الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني أسباب الشرك قديمًا
ذكرنا فيما سبق: أن حقيقة الشرك: تشبيه الخالق بالمخلوق، وتشبيه المخلوق بالخالق، وقد وجد هذا التشبيه والتشبه لسببين اثنين، هما:
1 -
الغلو في المخلوق.
2 -
إساءة الظن برب العالمين نتيجة عدم معرفة قدر الله جل شأنه. فما قدروا الله حق قدره فأساءوا الظن به سبحانه.
أما السبب الأول الذي هو الغلو: فإنه يكون بتنزيل المخلوق منزلة فوق منزلته، فيصرف له شيء من حقوق الله، وهذا الأمر جلي وواضح في جميع الأمم المشركة بالله تعالى، فإنه ـ كما قال شيخ الإسلام ـ إن أوائل المشركين (صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم، فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوهم. وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر).
ومشركوا العرب شركهم لا يخلوا عن هذين الأمرين. ولكن كل هذا ناتج عن الغلو في المخلوقات. فمثلاً: إن قوم نوح إنما صوروا تماثيلهم للاقتداء
بهم في بداية الأمر، ثم لما رفع العلم وغلب الجهل ظن أن هؤلاء كانوا قومًا صالحين فلابد من العكوف على قبورهم كي ينالوا مرضات الرب سبحانه، فعكفوا على قبورهم، ثم دب إليهم إبليس بأن الأولين كانوا يعبدونهم، وبهم يسقون المطر فعبدوهم. فلم يحصل هذا الشرك في هؤلاء القوم إلا نتيجة الغلو في بعض المخلوقات.
وشرك قوم إبراهيم عليه السلام أيضًا ناتج عن الغلو في بعض المخلوقات؛ فإن (قومًا من الأوائل اعتقدوا أن الكواكب تفعل أفعالاً تجري في النفع والضر مجرى أفعال الإله على حسب ما يعتقده بعض أهل التنجيم، فاتخذوا عبادتها دينًا، وأراد ملوكهم ورؤساؤهم توكيده في أنفسهم، والزيادة فيه من عندهم، وذلك؛ أن الملك يحتاج إلى الدين كحاجة المال والرجال، لأن الملك لا يثبت إلا بالبيعة، والبيعة لا تكون إلا بالأيمان والأيمان لا يكون إلا لأهل الأديان، إذ لا يصح أن يحلف الرجل إلا بدينه ومعبوده، ومن لا يعتقد دينًا لا يوثق بيمينه،
…
إلى غير ذلك مما يتعلق من أمر الملك بالدين، فصنعوا لهم الأصنام على صور الكواكب التي يعبدونها).
فهؤلاء غلوا في الأجرام السماوية، وظنوا أنها تنفع وتضر وأن شفاعتهن مقبولة عند الباري تعالى، ولهذا قالوا: (لا سبيل لنا إلى الوصول إلى جلاله إلا بالوسائط، فالواجب علينا أن نتقرب إليه بتوسطات الروحانيات القريبة منه، وهم الروحانيون المقربون المقدسون عن المواد الجسمانية، وعن القوى الجسدانية، بل قد جبلوا على الطهارة، فنحن نتقرب إليهم ونتقرب بهم إليه،
فهم أربابنا وآلهتنا وشفعاؤنا عند رب الأرباب وإله الآلهة، فما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى
…
).
قال الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ في تيسير العزيز الحميد بعد أن ذكر قصة أصنام قوم نوح: (فتبين أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم، كما أن سبب الشرك بالنجوم هو الغلو فيها، واعتقاد النحوس فيها والسعود، ونحو ذلك. وهذا هو الغالب على الفلاسفة ونحوهم، كما أن ذلك هو الغالب على عباد القبور ونحوهم، وهو أصل عبادة الأصنام؛ فإنهم عظموا الأموات تعظيمًا مبتدعًا، فصوروا صورهم، وتبركوا بها، فآل الأمر إلى أن عبدت الصور، ومن (هي) صورته، وهذا أول شرك حدث في الأرض، وهو الذي أوحاه الشيطان إلى عباد القبور في هذه الأزمان؛ فإنه ألقى إليهم أن البناء على القبور والعكوف عليها من محبة الصالحين وتعظيمهم، وأن الدعاء عندها أرجى في الإجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد، فاعتادوها لذلك، فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى الدعاء به والإقسام على الله به).
وهذا الغلو له عدة أوجه، منها:
1 -
بغية التبرك من الأشياء والأماكن المقدسة كما هو حال عبادة الأحجار بمكة؛ حيث إ نهم لما ظعنوا من مكة أخذوا أحجارًا من الحرم تبركًا وحنانًا إلى مكة، ولكن بعد مرور الزمن نسوا القصد فعبدوا هذه الأحجار.
2 -
تلاعب الشيطان بكل قوم على قدر عقولهم؛ فطائفة دعاهم إلى
عبادتها من جهة تعظيم الموتى الذين صوروا تلك الأصنام على صورهم. كما هو الحال في أصنام قوم نوح، وقد سبق بيانه مفصلاً.
3 -
النظر إلى بعض المعبودات بأنها تؤثر في السعود والنحوس، كما هو حال بعض المشركين الذين يشركون بعبادة الكواكب والأجرام السماوية، فكانوا يعتقدون أنها تستحق التعظيم والتقديس، فبدؤوا يعبدونها.
4 -
أن الشياطين تدخل في الأصنام والأوثان والهياكل، وتخاطبهم منها، وتخبرهم ببعض المغيبات، وتدلهم على بعض ما يخفى عليهم، وهم لا يشاهدون الشياطين، فجعلتهم وسفهاء القوم منهم يظنون أن الصنم نفسه هو المتكلم المخاطب.
والمقصود: بيان كون الغلو هو أهم أسباب الشرك قديمًا، بل الغلو في المخلوق هو السبب الرئيس للوقوع في الشرك، حيث إنهم لما غلوا في المخلوق وأعطوه منزلة فوق منزلته جعلوا فيه حظًا من الألوهية، وحظًا من أمور الربوبية، وذلك بتشبيهه بالله سبحانه وبتشبيهه سبحانه الكامل من جميع الوجوه بهذا المخلوق الناقص.
أما السبب الثاني: ـ الذي هو إساءة الظن بالله سبحانه ـ، فهذا السبب في الحقيقة مترتب غالبًا على السبب السابق، فإنه بعد غلو الشخص في المخلوق
وحصول الجهل بالدين يتخذه وسيطًا يقربه إلى الله فيعطفه عليه في قضاء حاجاته، فيكون قد أساء الظن بإفضال ربه وإنعامه وإحسانه إليه، وهذا يحدث وإن اعتقد أن الله يسمع ويرى ويملك كل شيء.
وربما تكون إساءة الظن بالله سبحانه غير ناتجة عن الغلو في المخلوق؛ كمن وصف الله عز وجل الكامل بجميع الوجوه بصفات المخلوق الناقص، قال الإمام ابن القيم:(فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه ووصفه به رسله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، فقد ظن به ظن السوء).
ولعل ما يحملهم على إساءة الظن بالله جل شأنه هو: أنهم ما قدروا الله حق قدره، قال ابن القيم:(هنا أصل عظيم يكشف سر المسألة، وهو أن أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به، فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته، ولهذا توعد الله سبحانه الظانين به السوء بما لم يتوعد به غيرهم، كما قال تعالى: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). فهذه إشارة لطيفة إلى السر الذي لأجله كان الشرك أكبر الكبائر عند الله، وأنه لا يغفر بغير التوبة منه، وأنه يوجب الخلود في العذاب، وأنه ليس تحريمه وقبحه لمجرد النهي عنه، بل يستحيل على الله أن يشرع لعباده عبادة إله غيره، كما يستحيل عليه ما يناقص أوصاف كماله ونعوت جلاله، وكيف يظن بالمنفرد بالربوبية
والإلهية والعظمة والجلال أن يأذن في مشاركته في ذلك أو يرضى به؟ تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا).
أما إساءة الظن بالله سبحانه الناتجة عن الغلو في المخلوق الذي يجر الناس إلى الشرك في العبادة غالبًا فهو واضح.
قال ابن القيم: (ومن ظن أن له ولدًا، أو شريكًا وأن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم كحبه، ويخافونهم ويرجونهم؛ فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه).
وقال في موضع آخر: قال تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لقومه: (مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ)؛ أي فما ظنكم أن يجازيكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ وما ظننتم به حتى عبدتم معه غيره؟ وما ظننتم بأسمائه وصفاته وربوبيته من النقص حتى أحوجكم ذلك إلى عبودية غيره؟ فلو ظننتم به ما هو أهله من أنه بكل شيء عليم وهو على كل شيء قدير، وأنه غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، وأنه قائم بالقسط على خلقه، وأنه المنفرد بتدبير خلقه لا يشركه فيه غيره، والعالم
بتفاصيل الأمور، فلا يخفى عليه خافية من خلقه، والكافي لهم وحده، فلا يحتاج إلى معين، والرحمن بذاته، فلا يحتاج في رحمته إلى من يستعطفه.
وهذا بخلاف الملوك وغيرهم من الرؤساء، فإنهم يحتاجون إلى من يعرفهم أحوال الرعية وحوائجهم ويعينهم على قضاء حوائجهم، وإلى من يسترحمهم ويستعطفهم بالشفاعة، فاحتاجوا إلى الوسائط ضرورة؛ لحاجتهم وضعفهم وعجزهم وقصور عملهم.
فأما القادر على كل شيء، العالم بكل شيء، الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، فإدخال الوسائط بينه وبين خلقه تنقص بحق ربوبيته وإلهيته وتوحيده، وظن به ظن السوء، وهذا يستحيل أن يشرعه لعباده، ويمتنع في العقول والفطر جوازه
…
إلى أن قال: فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره، كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
فما قدر الله حق قدره من عبد معه غيره من لا يقدر على خلق أضعف حيوان وأصغره، وإن سلبه الذباب شيئًا مما عليه لم يقدر على استنقاذه منه، وقال تعالى:(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
فما قدر من هذا شأنه وعظمته حق قدره من أشرك معه في عبادته من ليس له
شيء من ذلك ألبتة، بل هو أعجز شيء وأضعفه، فما قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه الضعيف الذليل).
وقال في موضع آخر: (ومن ظن به أنه إذا غضبه وأسخطه، وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليًا، ودعا من دونه ملكًا أو بشرًا ـ حياً، أو ميتًا ـ يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه، ويخلصه من عذابه، فقد ظن به ظن السوء، وذلك زيادة في بعده من الله، وفي عذابه).
وقال أيضًا في بيان سوء الظن بالله الناجم عن عدم قدر الله حق قدره: (وهل قدره حق قدره من شارك بينه وبين عدوه في محض حقه من الإحلال والتعظيم والطاعة والذل والخضوع والخوف والرجاء؟ فلو جعل له من أقرب الخلق إليه شريكًا في ذلك لكان ذلك جراءة وتوثبًا على محض حقه، واستهانة به، وتشريكًا بينه وبين غيره فيما لا ينبغي ولا يصلح إلا له سبحانه، فكيف وإنما أشرك بينه وبين أبغض الخلق إليه، وأهونهم عليه وأمقتهم عنده، وهو عدوه على الحقيقة؟ .
فإنه ما عبد من دون الله إلا الشيطان، كما قال تعالى:(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ). ولما عبد المشركون الملائكة بزعمهم وقعت عبادتهم في نفس الأمر للشياطين، وهم يظنون أنهم يعبدون الملائكة، كما قال تعالى:(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ
أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)، فالشيطان يدعو المشرك إلى عبادته، ويوهمه أنه ملك.
وكذلك عباد الشمس والقمر والكواكب يزعمون أنهم يعبدون روحانيات هذه الكواكب، وهي التي تخاطبهم، وتقضي لهم الحوائج، ولهذا إذا طلعت الشمس قارنها الشيطان فيسجد لها الكافر، فيقع سجودهم له، وكذلك عند غروبها.
وكذلك من عبد المسيح وأمه لم يعبدهما وإنما عبد الشيطان، فإنه يزعم أنه يعبد من أمره بعبادته وعبادة أمه، ورضيها لهم وأمرهم بها، وهذا هو الشيطان الرجيم، لا عبد الله ورسوله، فنزل هذا كله في قوله تعالى:(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ). فما عبد أحد من بني آدم غير الله كائنًا من كان إلا وقعت عبادته للشيطان، فيستمتع العابد بالمعبود في حصول غرضه، ويستمتع المعبود بالعابد في تعظيمه له وإشراكه مع الله الذي هو غاية رضى الشيطان
…
).
فهذه كله إساءة الظن بالله جل وعلا في جانب شركهم بالعبادة معه غيره سبحانه، وأما إساءة الظن بالله سبحانه التي حملت الناس على الإشراك معه في أمور الربوبية والتي نجمت عن عدم معرفة قدر الله حق قدره فقد بينه الله عز وجل في كتابه الكريم، حيث قال: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) لمن أنكر صفة من صفاته.
وقال: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ). قال غير واحد من المفسرين: إن ظنهم الباطل هاهنا: هو التكذيب بالقدر.
وقال: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ).
فإن من قال: إنه لم يرسل إلى خلقه رسولاً، ولا أنزل كتابًا، نسبه إلى ما لا يليق به ولا يحسن منه من إهمال خلقه وتضييعهم وتركهم سدى، وخلقهم باطلاً وعبثاً، فهذا ليس إلا سوء ظن بالله سبحانه، وليس إلا عدم معرفة قدر الله حق قدره.
وقال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).
وقال: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
وقال: (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا)، وقال:
(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ)، وقال:(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)، وقال:(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ).
سيقت هذه الآيات كلها في الرد على من ظن بالله ظنًا سوءًا في أنه لا يحيي الموتى ولا يبعث من في القبور، ولا يجمع خلقه ليوم يجازي المحسن فيه بإحسانه والمسيء بإساءته، ويأخذ للمظلوم فيه حقه من ظالمه، ويكرم المتحملين للمشاق في هذه الدار من أجله وفي مرضاته بأفضل كرامته، ويبين لخلقه الذين يختلفون فيه، ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين. فمن ظن هذا الظن فهو لم يقدر الله حق قدره، وأساء الظن برب العالمين.
وقال سبحانه: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
وقد فسر هذا الظن من المشركين والمنافقين ـ الظن الذي لا يليق بالله سبحانه ـ: بأنه لن يحقق وعده بنصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل، كما قال تعالى: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا
بُورًا).
قال ابن القيم في تفسير الآية الأولى: (وإنما كان هذا ظن السوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظن غير الحق؛ لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل عيب وسوء بخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم ـ إلى أن قال ـ: وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق ظن السوء فيما يختص بهم، وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله، وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته).
فعلمنا بهذا البيان: أن إساءة الظن بالله سبحانه هي التي أوقعت الناس في الشرك سواء أكان هذا الشرك في العبادة أم كان في أمور الربوبية.