المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثامن في بيان أمم أهلكوا بعامة في هذه الفترة، قبل موسى عليه السلام وبيان شركهم بالله - الشرك في القديم والحديث - جـ ١

[أبو بكر محمد زكريا]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الشكر والتقدير:

- ‌التمهيد

- ‌المسألة الأولىمعنى التوحيد وأنواعه

- ‌المسألة الثانيةمعنى الشرك وأنواعه

- ‌المسألة الثالثةهل الأصل في الإنسان التوحيد أو الشرك

- ‌الباب الأول في شرك الأمم السابقة

- ‌الفصل الأول في بيان أول شرك وقع في بني آدم والأدلة عليه

- ‌القول الأول: إن أول شرك في بني آدم كان من قابيل

- ‌القول الثاني: إن بداية الشرك كان في زمن يرد بن مهلائيل

- ‌القول الثالث: إن أول شرك وقع في بني آدم إنما هو من قبل أبناء قابيل

- ‌القول الرابع: إن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح

- ‌الفصل الثاني وقوع الشرك في الأمم السابقة

- ‌المبحث الأول في بيان الشرك في قوم نوح

- ‌المبحث الثاني في بيان الشرك في قوم هود

- ‌المبحث الثالث في بيان الشرك في قوم صالح عليه السلام

- ‌المبحث الرابع في بيان الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام

- ‌المبحث الخامس في بيان الشرك في قوم لوط عليه السلام

- ‌المبحث السادس في بيان الشرك في قوم يوسف عليه السلام

- ‌المبحث السابع في بيان الشرك في قوم شعيب عليه السلام

- ‌المبحث الثامن في بيان أمم أهلكوا بعامة في هذه الفترة، قبل موسى عليه السلام وبيان شركهم بالله

- ‌المبحث التاسع في بيان الشرك في قوم موسى عليه السلام

- ‌المبحث العاشر في بيان الشرك في قوم إلياس

- ‌المبحث الحادي عشر في بيان الشرك في قوم عيسى عليه السلام

- ‌الفصل الثالث في بيان أنواع الشرك التي وقعوا فيها

- ‌المبحث الأول هل أشركوا في الربوبية

- ‌المبحث الثاني شرك العبادة في الأمم السابقة

- ‌الباب الثاني: في بيان الشرك في العرب في الجاهلية وأسباب ذلك

- ‌الفصل الأول ديانة العرب قبل دخول الوثنية

- ‌الفصل الثاني متى كان ظهور الشرك في العرب؟ وبيان سببه

- ‌المبحث الأول في بيان شرك العرب في الجاهلية

- ‌المطلب الأول: من أول من روج الشرك في العرب؟ وبيان أحواله

- ‌المطلب الثاني: في بيان طبيعة الشرك لدى العرب في الجاهلية

- ‌المطلب الثالث: أنواع العبادات التي كانوا يوجهونها إلى معبوداتهم:

- ‌المطلب الرابع: طبيعة اعتقاد الجاهليين تجاه معبوداتهم

- ‌أولاً: البساطة والسذاجة:

- ‌ثانياً: وهن العقيدة:

- ‌ثالثاً: تعصبهم لمعبوداتهم:

- ‌رابعًا: تقليدهم لآبائهم في عبادة هذه المعبودات:

- ‌المبحث الثاني أسباب الشرك قديمًا

- ‌الباب الثالث: الشرك في هذه الأمة

- ‌الفصل الأول خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك على أمته والتحذير منه

- ‌المبحث الأول في بيان نماذج من خوف النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك فيما يتعلق بذاته سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله، والتحذير منه

- ‌المبحث الثاني في بيان نماذج من خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في الوقوع في الشرك في عبادة الله سبحانه ومعاملته، والتحذير من الوقوع فيه

- ‌الفصل الثاني سده صلى الله عليه وسلم جميع أبواب الشرك

- ‌المبحث الأول سدّه جميع أبواب الشرك الذي يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله

- ‌المطلب الأول: سده جميع أبواب شرك التعطيل

- ‌المطلب الثاني: سده صلى الله عليه وسلم لجميع أبواب شرك الأنداد في الربوبية وخصائصها:

- ‌المبحث الثاني في سدّه صلى الله عليه وسلم جميع أبواب الشرك الذي يتعلق بعبادة الله ومعاملته

- ‌المبحث الثالث سدّه الوسائل القولية والفعلية التي تؤدي إلى الشرك ـ خصوصًا إلى الشرك الأصغر ـ وصدور التحذير منه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع أمته في الشرك الأصغر باللسان:

- ‌المطلب الثاني: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الشرك الأصغر الفعلي:

- ‌المطلب الثالث: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الشرك الأصغر القلبي:

- ‌المبحث الرابع: في بيان شبهة من قال بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة وردّها

- ‌الفصل الثالث في بيان خفاء الشرك على كثير من الناس حتى وقعوا فيه

- ‌المبحث الأول متى وكيف كانت بداية الشرك في هذه الأمة

- ‌المبحث الثاني: في بيان وقوع بعض هذه الأمة في الشرك

- ‌المبحث الثالث دور العلماء في محاربة الشرك ومواجهة الانحرافات العقدية

- ‌الباب الرابع مظاهر الشرك في العصر الحديث

- ‌الفصل الأول في بيان الشرك الذي يتعلق بالربوبية

- ‌المبحث الأول في بيان الشرك في الربوبية بالتعطيل

- ‌المطلب الأول: في بيان الشرك في الربوبية بتعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه ومظاهر ذلك في هذه الأمة:

- ‌المطلب الثاني: في بيان مظاهر الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عن كماله المقدس الثابت له:

- ‌المطلب الثالث: في بيان أنواع الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد:

- ‌المبحث الثاني: الشرك في الربوبية باتخاذ الأنداد

- ‌المحور الأول: في بيان الشرك في الربوبية باتخاذ الأنداد في الذات:

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة القدرة الكاملة لغير الله جل شأنه

الفصل: ‌المبحث الثامن في بيان أمم أهلكوا بعامة في هذه الفترة، قبل موسى عليه السلام وبيان شركهم بالله

‌المبحث الثامن في بيان أمم أهلكوا بعامة في هذه الفترة، قبل موسى عليه السلام وبيان شركهم بالله

تأتي قصة أمم أهلكوا بعامة بعد هذا في الترتيب التاريخي، وذلك قبل نزول التوراة، بدليل قوله تعالى:(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ). وكما رواه الطبري وابن أبي حاتم والبزار، من حديث عوف الأعرابي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: ما أهلك الله قومًا بعذاب من السماء أو من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مُسخت قردة، ألم تر أن الله تعالى يقول:(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ)، ورفعه البزار في رواية له، والأشبه ـ والله أعلم ـ وقفه.

ص: 294

فدل على أن كل أمة أهلكت بعامة كانت قبل موسى عليه السلام، فمنها:

1 -

أصحاب الرس:

قال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)، وقال تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ)، وهذا السياق والذي قبله يدل على أنهم أهلكوا ودمروا وتبروا.

التعريف بالرس:

واختلف المؤرخون في تعيينهم وبيان عقيدتهم، فقالوا في الرس:

1 -

أنه في كلام العرب يطلق على البئر التي تكون غير مطوية، والجمع رئاس.

2 -

إنه كل حفرة في الأرض من بئر أو قبر.

3 -

إن الرس معدن. قاله أبو عبيدة.

4 -

إنه قرية من قرى اليمامة يقال لها: الفلج من ثمود. قاله قتادة.

5 -

وقيل غير ذلك

أنه ما بين نجران واليمن إلى حضرموت، قاله بعض المفسرين.

ص: 295

وقيل: الرس ماء ونخل لبني أسد.

وقيل: الثلج المتراكم في الجبال.

ويطلق أيضًا على الإصلاح بين الناس والإفساد بينهم، فهو من الأضداد.

من هم أصحاب الرس؟

اختلفوا فيه، على أقوال:

1 -

قيل: هم قوم شعيب، حكاه بعض المفسرين.

2 -

إنهم قوم رسوا نبيهم في بئر، قاله عكرمة.

3 -

إنهم قوم كانوا نزولاً على بئر يعبدون الأوثان، وكانوا لا يظفرون بأحد يخالف دينهم إلا قتلوه ورسوه فيه. وكان الرس بالشام، قاله الضحاك.

4 -

إنهم قوم أرسل الله إليهم نبيًا فأكلوه، وهم أول من عمل نساؤهم السحر، قاله الكلبي.

5 -

إنهم قوم باليمامة كان لهم آبار، قاله قتادة، وعنه رواية عند ابن عساكر: بأنهم قوم شعيب.

6 -

إنهم بئر قتل فيها صاحب يس ورسوه، روي عن الضحاك، وهو قول

ص: 296

السدي، وقول مقاتل أيضًا.

7 -

روايات عن ابن عباس رضي الله عنه، وهي:

أ- أنهم أهل بئر بأذريبجان، قتلوا أنبياءهم فخفت أشجارهم وزروعهم فماتوا جوعًا وعطشًا.

ب- وروى ابن جرير عنه أنه قال: الرس قرية من ثمود.

ج- وأخرج ابن المنذر وابن أبي شيبة عن ابن عباس أنه سأل كعبًا عن أصحاب الرس قال: (صاحب البئر الذي قال: يا قوم اتبعوا المرسلين

).

8 -

أنهم أصحاب الأخدود.

9 -

وقيل: هم أصحاب حنظلة بن صفوان، وهو الذي ذكره ابن عساكر في

ص: 297

تاريخه ونصره.

أما شرك هؤلاء القوم:

فقيل:

1 -

كانوا يعبدون الشجر.

2 -

كانوا يعبدون الأصنام.

3 -

أنهم أصحاب حنظلة بن صفوان، وقد ذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه عن قصة هؤلاء القوم بأنهم: (كانت لهم بئر ترويهم وتكفي أرضهم جميعًا، وكان لهم مالك عادل حسن السيرة، فلما مات وجدوا عليه وجدًا عظيمًا كان بعد أيام تصور لهم الشيطان في صورته، وقال: إني لم أمت، ولكن تغيبت عنكم حتى أرى صنيعكم، ففرحوا أشد الفرح، وأمر بضرب حجاب بينهم وربينه، وأخبرهم أنه لا يموت أبدًا، فصدق به أكثرهم وافتتنوا به وعبدوه، فبعث الله فيهم نبيًا وأخبرهم أن هذا شيطان يخاطبهم من وراء الحجاب، ونهاهم عن عبادته، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له.

قال السهيلي: وكان يوحى إليه في النوم، وكان اسمه: حنظلة بن صفوان، فعدوا عليه فقتلوه وألقوه في البئر، فغار ماؤها وعطشوا بعد ريهم، ويبست أشجارهم، وانقطعت ثمارهم، وخربت ديارهم، وتبدلوا بعد الأنس بالوحشة، وبعد الاجتماع بالفرقة، وهلكوا عن آخرهم

).

هذا القول الأخير هو ما يترجح لديّ من جملة الأقوال المروية، ويفهم من

ص: 298

سياق القصة لابن كثير أنه أيضًا يرجح هذا القول، فقد كان شركهم بعبادة ما سوى الله من شجر أو صنم أو شخص افتتنوا به بعد موته، كماتدل عليه هذه القصة.

2 -

قصة قوم يس، وهم أصحاب القرية:

قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).

سأذكر فيما يلي ما روي عن أصحاب القرية، وما كانوا عليه من الشرك:

أما القرية وأصحابها:

فاشتهر عند كثير من السلف والخلف أن هذه القرية: أنطاكية، رواه ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن إسحاق وكعب الأخيار ووهب بن منبه، وكذا روي عن بريدة بن الحصيب، وعكرمة، وقتادة، والزهري، وغيرهم. فهذا

ص: 299

القول عليه جميع المفسرين.

أما أصحاب القرية وعبادتهم والمرسَل إليهم:

1 -

فقال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب ووهب بن منبه أنهم قالوا: كان لها ملك اسمه انطيخس بن انطيحس، وكان يعبد الأصنام، فبعث الله إليهم ثلاثة من الرسل؛ وهم: صادق، وصدوق، وشلوم، فكذبهم. وقال ابن جرير: صادق ومصدوق وسلوم. فقدم إليه وإلى أهل المدينة منهم اثنان، فكذبوهما، ثم عزز اللهُ بثالث.

قال ابن كثير: (وهذا ظاهر أنهم رسل من الله عز وجل.

وكان ملك أنطاكية أحد الفراعنة، يعبد الأصنام، صاحب شرك مع أهلها، وكانت لهم ثلاثة أصنام يعبدونها، وذكر النقاش: أن أسماءها رومس، وقيل: ارطميس، واختلف في اسم الملك على قولين، أحدهما: أن اسمه

ص: 300

انطيخس، الثاني: اسمه انطرا، وعند ابن جرير:(ابطيحس).

2 -

زعم قتادة: أنهم كانوا رسلاً من المسيح، ولم يكونوا رسلاً مستقلين من الله عز وجل، أرسلهم عيسى عليه السلام، وكان اسم المرسلين الأوليين: شمعون ويوحنا، واسم الثالث: بولس، والقرية: أنطاكية. قال ابن كثير: (وهذا القول ضعيف جدًا؛ لأن أهل أنطاكية لما بعث إليهم المسيح ثلاثة من الحواريين كانوا أول مدينة آمنت بالمسيح في ذلك الوقت، ولهذا إحدى كانت المدن الأربع التي تكون فيها بتاركة النصارى؛ وهن: أنطاكية، والقدس، وإسكندرية، ورومية، ثم بعدها إلى القسطنطينية، ولم يهلكوا، وأهل هذه القرية المذكورة في القرآن أهلكوا. كما قال في آخر قصتها بعد قتلهم صديق المرسلين: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)، ولكن إن كانت الرسل الثلاثة المذكورون في القرآن بعثوا إلى أهل أنطاكية قديمًا فكذبوهم فأهلكهم الله، ثم عمرت بعد ذلك، فلما كان في زمن المسيح آمنوا برسله إليهم، فلا يمنع هذا، والله أعلم).

ثم قال ابن كثير: (فأما القول بأن هذه القصة المذكورة في القرآن هي قصة

ص: 301

أصحاب المسيح فضعيف؛ لما تقدم، ولأن ظاهر سياق القرآن يقتضي أن هؤلاء الرسل من عند الله). ولما سبق في الحديث أن الله لم يهلك قومًا بعذاب من السماء ولا من الأرض إلا قبل موسى.

وعلى كلٍ: فقد ثبت بالآيات القرآنية أنهم كانوا يعبدون الأصنام، واتخذوا من دون الله آلهة، كما قال تعالى ـ حكاية عن صديق المرسلين ـ:(وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)، ثم قال مخاطبًا للرسل:(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ)، فعند ذلك قتلوه، قيل: رجمًا، وقيل: عضًّا، وقيل: وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه، وحكى ابن إسحاق عن بعض أصحابه عن ابن مسعود قال: وطئوه بأرجلهم حتى أخرجوا قصبه.

قال المفسرون: فبعث الله إليهم جبريل عليه السلام، فأخذ بعضادتي الباب الذي هو لبلدهم، ثم صاح بهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون، أي أخمدت أصواتهم وسكنت حركاتهم، ولم يبق منهم عين تطرف، قال تعالى:(وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29).

ص: 302

ثم قال ابن كثير: (وهذا كله يدل على أن هذه القرية ليست أنطاكية). إلا أن يقال ـ كما سبق توجيهه من قبل ابن كثير نفسه ـ، بأن الرسل المذكورين في القرآن بعثوا إلى أهل أنطاكية قديمًا فكذبوهم فأهلكهم الله، ثم عمرت بعد ذلك، فلما كان في زمن المسيح أرسل إليهم المسيح رسله فآمنوا، فلا يمنع، والله أعلم. ولكن مع ذلك فيه بعد وتعسف ظاهر؛ (فإن هذه ـ أنطاكية ـ لم يُعرف أنها أُهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم).

3 -

قصة يونس:

قال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ).

وقال: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ).

وقال: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى

ص: 303

حِينٍ)، وقال:(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

فهذه هي الآيات التي تناولت قصة يونس عليه السلام، وما كان من قومه من التوبة، وقبولها من الله، ونجاتهم من العقاب المؤكد من قبل الله عز وجل، فلينظر عن هذا النبي الكريم، وما كان في قومه من الشرك، وكيف نجاهم الله من عقابه.

أما يونس عليه السلام: فهو يونس بن متى ـ بفتح الميم وتشديد المثناة، مقصور ـ، ووقع في تفسير عبد الرزاق أنه اسم أمه، وهو مردود بما في حديث ابن عباس رضي الله عنه (ونسبه إلى أبيه)، فهذا أصح وهو يعني أن متى اسم أبيه وليس اسم أمه. ولم أقف على نسبه في شيء من الأخبار، وقد قيل: إنه كان في زمان ملوك الطوائف من الفرس.

ص: 304

قال اهل التفسير: بعث الله يونس عليه السلام إلى أرض نينوي من أرض الموصل، خرج من بين أظهرهم ووعدهم حلول العذاب بهم بعد ثلاث.

شرك هؤلا القوم:

قال ابن الأثير في بيان شرك هؤلاء القوم ومصيرهم:

(كان قومه يعبدون الأصنام، فبعثه الله اليهم بالنبي عن عبادتها، والأمر بالتوحيد، فأقم فيهم ثلاثا وثلاثين سنة يدعوهم، فلم يؤمن غير رجلين، فلما أيس من إيمانهم دعا عليهم، فقيل له: ما أسرع ما دعوت علي عبادي؟ ارجع اليهم فادعهم أربعين يوماّ، فدعاهم سبعة وثلاثين يومًا فلم يجيبوه، فقال لهم: إن العذاب يأتيكم إلى ثلاث أيام، وآيه ذلك أن ألوانكم تتغير، فلما أصبحوا تغيرت ألوانهم، فقالوا: قد نزل بكم ما قال يونس ولم نجرب عليه كذبا، فانظروا فإن يبت فيكم تأمنوا من العذاب، وإن لم يبت فاعلموا أن

ص: 305

العذاب يصحبكم

) قال السيوطي: (وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، فتفرقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا الي الله واستغفروه، فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب فلم يرا شيئاً، وكان من كذب ولم يكن له بينة قتل، فانطلق مغاضباً حتي أتي قوماً في سفينة فحملوه وعرفوه، فلما دخل السفينة ركدت_ والسفن تسير يميناً وشمالاً_

حتي أوقعوه في الماء، فوقع وقد وكل به الحوت، فلما وقع ابتُلع فأهوى به إلى قرار الأرض، فسمع يونس عليه السلام تسبيح الحصى، فنادى في الظلمات: أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

).

وعلى كلٍ، فقد ثبت أن قومه كانوا على الشرك والكفر، ولكنهم تابوا فتاب الله عليهم.

هذا آخر ما جاءنا بالآثار المعتبرة من أخبار الأمم التي تشير إليها الآية في قوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ).

ص: 306