منكري الرسالة للرسل، وشرك منكري القدر، وشرك التشريع والتحليل والتحريم من غير الله.
3 -
تعطيل معاملته عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد: ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود الذين يقولون: ما ثمَّ خالق ومخلوق، ولا هاهنا شيئان، بل الحق المنزه هو عين الخلق المشبه.
النوع الثاني: شرك الأنداد من غير تعطيل: وهو من جعل مع الله إلهًا آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته، ومن ذلك:
1 -
شرك النصارى الذين جعلوا ثالث ثلاثة، فجعلوا المسيح إلهًا، وأمه إلهًا.
2 -
شرك المجوس: القائلين بإسناد حوادث الخير إلى النور وحوادث الشر إلى الظلمة.
3 -
شرك القدرية: القائلين بأن الحيوان هو الذي يخلق أفعال نفسه، وأنها تحدث بدون مشيئة الله وقدرته، ولهذا كانوا أشباه المجوس.
4 -
شرك الذي حاج إبراهيم في ربه (إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ)، فهذا جعل نفسه ندًا لله تعالى، يحيي ويميت بزعمه، كما يحيي الله ويميت، فألزمه إبراهيم أن طرد قولك أن تقدر على الإتيان بالشمس من غير الجهة التي يأتي بها الله منها، وليس هذا انتقالاً كما زعم بعض أهل الجدل، بل إلزامًا على طرد الدليل إن كان حقًا.
5 -
شرك فرعون حينما قال: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) وقوله تعالى حكاية عن قول قومه له: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، كما هو في
بعض القراءات.
6 -
وأيضاً من هذا النوع شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات، ويجعلها أربابًا مدبرة لأمر هذا العالم، كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم.
7 -
ومن هذا النوع: شرك من أسند النعمة إلى غير الله، قال تعالى:(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً).
8 -
ومن هذا شرك عباد الشمس، وعباد النار، وغيرهم، فمن هؤلاء من يزعم أن معبوده هو الإله على الحقيقة، ومنهم من يزعم أنه أكبر الآلهة، ومنهم من يزعم أنه إله من جملة الآلهة، وأنه إذا خصه بعبادته والتبتل إليه والانقطاع إليه أقبل عليه واعتنى به، ومنهم من يزعم أن معبوده الأدنى يقربه إلى المعبود الذي هو فوقه، والفوقاني يقربه إلى من هو فوقه حتى تقربه تلك الآلهة إلى الله سبحانه وتعالى! ! فتارة تكثر الآلهة والوسائط وتارة تقل.
فيستنتج مما سبق أن هذا القسم من الشرك ينقسم قسمين:
1 -
نوع في توحيد الربوبية، ويكون من وجهين:
أ- بالتعطيل، وذلك:
إما بالإلحاد، كقول فرعون:(وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)، ويدخل فيه الشيوعية والاشتراكية والقومية وغيرها من الاتجاهات الهدامة التي تجددت.
وإما بتعطيل المصنوع عن صانعه: كالقول بقِدَم العالم.
وإما بتعطيل معاملة الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد: كالقول بوحدة الوجود.
وإما تعطيل الصانع عن أفعاله: كمنكري إرسال الرسل، ومنكري القدر، ومنكري البعث والنشور، وغيرها.
ب- بالأنداد، وذلك:
إما بدعوى التصرف في الكون من الغير كمشركي قوم إبراهيم الصابئة، والمتصوفة القائلين بالغوث والقطب والأوتاد، والأبدال وتصرفهم كما يدّعون.
وإما بإعطاء السلطة لأحد غير الله في التحليل والتحريم، كما كان في النصارى، وفي بعض حكام هذه الأمة، والقوانين الوضعية وغيرها.
وإما بدعوى التأثير في الكون من النجوم والهياكل، كالصابئة من قوم إبراهيم، أو الأولياء، أو التمائم والأحجبة.
2 -
نوع في توحيد الأسماء والصفات، وذلك من وجهين أيضًا:
أ- بالتعطيل: وذلك بتعطيل الصانع عن كماله المقدس: كالجهمية الغلاة، والقرامطة الذين أنكروا أسماء الله عز وجل وصفاته.
ب- بالأنداد:
1 -
إثبات صفات الصانع للمخلوقين: وذلك؛ بالتمثيل في أسمائه أو صفاته، كالشرك في علم الباري المحيط، ويدخل في ذلك: التنجيم، والعرافة والكهانة، وادعاء علم المغيبات لأحد غير الله، وكالشرك في قدرة الله الكاملة، وذلك بادعاء التصرف للغير في ملكوت الله، وخوف الضرر أو
التماس النفع من الغير، أو بالاستغاثة من الغير، أو تسمية غيره غوثًا، أو بالسحر والتسحر وغيرها.
2 -
أو بإثبات صفات المخلوق للصانع جل وعلا: كاليهود المغضوب عليهم الذين شبهوا اله بصفات المخلوقين، وهكذا النصارى في قولهم بالبنوة والأبوة وما إلى ذلك من صفات المخلوقات لله جل وعلا، ويدخل في هذا النوع كل من شبه الله بخلقه ومثلّه بهم من هذه الأمة.
وكل هذه الأنواع السالفة الذكر يعتبر من الشرك الأكبر، وينقسم إلى كبير وأكبر، وليس شيء منه مغفورًا باتفاق العلماء.
وأما القسم الثاني: فهو الشرك بمعناه الخاص (الشرك في الألوهية والعبادة):
وهو شرك في عبادة الله، وإن كان صاحبه يعتقد أنه ـ سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله، وهو الذي يسمى بالشرك في العبادة، وهو أكثر وأوسع انتشارًا ووقوعًا من الذي قبله، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، ولكن لا يخلص لله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة أخرى، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب.
وهذا حال أكثر الناس، ومعلوم أن من لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به، بل الذي أتى به شيء غير الذي أمر به، فلا يصح، ولا يقبل منه، قال الله
عز وجل ـ كما في الحديث القدسي: ـ ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريء))، ويقول أصحاب هذا الشرك مخاطبين لآلهتهم وقد جمعهم الجحيم:(تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98))، ومعلوم أنهم ما سووهم به في الخلق والرزق والإماتة والإحياء، والملك والقدرة، وإنما سووهم في الحب والتأله والخضوع لهم والتذلل والتعظيم.
وقبل أن ندخل في بيان أنواع الشرك في الألوهية أو العبادة يحسن بنا أن نتعرف على معنى العبادة في مفهوم الشرع.
فالعبادة في الشرع: أصلها مأخوذة من معناها اللغوي الذي هو الذل والخضوع.
قال الأزهري: معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، يقال: طريق معبد إذا كان مذللاً بكثرة الوطء، ويعبر معبد إذا كان مطليًا بالقطران.
وقال الجوهري: أصل العبودية: الخضوع والذلة، والتعبيد: التذليل، والعبادة: الطاعة، والتعبد: النسك.
وأما الإطلاق الشرعي للعبادة:
فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تعريف العبادة الشرعية بأن: (العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة).
وقيل: (هي عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف)، لأن الحب الكامل مع الذل التام يتضمن طاعة المحبوب والانقياد له، فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فطاعة العبد لربه تكون بحسب محبته وذله له.
وقيل: (هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور).
وقال ابن حبان: (عبادة الله: إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح).
ولعل الأصل في اختلاف العبارات بين السلف في تعريف العبادة يرجع
إلى شيئين اثنين، هما:
أن العبادة تطلق مصدرًا وتعنى بها التعبد بمعنى فعل العابد.
وتطلق اسمًا وتعني بها: المتعبد به.
فالعبادة تعريفها على المعنى الأول: (التذلل لله محبة وتعظيمًا بفعل أوامره واجتناب نواهيه على الوجه الذي جاءت به شرائعه)، وعليه يحمل قول شيخ الإسلام في تعريفها بأنها:(تجمع كمال الحب مع كمال الذل).
وقول الإمام ابن القيم: (التعبد هو غاية الحب وغاية الذل)، وقوله:(عبادة الله وحده هي كمال محبته والخضوع والذل له)، وقوله:(العبودية مدارها على قاعدتين هما أصلها: حب كامل وذل تام)، وقوله:(التعبد: الحب مع الخضوع والذل).
وقول ابن كثير: (هي عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف).
وقول الحافظ ابن رجب: (من أحب شيئًا وأطاعه وكان غاية قصده ومطلوبه، ووالى لأجله وعادى لأجله، فهو عبده، وكان ذلك الشيء معبوده وإلهه).
والمقصود: إذا كانت العبارة بمعنى فعل العابد فإنها حينئذ بمعنى (غاية الحب مع غاية الذل والخضوع)، قال ابن القيم: (فمن أحببته ولم تكن خاضعًا له، لم تكن عابدًا له، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابدًا له، حتى تكون محبًا خاضعًا، ومن هاهنا كن المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية، والمنكرون لكونه محبوبًا لهم
…
منكرين لكونه إلهًا
…
).
وقال شيخ الإسلام: (المقصود: هو أن الخلة والمحبة لله تحقيق عبوديته، وإنما يغلط من يغلط في هذه من حيث يتوهم أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط، لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط في الأهواء أو إدلال لا تحتمله الربوبية).
فإذا كانت العبادة (بمعنى التعبد أي فعل العباد) هي الطاعة المصحوبة بأقصى الخضوع الممزوج بغاية الحب، ففي أي شيء تكون هذه الطاعة؟ هذا ما يذهب بنا إلى أن نتعرف على معنى العبادة على الاسمية، أعني حسب المتعبد به، فأقول:
أما العبادة باعتبارها اسمًا فتعني: المتعبد به، وتعريفها حينئذٍ:(اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة).
قال شيخ الإسلام: (فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته والخوف لعذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله
…
)، وقال في موضع آخر: (ومن عبادته وطاعته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
…
والجهاد في سبيل الله
…
).
وقال في موضع آخر: (ويدخل في العبادة: الخشية والإنابة، والإسلام والتوبة).
وقال: (وأصناف العبادات: الصلاة بأجزائها مجتمعة؛ وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها من السجود، والركوع، والتسبيح، والدعاء، والقراءة، والقيام، لا يصلح إلا لله وحده
…
وكذلك الزكاة العامة من الصدقات كلها والخاصة، لا يتصدق إلا لله
…
وكذلك الحج، لا يحج إلا إلى بيت الله، فلا يطاف إلا به ولا يحلق الرأس إلا به، ولا يوقف إلا بفنائه،
…
وكذلك الصيام، لا يصام عبادة إلا لله
…
).
والمقصود: إن العبادة بمعنى المتعبد به هي ما قال شيخ الإسلام في
موضع آخر: (طاعة الله بامتثال ما أمر الله به على ألسنة الرسل)، وقال أيضًا:(فكل ما أمر الله عباده من الأسباب فهو عبادة).
وهو المقصود بقول الإمام ابن القيم: (فهي ـ العبادة ـ تتحقق باتباع أمره واجتناب نهيه).
وقول ابن حبان: (عبادة الله: إقرار باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح).
وقول الحافظ ابن كثير: (هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور) ومثله عن الحافظ ابن حجر في الفتح.
قال ابن القيم في توضيح هذا المعنى: (وبني (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ـ أي العبادة ـ على أربع قواعد: التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه، من قول اللسان والقلب، وعمل القلب والجوارح، فالعبودية اسم جامع لهذه المراتب الأربع. فأصحاب (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) حقًا هم أصحابها.
فقول القلب: هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه، وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله.
وقول اللسان: الإخبار عنه بذلك، والدعوة إليه، والذب عنه، وتبيين
بطلان البدع المخالفة له، والقيام بذكره، وتبليغ أوامره.
وعمل القلب: كالمحبة له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، والخوف منه، والرجاء له، وإخلاص الدين له، والصبر على أوامره، وعن نواهيه، وعلى أقداره، والرضى به وعنه، والمعاداة فيه، والذل له والخضوع، والإخبات إليه، والطمأنينة به، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضها ـ أفرض من أعمال الجوارح
…
وأعمال الجوارح: كالصلاة والجهاد، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات، ومساعدة العاجز، والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك).
ثم قال: (ورحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة: من كملها كمل مراتب العبودية، وبيانها: أن العبودية منقسمة على القلب واللسان والجوارح، وعلى كل منها عبودية تخصه، والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح
…
وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح).
فعلمنا أن جميع أمور الديانة من الاعتقاد والإرادات والأقوال والأعمال داخلة في مسمى العبادة، فالعبادة في الإسلام مفهومها شامل وواسع جدًا.
فهي تشمل الدين كله كما تشمل الحياة كلها، وكيان الإنسان كله.
يظهر هذا من إجابة شيخ الإسلام ـ السابق ذكرها ـ لما سئل عن قول الله عز وجل: (يأيها الناس اعبدوا ربكم) ما العبادة؟ وما فروعها؟ وهل مجموع
الدين داخل فيها أم لا؟ فأجاب رحمه الله بالجواب السابق ذكره، وهو: (العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة
…
)، واستدل على هذا القول بحديث جبريل الذي فيه تسمية الإسلام والإيمان والإحسان بالدين، حيث جاء في آخره:((هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم))، فجعل هذا كله من الدين.
أركان العبادة:
والمقصود هنا بيان أركان العبادة من حيث التعبد (فعل العابد):
يتضح مما سبق من تعريف العبادة من حيث فعل العابد: أن لها ركنين وهما: كمال الخضوع والذل، وكمال المحبة.
أما الركن الأول: فهو: كمال الخضوع والذل، والمراد به: أن يستكين العبد لله تعالى ويخضع له ويذل، وله أربع مراتب كما ذكر ابن القيم:
(المرتبة الأولى: مشتركة بين الخلق، وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله، فأهل السموات والأرض جميعًا محتاجون إليه فقراء إليه، وهو وحده الغني عنهم، وكل أهل السموات والأرض يسألونه وهو لا يسأل أحدًا.
المرتبة الثانية: ذل الطاعة والعبودية: وهو ذل الاختيار، وهذا خاص بأهل طاعته وهو سر العبودية.
المرتبة الثالثة: ذل المحبة، فإن المحب ذليل بالذات، وعلى قدر محبته له يكون ذله.
المرتبة الرابعة: ذل المعصية والجناية.
فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع: كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم؛ إذ يذل له خوفًا وخشية ومحبة وإنابة، وطاعة وفقرًا وفاقة).
وأما الركن الثاني ـ الذي هو كمال المحبة ـ فإن الذي يدل على اعتبار كمال الحب مع كمال الذل هو أصل التأله: التعبد، وهو كما قال ابن القيم:(التعبد آخر مراتب الحب، يقال: عبده الحب وتيمه إذا ذلل لمحبوبه)، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:(العابد محب خاضع، بخلاف من يحب من لا يخضع له، بل يحبه ليتوسل به إلى محبوب آخر، وبخلاف من يخضع لمن لا يحبه كما يخضع للظالم، فإن كلاً من هذين ليس عبادة محضة)، فتبين من هذا: أن إفراد الله بالمحبة أصل العبادة، وهذا يستلزم أن يكون الحب كله لله ولأجله وفيه. وشرط صحة المحبة: المتابعة التي لابد فيها من الصدق والإخلاص. فإن لم تتحقق المتابعة يكون مدعي المحبة كاذبًا في دعواه.
أي هذه الأنواع من العبادات يدخلها الشرك؟
العبادة مفهومها واسع جدًا في الإسلام ـ كما سبق بيانه ـ، فهي تشتمل بمفهومها الواسع على الدين كله وعلى الحياة كلها، كما تشمل كيان الإنسان
كله، فهو صرف شيء منها لغير الله يكون شركًا بالله في العبادة؟
الأمر فيه تفصيل، والذي يظهر من خلال استقراء أقوال السلف أنهم إنما يدخلون في الشرك من هذه الأمور ما يخالف توحيد العبادة، ولم يريدوا إلا ما هي عبادة بنفسها. ومعلوم أن العبادة متعلقة باللسان والقلب والجوارح، فالشرك في العبادة أيضًا يكون في هذه الأشياء الثلاثة، فقد يكون الشرك في الأعمال القلبية، وقد يكون بالأعمال والجوارح، وقد يكون بالألفاظ والأقوال، وقد يجتمع بعضها مع بعض، ولهذا قسم ابن القيم هذا النوع من الشرك ثلاثة أقسام، فقال: (ويتبع هذا الشرك [الشرك في العبادة] الشرك به سبحانه في الأفعال والأقوال والإرادات والنيات.
فالشرك في الأفعال: كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعًا لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود
…
وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها
…
والشرك به في الألفاظ: كالحلف بغيره، وقول القائل للمخلوق: ما شاء الله وشئت، أما متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي
في السماء وأنت لي في الأرض، أو يقول: والله وحياة فلان، أو يقول: نذر الله وفلان، أو أنا تائب لله ولفلان، أو أرجو الله وفلانًا، ونحو ذلك.
وأما الشرك في الإرادات والنيات: فهو أن يريد بعمله غير وجه الله، أو نوى شيئًا غير التقرب إليه وطلب الجزاء منه، وهذا هو الشرك الذي له تعلق بأفعال القلوب.
وبهذا عرفنا أقسام شرك العبادة باعتبار أقسام العبادة، فالعبادة تكون بالقلب، وتكون بالقلب والجوارح معًا، وربما تكون باللسان كما تكون بالجوارح، فيكون الشرك أيضًا بالقلب واللسان والجوارح.
أما شرك القلوب: فمنه ما هو اعتقادي فقط: وهو الشرك في الربوبية، كما أسلفنا، وربما يتعلق به بعض أنواع الشرك في العبادة، إذا رأى أحد أن بعض الخلق له شركة في استحقاق أنواع العبادة، أو أن هناك من له منزلة كريمة إذا رضي عليه يحصل له مطلبه، كمن يرى الشفاعة مثلاً حقًا لأحد مستقلاً عن الله، وبغير إذنه ورضاه.
ومنه ما يتعلق بالأعمال القلبية، وهي على أوجه:
1 -
الشرك في العبادات التي تتم بالقلب فقط، ومن ذلك: المحبة (محبة العبودية) لغير الله، والتوكل، والخشية، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوبة، والنية والإرادة والقصد، والطاعة، وغيرها.
2 -
الشرك في العبادات التي تتم بالقلب والجوارح معًا (شرك التقرب
والنسك)؛ كالصلاة، والركوع والسجود، والطواف بالبيت، وسائر أنواع العبادات البدنية كالصوم والحج، والجهاد في سبيل الله، ومن ذلك أيضًا: النذر والذبح، والزكاة التي هي من العبادات المالية.
3 -
الشرك في العبادات التي تتم بالقلب واللسان، وهي كثيرة، فمنها: الدعاء؛ سواء كان طلبًا للشفاعة أو غيرها من المطالب، وسواء كان دعاء ثناء وعبادة أو دعاء مسألة وطلب، فالدعاء كله وجله عبادة، ولهذا جاء ((الدعاء هو العبادة)).
ومنها الاستغاثة، فيما لا يقدر عليه إلا الله.
ومنها الاستعانة، والاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله، وغيرها.
وأما شرك اللسان: فهو كالذكر لغير الله على وجه العبادة، وكالنطق بكلمة التوحيد مع الإشراك فيه، فمن نطق بهذه الكلمة وأدخل معه غيره فقد أشرك فقه، كما كان يفعله مشركو العرب في التلبية بقولهم: (
…
لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك)، ويدخل في شرك اللسان شتى أنواع الأذكار المخصوصة لله إذا أريد بها غير الله، كالتحميد والاستغفار والاستجارة والشهادة ونحو ذلك.
فهذه أقسام الشرك في العبادة، وهي كما ترى إما قولية وإما عملية، وسنأتي إلى بعض التفصيلات لبعض هذه الأقسام التي يكثر وقوعها قديمًا وحديثًا في الباب الرابع بمشيئة الله.
حكم الشرك الأكبر:
من المعلوم أن هذا الشرك أعظم ما نهى الله عنه، قال تعالى:(وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)، فقرن النهي عنه بأعظم أمر أمر به وهو عبادته، التي من أجلها خلق الخلق كما قال تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وهو أول المحرمات كما يدل عليه قوله تعالى: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
فهذا الشرك الأكبر مخرج عن الملة وصاحبه حلال الدم والمال، وفي الآخرة خالد مخلد في النار، قال تعالى:(فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد).
وقال تعالى: (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
وقال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ).
كما أن هذا الشرك يحبط العمل، قال تعالى:(وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وقال تعالى:(وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
كما أنه تحرم ذبيحة مرتكبه، لقوله تعالى:(وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ).
وصاحب هذا الشرك لا يرث ولا يورث، بل ماله لبيت المال، ولا يُصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، وذلك أن المشرك قد ارتكب أعظم جريمة، وأفظع ظلم، قال تعالى:(وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً).
وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من مات وهو يدعو من دون الله ندًا دخل النار))، وفي رواية عنه: ((من مات يجعل لله ندًا أُدخل النار
…
)).
وكما جاء عن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من لقي الله لا يُشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار)).
وكما جاء عن ابن مسعود أيضًا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من مات يشرك بالله شيئًا دخل النار
…
)) الحديث.
وفي حديث أبي هريرة قال: زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال:((استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي)).
وفي حديث ابن عمر قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أبي كان يصل الرحم، وكان
…
، فأين هو؟ قال:((في النار))، قال: فكأنه وجد من ذلك، فقال: يا رسول الله! فأين أبوك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حيثما مررت بقبر مشرك، فبشره بالنار)). قال: فأسلم الأعرابي بعدُ، وقال: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم تعبًا، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار.
وفي حديث سلمة بن يزيد الجعفي رضي الله عنه قال: انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قلنا: يا رسول الله، إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم وتقري الضيف وتفعل وتفعل، هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئًا؟ قال:((لا)).
وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل: (مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)
…
)).
ومثله ما روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قلت: يا رسول الله، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المساكين، فهل ذلك نافعه؟ قال:((لا يا عائشة، إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)).
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، نكتفي منها بهذا القدر.
وأما الإجماع: فقد نقل غير واحد من العلماء إجماع الأمة على أن المشرك يخلد في النار.
وأما أقوال السلف في ذلك: فهي كثيرة، منها:
أ- قال الإمام أحمد بن حنبل: (ويخرج الرجل من الإيمان إلى
الإسلام، ولا يخرجه من الإسلام إلا الشرك بالله العظيم، أو يرد فريضة من فرائض الله عز وجل جاحدًا بها
…
).
ب- قد عقد الإمام البخاري لذلك بابًا في صحيحه، فقال:(باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها إلا الشرك).
ج- وقال العلامة ابن جرير رحمه الله حول قوله تعالى: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ): (ومعنى الكلام: ولقد أوحي إليك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، وإلى الذين من قبلك، بمعنى وإلى الذين من قبلك من الرسل من ذلك، مثل الذي أوحي إليك منه، فاحذر أن تشرك بالله شيئًا فتهلك، ومعنى قوله: لتكونن من الهالكين بالإشراك بالله إن أشركت به شيئًا).
د- قال القرطبي: تعليقًا على حديث: ((من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار)): إن مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة ويخلد في النار أبد الآباد، من غير انقطاع عذاب، ولا تصرم آماد.
هـ - قال النووي: (أما دخول المشرك النار فهو على عمومه، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي ـ اليهودي والنصراني ـ، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده وغير ذلك).
و- ويقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية: (ومن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان أن يدعى غير الله، فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم
…
).
ز- قال ابن كثير: (أخبر ـ تعالى ـ أنه لا يغفر أن يُشرك به، أي: لا يغفر من لقيه وهو مشرك به، ويغفر ما دون ذلك أي: من الذنوب لمن يشاء من عباده).
ح- قال ابن القيم: (ولما كان الشرك أعظم الدواوين الثلاثة عند الله عز وجل حرم الجنة على أهله فلا تدخل الجنة نفس مشركة، وإنما يدخلها أهل التوحيد
…
).
ط- وقال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (أن من لقيه لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار، ولو كان من أعبد
الناس).
ي- وقال أحمد بن حجر آل بوطامي الشافعي رحمه الله: (الشرك نوعان: أكبر وأصغر، فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار).
أما الشرك الأصغر:
فقد جاء في تعريفه عبارات عدة، منها:
1 -
(أنه كل وسيلة وذريعة يتطرق بها إلى الأكبر).
وينتقض هذا التعريف بأنه غير مانع؛ إذ أن هذا التعريف يصدق على الكبائر من الذنوب.
2 -
(هو جميع الأقوال والأفعال التي يتوسل بها إلى الشرك كالغلو في المخلوق الذي لا يبلغ رتبة العبادة؛ كالحلف بغير الله ويسير الرياء ونحو ذلك).
وهذا التعريف أيضاً غير جامع ولا مانع؛ إذ إنه يصدق على كبائر الذنوب، ثم ليس كل ما يتوسل به إلى الشرك يُعد من الشرك الأصغر، كالتوسل إلى الله بذوات الصالحين ونحو ذلك.
3 -
(هو كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة للوقوع فيه وجاء في النصوص تسميته شركًا).
فيه ما سبق من الاعتراضات، ثم ليس كل شرك أصغر جاء في النصوص تسميته شركًا، فهناك أفراد من الشرك الأصغر لم يأت تسميتها في النصوص شركًا.
4 -
(هو تسوية غير الله بالله في هيئة العمل، أو أقوال اللسان، فالشرك في هيئة العمل هو الرياء، والشرك في أقوال اللسان: هو الألفاظ التي فيها معنى التسوية بين الله وغيره، كقوله: ما شاء الله وشئت،
…
وقوله: عبد الحارث ونحو ذلك).
5 -
(هو مراعاة غير الله تعالى معه في بعض الأمور).
6 -
لا يعرّف، وإنما يذكر بالأمثلة.
وهذا الأخير هو ما أرتضيه؛ لأن تعريف مثل هذا النوع من الشرك غير منضبط لكثرة أفراده وتنوعه.
مصدر تسمية هذا النوع من الشرك بالشرك الأصغر:
جاءت نصوص الشرع بتسميته شركًا أصغر، ومما يدل عليه الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: ((الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة، إذا جازى الناس بأعمالهم:
اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء)).
فثبتت هذه التسمية بنص الحديث.
وهكذا تثبت هذه التسمية في لسان الصحابة، ومن ذلك ما رواه شداد بن أوس، قال:(كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر).
أنواع الشرك الأصغر:
تنوعت الأقوال في بيان أنواع الشرك الأصغر.
فمنهم من قال: (هو نوعان: ظاهر، وخفي.
فالظاهر: يكون بعمل رياء، كالتصنع لغير الله بعمل في ظاهره أنه لله، وفي باطنه عدم الإخلاص لله به، ويكون باللفظ كالحلف بغير الله
…
والخفي: ما بنتابه الإنسان في أقواله وأعماله في بعض الفترات من غير أن يعلم أنه شرك).
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ((الشرك في أمتي أخفى من دبيب النمل على الصفا)).
ولكن هذا القول فيه نظر، فإن ما ينتابه الإنسان في أقواله أو أعماله في بعض الفترات من غير أن يعلم أنه شرك ليس بشرك أصغر فقط، بل قد يدخل في الشرك الأكبر أيضًا، كما سيأتي في بيان المراد بالشرك الخفي.
ومنهم من قال: إنه على نوعين:
أ- الشرك في النيات والمقاصد؛ ويدخل فيه:
1 -
الرياء.
2 -
إرادة الإنسان بعمله الدنيا.
ب- الشرك في الألفاظ؛ ويدخل فيه:
1 -
الحلف بغير الله.
2 -
قول القائل: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وأنت، ونحوهما.
3 -
إسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل واعتقاد تأثيره فيها، مثل أن يقول: لولا وجود فلان لحصل كذا، ولولا الكلب لدخل اللص.
4 -
قول بعضهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، إن كان جرى على لسانه من غير قصد.
ولعل من أحسن ما يقال في بيان أنواع الشرك الأصغر ما يلي:
إن له أنواعًا كثيرة، ويمكن حصرها بما يأتي:
أولاً: قولي: وهو ما كان باللسان، ويدخل فيه ما يأتي:
1 -
الحلف بغير الله، على تفصيل في ذلك.
2 -
قول: (ما شئت الله وشئت)، أو: أنا متوكل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، ومالي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، أو يقول: والله
وحياة فلان، أو يقول: نذر الله ولفلان، أو أنا تائب لله ولفلان، أو أرجو الله وفلانًا ونحو ذلك.
ولعل الضابط في هذا أن يكون الشيء مما يختص بالله جل وعلا، فيعطف عليه غيره سبحانه لا على سبيل المشاركة وإنما بمجرد التسوية في اللفظ، وأما إن كان يعتقد المشاركة فهذا يدخل تحت الشرك الأكبر.
3 -
وقوله: (قاضي القضاة).
4 -
وهكذا: التعبيد لغير الله، كعبد النبي وعبد الرسول (إذا لم يقصد به حقيقة العبودية).
5 -
وإسناد بعض الحوادث إلى غير الله عز وجل، مثل أن يقول: لولا وجود فلان لحصل كذا، ولولا الكلب لدخل اللص، وقول الرجل: لولا الله وفلان، ولولا تجعل فيها فلانًا، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص
…
، وأعوذ بالله وبك.
6 -
قول بعضهم: مطرنا بنوء كذا وكذا، (على طريق غير الحقيقة).
ولعل الضابط في هذا: (الاعتماد على سبب لم يجعله الشرع سببًا).
ثانيًا: فعلي: وهو ما كان بأعمال الجوارح، ويدخل فيه ما يأتي:
1 -
التطير، (إذا لم يعتقد القدرة في المتطيَّر به).
2 -
إتيان الكهان وتصديقهم، (إذا لم يعتقد وجود علم الغيب لديهم).
3 -
والاستعانة على كشف السارق ونحوه بالعرافين، (إذا لم تصاحبه اعتقاد علمهم الغيب).
4 -
تصديق المنجمين والرمالين وغيرهم من المشعوذين، (إذا لم يصاحبه اعتقاد علمهم بالغيب).
5 -
ولبس الحلقة والتطير ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه، (إذا لم يعتقد تأثيرها بذاتها).
ثالثاً: قلبي: ويدخل فيه ما يلي:
1 -
الرياء، (إذا كان يسيرًا)، ولا يخلو من:
أ- أن يكون الرياء بالأعمال: كمن يصلي فيطيل القيام ويطيل الركوع والسجود ويظهر الخشوع عند رؤية الناس له، ويصوم فيظهر للناس أنه صائم، فيقول مثلاً مخاطباً غيره: اليوم يوم الاثنين والخميس ألا تعلم؟ ألست بصائم؟ أو يقول له: أدعوك اليوم لتفطر معي، وكذلك في الحج والجهاد فيذهب إليهما ومقصده المراءاة بهما، وكالمراءاة بالصدقة ونحوها.
ب- أو يكون الرياء من جهة القول: كالرياء بالوعظ والتذكير وحفظ الأخبار والآثار لأجل المحاورة وإظهار غزارة العلم، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس، وإظهار الغضب للمنكرات بين الناس، وخفض الصوت وترقيقه بقراءة القرآن ليدل بذلك على الخوف والحزن ونحو ذلك، إذا فعل ذلك بقصد الرياء، ومن ذلك أيضًا: تحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس ويتغافل عنه في منزله.
ج- أو يكون الرياء من جهة الزي: كإبقاء أثر السجود على جبهته، ولبس الغليظ من الثياب وخشنها مع تشميرها كثيرًا ليقال: عابد زاهد، أو ارتداء نوع معين من الزي ترتديه طائفة يعدهم الناس علماء ليقال: عالم.
د- أو يكون الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يتكلف أن يستزير عالمًا أو عابدًا ليقال: إن فلانًا قد زار فلانًا، ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الخير يترددون عليه، وكذلك من يرائي بكثرة الشيوخ ليقال: لقي فلان شيوخًا كثيرين واستفاد منهم فيباهي بذلك.
هـ - أو يكون الرياء لأهل الدنيا: كمن يتبختر ويختال في مشيه، وتحريك يديه وتقريب خطاه، أو يأخذ بطرف ثوبه، أو يصعر خده، أو يلف عباءته، أو يحرك سيارته حركة خاصة.
و- أن يكون الرياء من جهة البدن: كأن يرائي بإظهار النحول والصفار ليوهم الناس أنه جاد في العبادة كثير الخوف والحزن، أو يرائي بتشعيث الشعر ليظهر أنه مستغرق في هم الدين لا يتفرغ لتسريح شعره، أو يرائي بحلق الشارب واستئصال الشعر ليظهر بذلك تتبع زي العباد والنساك، أو يرائي بخفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين ليدلك على أنه مواظب للصوم.
هذه مجامع ما يرائي به المراؤون ـ غالباً ـ يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد.
2 -
إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
المراد به: أن يعمل الإنسان أعمالاً صالحة يريد بها الدنيا، إما لقصد المال أو الجاه، كالذي يجاهد أو يتعلم ليأخذ مالاً، أو ليحتل منصبًا، أو يتعلم القرآن، أو يواظب على الصلاة لأجل وظيفة المسجد، أو نحو ذلك من الأعمال الصالحة، لكن نيته الحصول على مصالح دنيوية لا طلب مرضاة الله.
والفرق بينه وبين الرياء:
أن المرائي إنما يعمل لأجل المدح والثناء، والمريد بعمله الدنيا يعمل لدنيا يصيبها كالمال أو المنصب.
فهذه أنواع الشرك الأصغر قد تكون هذه الأنواع في خصائص الربوبية، وقد يكون في خصائص الألوهية، كما أن كل قسم من أنواع الشرك الأصغر يحتمل أن ينقلب إلى شرك أكبر، وذلك من وجهين:
1 -
إذا صحبه اعتقاد قلبي، وهو تعظيم غير الله كتعظيمه. كالحلف بغير الله معظِّمًا له كتعظيم الله.
2 -
أو كان في أصل الإيمان، أو كثر حتى يغلب على العبد؛ كالمراءاة بأصل الإيمان، أو يغلب الرياء على أعماله، أو يغلب عليها إرادة الدنيا بحيث لا يريد بها وجه الله.
فهذه أنواع الشرك الأصغر على الإجمال.
حكم الشرك الأصغر:
أنه محرم، بل هو أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، لكنه لا يخرج من ارتكبه عن ملة الإسلام.
ولذا ورد التحذير منه في الكتاب والسنة.
فمن الكتاب: قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
فإن عموم الآية تشمل الشرك الأكبر والأصغر.
وقوله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
الآية في الشرك الأكبر، إلا أن بعض السلف كابن عباس رضي الله عنهما كانوا يحتجون بها في الأصغر؛ لأن الكل شرك.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ).
قال مجاهد: هم أهل الرياء. ومعلوم أن الرياء هو رأس الشرك الأصغر.
ومن السنة: قوله تعالى في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه))، وقوله عليه السلام:((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) الحديث.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قال: فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الشرك الخفي
…
)) الحديث.
أما كونه أكبر الكبائر بعد الشرك الأكبر، فلما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:(لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقًا).
ووجه الاستدلال: أن الحلف بالله كاذبًا كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر، وإلا لما أقدم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لأن يقول مثل هذا القول الذي فيه إقدام على ارتكاب الكبائر، والله أعلم.
ولأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك، ففيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
ثم (إن هذا النوع من الشرك ـ الشرك الأصغر ـ يبطل ثواب العمل، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبًا، فإنه ينزِّله منزلة من لم يعمله، فيعاقب على ترك امتثال الأمر).
ثم إنه قد يكون وسيلة تؤدي بصاحبه إلى الشرك الأكبر.
أما حكم مرتكبه:
فقد اتفقوا على أن مرتكب الشرك الأصغر غير خارج من الملة، وأنه لا يُخَلَّد في النار، ولكن هل يكون تحت المشيئة إن لم يتب كما هو حال أصحاب الكبائر الآخرين لقوله تعالى:(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)، أو يكون تحت الوعيد بأن لا يُغفر له إذا لم يتب، لأنه قد أطلق عليه بأنه أشرك؟ اختلفوا فيه على قولين:
القول الأول: أنه تحت المشيئة، وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما يظهر ميل الإمام ابن القيم إليه في الجواب الكافي.
القول الثاني: أنه تحت الوعيد، وهو الذي مال إليه بعض أهل العلم.
الفروق بين نوعي الشرك الأكبر والأصغر:
هناك فروق بين الشرك الأكبر والأصغر، منها:
1 -
أن الأكبر لا يغفر الله لصاحبه إلا بالتوبة، وأما الأصغر فقد اختلفت فيه فقيل: إنه تحت المشيئة. وقيل: إن صاحبه إذا مات فلابد أن يعذبه الله عليه، لكن لا يخلد في النار.
2 -
الأكبر محبط لجميع الأعمال، وأما الأصغر فلا يحبط إلا العمل الذي
قارنه (على القول الراجح).
3 -
أن الأكبر مخرج عن الملة الإسلامية، وأما الأصغر فلا يخرج منها، ولذا فمن أحكامه: أن يعامل معاملة المسلمين؛ فيناكح، وتؤكل ذبيحته ويرث ويورث، ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
4 -
أن الشرك الأكبر صاحبه خالد مخلد في النار، وأما الأصغر فلا يخلد في النار وإن دخلها كسائر مرتكبي الكبائر.
5 -
أن الشرك الأكبر يحل الأنفس والأموال، بعكس الشرك الأصغر، فإن صاحبه مسلم مؤمن ناقص الإيمان، فاسق من حيث الحكم الديني.
ويجتمعان في:
استحقاق صاحبهما الوعيد، وأنهما من أكبر الكبائر من الذنوب.
ما هو الشرك الخفي؟ وهل هو من الشرك الأكبر أو من الأصغر؟
تعريف الشرك الخفي: سبق معنا في تعريف الشرك الأصغر بأن الشرك الخفي أحد نوعي الشرك الأصغر عند بعض العلماء، وبناء على ذلك عرفوه بقولهم: ما ينتابه الإنسان في أقواله أو أعماله في بعض الفترات من غير أن يعلم أنه شرك.
وقيل: هو ما خفي من حقائق إرادة القلوب، وأقوال اللسان مما فيه تسوية
بين الله وخلقه.
هذا النوع من الشرك مما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم وخافه علينا، وحذرنا منه.
يدل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشرك في أُمَّتي أخفى من دبيب النمل)).
وفي رواية لأبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: ((الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل)) قال: قلنا: يا رسول الله! وهل الشرك إلا ما عُبد من دون الله أو دعي مع الله؟ قال: ((ثكلتك أمك يا صديق، الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، ألا أخبرك بقول يذهب صغاره وكباره ـ أو صغيره وكبيره؟ ـ)) قلت: بلى يا رسول الله، قال:((تقول كل يوم ثلاث مرات: اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك شيئًا وأنا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلم، والشرك أن تقول: أعطاني الله وفلان، والند: أن يقول الإنسان: لولا فلان قتلني فلان)).
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نتذاكر المسيح الدجال، فقال: ((ألا أخبركم بما هو
أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ )) قال: قلنا: بلى، قال:((الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر الرجل)).
فهذه نصوص الشرع تدل على أنه هناك نوعًا آخر من الشرك يسمى بالخفي، فهل هذا يدخل تحت أحد نوعي الشرك أم هو نوع مستقل بذاته؟ اختلفوا فيه.
فقيل: يمكن أن يجعل الشرك الخفي نوعًا من الشرك الأصغر، فيكون الشرك حينئذ نوعين: شرك أكبر، ويكون في عقائد القلوب، وشرك أصغر: ويكون في هيئة الأفعال وأقوال اللسان، والإرادات الخفية، وإلى هذا القول مال بعض المعاصرين.
ولكن الظاهر من النصوص المذكورة: أن الشرك الخفي قد يكون من الشرك الأكبر، وقد يكون من الشرك الأصغر، وليس له وصف منضبط، بل دائماً يتردد بين أن يكون من الشرك الأكبر، أو الشرك الأصغر، بل هو كل ما خفي من أنواع الشرك. وهذا هو الراجح عندي.
وعليه: فيجب الحذر منه لكثر الاشتباه فيه، فربما يظن في أمر من الأمور أنه من الشرك الأصغر وهو في واقع الأمر من الشرك الأكبر وهكذا العكس، وذلك لخفاء مأخذه، ودقة أمره، وصعوبة معرفته، فيكون مجالة الأمر
المشتبه الذي لا يعرفه إلا الحذاق من أهل العلم، وإن كان قد يخفى على غيرهم ممن لم يكمل نظره، وضعف فهمه في أدلة الكتاب والسنة.