المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثالث: في بيان أنواع الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد: - الشرك في القديم والحديث - جـ ١

[أبو بكر محمد زكريا]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌الشكر والتقدير:

- ‌التمهيد

- ‌المسألة الأولىمعنى التوحيد وأنواعه

- ‌المسألة الثانيةمعنى الشرك وأنواعه

- ‌المسألة الثالثةهل الأصل في الإنسان التوحيد أو الشرك

- ‌الباب الأول في شرك الأمم السابقة

- ‌الفصل الأول في بيان أول شرك وقع في بني آدم والأدلة عليه

- ‌القول الأول: إن أول شرك في بني آدم كان من قابيل

- ‌القول الثاني: إن بداية الشرك كان في زمن يرد بن مهلائيل

- ‌القول الثالث: إن أول شرك وقع في بني آدم إنما هو من قبل أبناء قابيل

- ‌القول الرابع: إن أول شرك وقع في بني آدم هو في قوم نوح

- ‌الفصل الثاني وقوع الشرك في الأمم السابقة

- ‌المبحث الأول في بيان الشرك في قوم نوح

- ‌المبحث الثاني في بيان الشرك في قوم هود

- ‌المبحث الثالث في بيان الشرك في قوم صالح عليه السلام

- ‌المبحث الرابع في بيان الشرك في قوم إبراهيم عليه السلام

- ‌المبحث الخامس في بيان الشرك في قوم لوط عليه السلام

- ‌المبحث السادس في بيان الشرك في قوم يوسف عليه السلام

- ‌المبحث السابع في بيان الشرك في قوم شعيب عليه السلام

- ‌المبحث الثامن في بيان أمم أهلكوا بعامة في هذه الفترة، قبل موسى عليه السلام وبيان شركهم بالله

- ‌المبحث التاسع في بيان الشرك في قوم موسى عليه السلام

- ‌المبحث العاشر في بيان الشرك في قوم إلياس

- ‌المبحث الحادي عشر في بيان الشرك في قوم عيسى عليه السلام

- ‌الفصل الثالث في بيان أنواع الشرك التي وقعوا فيها

- ‌المبحث الأول هل أشركوا في الربوبية

- ‌المبحث الثاني شرك العبادة في الأمم السابقة

- ‌الباب الثاني: في بيان الشرك في العرب في الجاهلية وأسباب ذلك

- ‌الفصل الأول ديانة العرب قبل دخول الوثنية

- ‌الفصل الثاني متى كان ظهور الشرك في العرب؟ وبيان سببه

- ‌المبحث الأول في بيان شرك العرب في الجاهلية

- ‌المطلب الأول: من أول من روج الشرك في العرب؟ وبيان أحواله

- ‌المطلب الثاني: في بيان طبيعة الشرك لدى العرب في الجاهلية

- ‌المطلب الثالث: أنواع العبادات التي كانوا يوجهونها إلى معبوداتهم:

- ‌المطلب الرابع: طبيعة اعتقاد الجاهليين تجاه معبوداتهم

- ‌أولاً: البساطة والسذاجة:

- ‌ثانياً: وهن العقيدة:

- ‌ثالثاً: تعصبهم لمعبوداتهم:

- ‌رابعًا: تقليدهم لآبائهم في عبادة هذه المعبودات:

- ‌المبحث الثاني أسباب الشرك قديمًا

- ‌الباب الثالث: الشرك في هذه الأمة

- ‌الفصل الأول خوف الرسول صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك على أمته والتحذير منه

- ‌المبحث الأول في بيان نماذج من خوف النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع الشرك فيما يتعلق بذاته سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله، والتحذير منه

- ‌المبحث الثاني في بيان نماذج من خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في الوقوع في الشرك في عبادة الله سبحانه ومعاملته، والتحذير من الوقوع فيه

- ‌الفصل الثاني سده صلى الله عليه وسلم جميع أبواب الشرك

- ‌المبحث الأول سدّه جميع أبواب الشرك الذي يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله

- ‌المطلب الأول: سده جميع أبواب شرك التعطيل

- ‌المطلب الثاني: سده صلى الله عليه وسلم لجميع أبواب شرك الأنداد في الربوبية وخصائصها:

- ‌المبحث الثاني في سدّه صلى الله عليه وسلم جميع أبواب الشرك الذي يتعلق بعبادة الله ومعاملته

- ‌المبحث الثالث سدّه الوسائل القولية والفعلية التي تؤدي إلى الشرك ـ خصوصًا إلى الشرك الأصغر ـ وصدور التحذير منه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من وقوع أمته في الشرك الأصغر باللسان:

- ‌المطلب الثاني: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الشرك الأصغر الفعلي:

- ‌المطلب الثالث: تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع في الشرك الأصغر القلبي:

- ‌المبحث الرابع: في بيان شبهة من قال بعدم وقوع الشرك في هذه الأمة وردّها

- ‌الفصل الثالث في بيان خفاء الشرك على كثير من الناس حتى وقعوا فيه

- ‌المبحث الأول متى وكيف كانت بداية الشرك في هذه الأمة

- ‌المبحث الثاني: في بيان وقوع بعض هذه الأمة في الشرك

- ‌المبحث الثالث دور العلماء في محاربة الشرك ومواجهة الانحرافات العقدية

- ‌الباب الرابع مظاهر الشرك في العصر الحديث

- ‌الفصل الأول في بيان الشرك الذي يتعلق بالربوبية

- ‌المبحث الأول في بيان الشرك في الربوبية بالتعطيل

- ‌المطلب الأول: في بيان الشرك في الربوبية بتعطيل المصنوع عن صانعه وخالقه ومظاهر ذلك في هذه الأمة:

- ‌المطلب الثاني: في بيان مظاهر الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عن كماله المقدس الثابت له:

- ‌المطلب الثالث: في بيان أنواع الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد:

- ‌المبحث الثاني: الشرك في الربوبية باتخاذ الأنداد

- ‌المحور الأول: في بيان الشرك في الربوبية باتخاذ الأنداد في الذات:

- ‌المطلب الأول: الشرك في الربوبية بالأنداد بإثبات صفة القدرة الكاملة لغير الله جل شأنه

الفصل: ‌المطلب الثالث: في بيان أنواع الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد:

الماسونية من الليونز، والروتاري، وبعض الأديان الوضعية المنبوذة كالبوذية، ولكن شرك هؤلاء أنسب بباب آخر غير باب شرك تعطيل أفعال الله، فلهذا آثرت ترك ذكرهم هنا.

‌المطلب الثالث: في بيان أنواع الشرك في الربوبية بتعطيل الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد:

تنبيه:

سبق معنا إثبات كون التعطيل شركًا، كما تضمن هذا البيان أيضًا إثبات كون تعطيل الصانع عما يجب عليه من حقيقة التوحيد شركًا، وهنا أريد أن أشير إلى مجمل هذا البيان بما يلي:

إن دخول هذا النوع من التعطيل في الشرك له سببان:

الأول: لأنه داخل في توحيد المعرفة والإثبات، (أعني: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات)، وكل ما يضاد توحيد المعرفة والإثبات مضادة ظاهرة فهو شرك لا محالة، ولزيادة البيان أمثل بمثال، وهو: أن الواجب على العبد في تحقيق التوحيد أن يعتقد أن ربه على عرشه، ولا يماثله أحد، ولا يشبهه، ولا يحل في أحد، ولا يتحد مع أحد أبدًا، بل هو بائن من خلقه، وإذا لم يكن هذا اعتقاد أحد فإنه ما حقق توحيد الله عز وجل، وبهذا يكون قد وقع في الشرك بالله سبحانه في الربوبية.

الثاني: أنه لما عطل كونه على عرشه، بل عطل كونه مباينًا لخلقه، وربما

ص: 838

عطل وجوده كما هو عند الاتحاديين فإنه يكون قد أشرك بالله جل وعلا من ناحية أخرى، فإنه في اعتقاده هذا عطل ذاته، وربوبيته، وعطل جميع أسمائه وصفاته وأفعاله وجميع مستلزماتها، فلما عطل هذه الأشياء كلها، وقد سبق معنا بيان كون هذه الأشياء من الأسماء والصفات والأفعال لها آثارها في العبودية، والعبد لا يستغني عن العبودية بها مطلقًا، لأن الرب جل وعلا لم يسمّ بهذه الأسماء ولم يتصف بهذه الصفات، ولم يفعل هذه الأفعال إلا لأن الخلق يحتاج إليها لا محالة، فإذا كان قد عطل الله المعبود الحق عن هذه الأشياء كلها فحتمًا يكون قد يتوجه بها إلى المعبود الباطل.

ثم إن في مثل هذا الاعتقاد نداء إلى تأليه الإنسان نفسه.

ونظرًا لجزئيات هذا المطلب فإنني سأبينه في مدخل وثلاثة فروع.

مدخل: في معرفة مذاهب المعطلين الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد:

المعطلون للصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: مذهب الحلول.

ومعنى الحلول: يقال: حل المكان وحل به يَحُلُّ ويَحِلُّ حِلاًّ وحلولاً إذا نزل به.

وفي المعجم الأوسط: (الحلول: اتجاد الجسمين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر).

وفيه: (مذهب الحلول بأن الله حال في كل شيء).

ص: 839

قلت: هذا أحد نوعي الحلول كما سيأتي.

وفيه أيضًا: (الحلولية فرقة من المتصوفة تعتقد مذهب الحلول على غير ما قال به أهل السنة).

وعند بعض الصوفية وبعض فرق النصارى: الحلول: هو حلول اللاهوت بالناسوت. وينقسم عندهم باعتبار تمكنه إلى قسمين:

1 -

الحلول الجواري: وهو عبارة عن كون أحد الجسمين طرفًا للآخر؛ كحلول الماء في الكأس.

2 -

الحلول السرياني: وهو: عبارة عن اتحاد الجسمين بحيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر، كحلول ماء الورد في الورد، وكحلول الماء في المادة السكرية.

وينقسم باعتبار المحل إلى قسمين أيضًا:

1 -

الحلول الخاص: وهو قل النسطورية من النصارى ومن نحا نحوهم ممن يقول: إن اللاهوت حل في الناسوت. فمصدر هذا القول إنما هو من النصارى، ولكن دخل في الإسلام بواسطة الرافضة الغلاة الذين قالوا: إن الله حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، كما قال به الصوفية المنتسبة إلى الإسلام الذين يقولون بأن الله حلَّ في الأولياء.

ص: 840

2 -

الحلول العام: وهو قول الجهمية ومن نحا نحوهم من الأشعرية والماتريدية الذين يقولون: إن الله بذاته في كل مكان.

المذهب الثاني: مذهب الاتحاد:

ومعنى الاتحاد: امتزاج الشيئين واختلاطهما حتى يصيرا شيئًا واحدًا، وينقسم الاتحاد إلى قسمين:

1 -

الاتحاد الخاص: وهو قول يعقوبية النصارى القائلين: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزاجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول به بعض المنتسبين إلى الإسلام في بعض الأشخاص.

2 -

الاتحاد العام: وهو قول الملاحدة الذين يزعمون أن الله عين وجود الكائنات، وهذا القول هو المعبر عنه بوحدة الوجود ـ كما سنرى ـ وهو شر الأقوال كلها كما يقول شيخ الإسلام؛ لأن أولئك قالوا: إن الرب يتحد عبده الذي قربه واصطفاه، فخصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح والأولياء، وهؤلاء جعلوا ذلك ساريًا في الكلاب والخنازير والأقذار والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قد قال:(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) فكيف بمن قال: إن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانين والأنجاس والأنتان وكل شيء؟ !

ص: 841

ومما تجدر الإشارة إليه ونحن نبين معنى الاتحاد عند هؤلاء قولهم: إن من وقع منه الاتحاد فلا يتصور معه أن تبقى منه باقية بل يفنى ويذوب ويصير جوهره جزءًا لا يتجزأ عن جوهر من اتحد به، يقول عبد الرحمن بدوي: (والاتحاد بالله

أن يصير المحب والمحبوب شيئًا واحدًا فعلاً سواء في الجوهر والفعل أي في الطبيعة والمشيئة لانعدام المشير، فلا يصير ثمة غير واحد أحد هو الكل في الكل).

وقال أيضًا في معرض تحليله لقول أبي يزيد البسطامي يخاطب الله: (كنت لي مرآة فصرت أنا المرآة): (أما وقد بلغ أبو يزيد هذه المرتبة التي تعلو فوق مقام الأنبياء، فليثب الوثبة الأخيرة ليلحق بالألوهية نهائيًا فيصير هو والله شيئًا واحدًا).

فهذا القول يكفي في إثبات كونهم ضاهوا به النصارى والروافض.

الفرق بين الحلول والاتحاد:

فلسفة الاتحاد والحلول عند الصوفية تفسر بأن للحب الإلهي ناحيتين:

إحداهما: شوق الحق إلى الخلق، وله اعتباران أو مظهران:

أ- اشتياقه إلى الظهور بعد البطون أو التقيد بعد الإطلاق.

ب- اشتياقه إلى العودة إلى الإطلاق بعد التقييد أو التجرد بعد التعيين.

ص: 842

ثانيهما: شوق الخلق إلى الخلق.

فالناحية الأولى التي يشتاق فيها الحق إلى الخلق نتيجة الحلول، والثانية التي فيها شوق الخلق إلى الحق تنتج الاتحاد، أو بعبارة أخرى: يرى الاتحادي أن المخلوق المصطفى يرتفع بنفسه ويصفو ويسمو بروحه إلى حضرة الذات العلية حتى يتحد بها، ويفنى فيها ولا يبقى له أثر، بينما يرى الحلولي أن الله تعالى يتنازل عن علياته عز وجل فيحل في بعض المصطفين من عباده.

تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ولذلك كثيرًا ما نجد الاتحاديين يعبرون عن رحلتهم إلى الاتحاد بالمعراج، يقول ابن الفارض:

ومن أنا إياها إلى حيث لا إلى عرجت وعطرت الوجود برجعتي

وقال شارحه: يعني عرجت من مقام أنا: إياها ـ وهو ابتداء الاتحاد.

ومن قولهم: أنا الحق، (لا إلا إلا أنا فاعبدني) إلى أن وصلت لا مقام لا نهاية فيه، وعطر الوجود برجوعه لاتصافه بصفات الرحمن واتحاده بذات الملك الديان). فهذا هو الفرق بين الحلول والاتحاد عند الصوفية.

المذهب الثالث: مذهب وحدة الوجود:

(وهو مذهب فلسفي صوفي يوحد بين الله والعالم، ولا يقر بوجود واحد هو الله وكل ما عداه أعراض وتعينات له).

ص: 843

وصف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مذهبهم بقوله: (ويقولون: إن وجود المخلوق هو وجود الخالق، لا يثبتون موجودين خلق أحدهما الآخر، بل يقولون: الخالق هو المخلوق).

وهذا المذهب هو مذهب الاتحاد العام المشار إليه آنفاً، لا يختلفون في شيء، ولذا نجد كثيرًا من أهل العلم يطلقون على ابن عربي وابن الفارض ومن على نهجهما أنهم من أهل الاتحاد، فمرادهم الاتحاد العام الذي هو وحدة الوجود. وهذا الإطلاق كثيرًا ما نجده في عبارات شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، فأينما وجد فالمراد به الاتحاد العام لا الخاص، ويبدو أن الشيخ عبد الرحمن الوكيل لم ينتبه بهذا المعنى فاستدرك كثيرًا على من أطلق لفظ الاتحاد على أهل وحدة الوجود. كما أن الدكتور عبد القادر محمد لم يفقه هذا المعنى، حيث ذهب يتهم ابن تيمية بالخلط بين معنى الاتحاد والحلول ووحدة الوجود. فلو فقه أن للاتحاد معنيين، لبان له الحق ولم يقل ما قال.

ويمكن تلخيص الفرق التي تندرج في هذا النوع من الشرك فيما يلي:

1 -

أصحاب الحلول.

2 -

أصحاب الاتحاد.

3 -

أصحاب الاتحاد العام أصحاب وحدة الوجود.

وكل من الحلول والاتحاد الخاص يقضيان وجود شيئين في الأصل، حل الأعلى منهما في الأدنى أو اتحد الأدنى منهما بالأعلى.

وأصحاب الاتحاد العام هو أصحاب وحدة الوجود. وحقيقتها: أنه لا

ص: 844

وجود لغير الله في العالم جملة وتفصيلاً.

فهذه الفرق الثلاث سنتكلم عليها في الفروع الآتية بمشيئة الله.

الفرع الأول: الحلوليون:

لقد وقع في هذا النوع من الشرك جملة من الفرق والطوائف الموجودة في العصر الحديث، من أشهرهم:

أولاً: بعض الفرق الباطنية المعاصرة، ومن أبرزها.

أ- البهرة بفرعيها السليماني والداودي: حيث يعتقدون أن الإله متجسد في زعيمهم شخصيًا.

ب- كما أن القرامطة كانوا يقولون: الخالق يجب أن يتجسد في صورة بشرية، فيعبدون بذلك إلهًا يعرفونه. والإمام هو الذي تجسد فيه الإله.

ج- كما يعتقد الدروز أن الحاكم بأمر الله: الحاكم العبيدي، له حقيقتان: حقيقة لاهوتية لا تدرك بالحواس ولا بالأوهام ولا تعرف بالرأي، وله حقيقة ناسوتية تظهر كيف شاء في أي صورة شاء.

د- كما يعتقد النصيرية حلول الإله في علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

هـ- البابية والبهائية يعتقدون في البهاء حسين علي المازندراني: أن الله

ص: 845

حلَّ فيه، وإنما ظهر البهاء في صورة البشر ليتمكن من ترشيد الناس وإصلاحهم إلى الحق ـ كما يزعمون ـ.

ثانياً: بعض النحل المعاصرة، منها:

أ- القاديانية: لأنهم يعتقدون حلول الله في غلام أحمد القادياني، وادَّعاه هذا الكاذب لنفسه في كتبه.

ب- الروحية الحديثة: حيث إن من اعتقادهم: (أنهم في الله وأن الله فيهم).

فهذه هي الطوائف التي أشركت بالله جل وعلا في الربوبية بتعطيل الصانع عما يجب له من حقيقة التوحيد، وذلك بقولهم بالحلول، وسيأتي فيما بعد ذكر الطوائف الأخرى، ولكنها تستند ـ فيما تزعم ـ بأدلة شرعية أو عقلية. أما هؤلاء فلم يذكروا في اعتقادهم هذا في الله أيَّ دليل أو شبهة لا من الشرع ولا من العقل، وإنما يذكرونه كدعوى تقرير.

1 -

إن هذا الاعتقاد أصلاً مستقي من الفلسفة اليونانية، وهي عنصر رئيس في الفلسفة الهندية، والمسيحية استمدت هذه الفكرة من الهندوكية.

ص: 846

2 -

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (إن هذا القول ـ الحلول والتجسيد ـ كفر صريح باتفاق المسلمين،

فإذا قيل: ظهر في صورة إنسان وتجلى فيه، فإن اللفظ يصير مشتركًا بين أن تكون ذاته فيها، وأن تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها وكلاهما باطل، فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يرى المرئي في المرآة).

3 -

قال الرازي: (إن المعقول من حلول الشيء في غيره كون هذا الحالّ تبعًا لذلك المحل في أمر من الأمور، وواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون تبعًا لغيره، فوجب أن يمتنع عليه الحلول).

4 -

(إنه تعالى لا يجوز أن يحل في غيره، وذلك لأن الحلول هو الحصول على سبيل التبعية وأنه ينفي الوجوب الذاتي، وأيضًا: لو استغنى عن المحل لذاته لم يحل فيه، إذ لابد في الحلول من حاجة، ويستحيل أن يعرض للغني بالذات ما يحوجه إلى المحل، لأن ما كان غنيًا لا يزول بالغير، ولا احتاج إليه: أي إلى المحل لذاته، فإن الاستغناء عدم الاحتياج ولا واسطة بينهما، ولزم حينئذ مع حاجة الواجب قدم المحل، فيلزم محالات معًا).

5 -

إن الحلول محال ولا يمكن تصوره بين عبدين، فكيف يمكن تصوره بين العبد وربه؟ .

ص: 847

6 -

(إن القديم يختلف عن الحادث لاختلاف الماهية في كل منهما، وهذا الاختلاف يوجب استحالة حلول القديم في الحادث.

7 -

كما أن الله واجب الوجود، وهذا الوصف ينفي الحلول، لأنه في حالة حدوثه يصبح الحالّ تبعًا لما حل فيه، وكما يصبح معلولاً لهذا المحل ومتأثرًا به، بل إن ليصبح في غير الإمكان تصور الحال إلا بتصور المحل، إذن ينتفي الحلول في هذه المرة كما استحال في الأولى).

من الطوائف الأخرى التي وقعت في هذا النوع من الشرك، والتي تزعم أن لديها مستند من الشرع أو العقل ما يلي:

ثالثاً: الجهمية: حيث ادعوا أن الله في كل مكان، ونفوا كونه على عرشه. وبهذا وقعوا في الحلول العام. ويقال لهم: الجهمية الحلولية، غلب على عُبَّادهم وصوفيتهم وعامتهم من شبهاتهم في هذا الباب:

1 -

قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).

2 -

قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ).

3 -

قوله تعالى: (وهو معكم أين ما كنتم).

ص: 848

الردود على هذه الافتراءات:

كل من آمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا يعرف قبح هذا القول بفطرته السليمة، وذلك لما يترتب على اعتقاد مثل هذا القول من مفاسد عظيمة بأبى القلب تصورها، فضلاً أن يكون هذا صحيحًا في حقيقة الأمر، فمن اعتقد أن ربه في كل مكان يستلزم أن يكون في القاذورات والنجاسات والحمامات ـ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا ـ.

أما بالنسة لاستدلالاتهم ببعض الآيات القرآنية فإنني سأكتفي بنقل بعض الردود العلمية من الأئمة الكبار في هذا الشأن:

أولها: ردُّ الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ:

قال الإمام أحمد: (بيان ما أنكرت الجهمية أن يكون الله على عرشه). فقلنا: لِمَ أنكرتم أن يكون الله على العرش؟ وقد قال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى).

فقالوا: هو تحت الأرض السابعة، كما هو على العرش، فهو على العرش وفي السموات وفي الأرض وفي كل مكان، وتلوا آية من القرآن:(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ).

فقلنا: قد عرف المسلمون أماكن كثيرة ليس فيها من عظمة الرب شيء.

فقالوا: أيَّ مكان؟

فقلنا: أجسامكم وأجوافكم وأجواف الخنازير والحشوش والأماكن

ص: 849

القذرة ليس فيها من عظمة الرب شيء، وقد أخبرنا أنه في السماء).

وساق الإمام بعض الآيات الدالة على أن الله في السماء عاليًا على خلقه، ثم قال: (وقلنا لهم: أليس تعلمون أن إبليس كان مكانه، والشياطين مكانهم، فلم يكن الله ليجتمع هو وإبليس في مكان واحد.

وإنما معنى قول الله جل ثناؤه: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ). يقول: هو إله من في السموات، وإله من في الأرض، وهو على العرش، وقد أحاط علمه بما دون العرش، ولا يخلو من علم الله مكان، ولا يكون علم الله في مكان دون مكان. فذلك قوله:(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً).

وقال: من الاعتبار في ذلك: لوأن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صاف، وفيه شراب صاف، لكان نظر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح. والله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بجميع خلقه من غير أن يكون في شيء من خلقه.

وخصلة أخرى: لو أن رجلاً بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيتًا في داره، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله ـ وله المثل الأعلى ـ قد أحاط بجميع ما خلق، وعلم كيف هو؟ وما هو؟ من غير أن يكون في شيء مما خلق، ـ ثم قال: ـ وما تأول الجهمية من قول الله عز وجل: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)؟

ص: 850

فقالوا: إن الله معنا وفينا. فقلنا: الله جل ثناؤه يقول: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)، ثم قال:(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ)؛ يعني الله بعلمه (وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا) يعني الله بعلمه (هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) يعني بعلمه فيهم (أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، بفتح الخبر بعلمه وبختم الخبر بعلمه.

ويقال للجهمية: إن الله إذا كان معنا بعظمة نفسه فقل له: هل يغفر الله لكم فيما بينه وبين خلقه؟

فإن قال: نعم، فقد زعم أن الله بائن من خلقه دونه، وإن قال: لا، كفر.

وإذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله حين زعم أن الله في كل مكان ولا يكون في مكان دون مكان، فقل: أليس الله كان ولا شيء؟

فيقول: نعم.

فقل له: حين خلق الشيء خلقه في نفسه أو خارجًا عن نفسه؟ فإنه يصير إلى ثلاثة أقوال لابد له من واحد منها:

إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه كفر، حين زعم أن الجن والإنس والشياطين نفسه.

وإن قال: خلقهم خارجًا ثم دخل فيهم، كان هذا أيضًا كفر حين زعم أنه دخل في مكان رجس وقذر ورديء.

وإن قال: خلقهم خارجًا ثم لم يدخل فيهم رجع عن قوله أجمع، وهو قول أهل السنة).

ص: 851

ثانيها: رد الإمام عثمانم بن سعيد الدارمي:

حيث قال ردًا على الحلولية ومنكرًا عليهم مقولتهم: (أرأيتم إذا قلتم: هو في كل مكان، وفي كل خلق، أكان الله إلهًا واحدًا قبل أن يخلق الخلق والأمكنة؟ قالوا: نعم.

قلنا: فحين خلق الخلق والأمكنة، أقدر أن يبقى كما كان في أزليته في غير مكان؛ فلا يصير في شيء من الخلق والأمكنة التي خلقها بزعمكم، أو لم يجد بدًا من أن يصير فيها، أو لم يستغن عن ذلك؟

قالوا: بلى.

قلنا: فما الذي دعا الملك القدوس إذ هو على عرشه في عزه وبهائه بائن من خلقه أن يصير في الأمكنة القذرة، وأجواف الناس، والطير والبهائم؟

لقد شوهتم معبودكم إذا كانت هذه صفة، والله أعلى وأجل من أن تكون هذه صفته، فلابد من أن تأتوا ببرهان بيّن على دعواكم من كتاب ناطق أو سنة ماضية، أو إجماع من المسلمين، ولن تأتوا بشيء منه أبدًا.

ثم قال: فاحتج بعضهم فيه بكلمة زندقة أستوحش من ذكرها، وتستر آخر من زندقة صاحبه، فقال: قال الله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

ص: 852

قلنا: هذه الآية لنا عليكم، لا لكم، إنما يعني أنه حاضر كل نجوى، ومع كل أحد من فوق العرش بعلمه، لأن علمه بهم محيط، وبصره فيهم نافذ، لا يحجبه شيء عن علمه وبصره، ولا يتوارون منه بشيء، وهو بكماله فوق العرش بائن من خلقه (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى)، أقرب إلى أحدهم من فوق العرش من حبل الوريد، قادر على أن يكون له ذلك، لأنه لا يبعد عنه شيء ولا تخفى عليه خافية في السموات ولا في الأرض، فهو كذلك رابعهم وخامسهم وسادسهم، لا أنه معهم بنفسه في الأرض كما ادعيتم، وكذلك فسرته العلماء.

فقال بعضهم: دعونا من تفسير العلماء، إنما احتججنا بكتاب الله، فأتوا بكتاب الله.

قلنا: نعم، هذا الذي احتججتم به هو حق، كما قال الله عز وجل، وبها نقول على المعنى الذي ذكرنا، غير أنكم جهلتم معناها، فضللتم عن سواء السبيل، وتعلقتم بوسط الآية، وأغفلتم فاتحتها وخاتمتها، لأن الله عز وجل افتتح الآية بالعلم بها، وختمها به، فقال:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ). الآية، ففي هذا دليل على أنه أراد العلم بهم وأعمالهم، لا أنه في كل مكان معهم كما زعمتم. فهذه حجة بالغة لو عقلتم).

ثالثها: ردّ المحدث محمد بن الحسين الآجري:

ص: 853

حيث قال ـ رحمه الله تعالى ـ محذرًا من مذهب الحلولية:

(أما بعد، فإني أحذر إخواني المؤمنين مذهب الحلولية، الذي لعب بهم الشيطان فخرجوا بسوء مذهبهم عن طريق أهل العلم إلى مذاهب قبيحة لا تكون إلا في مفتون هالك.

زعموا: أن الله عز وجل حالٌ في كل شيء حتى أخرجهم سوء مذهبهم إلى أن تكلموا في الله عز وجل بما تنكره العلماء العقلاء، لا يوافق قولهم كتاب ولا سنة وقول الصحابة رضي الله عنهم ولا قول أئمة المسلمين، وإني لأستوحش أن أذكر قبيح أفعالهم تنزيهًا مني لجلال الله الكريم وعظمته كما قال ابن المبارك:(إنا لنستطيع أن نحكي كلام اليهود والنصارى، ولا نستطيع نحكي كلام الجهمية) ثم إنهم إذا أنكروا عليهم سوء مذهبهم قالوا: لنا حجة من كتاب الله عز وجل. وإذا قيل لهم: ما الحجة؟

قالوا: قال الله عز وجل في كتابه في سورة المجادلة: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ) الآية، وبقوله تعالى:(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

ص: 854

فلبَّسوا على السامع منهم بما تأولوا، فسروا القرآن على ما تهوى أنفسهم فضلوا وأضلوا، فمن سمعهم ممن جهل العلم ظن أن القول كما قالوا، وليس هو كما تأولوه عند أهل العلم.

والذي يذهب إليه أهل العلم: أن الله عز وجل على عرشه فوق سماواته، وعلمه محيط بكل شيء، قد أحاط علمه في جميع ما خلق .. وهو على عرشه سبحانه الأعلى، ترفع إليه أعمال العباد، وهو أعلم بها من الملائكة الذين يرفعونها بالليل والنهار).

ثم قال: (فإن قال قائل: فأين معنى قوله تعالى: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ). الآية التي بها يحتجون؟

قيل له: علمه عز وجل، والله على عرشه وعلمه محيط بهم، وبكل شيء من خلقه، كذا فسره أهل العلم، والآية تدل أولها وآخرها على أنه العلم.

فإن قال قائل: كيف؟

قيل: قال الله عز وجل: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) فابتدأ الله عز وجل الآية بالعلم وختمها بالعلم، فعله عز وجل محيط بجميع خلقه وهو على عرشه، وهذا من قول المسلمين).

هذه بعض أقوال السلف في الرد على الجهمية، وكل عاقل يدرك بفطرته النقية بطلان هذا القول لمخالفته الحق والصواب الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وعقلائها.

ص: 855

ثم إن هذه الأقوال السلفية كما أنها ردٌّ على الجهمية الحلولية القائلين بالحلول المطلق العام هكذا تصلح ردًّا على المتصوفة ـ الآتي ذكرهم ـ القائلين بالحلول المقيد الخاص. لهذا أطلت في نقل هذه الردود كي تكون ردًّا على كلتا الطائفتين الحلوليتين، إذ الشبهات هي هي، وإن اختلف القائلون بها.

رابعًا: بعض المتصوفة:

هناك بعض المتصوفة المنتسبة إلى الإسلام قد قالوا بالحلول الخاص والمقيد، ووقعوا في هذا النوع من الشرك، وما زال بعض الناس يزعمون أن هؤلاء المتصوفة الحلوليين من علماء هذه الأمة وعظمائها، وتنبيهًا على هذا الخطأ ونصحًا للأمة سأورد هنا بعض هؤلاء المتورطين في القول بالحلول، ونماذج من أقوالهم. ولكن قبل أن ندخل في بيان أقوال هؤلاء المتصوفة يحسن بنا أن نتعرف على الصوفية والمتصوفة ومستقاها في عقائدها وأفكارها.

التعريف بالتصوف والمتصوفة:

هذه الكلمة (التصوف) اختلف في اشتقاقها اللغوي اختلافاً عجيباً، كما اختلف في ذكر معناها الاصطلاحي اختلافًا غريبًا، وإنني فيما يلي سأذكر أصح ما عندي من هذه الأقوال والآراء:

التصوف أصل تسميته من الصوف، حيث ذهب غالب المتصوفة المتقدمين والمتأخرين إلى أن الصوفي منسوب إلى لبس الصوف، واختاره

ص: 856

جمع من أهل السنة الذين صنفوا في الرد على التصوف، كابن خلدون، وابن تيمية.

أما في اصطلاح الصوفية، فقد وجد لديهم عبارات تفوق المئات بل الآلاف في تحديد هذا المصطلح، ولعل أصح ما قال فيه أحد متأخريهم:(إنه لم ينته الرأي فيه إلى نتيجة حاسمة بعد).

ومن الطريف أنهم يرجعون ذلك إلى عظمة قدر التصوف والصوفية حيث إن التصوف ـ كما يحلله هؤلاء ـ لا تدرك أغواه ولا تبلغ أبعاده، إذ هو مادة جميع العلوم والفنون، فيفوق الحدود والضوابط، ولا يقدر أحد أن يجمع كل جوانبه في ألفاظ قليلة حاصرة، بل غاية أمر المتعرض لتعريفه وحده أن يعبر عما أدركه هو في التصوف، وما رآه من مقامات الرجال وأحوالهم، فكل يعبر عن حاله وذوقه ومشاهداته التي يزعمها.

وهذه النزعة الباطنية تهدف ـ بلا ريب ـ إلى فتح طرق ومسالك ينفذ منها أهل التصوف إلى سن طرق ومخارج جديدة في البدعة كلما شدد عليهم الخناق.

فهم لا يريدون أن يكون التصوف مما يضبط بضوابط معينة، ويحدُّ بحدود معلومة، بل يريدونه شعاباً وأوعارًا لا تحد ولا تحصى، فمتى اكتشف الناس أن شعباً ما يؤدي إلى مخالفة الكتاب والسنة فتحوا شعباً آخر أكثر إيغالاً في

ص: 857

الوعورة والحزونة، ولا شك أنهم لو حدوا التصوف حدًا جامعًا، وقيدوه بالكتاب والسنة لأدى ذلك إلى كشف زيف ما يظهرونه من أمور تخدع الساذج والمغفل.

وهذا الأمر هو الظاهر في عدم تعريفهم التصوف تعريفًا واحدًا جامعًا مانعًا، فليس في تناقض أقوالهم وعدم تعريف التصوف بتعريف جامع مانع أي عظمة قدر لهم كما يزعمون.

نشأة التصوف:

إذا تتبعنا كتب التاريخ التي كتبت عن نشأة الفرق في الإسلام فإننا سنجد بأن أول بوادر ظهور التصوف وبروزه ظاهرة معروفة بهذا الاسم ولها تعاليم خاصة بها ومدرسة وتلاميذ تربيهم خاصة تختلف مع التربية العامة التي يسلكها أهل السنة والجماعة في تربية الأجيال المسلمة، كان في القرن الثاني الهجري، وذلك نتيجة توسع الفتوحات الإسلامية واختلاط الشعوب المتنوعة المختلفة في عقائدها وأجناسها ولغاتها، ولذا لا يستبعد أن يكون بعض من المسلمين تأثروا بالعقائد التي كانت موجودة وسائدة هناك، خاصة وأن التصوف كان معروفًا قبل الإسلام في الأمم الماضية وبالأخص في بلاد فارس والهند، وكان من مصادره الديانة النصرانية المنحرفة، وبعض الديانات الوضعية؛ كالهندوسية والبوذية، واليونانية الوافدة.

ص: 858

المقصود بالمتصوفة في هذا الباب:

المتصوفة على أقسام عدة كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ وذكره الرازي أيضًا في بعض مصنفاته. والمقصود من هذه الأقسام عندنا ما يلي:

1 -

المتصوفة الحلولية: وهم القائلون بحلول الله في بعض مخلوقاته.

2 -

المتصوفة الوجودية: وهم القائلون بوحدة الوجود.

3 -

المتصوفة الإباحية: وهم القائلون بسقوط التكاليف وإباحة المحرمات.

4 -

المتصوفة القبورية: وهم الداعون إلى دعاء الأنبياء والأولياء أحياءً وأمواتًا، من دون الله أو مع الله، والمستغيثون بهم، والطالبون لكشف الكربات وقضاء الحاجات منهم.

ولما كان هدفنا هنا بيان المشركين بالله جل وعلا في الربوبية بتعطيل حقيقة ما يجب على العبد من التوحيد، فإننا سوف نتناول فيما يلي: المتصوفة الحلولية، والمتصوفة الوجوية (أصحاب الوحدة والاتحاد). راجياً أن يكون الكلام على المتصوفة القبوبية في المبحث الثاني ـ بمشيئة الله ـ وأما المتصوفة الإباحية فهم مندرجون تحت شرك تعطيل الرب ج وعلا في كماله المقدس بتعطيل أفعاله، وقد سبق الكلام عليه.

المتصوفة الحلولية والوجودية قديمًا وحديثاً:

ولعل أول من قال بالحلول من المتصوفة في الإسلام هو الحلاج، فمن

ص: 859

أقواله في هذا الباب:

مزجت روحك في روحي كما

تمزج الخمرة بالماء الزلال

فإذا مسّك شيء مستني

فإذا أنت أنا في كل حال

ويقول أيضًا:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا

ليس في المرآة شيء غيرنا

قدسها المنشد إذ أنشده

نحن روحان حللنا بدنا

لا أناديه ولا أذكره

إن ذكري وندائي يا أنا

وأما الاتحاد: فلعل أول من قال به في الإسلام من المتصوفة: أبو يزيد البسطامي، ومن أقواله في هذا البا:

(من ثلاثين سنة كان الحق مرآتي، فصرت اليوم مرآة نفسي، لأني لست الآن من كنته، وفي قولي: أنا والحق إنكار لتوحيد الحق؛ لأني عدم محض).

فهما رائدان من رواد الحلول والاتحاد، قد تبعهما كثير من المتصوفة، فمن هؤلاء:

1 -

الشبلي: حيث قال هو بنفسه: (أنا والحلاج في شيء واحد، خلصني جنوني وأهلكه عقله).

2 -

الغزالي: وذلك؛ أنه قسم التوحيد أربع مراتب:

ص: 860

الأولى: أن يقول الإنسان بلسانه: (لا إله إلا الله) وقلبه غافل عنه، أو منكر له كتوحيد المنافقين.

الثانية: أن يصدق بمعنى اللفظ كما صدق به عموم المسلمين وهو اعتقاد العوام.

الثالثة: أن يشاهد ذلك بطريقة الكشف بواسطة نور الحق، وهو مقام المقربين، وذلك؛ بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها على كثرتها صادرة عن الواحد القهار.

الرابعة: أن لا يرى في الوجود إلا واحدًا، وهي مشاهدة الصديقين، وتسمية الصوفية: الفناء في التوحيد؛ لأنه من حيث لا يرى إلا واحدًا فلا يرى نفسه أيضًا، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقاً بالتوحيد كان فانيًا عن نفسه في توحيده

.

3 -

ابن الفارض: ويدل عليه ما جاء في تائيته:

إليَّ رسولاً كنت مني مرسلاً

وذاتي بآياتي علي استدلت

وقوله أيضًا:

تحققت أني في الحقيقة واحد

وأثبت صحو الجمع محو التشتت

4 -

ابن عربي الملقب عند المتصوفة بالشيخ الأكبر:

ويدل عليه كثير من كتبه، وبالخصوص: فصوصه. والذي جاء فيه:

(فكل ما ندركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات. فمن حيث

ص: 861

هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصورة فيه هو أعيان الممكنات).

5 -

ابن سبعين: ومن الأقوال الدالة على كونه من أصحاب وحدة الوجود ما يلي:

قوله: (فإن عرفته في كل شيء عين كل شيء لا الصورة المتعينة لم تجهله في صورة أصلاً).

6 -

العفيف التلمساني ـ الفاجر ـ: والذي يدل على أنه كان من أصحاب وحدة الوجود:

ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ (مر التلمساني ومعه شخص بكلب، فركضه الآخر برجله، فقال: لا تركضه، فإنه منه).

7 -

أبو الحسن الشاذلي: شيخ الطريقة الشاذلية المعروفة حيث قال:

(من أطاعني في كل شيء بهجرانه لكل شيء أطعته في كل شيء بأن أنجلي له في كل شيء حتى يراني أقرب إليه من كل شيء، هذه هي طريق أولى، وهي طريق السالكين، وطريق كبرى، من أطاعني في كل شيء، بإقباله على كل

ص: 862

شيء لحسن إرادة مولاه في كل شيء أطعته في كل شيء بأن أنجلي له في كل شيء حتى يراني كأني عين كل شيء).

8 -

النابلسي الحنفي: حيث كان هو من أكثر الناس دفاعًا عن عقيدة وحدة الوجود.

ومما يدل عليه صراحة كتابه: (جواب عبد الغني)، وقد جاء فيه في تفسير قوله تعالى:(وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ). أي: الذين ألهاهم التكاثر، أي: التكاثر عن الوحدة، حتى زاروا المقابر، أي حتى ماتوا على كثرة أعيانهم ولم يرجعوا إلى العين الوحدة).

9 -

التجاني: من أقواله في وحدة الوجود:

(كذلك صاحب اليقين سلبه الله صورة الغير والغيرية ولم يبق في حسه وشهوده وإدراكاته وذوقه إلا الحق محضًا سبحانه وتعالى من كل وجه وبكل اعتبار، كما قال بعض العارفين:

ص: 863

فلم يبق إلا الله لا شيء غيره

فما ثم موصول ولا ثم بائن

وقال أيضًا: (فكل عابد أوساجد لغير الله في الظاهر فما عبد ولا سجد إلا لله تعالى، لأنه هو المتجلي في تلك الألباس

).

10 -

أشرف علي التهانوي الديوبندي الحنفي الملقب عند أغلب الأحناف بحكيم الأمة: حيث قال نقلاً عن الشيخ إمداد الله: (قيل لموحد: إذا كان الحلوي والخرء شيئًا فكل الحلوى والخرء جميعاً، فجعل هذا الموحد شكله شكل الخنزير، فأكل الخرء، ثم حول نفسه من صورة الخنزير إلى صورة الآدمي، فأكل الحلوى).

فعلق عليه أشرف علي التهانوي بقوله: (إن هذه المعترض على هذا الموحد كان غبيًا، ولذلك تكلف هذا الموحد هذا التصرف، وإلا فالجواب ظاهر، وهو أن الحلوى والخرء متحدان في الحقيقة لا في الأحكام والآثار).

11 -

الشيخ إمداد الله: إمام الديوبندية الحنفية وشيخهم الأول في التصوف: حيث قال: (أعجبني بعض الأمور الطيبة في الحرمين:

منها: عقيدة وحدة الوجود انتشرت كثيرًا في الناس وارتكزت فيهم حتى الأطفال

).

نقول: لقد كان هذا ـ إن صح قوله ـ في عصر الظلمات قبل قيام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله بدعوته السلفية، نحمد الله عز وجل

ص: 864

الذي أزال عن هذه الديار تلك الخبائث والرذائل والشرك والكفر والبدع بمثل هذا المجدد، وأقرت عيون السلفية بدعوته المباركة.

12 -

البريلوي: حيث زعم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جزء من نور الله، وأن الكون إنما هو من نوره صلى الله عليه وسلم، حتى وصل الأمر إلى كون المخلوق جزءًا من الخالق. أقول: وليس هذا إلا عقيدة وحدة الوجود.

فهذه نماذج من شرك المتصوفة بتعطيل الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.

وهو اسم لثلاثة فروع:

1 -

الحلول: وقد سبق الرد عليه عند الرد على الجهمية الحلولية.

2 -

الاتحاد الخاص: وسيكون الكلام في الرد عليه في النوع الثاني.

3 -

وحدة الوجود أو الاتحاد العام: وسيرد على هذا الاعتقاد في الفرع الثالث.

فإن قيل: ما وجه ذكر هؤلاء المتصوفة في العصر الحاضر، وقد ماتوا وفاتوا وبادوا؟

يقال: لا عبرة بكونهم قد مضوا، بل العبرة بوجود أفكارهم بعد موتهم أيضًا: فهؤلاء الذين ذكرتهم الآن ـ وسيأتي ذكر الآخرين منهم ـ إنما ذكرتهم لسببين اثنين:

ص: 865

الأول: إن أفكار هؤلاء الأساطين موجودة برمتها عند المتصوفة بدون أي تعديل، بل ربما تطورت إلى أودية وشعاب.

الثاني: إن هؤلاء المشايخ هم مشايخ التصوف في القديم، ومشايخ التصوف في الحاضر، فما من متصوف إلا وهو يبجل هؤلاء المذكورين، ويذكرهم بأنهم أولياء الله، فلينظر العاقل إلى نفسه، بأنه لو كان الأمر في المشايخ والأساطين هكذا ـ بأنهم مبتلون بالشرك بالله، فما بال أتباعهم؟ .

الفرع الثاني: الاتحاديون، والردود عليهم:

أما الاتحاد فيمكن أن يجاب عنه بما يلي:

1 -

قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: (الخالق والمخلوق إذا اتحدا، فإن كانا بعد الاتحاد اثنين ـ كما كان قبل الاتحاد ـ فذلك تعدد وليس اتحاد، وإن كانا استحالا إلى شيء ثالث كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد

لزم من ذلك أن يكون الخالق قد استحال وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره فإنه لابد أن يستحيل، وهذا ممتنع على الله تعالى منزه عنه، لأن الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجودًا، والرب تعالى واجب الوجود بذاته، وصفاته اللازمة له صفات كمال، فعدم شيء منها نقص يتعالى الله عنه، ولأن اتحاد المخلوق بالخالق يقتضي أن العبد متصف بالصفات القديمة اللازمة لذات الرب، وذلك ممتنع على العبد المحدَث المخلوق، فإن العبد يلزمه الحدوث والافتقار والذل، والرب تعالى يلازمه القدم والغنى والعزة، وهو ـ سبحانه ـ قديم غني عزيز يستحيل عليه نقيض ذلك، فاتحاد أحدهما بالآخر: يقتضي أن يكون الرب متصفًا بنقيض صفاته من الحدوث والفقر

ص: 866

والذل، والعبد متصفًا بنقيض صفاته من القدم والغنى الذاتي، وكل ذلك ممتنع).

2 -

أن يقال في الرد عليهم: إن هذا القول ليس له دليل من الشرع ولا مستند من العقل، بل هذه عقيدة دخيلة في الإسلام من الديانة الهندوسية والديانة النصرانية، وكفى كون هذه العقيدة من هاتين الديانتين أن تكون باطلة.

الفرع الثالث: أصحاب وحدة الوجود:

سبق معنا بيان المقصود بأصحاب وحدة الوجود، بأنه لم يذهب إلى هذا المذهب إلا بعض المتصوفة. وفيما يلي بعض الردود على أفكارهم وآرائهم.

1 -

إن هذا الاعتقاد من الاعتقادات الدخيلة في الإسلام، حيث إنه لا دليل له من الشرع ولا مستند له من العقل، وإنما يوجد مثل هذا الاعتقاد في الديانة الهندوسية، وبعض الديانات المنحرفة.

2 -

وقد ناقش شيخ الإسلام هذا المذهب وبين أنه يقوم على أصلين هما:

أ- أن المعدوم ثابت في العدم.

ب- وجود الأعيان نفس وجود الحق.

أما الأصل الأول: فقد نشأ عند ابن عربي من علم الله الأشياء قبل إيجادها، فرأى أنها لابد أن تكون ثابتة في العدم، وإلا لما علمت وتعلق بها العلم.

ص: 867

وهذه شبهة واهية، لأن علم الله الشيء لا يستلزم ثبوته في العدم، فالإنسان يعلم الموجود والمعدوم الممكن والمعدوم المستيحل

فهذه أمور نتصورها نوع تصور، ولا يكون لها ثبوت في الخارج، فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس ثبوتًا لعينه في الخارج

والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف، أن المعدوم ليس في نفسه شيئًا، وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد.

وأما الأصل الثاني: وهو قولهم: إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه، فقد ذكر شيخ الإسلام: أن هذا الأصل انفردا به عن جميع مثبتة الصانع من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وأن هذا هو حقيقة قول فرعون والقرامطة المنكرين لوجود الصانع.

فمن فهم هذا فهم جميع كلام ابن عربي نظمه ونثره وما يدعيه من أن الحق يغتذي بالخلق، لأن وجود الأعيان معتمد بالأعيان الثابتة في العدم، ولهذا يقول بالجمع من حيث الوجود، وبالفرق من حيث الماهية والأعيان، ويزعم أن هذا هو سر القدر، لأن الماهيات لا تقبل إلا ما هو ثابت لها في العدم في أنفسها فهي التي أحسنت وأساءت، وحمدت وذمت، والحق لم يعطها شيئًا إلا ما كانت عليه في حال العدم.

فكلامه تضمن شيئين:

إنكار وجود الحق.

وإنكار خلقه لمخلوقاته.

فهو منكر للرب الذي خلق فلا يقر برب ولا بخلق، ومنكر لرب العالمين،

ص: 868

فلا رب ولا عالمون مربوبون، إذ ليس إلا أعيان ثابتة ووجودها قائم بها، فلا الأعيان مربوبة ولا الوجود مربوب، ولا الأعيان مخلوقة، ولا الوجود مخلوق، وهو يفرق بين المظاهر والظاهر والمجلي والمتجلي، لأن المظاهر عنده هي الأعيان الثابتة في العدم، وأما الظاهر فهو وجود الخلق.

وقد أبطل شيخ الإسلام هذا الأصل بقوله: هذه الأعيان المعدومة الثابتة في العدم هل خلقها الله وجعلها موجودة بعد أن كانت معدومة؟ أم لم يخلقها فلا تزال معدومة؟

فإن كان الأول: امتنع أن تكون هي إياه، لأن الله لم يكن معدومًا فيوجد.

وإن كان الثاني: وجب أن لا يكون شيء لم يكن موجودًا وهذا تبطله المشاهدة والعقل والشرع، ولا يقوله عاقل، ولا يقبله عقل.

وأما قولهم: ظهر الحق وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهي ومجلي إلهي، فقال شيخ الإسلام: أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك؟ أو تعني أنه صار ظاهرًا متجليًا لها بحيث تعلمه؟ أو تعني أنه ظهر لخلقه بها وتجلى بها؟

فإن عنيت الأول: فهو باطل، فقد صرحت بأن عين المخلوقات ـ حتى النجاسة منها ـ هي ذات الله أو هي وذات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم، وأن الله ثالث ثلاثة، وأن الله يلد ويولد، وأن له بنين وبنات.

وإن عنيت أنه صار ظاهرًا متجليًا لها، فهذا حقيقة أمر صار معلومًا لها، ولا ريب أن الله يصير معروفًا لعبده لكن كلامك في هذا باطل من وجهين:

ص: 869

1 -

إنك جعلته معلومًا للمعدومات التي لا وجود لها لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل.

2 -

إنه إذا علم أن الشيء سيكون، لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالمًا قادرًا فاعلاً، وأن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصبح منه العلم.

وأما إن قلت: إن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليها، فهذا حق، لكنك لم تقل هذا الوجهين:

1 -

إنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطي شيئًا خلقه، بل جعلت نفسه هو هي المتجلية لها.

2 -

إنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه وجعلها آيات تكون تبصرة، والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات ..

وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله، فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين، ولا سيما إذا قيل: ظهر فيها وتجلى، فإن اللفظ يصير مشتركًا بين أن تكون ذاته فيها أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل، فإن ذات الله ليس في المخلوقات، ولا نفس ذاته ترى في المخلوقات كما يرى المرئي في المرآة.

ولكن ظهورها: دلالتها عليه شهادتها له، وأنها آيات له على نفسه وصفاته سبحانه وتعالى.

ص: 870

ويقول في معرض رده على القائلين بأن الوجود واحد بمعنى: أن الموجودات اشتركت في مسمى الموجود: (

فهذا صحيح، لكن الموجودات المشتركات في مسمى الواحد لا يكون وجود هذا عين وجود هذا، بل هذا اشتراك في الاسم العام الكلي، كالاشتراك في الأسماء التي يسميها النحاة اسم الجنس ويقسمها المنطقيون إلى جنس ونوع وفصل وخاصة وعرض عام. فالاشتراك في هذه الأسماء: هو مستلزم لتبائن الأعيان، وكون أحد المشتركين ليس هو الآخر، وهذا ما يعلم به أن وجود الحق مباين لوجود المخلوقات، فإنه أعظم من مباينة هذا الموجود لهذا الموجود، فإذا كان وجود الفلك مباينًا مخالفًا لوجود الذرة والبغوضة، فوجود الحق تعالى أعظم مباينة لوجود كل مخلوق

فإن الوحدة المعينة الشخصية تمتنع في الشيئين المتعددين، ولكن الوجود واحد في نوع الوجود بمعنى أن اسم الموجود عام يتناول كل واحد، كما أن اسم الجسم والإنسان ونحوهما يتناول كل جسم وكل إنسان، وهذا الجسم ليس هو ذاك، وهذا الإنسان ليس هو ذاك، وكذلك هذا الموجود ليس هو ذاك).

وقال: (ولهذا اتفق أئمة المسلمين على أن الخالق بائن من مخلوقاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، بل الرب رب والعبد عبد (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا).

ص: 871

فهذه بعض الردود على القائلين بوحدة الوجود، والأمر لا يحتاج إلى كثرة الردود، بل تصور حقيقة مذهب هؤلاء كافٍ في إدراك بطلانه وسخافته.

ولكن هل يوجد لديهم أي شبة يتشبثون بها؟ نعم، قد وجد عندهم بعض الشبه، حيث استندوا على آرائهم الفاسدة ببعض النصوص الشرعية.

بعض منها صحيحة، ولكن الاستدلال بها باطل، وبعض منها باطلة من أساسها.

أهم الشبه التي يستند إليها أصحاب وحدة الوجود:

الشبهة الأولى: تشبثهم بالحديث الذي فيه (أن الله يجمع الناس ويظهر لهم فينكرونه، ويظهر لكل أمة بصورة لا تعرفها فتنكره، فيعود فيظهر لكل أمة بالصورة التي عبدوه عليها في الأرض فيسجد الكل

).

هكذا ذكروه كأنه لفظ الحديث، واستدلوا به على وحدة الوجود، على أنه يظهر لكل عابد على صورة معبوده في الدنيا، لأنه ما عبد إلا هو.

قبل الرد على الاستدلال يقال لهم: إن لفظ الحديث لا يدل على ما تقولونه، فإن النص الوارد في الحديث كالتالي:

(عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال ناس: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: ((هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ )) قالوا: لا يا رسول الله. قال: ((فإنكم ترونه يوم القيامة كذلك، يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئًا ليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت،

ص: 872

وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم))

).

فهذا هو الحديث الصحيح الذي أرادوا أن يتصيدوا منه الدليل على قولهم الفاسد.

وللرد عليهم على استدلالهم أقول:

1 -

أين فيه: أنه تعالى يظهر لكل أمة بالصورة التي عبدوه عليها؟ .

2 -

يثبت الحديث: أن هذا التجلي لن يكون إلا في الآخرة، وهؤلاء يدينون بتلبسه بالصور في الدنيا.

3 -

يدين هؤلاء: أن الله يتجلى لكل أحد بحسب اعتقاده، فإذا اعتقد في صنم أو كوكب أو عجل تجلى له في صورة معتقده، أما إذا تجلى له في صورة أخرى أنكره، أما العارف المطلق فإنه يعرف الله ـ في زعمهم ـ في كل صورة يظهر بها؛ لأنه يعتقد أن الرب عين كل شيء، هذا في حين يبين الحديث أن المؤمنين أنكروه في صورته الأولى، وعرفوه في صورته الثانية، وهؤلاء هم الرسل والأولياء، وهم ـ باعتراف هؤلاء ـ أكمل العارفين، وهم لم يعرفوه إلا في صورة واحدة، وهذا ينسف أصل دعواهم: وهو أن العارف من يعرف الله في كل صورة.

ص: 873

4 -

يزعم الاتحادية: أن الله عين كل شيء، والحديث يثبت وجود قوم مؤمنين، وكافرين ومنافقين، فإذا أخذنا بفكر المتصوفة كان ربهم هو الكافر والمنافق وغير ذلك؛ لأنه عندهم عين كل شيء، وبطلان هذا الفكر واضح جلي.

5 -

يثبت الحديث: أن الله سبحانه لن يتجلى إلا في صورة واحدة في كل مرة من المرتين الأولى والثانية، وأما هؤلاء فيدينون بتجلي ربهم فيما لا يتناهى من الصور المتباينة في آن واحد.

6 -

لم يبين الحديث كُنه الصورة الأولى، أما الصورة الثانية فعرَّفها الحديث بأنها هي التي رأوه فيها أول مرة، وهذا ينقض قول الحلولية بأنه يظهر لكل أحد في صورة معتقده، كما يبطل قول أهل الوحدة بأن ربهم عين كل شيء.

7 -

ما لهؤلاء القوم يستشهدون بما لا يؤمنون به؟ فإنهم يزعمون أنهم يأخذون عن الله مباشرة، ويستنكفون أن يعملوا بالشريعة التي جاء بها رسل الله.

الشبهة الثانية:

استدلالهم بقوله عليه السلام: ((

كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى بها

)).

يقول ابن عربي: (فذكر أن هويته هي عين الجوارح التي هي عين العبد، فالهوية واحدة والجوارح مختلفة).

يقال في الرد عليهم: إن هذا الحديث في الواقع حجة عليهم لا لهم، وذلك من وجوه:

منها:

ص: 874

1 -

إن قوله: ((من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة)) فأثبت معاديًا محاربًا، ووليًا غير المعادي.

2 -

قوله: ((وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه)) فأثبت عبدًا متقربًا إلى ربه، وربًا افترض عليه فرائضه.

3 -

قوله: ((ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه)) فأثبت متقرِبًا ومتقرَبًا إليه، ومحبًا ومحبوباً غيره.

4 -

قوله: ((لئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه))، فأثبت سائلاً ومسئولاً غيره، ومستعيذاً ومستعاذًا به غيره، وهذا كله ينقض قولهم: الوجود واحد.

والحديث حق، وظاهره على أن الولي لكمال طاعته لله ومحبته له، يبقى عمله لله، فما يسمعه مما يحبه الحق أحبه، وما يسمعه مما يبغض الحق أبغضه، وما يراه مما يحبه أحبه، وما يراه مما يبغضه أبغضه، فيبقى محبوب الحق محبوبه، ومكروه الحق مكروهه، ومأمور الحق مأموره، وولي الحق وليه، وعدو الحق عدوه.

وعلى الأوجه كلها لا متمسك فيه للاتحادية، ولا القائلين بالوحدة.

الشبهة الثالثة:

استدلالهم بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ).

ص: 875

يقول النابلسي: (فقد أخبر تعالى: أن نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم هو الله تعالى وتقدس، وبيعته وبيعة الله ويده التي مدت للبيعة هي يد الله تعالى، كما سمعت من الآية الشريفة).

يقال في الرد على هذه الشبهة كما قال شيخ الإسلام: (إن قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ) لم يرد بك أنك أنت الله، وإنما أراد أنك أنت رسول الله ومبلغ أمره ونهيه، فمن بايع فقد بايع الله، كما أن من أطاعك فقد أطاع الله، ولم يرد بذلك أن الرسول هو الله، ولكن الرسول أمر بما أمر الله به فمن أطاعه فقد أطاع الله،

ومن ظن في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ) أن المراد به أن فعلك هو فعل الله، أو المراد: أن الله حال فيك ونحو ذلك فهو مع جهله وضلاله ـ بل كفره وإلحاده ـ فقد سلب الرسول خاصيته وجعله مثل غيره، وذلك؛ أنه لو كان المراد به أنه خالق لفعلك لكان هناك قدر مشترك بينه وبين سائر الخلق، وكان من بايع أبا جهل فقد بايع الله، ومن بايع مسيلمة فقد بايع الله،

وعلى هذا التقدير: فالمبايع هو الله أيضًا فيكون الله قد بايع الله! ).

فهذه بعض الشبهات التي يستندون إليها في الشرك بالله جل شأنه في الربوبية بتعطيل معاملة الصانع عما يجب على العبد من حقيقة التوحيد.

بقي أن نجيب على شبهة كبرى للبريلوية، وهي:

الشبهة الرابعة:

أن الرسول صلى الله عليه وسلم نور وليس ببشر، وأنه مخلوق من نور الله.

ص: 876

هذه الشبهة مكونة من جانبين:

أولاً: ادعاؤهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نور.

ثانيًا: ادعاؤهم أنه جزء من نور الله، وجميع الخلائق من نور محمد صلى الله عليه وسلم.

أما الجانب الأول: فهو قولهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم نور، وأنه لا يوجد له ظل لكونه نورًا، وأنه جاء متنقلاً من أصلاب آبائهم من آدم إلى عبد الله بن عبد المطلب، فهذا القول قد قال به كثير من المتصوفة، قديمًا وحديثًا.

ومعلوم أن هذا القول من الأقوال المبتدعة ونتيجة للغلو، ومخالفة لصريح القرآن والسنة، والكلام على هذا الموضوع سيكون في غير هذا الموضع.

وأما الجانب الثاني: وهو قولهم: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم جزء من نور الله، وأن

ص: 877

جميع الكائنات من نوره، فهذه هي العقيدة الاتحادية التي نحن بصدد ذكرها وردها.

وفيما يلي بيان القائلين بهذا القول والردود المقنعة عليها، بمشيئة الله.

ممن قال بذلك من المتصوفة:

ابن عربي الحاتمي، وعبد الكريم الجيلي، وأبو الحسن بن عبد الله البكري، والبريلوي، ومحمد عثمان عبده البرهاني، والملا علي القاري.

فالنبي صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء الغلاة خلق من نور الله تعالى، ثم خلق من نور النبي صلى الله عليه وسلم بقية المخلوقات، فهذا الذي ذهبوا إليه من خلق العالم أو صدوره عن ذات الله تعالى يفسر لنا ما ذهب إليه هؤلاء من القول بوحدة الوجود.

الردود على هذا القول:

1 -

إن ما ذهبوا إليه لم يكن وليد أفكارهم، إنما كان مستمدًا من مصادر فلسفية قديمة تأثروا بها ونقلوها إلى المسلمين، وما زال تأثيرها إلى وقتنا

ص: 878

الحاضر.

2 -

إن هذا القول من معتقدات النصارى في عيسى عليه السلام.

3 -

إن هذا القول مما تأثر به المتصوفة من الشيعة؛ حيث ترى الشيعة أكثر الناس مشتغلين بالنور وادعائه في أئمتهم.

4 -

إن هذا القول ليس له أي مستند صحيح من النقل ولا دليل صريح من العقل.

شبهات وجوابها:

من الشبهات التي يتشبثون بها في هذا الباب:

استدلالهم ببعض الأحاديث المنسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، من ذلك ما يلي:

1 -

استدلال هؤلاء الغلاة على قولهم هذا بالحديث المنسوب إلى جابر ابن عبد الله الأنصاري في مواضع متفرقة من كتبهم، ناسبًا تخريجه إلى عبد الرازق الصنعاني في المصنف له، فبعضهم يذكره في بضعة أسطر، وبعضهم في بضع صفحات، وفيما يلي أشمل نص وجد من هذه الروايات الموهومة:

(عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأشياء؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور في القدر حيث شاء الله،

ص: 879

ولم يكن في ذلك لوح ولا قلم، ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جني ولا إنسي، فلما أراد أن يخلق الخلق، قسم ذلك النور أربعة أجزاء:

1 -

فخلق من الجزء الأول: القلم.

2 -

ومن الثاني: اللوح.

3 -

ومن الثالث: الجنة والنار.

4 -

ثم قسم الرابع أربعة أجزاء:

أ- فخلق من الأول: نور أبصار المؤمنين.

ب- ومن الثاني: نور قلوبهم ـ وهو المعرفة بالله ـ.

ج- ومن الثالث: نور أنسهم ـ وهو التوحيد ـ لا إله إلا الله، محمد رسول الله

الحديث).

فهذا الحديث الذي تم نقله الآن فيه قوله: (من نوره)، وهو يدل على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم خلق من نور الله.

الردود على هذه الرواية:

لنا على هذه الرواية بحثان من حيث الرواية، ومن حيث 3 الدراية.

أما من حيث الرواية:

فأقدم من رأيت من نسبه إلى مخرج هو القسطلاني، حيث قال:(وروى عبد الرازق بسنده). ولكنه لم يصرح في أي كتاب خرجه بالسند.

ص: 880

ثم جاء الزرقاني في شرحه للمواهب اللدنية، فنسبه إلى عبد الرزاق في مصنفه، وزاد عليه تخريجًا آخر، فقال:(ولم يذكر الرابع من هذا الجزء، فليراجع من مصنف عبد الرزاق مع تمام الحديث، وقد رواه البيهقي ببعض مخالفة).

هكذا قال الزرقاني، ولكن ما وجدنا في المصنف بعد طول البحث والتنقيب أي حديث يشبهه ـ فضلاً أن يكون هذا موجودًا فيه ـ. فظننت لعل عبد الرزاق أخرجه في تفسيره، فبحثت عنه في تفسيره فلم أجده.

ثم رأيت شيخ الطريقة البرهانية قد أحال تخريجه إلى كتاب جنة الخلد ونسبه إلى عبد الرزاق، وقد بحثت عن هذا الكتاب لعلي أطلع على سند الحديث، ولكن دون جدوى فلم أعثر له على أثر، بل لم أقف على من نسب مثل هذا الكتاب لعبد الرزاق، وكذلك بحثت عن كتب عبد الرزاق الأخرى أيضًا فلم أجد له أثرًا، وقد بحثه غيري أيضًا في مصنفات عبد الرزاق فلم يعثر عليه.

بل قد شهد شاهد من القوم على براءة عبد الرزاق من هذا الحديث. وهو عبد الله بن الصديق الغماري ـ الذي وصفه العلوي المالكي بأنه محدث الدنيا! ! ! ـ حيث قال عبد الله بن الصديق الغماري: معلقًا على قول السيوطي في الحاوي على هذا الحديث: (إنه غير ثابت):

ص: 881

(وهو تساهل قبيح، بل الحديث ظاهر الوضع، واضح النكارة، وفيه نفس صوفي

والعجب أن السيوطي عزاه إلى عبد الرزاق، مع أنه لا يوجد في مصنفه ولا تفسيره ولا جامعه، وأعجب من هذا أن بعض الشناقطة صدق هذا العزو المخطئ، فركب له إسنادًا من عبد الرزاق إلى جابر، ويعلم الله أن هذا كله لا أصل له، فجابر رضي الله عنه بريء من رواية هذا الحديث، وعبد الرزاق لم يسمع به، وأول من شهر بهذا الحديث ابن عربي الحاتمي، فلا أدري عمن تلقاه، وهو ثقة، فلابد أن أحد المتصوفة المتزهدين وضعه

).

فهذا آخر ما عندنا من نقد الحديث من ناحية الرواية، وقد اتضح لنا من البحث السابق أن الحديث لم يخرجه أحد، لا عبد الرزاق ولا غيره، وإنما هو من أكاذيب المتصوفة.

وأما ما نسب إليه الزرقاني بأنه رواه البيهقي ببعض مخالفة، فهذا أيضًا من جنس ما سبق، فإني قد بحثت في مظان هذا الحديث من كتب البيهقي فلم أظفر به ولا ما هو بمعناه في أي من كتبه.

أما من حيث الدراية:

فأيضًا أن الحديث لا يصح لوجوه:

1 -

إننا لا نعرف في أي كتاب روى هذا الحديث عبد الرزاق، ولا نعرف أنه رواه عند أحد من العلماء المعتد بهم، ومن قرائن وضع الحديث ألا يتداوله العلماء وأهل العلم بالحديث، فليس الحديث في مصنفه، ولا في مسند أحمد

ص: 882

ولا في سنن الدارمي، ولا في مسند الطيالسي، ولا في الكتب الستة، ولا في صحيحي ابن خزيمة وابن حبان، ولا في مستدرك الحاكم، ولا في معاجم الطبراني الثلاثة، ولا في دلائل النبوة للبيهقي، ولا في سنن البيهقي، ولا في سنن الدارقطني، ولا في كتب الضعفاء والمتروكين، ولا في كتب الزهد والرقائق كالحلية لأبي نعيم، وصفوة الصفوة، ولا في مجاميع الحديث كالجامع الصغير، والجامع الكبير، ولا في كنز العمال، ولا في كتب التراجم، فأين يكون هذا الحديث؟ ! ، لا شك أنه حديث باطل.

2 -

لو سلمنا أن الحديث صحيح إلى عبد الرزاق، لكان مما حدث به بعد تغيره، فقد عمي في آخر عمره وصار يلقن أحاديث ليست في كتبه، فوقعت المناكير في حديثه بعد ذلك.

3 -

إن الحافظ الثقة إذا حدث بحديث يخالف فيه الثقات كان حديثه شاذاً، فكيف إذا خالف الكتاب والسنة وروى الأباطيل؟ فلا ريب أن حديثه الذي انفرد به منكر مردود.

4 -

سئل شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ أن قومًا ينقلون: (إن الله قبض من نور وجهه قبضة ونظر إليها، فخلق الله من كل قطرة نبيًا، وكانت القبضة هي قبضة النبي صلى الله عليه وسلم وبقي كوكبًا دريًا، وكان نورًا منقولاً من أصحاب الرجال إلى بطون النساء).

فأجاب: (من ذكر من أن الله قبض من نور وجهه قبضة) إلخ ـ فهذا أيضًا

ص: 883

كذب باتفاق أهل المعرفة بحديثه، وكذلك ما يشبه هذا من أحاديث يذكرها شيرويه الديلمي في كتابه الفردوس، ويذكرها ابن حمويه في مثل كتاب (المحبوب) ونحو ذلك مما يذكرون من أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان كوكبًا أو أن العالم كله خلق منه، أو كان موجودًا قبل أن يخلق أبوه، أو أنه كان يحفظ القرآن قبل أن يأتيه جبريل، ومثل هذه الأمور، فكل ذلك مفترى باتفاق أهل العلم بسيرته

).

وقال أيضًا: (فهذه الأحاديث وأمثالها مما هو كذب وفرية عند أهل العلم، لا سيما إذا كانت معلومة البطلان بالعقل، بل متخلية في العقل! ليس لأحد أن يرويها ويحدث بها إلى على وجه البيان، لكونها كذباً،

وعلى ولاة الأمور أن يمنعوا من التحديث بها في كل مكان، ومن أصر على ذلك فإنه يعاقب العقوبة البليغة التي تزجره وأمثاله عن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأهل بيته، وغيرهم من أهل العلم والدين).

5 -

إن شيوع مثل هذا المعتقد الذي يخالف كل دليل من كتاب الله ومن سنة رسوله، يجعل المسلمين في سخط الله تعالى، لأنهم يعتقدون عقائد تخالف ما شرع الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.

6 -

إن نسبة مثل هذه العقائد إلى الإسلام تجعله في نظر خصومه دين الخيالات والمبالغات.

7 -

إن مثل هذا القول سفسطة ظاهرة، فإن ذات ربنا تبارك وتعالى منزه من أن يكون مادة لغيره وأخذ قبضة من نوره ليس معناه أنه قطع منه جزء فجعله نور

ص: 884

نبيه، فإنه مستلزم للتجزي، وغير ذلك مما يتبعه في ذاته ـ تعالى الله عنه ـ.

حتى لو سلمنا جدلاً ـ وأنى له ذلك ـ أن الحديث ثابت؛ فإن قوله: (من نوره) إن الإضافة فيه كالإضافة في قوله تعالى في قصة خلق آدم: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)، وكقوله تعالى من قصة سيدنا عيسى:(وَرُوحٌ مِنْهُ)، وكقولهم:(بيت الله الكعبة والمساجد)، وقولهم:(روح الله) لعيسى، وغير ذلك.

قال الزرقاني في شرح المواهب: عند شرح قوله (من نوره): (إضافة تشريف،

على حد قوله تعالى: (وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ)، وهي بيانية).

وبهذا علمنا: أن الشبهات التي يتشبث بها أصحاب وحدة الوجود كلها ساقطة من أساسها، فلا يوجد لديهم أي دليل لا من العقل ولا من النقل على القول بوحدة الوجود.

ص: 885