الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني شرك العبادة في الأمم السابقة
من المعلوم: أن العبد لا يتخلى عن العبادة؛ لأن العبودية ـ من العباد ـ صفة لازمة لهم، وذلك لسببين رئيسين هما: الفقر الذاتي، وكونه حارثًا همامًا، فلا يستطيع أحد أن يخلوا من العبادة، سواء كان للمعبود الحق أم للمعبود الباطل، بل العبادة عنصر أساسي في كيانه شاء أم أبى، فالأمم السابقة لابد أن كانوا عبادًا، إما عبادًا لله جل وعلا، حتى يدخلوا في زمرة الموحدين، وإما أنهم كانوا عبادًا لغير الله؛ فيعتبرون من المشركين.
والذي اتضح من خلال استعراض شرك الأمم السابقة أن أغلب شرك الأمم كان في العبادة، وإن اختلفت طبيعة المعبودات من أمة إلى أخرى، وأما الذين كان فيهم شرك في بعض خصائص الربوبية فهم لا محالة كانوا من المشركين مع الله في العبادة، فإن الشرك في الربوبية يستلزم الشرك في العبادة، كما أن توحيد الربوبية يستلزم التوحيد في العبادة.
وبهذا يتضح حقيقة الشرك في الأمم بأنها كانت في العبادة، وإن اختلفت المعبودات من أمة إلى أخرى؛ فبعضهم أشركوا بعبادة الله عبادة الصالحين من
الناس، وبعضهم بعبادة الأصنام، وبعضهم بعبادة الكواكب والأجرام السماوية، وبعضهم كانوا مشركين بالله بعبادة أهوائهم، وبعضهم بعبادة أحبارهم ورهبانهم.
والمقصود: بيان طبيعة الشرك في الأمم السابقة بأن أغلب الشرك كان فيهم من جهة العبادة، والذين أشركوا بالله في ربوبيته من الأمم السابقة أدى بهم شركهم في الربوبية في نهاية المطاف إلى الشرك بالله في العبادة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أصل الشرك في بني آدم كان الشرك بالبشر الصالحين المعظَّمين، فإنهم لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم، فهذا أول شرك كان في بني آدم، وكان في قوم نوح).
وقال أيضًا: (الشرك في قوم نوح كان أصله عبادة الصالحين
…
ثم قوم إبراهيم انتقلوا إلى الشرك بالسماويات، بالكواكب، وصنعوا لها الأصنام بحسب ما رأوه من طبائعها
…
).
وقال في موضع آخر: (والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح وقوم إبراهيم؛ فقوم نوح، كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين، ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر
…
).
يظهر من كلام شيخ الإسلام أنه يرى: أن أصل شرك الأمم إنما كان في
العبادة والألوهية، وإن كان هناك بعض أنواع الشرك في بعض خصائص الربوبية، ولكنها قليلة إذا قورنت بالشرك في العبادة، بل إنما أرسل الرسل لتقرير توحيد العبادة، والإنكار على شرك العبادة غالبًا.
فليس الشرك محصورًا في اعتقاد وجود رب آخر لهذا العالم مساوٍ لله في الصفات والأفعال، بل هذا النوع لم يكن معروفاً في بني آدم أصلاً، وإنما وجد الشرك في الربوبية في بعض خصائصها، ولكن غالب شرك الأمم كان في في العبادة.
وبهذا يظهر جهل كثير من الناس في هذه الأزمنة المتأخرة بحقيقة الشرك، فالله المستعان.
وقد سبق استعراض شرك الأمم مفصلاً، ويمكن من خلال ما ذكر أن يصنف شرك الأمم في العبادة بما يلي:
1 -
الشرك بعبادة الصور والصالحين، وكان هذا مبدأ الشرك في البشرية، حيث كان في قوم نوح.
2 -
الشرك بالعكوف على القبور، وأيضًا كان في قوم نوح، كما كان هذا في قوم إلياس عليهما السلام.
3 -
الشرك بعبادة الأصنام، فهذا أيضًا كان في قوم نوح عليه السلام،
وقوم هود عليه السلام، وقوم صالح عليه السلام، ولدى بعض قوم إبراهيم عليه السلام، وفي قوم يوسف عليه السلام، وقوم شعيب عليه السلام، وقوم إلياس عليه السلام، وقوم موسى عليه السلام بعد موته.
4 -
الشرك بعبادة الكواكب، وكان في قوم إبراهيم عليه السلام.
5 -
الشرك بعبادة الهوى، وكان ذلك في قوم لوط عليه السلام.
6 -
الشرك بعبادة الرؤساء والحيوانات، مثل ما وقع في قوم موسى عليه السلام في حياته وبعد مماته، وما حكى الله عز وجل عن الملأ في جميع الأمم.
7 -
الشرك بعبادة الأحبار والرهبان؛ ومظاهره في قوم موسى عليه السلام وقوم عيسى عليه السلام.
8 -
الشرك بعبادة الأنبياء والرسل: ومثال ذلك ما وقع في قوم موسى عليه
السلام بعبادة عزير، وفي قوم عيسى بعبادة المسيح عليه السلام.
والمقصود: أن أغلب شرك الأمم كان في العبادة، وذلك: إما بإعطاء خصائص الألوهية لغير الله، وإما بمشاركة غير الله فيما هو محض حق الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (المقصود: أن أصل الشرك في العالم كان من عبادة البشر الصالحين، وعبادة تماثيلهم
…
ومن الشرك ما كان أصله عبادة الكواكب؛ إما الشمس وإما القمر وإما غيرهم، وصورت الأصنام طلاسم لتلك الكواكب، وشرك قوم إبراهيم ـ والله أعلم ـ كان من هذا، أو كان بعضه من هذا
…
ومن الشرك ما كان أصله عبادة الملائكة أو الجن، وضعت الأصنام لأجلهم، وإلا فنفس الأصنام الجمادية لم تعبد لذاتها، بل لأسباب اقتضت ذلك
…
).
وبهذا انتهينا من الكلام في شرك الأمم السابقة، والأن نبدأ في بيان شرك العرب في الجاهلية.