المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الخامس في بيان الشرك في قوم لوط عليه السلام - الشرك في القديم والحديث - جـ ١

[أبو بكر محمد زكريا]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الشكر والتقدير:

- ‌التمهيد

- ‌المسألة الأولىمعنى التوحيد وأنواعه

- ‌المسألة الثانيةمعنى الشرك وأنواعه

- ‌المسألة الثالثةهل الأصل في الإنسان التوحيد أو الشرك

- ‌الباب الأول في شرك الأمم السابقة

- ‌الفصل الأول في بيان أول شرك وقع في بني آدم والأدلة عليه

- ‌القول الأول: إن أول شرك في بني آدم كان من قابيل

- ‌القول الثاني: إن بداية الشرك كان في زمن يرد بن مهلائيل

- ‌القول الثالث: إن أول شرك وقع في بني آدم إنما هو من قبل أبناء قابيل

- ‌القول الرابع: إن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح

- ‌الفصل الثاني وقوع الشرك في الأمم السابقة

- ‌المبحث الأول في بيان الشرك في قوم نوح

- ‌المبحث الثاني في بيان الشرك في قوم هود

- ‌المبحث الثالث في بيان الشرك في قوم صالح عليه السلام

- ‌المبحث الرابع في بيان الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام

- ‌المبحث الخامس في بيان الشرك في قوم لوط عليه السلام

- ‌المبحث السادس في بيان الشرك في قوم يوسف عليه السلام

- ‌المبحث السابع في بيان الشرك في قوم شعيب عليه السلام

- ‌المبحث الثامن في بيان أمم أهلكوا بعامة في هذه الفترة، قبل موسى عليه السلام وبيان شركهم بالله

- ‌المبحث التاسع في بيان الشرك في قوم موسى عليه السلام

- ‌المبحث العاشر في بيان الشرك في قوم إلياس

- ‌المبحث الحادي عشر في بيان الشرك في قوم عيسى عليه السلام

- ‌الفصل الثالث في بيان أنواع الشرك التي وقعوا فيها

- ‌المبحث الأول هل أشركوا في الربوبية

- ‌المبحث الثاني شرك العبادة في الأمم السابقة

- ‌الباب الثاني: في بيان الشرك في العرب في الجاهلية وأسباب ذلك

- ‌الفصل الأول ديانة العرب قبل دخول الوثنية

- ‌الفصل الثاني متى كان ظهور الشرك في العرب؟ وبيان سببه

- ‌المبحث الأول في بيان شرك العرب في الجاهلية

- ‌المطلب الأول: من أول من روج الشرك في العرب؟ وبيان أحواله

- ‌المطلب الثاني: في بيان طبيعة الشرك لدى العرب في الجاهلية

- ‌المطلب الثالث: أنواع العبادات التي كانوا يوجهونها إلى معبوداتهم:

- ‌المطلب الرابع: طبيعة اعتقاد الجاهليين تجاه معبوداتهم

- ‌أولاً: البساطة والسذاجة:

- ‌ثانياً: وهن العقيدة:

- ‌ثالثاً: تعصبهم لمعبوداتهم:

- ‌رابعًا: تقليدهم لآبائهم في عبادة هذه المعبودات:

- ‌المبحث الثاني أسباب الشرك قديمًا

- ‌الباب الثالث: الشرك في هذه الأمة

- ‌الفصل الأول خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك على أمته والتحذير منه

- ‌المبحث الأول في بيان نماذج من خوف النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك فيما يتعلق بذاته سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله، والتحذير منه

- ‌المبحث الثاني في بيان نماذج من خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في الوقوع في الشرك في عبادة الله سبحانه ومعاملته، والتحذير من الوقوع فيه

- ‌الفصل الثاني سده صلى الله عليه وسلم جميع أبواب الشرك

- ‌المبحث الأول سدّه جميع أبواب الشرك الذي يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله

- ‌المطلب الأول: سده جميع أبواب شرك التعطيل

- ‌المطلب الثاني: سده صلى الله عليه وسلم لجميع أبواب شرك الأنداد في الربوبية وخصائصها:

- ‌المبحث الثاني في سدّه صلى الله عليه وسلم جميع أبواب الشرك الذي يتعلق بعبادة الله ومعاملته

- ‌المبحث الثالث سدّه الوسائل القولية والفعلية التي تؤدي إلى الشرك ـ خصوصًا إلى الشرك الأصغر ـ وصدور التحذير منه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع أمته في الشرك الأصغر باللسان:

- ‌المطلب الثاني: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الشرك الأصغر الفعلي:

- ‌المطلب الثالث: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الشرك الأصغر القلبي:

- ‌المبحث الرابع: في بيان شبهة من قال بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة وردّها

- ‌الفصل الثالث في بيان خفاء الشرك على كثير من الناس حتى وقعوا فيه

- ‌المبحث الأول متى وكيف كانت بداية الشرك في هذه الأمة

- ‌المبحث الثاني: في بيان وقوع بعض هذه الأمة في الشرك

- ‌المبحث الثالث دور العلماء في محاربة الشرك ومواجهة الانحرافات العقدية

- ‌الباب الرابع مظاهر الشرك في العصر الحديث

- ‌الفصل الأول في بيان الشرك الذي يتعلق بالربوبية

- ‌المبحث الأول في بيان الشرك في الربوبية بالتعطيل

- ‌المطلب الأول: في بيان الشرك في الربوبية بتعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه ومظاهر ذلك في هذه الأمة:

- ‌المطلب الثاني: في بيان مظاهر الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عن كماله المقدس الثابت له:

- ‌المطلب الثالث: في بيان أنواع الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد:

- ‌المبحث الثاني: الشرك في الربوبية باتخاذ الأنداد

- ‌المحور الأول: في بيان الشرك في الربوبية باتخاذ الأنداد في الذات:

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة القدرة الكاملة لغير الله جل شأنه

الفصل: ‌المبحث الخامس في بيان الشرك في قوم لوط عليه السلام

‌المبحث الخامس في بيان الشرك في قوم لوط عليه السلام

قوم لوط عليه السلام:

ومما وقع في حياة إبراهيم الخليل عليه السلام من الأمور العظيمة قصة لوط عليه السلام وما حل بقومه من النقمة الغميمة؛ وذلك أنه لما آمن لوط بن هاران بن آزر بدعوة عمه إبراهيم عليه السلام، وهاجر معه إلى بابل، كما قال تعالى:(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وصاحبه في جميع رحلاته، استقر أخيرًا في سدوم من أرض غور زغر بعد عودتهم من مصر، وفيما يلي بيان حال لوط عليه السلام وقومه:

نسبه عليه السلام ومكانه:

هو نبي الله تعالى لوط بن هاران بن آزر ـ وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام آمن بإبراهيم عليه السلام واهتدى بهديه، وقد بعثه الله إلى أرض سدوم، وكانت قرية من الأردن. يذكر المؤرخون أن قوم لوط أمة عظيمة

ص: 269

عاشت في حياة إبراهيم عليه السلام، وكانوا يسكنون سدوم، وهي أكبر قرى قوم لوط الأربعة، وهي:(صنعة، وصعوة، وعثرة، ودوما).

ويذكر ابن كثير في تفسيره: بأن (مكان هذه القرى قد تحول بفعل العذاب إلى بحيرة منتنة خبيثة، وهي مشهورة ببلد الغور، متاخمة لجبال بيت المقدس بينها وبين بلاد الكرك والشوبك).

ومن المؤرخين من يحدد مكانها حاليًا بالبحر الميت، أو بحيرة لوط.

ويرى بعض العلماء أن البحر الميت لم يكن موجودًا قبل هذا الحادث، وإنما حدث بالزلزال الذي جعل عالي البلاد سافلها، وصارت أخفض من سطح البحر بنحو أربعمائة متر، وفي هذا العصر اكتشف أن آثار مدن قوم لوط تقع على حافة البحر الميت.

معتقد قومه ومعصيتهم (الشرك في هؤلاء القوم):

كانوا أفجر الناس، وأخبثهم سيرة وسريرة، وأسوأهم طوية، فقد أضافوا إلى ما كان منهم من الشرك رذائل أخرى هي من أشنع الرذائل، فكانوا يحاربون الله وأنبياءه ويسعون في الأرض فسادًا، ويقطعون الطريق، ويخونون الصديق، وكان من أخطرها ابتداع فاحشة اللواط في المجتمع الإنساني بإتيانهم الذكران من العالمين، وترك ما أحله الله تعالى لهم، وما خلق لهم من أزواجهم، استعاضة منهم بالحرام عن الحلال، واستبدال الخبيث بالطيب، ورغبة في الرذالة عن الطهارة، ومع هذا تعروا من كل فضيلة،

ص: 270

وتلبسوا بكل رذيلة، فنزعوا عنهم جلابيب الحياء، واتفق في حقهم أنهم كانوا من أشر أهل الأرض طوية وأفسدهم سريرة، وأرداهم خلاقًا، لا يستحيون من منكر، بل يأتون في ناديهم المنكر جهارًا وعلنًا دون حياء أو خجل، ولا يتعففون عن معصية، بل ويأتونها على رؤوس الأشهاد دون وازع من دين أو تأنيب ضمير؛ يسفاد هذا مما قصه الله تعالى علينا من أخبارهم، وكفى باستيائه عليه السلام من مجيء أضيافه خوفًا من انتهاك كرامتهم من قبل المكذبين من قومه شاهدًا على جرمهم، كما قال تعالى:(وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ).

وكان من خصالهم ما يلي:

تصفيف الشعر، وحل الإزار، ورمي البندق، والخذف بالحصى، واللعب بالحمام والطيارة، والنرد، والشطرنج، والصفير بالأصابع، وفرقة العلك، وإسبال الإزار، (أي إذا لبسوه)، وحل أزار الأقبية، وإدمان شرب الخمر، وإتيان الذكور، والتضارط في مجالسهم.

وهذه الخصال كلها أو بعضها معنية بالآية التي ذكرت في سورة العنكبوت: (وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ)، وقد قال الإمام ابن

ص: 271

جرير الطبري: (إن الصواب من القول من ذلك عندي قول من قال: عني بالمنكر

خذوفهم من مر بهم وسخريتهم منه).

وعلى كلٍ: قد أتوا من الفواحش التي ما سبقهم بها أحد من العالمين، فدعاهم أخوهم لوط إلى الله عز وجل، ونهاهم عن فعل الفاحشة، وإتيان المنكر في ناديهم، فما كان جواب قومه على هذه الدعوة الخالصة والنصيحة المشفقة إلا الصدود والإعراض عن دعوته، بل هددوه بالإخراج من قريتهم، وقالوا له:(لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ)، وبينوا السبب بقولهم:(إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)؛ أي أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدعون إلى توحيد الله وعدم الإشراك به، وينكرون علينا إتيان الذكران من العالمين، ويجتنبون الفواحش والبغي والإثم.

فأعلن لوط البراءة منهم، وقال:(إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ)، وقال لما نفذ صبره:(رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ)، ودعا الله عز وجل أن ينجيه وأهله مما يعملون، فنجاه الله وأهله أجمعين، إلا امرأته فإنها كانت على دين قومها، وكانت تخونه وتدلهم على أضيافه، فكانت من الغابرين؛ أي الباقين في العذاب، فلما أراد الله عز وجل إهلاكهم أرسل الله إليهم جندًا من الملائكة ليرسلوا عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين. قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا

ص: 272

حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ).

هذا ما ذكره الله عز وجل من حال قوم لوط، فهل كان فيهم الإشراك بالله؟ اختلفوا فيه على قولين:

القول الأول: وقف بعض العلماء على ظاهر ما قصه الله علينا من خبر نبيه لوط عليه السلام؛ حيث اقتصر ظاهر الآيات على النهي من ارتكاب الفاحشة والتحذير من عاقبتها، فيستنبط من خلالها أن القوم ليس فيهم شرك وإلا لنهوا عنه، وأمروا بعبادة الله تعالى وحده، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في بعض مصنفاته؛ إذ يقول بعد أن ذكر هلاك قوم صالح وأهل مدين:(وقوم لوط ذكر عنهم استحلال الفاحشة، ولم يُذَكَّرُوا بالتوحيد بخلاف سائر الأمم، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين).

القول الثاني: نظر بعض المفسرين إلى الأصول العامة لدعوة الرسل عليهم السلام، وأهمها الدعوة إلى توحيد الله تعالى، كما جاء في سورة الأنعام في قوله تعالى:(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ـ إلى قوله تعالى ـ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، وكما جاء في سورة الأنبياء في قوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

فبناء على هذا نصوا على أنه عليه السلام نهى قومه عن الشرك، ومن ذلك: ما ذكره ابن كثير في قوله: (دعاهم إلى الله تعالى أن يعبدوه وحده لا شريك له،

ص: 273

وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوا في العالم مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دون الإناث).

وهكذا جاء في تاريخه قوله: (فدعاهم لوط إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه المحرمات والفواحش المنكرات والأفاعيل المستقبحات).

وأورد القرطبي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنه في ذكر معاصي قوم لوط، فقال بعد تعدادها:(ومع هذا كله كانوا يشركون بالله تعالى، وهم أول من ظهر على أيديهم اللوطية والسحاق).

ثم هو عليه السلام بدأهم بالأمر بتقوى الله، وأعلمهم بأنه رسول الله، وأن من حق الرسول أن يطاع فيما يخبرهم به من مناهج العبادة لله وحده، ثم أتبع ذلك أن بيَّن لهم بعض مناهجهم المخالفة لأمر الله تعالى، كما جاء في قوله تعالى:(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ).

فهو عليه السلام جعل معاني العقيدة في المقام الأول، وربط المفاسد

ص: 274

الخطيرة في المجتمع بمعاني العقيدة.

واستدل محمد رشيد رضا في المنار على أن لوطًا عليه السلام قد دعا قومه إلى توحيد الله تعالى، وأنه لم يترك تحذيرهم من الشرك، بدلالة سياق الآيات؛ إذ يقول عند تفسيره لقوله تعالى:(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ): (النسق الذي قبل هذا يقتضي أن يكون المعنى: وأرسلنا لوطًا، ولكن حذف هنا متعلق الإرسال وركنه الأول وهو توحيد العبادة للعلم له بما قبله، ومما ذكر في غير هذه السورة، أي: أرسلناه في الوقت الذي أنكر على قومه بفعل الفاحشة فيما بلغهم من دعوى الرسالة).

ونظر بعض المفسرين إلى التوافق الزمني بين لوط والخليل إبراهيم عليهما السلام، وإيمان لوط بإبراهيم كما جاء في قوله تعالى:(فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، فقال: إن النسب في عدم التصريح بدعوة لوط عليه السلام قومه إلى التوحيد؛ لأن لوطًا عليه السلام كان له قوم، وكان قومه على قرب من قوم إبراهيم وفي زمانه، وقد سبقه إبراهيم عليه السلام بالدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، واجتهد فيه حتى اشتهر

ص: 275

إبراهيم عليه السلام بالدعوة إليه تعالى عند الخلق قاطبة، فلم يذكر على لسان لوط عليه السلام التصريح بالدعوة إلى توحيده استغناءً بما قام به إبراهيم عليه السلام، وإنما ذكر ما اختص به لوط عليه السلام من المنع عن الفاحشة وغيرها، وأما غيره من الرسل الذي جاء الخبر عنهم صريحًا بالدعوة إلى توحيد الله تعالى، فلأنهم جاؤوا بعد انقراض من كان يعبد الله عز وجل ويدعو إليه سبحانه، فلذلك دعا كل منهم إلى عبادة الله تعالى.

والذي أميل إليه: أن لوطًا عليه السلام أمر قومه بعبادة الله تعالى، ونهاهم عن الشرك؛ بدلالة سياق الآيات، وبالنظر أيضًا إلى الأصول المشتركة بين الأنبياء عليهم السلام في الدعوة إلى الله تعالى، ثم إن الحق تبارك وتعالى نفى الإيمان عمن أهلك من قوم لوط حال إهلاكهم، فقال:(فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، ومعلوم أن المعاصي لا تخرج الناس من الإيمان؛ فلم يبق إلا أن نقول أنهم كانوا مشركين بالله، أو كانوا كافرين.

وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: إنهم ـ أي قوم لوط ـ كانوا مشركين إلى جانب إتيان الفاحشة؛ حيث قال: (فكان في قوم لوط مع الشرك إتيان الفواحش التي لم يسبقوا إليها).

وقال أيضًا: (وقال ـ أي الله جل وعلا ـ في قوم لوط: (وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ)، وكانوا كفارًا، من جهات: من جهة استحلال

ص: 276

الفاحشة، ومن جهة الشرك، ومن جهة تكذيب الرسل، ففعلوا هذا وهذا، ولكن الشرك والتكذيب مشترك بينهم وبين غيرهم

).

وقال الإمام ابن القيم: (إنهم كانوا مشركين).

ثم (كونه صلى الله عليه وسلم آمن بإبراهيم صلى الله عليه وسلم لا يمنع استقلاله برسالة وقوم؛ لأن الرسل أمروا أن يؤمن بعضهم ببعض، وأن يؤمن المتأخر بالمتقدم، وجعل الله عز وجل من كذب برسول واحدًا تكذيبًا لجميع الرسل، كما قال تعالى: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ).

وما جدال إبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: (يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) إلا بعد أن عرف أن الحجة قامت عليهم كاملة، من الأمر بعبادة الله تعالى، ونهيهم عن سائر الفواحش والآثام.

وأما عدم قص الله تعالى علينا معبوداتهم وشركهم كما يذكره القائلون بأن هؤلاء ما كانوا مشركين، فنقول: حتى وإن لم يكونوا يعبدون غير الله من الأصنام والأوثان والكواكب وغيرها ـ على الافتراض ـ إلا أنهم كانوا يعبدون هواهم، ألا ترى إلى قولهم:(أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ)، وقوله تعالى عنهم:(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ).

ص: 277

فمعلوم أنهم عبدوا هواهم، وقدموا أهواءهم النفسية على أمر الله عز وجل، وأحبوا معاصيهم بأعمال قلوبهم، فصار هذا الأمر من معبوداتهم، ينطبق عليهم قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ

)، ومعلوم أن أحدًا لا يقول: إن إلهه هواه، وإنما المراد: أنه يمشي وراء هواه فيعبده حيث تعلق به قلبه دائمًا بالحب والذل والخضوع.

وهذه الحالة هي الظاهرة المسيطرة على قوم لوط في ارتكابهم الفاحشة، وبهذا ينطبق عليهم أنهم أشركوا بالله بعبادة هواهم، فأمرهم الله بعبادته وحده بترك عبادة هواهم الذي قادهم إلى ارتكاب الفواحش، والله أعلم.

ص: 278