الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث التاسع في بيان الشرك في قوم موسى عليه السلام
موسى عليه السلام وقومه:
يأتي بعد ذلك في التسلسل التاريخي الذي قصه الله علينا ورسوله: قصة موسى وفرعون، وقد سبق أن تحدثنا عن قصة يوسف عليه السلام؛ كيف مكن الله له في أرض مصر، وأنه استقدم إليه أبويه وإخوته وسائر أهله، فأقاموا بمصر قرونًا عدة، حتى كثروا وزاد عددهم، مما حمل فرعون مصر على التخوف منهم، فسامهم سوء العذاب، فكان يستحيي نساءهم للخدمة ويذبح أبناءهم، وكان يعاملهم بمنتهى الإذلال ويستخدمهم في الأعمال الشاقة وألوان السخرة، كما قال تعالى:(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ).
وبظهور موسى عليه السلام تبدأ مرحلة جديدة وخطيرة في حياة نبي إسرائيل، كما تبدأ حلقة من حلقات النضال في سبيل الدعوة إلى الله وإلى التوحيد، بطلاها موسى وهارون عليهما السلام، وليس من غرضنا الآن أن نخوض في قصة ولادة موسى وهارون عليهما السلام، وما اشتملت عليه من مظاهر العناية الإلهية به، وكيف رباه سبحانه في بيت عدوه، ولا أن نخوض
فيما كان منه عليه السلام في تلك الفترة من قتله المصري وخروجه من مصر، وليس غرضي أن أتحدث عن هذا الدور من حياة موسى عليه السلام؛ فإنه دور إعداد وتمهيد قصد به تهيئته لحمل تلك الرسالة الكبرى، كما قال تعالى:(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، و (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي). وإنما الغرض أن أتعرف فيما يلي على موسى عليه السلام، وعلى طبيعة الشرك الذي كان في قوم موسى، وكيف واجهه عليه السلام.
موسى عليه السلام:
هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم.
وقيل: هو موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي.
وقيل: هو موسى بن عمران بن لاهب بن عازر بن لاوي.
قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَّبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الايْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا).
وقد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة متفرقة في القرآن، وذكر قصته في مواضع عديدة مبسوطة مطولة وغير مطولة، أظهر الله عز وجل فيما ما وقع بينه
وبين عدو الله فرعون من المناقشات والمحاورات، وكيف ناداه إلى الله عز وجل، وكيف كانت استجابته له صلى الله عليه وسلم.
أما فرعون فيقال بأن اسمه: (قابوس بن يوسف الأول (مصعب)، فلما نودي موسى أعلم أن قابوس بن مصعب قد مات، وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان أعتى من قابوس وأكفر وأفجر، وأمر بأن يأتيه هو وأخوه بالرسالة)، ويقال: إن للوليد تزوج آسية ابنة مزاحم بعد أخيه.
وكان اسم والد موسى: عمران، وكان عمر عمران مائة سنة وسبعًا وثلاثين سنة، وولد موسى وقد مضى من عمر عمران سبعون سنة، والمقصود: بيان كون موسى مرسلاً إلى فرعون مع هارون.
وقال ابن إسحاق: قبض الله يوسف، وهلك الملك الذي كان معه الريان ابن الوليد وتوارثت الفراعنة من العماليق ملك مصر، فنشر الله بها بني إسرائيل، فلم يزل بنو إسرائيل تحت أيدي الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب وإسحاق وإبراهيم شرعوا فيهم من الإسلام، متمسكين به.
حتى كان فرعون موسى الذي بعثه الله إليه، ولم يكن منهم فرعون أعتى منه على الله ولا أعظم قولاً ولا أطول عمرًا في ملكه منه، وكان اسمه: الوليد بن مصعب، ولم يكن من الفراعنة فرعون أشد غلظة ولا أقسى قلبًا، ولا أسوأ ملكة لبني إسرائيل منه، يعذبهم فيجعلهم خدمًا وخولاً، وقد صنفهم في أعماله، فصنف يبنون، وصنف يحرثون، وصنف يزرعون له، فهم في
أعماله.
ومن لم يكن منهم في صنعة له من عمله فعليه الجزية، فسامهم كما قال تعالى:(سُوءَ الْعَذَابِ)، وفيهم مع ذلك بقايا من أمر دينهم لا يريدون فراقه، وقد استنكح منهم امرأة يقال لها: آسية بنت مزاحم، من خيار النساء المعدودات، فعمر فيهم وهم تحت يديه طويلاً يسومهم سوء العذاب، فلما أراد الله أن يفرج عنهم وبلغ موسى الأشدُ أعطي الرسالة، فنودي (مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ).
فأتاه الوحي من قبلها أن (يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى).
ثم أراد الله عز وجل إيناسه بالخطاب وتسليحه بالآيات قبل أن يأمره بالذهاب إلى فرعون فسأله عما في يمينه فقال: (هِيَ عَصَايَ)، قال (أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)، قال:(رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ
مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ).
(فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ
الْغَالِبِينَ (40).
فلما جاء السحرة للمبارزة قالوا لموسى: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)، (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ
سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)، (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)، (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)، قال تعالى:(وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66).
وبهذا كانت نهاية فرعون، ولكن بني إسرائيل ما زالوا في تمردهم (فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ).
ولم يقفوا بالقول، بل لما ذهب موسى عليه السلام ليكلم ربه بدأوا عبادة العجل الذي صنعه لهم السامري، حتى غضب الله عليهم، فهم المغضوب عليهم، واستحقوا الذل والهوان من الله العظيم.
شرك قوم موسى:
لقد كان الشرك في قوم موسى على أشكال عدة؛ فإن هناك شركًا كان في بني إسرائيل كما يذكره القرآن، وهناك شرك في فرعون كما يصوره الله عزوجل في كلامه، وهناك أنواع أخرى من الشرك في قوم فرعون، كما يذكره المفسرون والمؤرخون على ضوء ما يستفاد من نصوص الآيات القرآنية، ولنذكر أولاً الشرك في قوم فرعون ـ أهل مصر ـ.
عقيدة المصريين:
لقد وجد هناك رأيان في بيان عقيدتهم، وهما:
1 -
أن قدماء المصريين كانوا وثنيين يعبدون آلهة متعددة، ومن بينها
صنوف من الكواكب؛ كالشعرى اليمانية، والشمس، والجوزاء، وغيرها، بل وأكثر من هذا، قالوا: إنهم كانوا يعبدون الحيوانات؛ كالبقر، والعجول، والقردة، والقطط، والتماسيح.
والذي يدل عليه أمور، منها:
أ- قالوا في تفسير قوله تعالى: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ): كان يعبد ما يستحسن من البقر، ولذلك أخرج السامري عجلاً جسدًا له خوار، وقال: هذا إلهكم وإله موسى، وكان معبودًا في قومه، قاله السدي.
ب- أن الآلهة هي الشمس، فيكون تأويل الآية:(ويذرك الشمس حتى تعبد).
ج- قيل: إن فرعون كان قد وضع لقومه أصنامًا صغارًا وأمرهم بعبادتها.
د- وقيل: إنه كان قد اتخذ أصنامًا على صور الكواكب، يعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب.
هـ - قال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام.
2 -
يقول فضيلة الأستاذ الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله في
كتابه (الدين) عند تعليقه على العصر الفرعوني ما ملخصه: إن الأوراق المحفوظة في برلين ولندن تدل على أن المصريين منذ القدم كانوا يعرفون الإله الأحد الغيبي الأزلي لا تصوره الرسوم ولا تحصره الحدود، غيرأن تلك العقيدة كانت مشوبة عند العامة بفكرة أن هذا الإله يتمثل أو يتجسد أو يحل سره في بعض الكائنات الممتازة؛ من إنسان، أوحيوان، أو جماد، فكانوا يعتقدون أن قوة التدبير في الملوك، وقوة الإخصاب النباتي في النيل، وقوة الإخصاب الحيواني في العجل (أبيس) مستمدة بتلقيح شعاع الشمس مثلاً، وأن هذه الكائنات الخاصة أهل للتقديس والعبادة بفضل تلك الصلة السرية بالإله الأعلى.
وأصحاب هذا القول يردون على أصحاب القول الأول: بأنهم لم يكونوا وثنيين، بل كانت عقيدة التوحيد هي الأصل، وإنما كانوا يأخذون آلهة متعددة على أنها رموز فقط تدل على صفات الإله الواحد؛ أي أنها كانت رموزًا مجازية تدل على صفات وحقائق إلهية، فإن عوام المصريين القدماء لم يعبدوا هذه الأشياء لذواتها، وإنما جعلوها رمزًا لذلك الإله القادر الذي حلت ـ على زعمهم ـ روحه، وظهرت آثاره فيها، وهذا من فعل الكهنة في دور من أدوار
الديانة المصرية؛ وهو الدور الرمزي المعدد للآلهة، هكذا تطور الدين من عبادة الإله
…
في أول أمره في شخص أتون ثم رع أو قرص الشمس وفي شخص آمون وبقية مظاهر الطبيعة ثم الملوك والعظماء، ولهذا نرى الملوك في المعابد الكبرى ماثلين في العبادة أمام أتون أو رع أوآمون، كما نرى في بعض حوائط المعابد الصغيرة صور الفراعنة ولها الصف الأول حتى قبل الآلهة، بل نراها تتقبل العبادة ولها اختصاصات الآلهة، ولم يلبث ذلك الدين الذي بدأ بالتوحيد أن انتهى بالشرك والوثنية التي خالطت العبادة على يد الكهنة أخيرًا من أحط الحيوانات وأحقر الحشرات والهوام.
وإنما أطلتُ في نقل هذه النصوص توخيًا للكشف عن هذه الديانة المصرية التي كانت تسود مصر القديمة، وإن كنا لا نوافق على كل ما جاء في هذا الكلام من اعتبار هذه المظاهر المتعددة رموزًا لإله واحد، فالحق: أن المصريين في انحدارهم من التوحيد إلى الوثنية اتخذوا آلهة متعددة، كل منها إله قائم بذاته في أوصافه وخصائصه، وإن كان هذا لا يمنع من اعتقادهم بإله هو كبير هذه الآلهة؛ بدليل ما جاء في أناشيدهم من مناجاة وأدعية لهذا الإله، نعم لقد صدق فيما قاله المؤرخون بأن الملوك كان لها الصف الأول قبل الآلهة من حيث العبادة والتقديس، ولقد يشهد لهذا قوله تعالى حكاية عن فرعون
موسى: (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، فجعل نفسه ربًا فوق الآلهة جميعًا، بل أحيانًا كان يتجاهلها ويجعل نفسه هو وحده الإله كما في قوله تعالى ناقلاً قوله في آية أخرى:(يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، ولعل السبب في تعديد المصريين القدماء لآلهتهم ما قيل: إن الناس حين ارتبكت عقولهم وشلت أفكارهم وتساءلوا فيما بينهم: هل يمكن لواحد أن يدبر هذا الملك الشاسع الواسع بمفرده؟ فأجابهم الكهنة بأن ذلك الإله القادر خلق آلهة أخرى، لكل غرض إله.
ولعل ما جرى من المقاولة بين موسى عليه السلام وفرعون في سورة الشعراء يشهد بأن فكرة إله واحد مسيطر على كل شيء، وإليه ترجع الموجودات جميعًا كانت (هذه الفكرة) بعيدة عن الوعي الديني لذلك العهد. وإليك هذه الآيات:(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ).
قال الشيخ محمد خليل هراس: فتجاهُل فرعون لرب العالمين وسؤاله
موسى عن حقيقته وصفته، وقوله حين أخبر بها للملأ الذين معه:(أَلَا تَسْتَمِعُونَ)، وتهديده لموسى عليه السلام بالسجن إن هو اعتقد إلهًا غيره، كل ذلك يشهد بما بلغه الملوك في مصر من درجة في العبادة غطت على ما كان للآلهة من ذلك، ويدل على استنكار القوم لوجود رب واحد مسيطر عل جميع الكائنات، ومثل هذه الآيات أيضًا قوله تعالى في سورة طه:(قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأوْلِي النُّهَى).
هذا ما قاله الشيخ محمد خليل هراس، ويدل قوله هذا على أن قوم فرعون كانوا جاهلين بالرب جلا وعلا، فما كان يعرفون عن عقيدة الألوهية لله جل وعلا شيئًا، قال ابن كثير رحمه الله:(وكانوا يجحدون الصانع جل وعلا، ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون).
ولهذا قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ): معناه: ويذرك
وعبادتك، فإنه قد قرئ:(ويذرك وإلاهتك) أي يترك عبادتك. وقال عكرمة في قوله تعالى: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ): ليس يعنون به الأصنام، إنما يعنون تعظيمه. ويروى مثل هذا القول عن ابن عباس أيضًا. وقال السدي: كان معبودًا في قومه. وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ): إنهم صدقوه في قوله: (أنا ربكم الأعلى).
وقال شيخ الإسلام: إن المستكبر عن الحق يبتلى بالانقياد للباطل، فيكون المستكبر مشركًا، كما ذكر الله عن فرعون وقومه: أنهم كانوا مع استكبارهم وجحودهم مشركين، فقال عن مؤمن آل فرعون:(وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ)، وقال: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ
مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ) الآية، وقال يوسف الصديق لهم:(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)، وقد قال تعالى:(وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ).
فإن قيل: كيف يكون قوم فرعون مشركين؟ وقد أخبر الله عن فرعون أنه جحد الخالق فقال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)، وقال:(مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، وقال:(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، وقال عن قومه:(فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)، والإشراك لا يكون إلا من مُقر بالله، وإلا فالجاحد له لم يشرك به.
قيل: لم يذكر الله جحود الصانع إلا عن فرعون موسى، وأما الذين كانوا في زمن يوسف فالقرآن يدل على أنهم كانوا مقرين بالله وهم مشركون به، ولهذا كان خطاب يوسف للملك وللعزيز ولهم: يتضمن وجود الصانع، كقوله:(أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)، (ارْجِعْ إِلَى
رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) إلى قوله: (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)، (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) إلى قوله:(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)، وقد قال مؤمن آل ـ حم ـ (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً). فهذا يقتضي أن أولئك الذين بُعث إليهم يوسف كانوا مقرين بالله
…
، وذلك أن فرعون الذي كان في زمن يوسف أكرم أبويه وأهل بيته لما قدموا إكرامًا عظيمًا مع علمه بدينهم، واستقراء أحواله يدل على ذلك.
فإن جحود الصانع لم يكن دينًا غالبًا على أمة من الأمم قط، وإنما كان دين الكفار الخارجين عن الرسالة هو الإشراك، وإنما كان يجحد الصانع بعض الناس، وأولئك كان علماؤهم من الفلاسفة الصابئة المشركين، الذين يعظمون الهياكل والكواكب والأصنام، والأخبار المروية من نقل أخبارهم وسيرهم كلهم تدل على ذلك، ولكن فرعون موسى:(فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ)، وهو الذي قال لهم ـ دون الفراعنة المتقدمين ـ:(مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، ثم قال لهم بعد ذلك:(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى).
وإذا كان أولئك كانوا مشركين كما وُصفوا بذلك، وفرعون وموسى هوا لذي جحد الصانع وكان يعبد الآلهة، ولم يصفه الله بالشرك
…
فقوم فرعون
قد يكونوا أعرضوا عن الله بالكلية بعد أن كانوا مشركين به واستجابوا لفرعون في قوله: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، و (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي). ولهذا لما خاطبهم المؤمن ذكر الأمرين فقال:(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)؛ فذكر الكفر به الذي قد يتناول جحوده، وذكر الإشراك به أيضًا، فكان كلامه متناولاً للمقالتين والحالين جميعًا.
فقد تبين: أن المستكبر يصير مشركًا، إما بعبادة آلهة أخرى مع استكباره عن عبادة الله، لكن تسمية هذا شركًا نظير من امتنع من استكباره عن إخلاص الدين لله، كما قال تعالى:(إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ). فهؤلاء مستكبرون مشركون
…
والمستكبر الذي لا يقر بالله في الظاهر كفرعون أعظم كفرًا منهم).
فهذا نص كلام شيخ الإسلام، سقته مع طوله ليدل على أن قوم فرعون كما أشركوا بالله عز وجل في أمور الربوبية هكذا أشركوا في أمور الألوهية، وليدل على أن هناك فرقًا ظاهرًا بين فرعون يوسف وفرعون موسى؛ من حيث الاعتراف بوجود الله من الأول وقومه، وإنكار وجود الله في الظاهر من الثاني وقومه.
ثانياً: شرك فرعون ـ لعنه الله ـ:
هذا العبد من عبيد الله الضعفاء ادعى أنه إله يُعبد، ومالك يملك، وأجبر
قومه على أن يعبدوه ويطيعوه، وهو الذي علا في الأرض وطغى وتجبر واستكبر، و (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ).
وقال لهم: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
وقال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)، وقال:(لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)، وقال:(فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى).
اتضح من هذه النصوص أن فرعون كان يدّعي الألوهية والربوبية لنفسه، وينكر وجود الله، فكان يجحد الصانع؛ قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله:(وأما فرعون فكان منكرًا للموصوف المسمى، فاستفهم بصيغة (ما) لأنه لم يكن مقرًا به، طالبًا لتعيينه، ولهذا كان الجواب في هذا الاستفهام بقول موسى:(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، وبقوله:(رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ)، فأجاب أيضًا بالصفة
…
).
وقال أيضًا: (ومن الكفار من أظهر جحود الخالق، كفرعون حيث قال:
(يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ)، وقال:(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)، وقال لموسى:(لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)، وقال:(يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً).
ثم إن فرعون كما كان ينكر وجود الصانع ظاهرًا، كان ينكر الرسالة أيضًا، وهذا شرك في أمور الربوبية من وجه آخر؛ قال شيخ الإسلام: (وموسى عليه السلام خاصم فرعون الذي جحد الربوبية والرسالة
…
). وقال أيضًا: (ففرعون كان منكرًا للصانع، مستفهمًا عنه استفهام إنكار، سواء كان في الباطن مقرًا به أو لم يكن، ثم طلب من موسى آية، فأظهر آيته، ودل بها على إثبات إلهية ربه وإثبات نبوته جميعًا).
وقال في موضع آخر: وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقنًا في الباطن كما قال له موسى:(لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ)، وقال تعالى عنه وعن قومه:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً)، ولهذا قال:(وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) على
وجه الإنكار له
…
).
ثبت بهذه النصوص: أن فرعون كان جاحدًا منكرًا لوجود الصانع، فهل يعتبر هذا الجحود والإنكار شركًا؟ وهل كان عنده أنواع أخرى من الشرك؟
سأبين ذلك فيما يلي:
إن فرعون كان عنده أنواع من الشرك:
الأول: شرك الجحود أو التعطيل:
سبق معنا بيان أدلة جحوده للصانع، ولكن كيف يعد جحوده شركًا؟ قال شيخ الإسلام في الإجابة عليه: (فإن قيل: كيف يكون قوم فرعون مشركين وقد أخبر الله عن فرعون أنه جحد الخالق
…
والإشراك لا يكون إلا من مقر بالله، وإلا فالجاحد له لم يشرك به، قيل: لم يذكر الله جحود الصانع إلا عن فرعون موسى
…
وكان فرعون في الباطن عارفًا بوجود الصانع، وإنما استكبر كإبليس وأنكر وجوده
…
والمستكبر يصير مشركًا، إما بعبادة آلهة أخرى مع استكباره عن عبادة الله، لكن تسمية هذا شركًا نظير من امتنع مع استكباره عن إخلاص الدين لله، كما قال تعالى:(إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ)، فهؤلاء مستكبرون مشركون؛ وإنما استكبارهم عن إخلاص الدين لله، فالمستكبر الذي لا يقر بالله في الظاهر ـ كفرعون ـ أعظم كفرًا منهم، وإبليس الذي يأمر بهذا كله ويحبه ويستكبر عن عبادة ربه وطاعته أعظم كفرًا من هؤلاء، وإن كن عالمًا بوجود الله
وعظمته كما أن فرعون كان أيضًا عالمًا بوجود الله).
وقال في موضع آخر: (فأعظم السيئات: جحود الخالق، والشرك به، وطلب النفس أن تكون شريكة وندًا له، أو أن تكون إلهًا من دونه، وكلا هذين وقع؛ فإن فرعون طلب أن يكون إلهًا معبودًا من دون الله تعالى
…
وإبليس يطلب أن يُعبد ويطاع من دون الله، فيريد أن يعبد ويطاع هو، ولا يعبد الله ولا يطاع، وهذا الذي في فرعون وإبليس هو غاية الظلم والجهل).
وقال في موضع آخر: (بل الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكبارًا عن عبادة الله كان أعظم إشراكًا بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره وحاجته إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود: مقصود القلب بالقصد الأول، فيكون مشركًا بما استعبده من ذلك).
وقال ابن القيم رحمه الله: (الشرك نوعان: أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون إذ قال: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ)، وقال تعالى مخبرًا عنه قوله لهامان:(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً)، والشرك والتعطيل متلازمان؛ فكل مشرك معطل، وكل معطل مشرك، لكن الشرك لا يستلزم أصل التعطيل، بل قد يكون المشرك مقرًا بالخالق سبحانه وصفاته، ولكنه عطل حق التوحيد، وأصل الشرك وقاعدته التي يرجع إليها:
هو التعطيل
…
).
وقال الرازي: (الأقرب أن يقال: إنه كان دهريًا ينكر وجود الصانع).
فثبت بهذا كله: أن فرعون كان مشركًا، وشركه يتمثل في التعطيل والاستكبار وادعاء الربوبية لنفسه، ويكون المعنى المراد من قوله تعالى:(وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ): طلبه صفة هذا الذي ادعى موسى أنه رب العالمين، فكأنه قال: ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف، حتى قال السدي: هذه الآية كقوله تعالى: (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم أن هذا سؤال عن الماهية فقد غلط، فإنه لم يكن مقرًا بالصانع حتى يسأله عن الماهية، بل كانت جاحدًا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه
…
).
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرد على من قال: إن السؤال من فرعون كان من الماهية وأن موسى عليه السلام عدل عن الإجابة على سؤاله ـ كما قاله الرازي وغيره ـ: (وقد زعم طائفة من ان فرعون استفهم استفهام استعلام فسأله عن الماهية وان المسئول عنه لم يكن له ماهية عجز
موسى عن الجواب وهذا غلط وعلى هذا التقدير يكون استفهم استفهام انكار وجحد كما دل سائر آيات القران على ان فرعون كان جاحدا لله نافيا له لم يكن مثبتا له طالبا للعلم بماهيته
فلهذا بين لهم موسى أنه معروف وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسال عنه بما هو فإن هذا إنما هو سؤال عما يجهل وهو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل بل معرفته مستقرة في الفطرة اعظم من معرفة كل معروف).
وقال في موضع آخر: (وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سُؤَالَ فِرْعَوْنَ (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) هُوَ سُؤَالٌ عَنْ مَاهِيَّةِ الرَّبِّ كَالَّذِي يَسْأَلُ عَنْ حُدُودِ الْأَشْيَاءِ فَيَقُولُ " مَا الْإِنْسَانُ؟ مَا الْمَلَكُ؟ مَا الْجِنِّيُّ؟ " وَنَحْوُ ذَلِكَ. قَالُوا: وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْمَسْئُولِ عَنْهُ مَاهِيَّةٌ عَدَلَ مُوسَى عَنْ الْجَوَابِ إلَى بَيَانِ مَا يُعْرَفُ بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) وَهَذَا قَوْلٌ قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَهُوَ بَاطِلٌ. فَإِنَّ فِرْعَوْنَ إنَّمَا اسْتَفْهَمَ اسْتِفْهَامَ إنْكَارٍ وَجَحْدٍ لَمْ يَسْأَلْ عَنْ مَاهِيَّةِ رَبٍّ أَقَرَّ بِثُبُوتِهِ بَلْ كَانَ مُنْكِرًا لَهُ جَاحِدًا. وَلِهَذَا قَالَ فِي تَمَامِ الْكَلَامِ (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) وَقَالَ (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا).
فَاسْتِفْهَامُهُ كَانَ إنْكَارًا وَجَحْدًا يَقُولُ: لَيْسَ لِلْعَالِمِينَ رَبٌّ يُرْسِلُك فَمَنْ هُوَ هَذَا؟ إنْكَارًا لَهُ. فَبَيَّنَ مُوسَى أَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ الْحَاضِرِينَ وَأَنَّ آيَاتِهِ ظَاهِرَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يُمْكِنُ مَعَهَا جَحْدُهُ. وَأَنَّكُمْ إنَّمَا تَجْحَدُونَ بِأَلْسِنَتِكُمْ مَا تَعْرِفُونَهُ بِقُلُوبِكُمْ
…
، وَلَمْ يَقُلْ فِرْعَوْنُ " وَمَنْ رَبُّ الْعَالَمِينَ " فَإِنَّ " مَنْ " سُؤَالٌ عَنْ عَيْنِهِ يَسْأَلُ بِهَا مَنْ عَرَفَ جِنْسَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ شَكَّ فِي
عَيْنِهِ كَمَا يُقَالُ لِرَسُولِ عَرَفَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ إنْسَانٍ " مَنْ أَرْسَلَك؟ ".
وَأَمَّا " مَا؟ " فَهِيَ سُؤَالٌ عَنْ الْوَصْفِ. يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ هُوَ هَذَا؟ وَمَا هُوَ هَذَا الَّذِي سَمَّيْته " رَبَّ الْعَالَمِينَ "؟ قَالَ ذَلِكَ مُنْكِرًا لَهُ جَاحِدًا. فَلَمَّا سَأَلَ جَحْدًا أَجَابَهُ مُوسَى بِأَنَّهُ أَعْرَفُ مِنْ أَنْ يُنْكَرَ وَأَظْهَرُ مِنْ أَنْ يُشَكَّ فِيهِ وَيُرْتَابَ. فَقَالَ (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ).
وقال في موضع آخر: (وأما فرعون فكان منكرًا للموصوف المسمى، فاستفهم بصيغة (ما)؛ لأنه لم يكن مقرًا به طالبًا لتعيينه).
والمقصود: أن فرعون كان من شركه الجحود والتكبر.
الثاني: من أنواع الشرك عنده: عبادته للأوثان: واختلفوا فيه على قولين:
القول الأول: أنه كان يُعبد ولا يَعبد، وعليه حملوا قراءة من قرأ (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)، وقوله:(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى). وهذا القول روي عن بعض السلف، ولكن سنده ليس بذاك.
القول الثاني: أنه كان يعبد الأصنام والأوثان مع كونه ادعى لنفسه الربوبية، ومما ذكر فيه:
1 -
أنه كان يعبد الأصنام، وكان قومه يعبدونه.
2 -
أنه كان يعبد ما يستحسن من البقر، قال ابن كثير: قال السدي في قوله تعالى: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ): (وآلهته ـ فيما زعم ابن عباس ـ: كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها
…
).
3 -
وقال الطبري في تفسيره: بلغني أن فرعون كان يعبد إلهًا في السر.
4 -
وروى الطبري عن الحسن قال: كان لفرعون جمانة معلقة في نحره يعبدها ويسجد لها.
5 -
قال الرازي: (كان دهريًا ينكر وجود الصانع، وكان يقول: مدبر هذا العالم السفلي هو الكواكب، وأما (المجدي) في هذا العالم للخلق ولتلك الطائفة والمربي لهم فهو نفسه
…
، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال: إنه كان قد اتخذ أصنامًا على صور الكواكب، ويعبدها ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب).
6 -
وقال أيضًا: (أو يقال: إنه كان من الفلاسفة القائلين بالعلة الموجبة لا بالفاعل المختار، ثم إنه اعتقد أنه بمنزلة الإله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك ذماتهم وزمام أمرهم).
7 -
(ويحتمل أن يقال: إنه كان على مذهب الحلولية، القائلين بأن ذات الإله يتدرع بجسد إنسان معين، حتى يكون الإله سبحانه لذلك الجسد بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهًا).
ولهذا قال شيخ الإسلام لما أراد أن يقارن بين مقالات أهل الوحدة والحلول وبين مذهب فرعون: (
…
والمنكر للصانع منهم مستكبر كثيرا ما يعبد آلهة؛ ولا يعبد الله قط؛ فإنه يقول: هذا العالم واجب الوجود بنفسه. وبعض أجزائه مؤثر في بعض ويقول إنما انتفع بعبادة الكواكب والأصنام ونحو ذلك ولهذا كان باطن قول هؤلاء الاتحادية المنتسبة إلى الإسلام هو قول فرعون، وكنت أبين أنه مذهبهم وأبين أنه حقيقة مذهب فرعون حتى حدثني الثقة: عن بعض طواغيتهم أنه قال: نحن على قول فرعون؛ ولهذا يعظمون فرعون في كتبهم تعظيما كثيرا. فإنهم لم يجعلوا ثم صانعا للعالم خلق العالم ولا أثبتوا ربًا مدبرًا للمخلوقات وإنما جعلوا نفس الطبيعة هي الصانع ولهذا جوزوا عبادة كل شيء وقالوا من عبده فقد عبد الله
…
وهؤلاء يعبدون ما يعبده فرعون وغيره من المشركين لكن فرعون لا يقول: هي الله ولا تقربنا إلى الله والمشركون يقولون: هي شفعاؤنا وتقربنا إلى الله وهؤلاء يقولون هي الله كما تقدم وأولئك أكفر من حيث اعترفوا بأنهم عبدوا غير الله أو جحدوه؛ وهؤلاء أوسع ضلالا من حيث جوزوا عبادة كل شيء وزعموا أنه هو الله وأن العابد هو المعبود وإن كانوا إنما قصدوا عبادة الله).
وقال الإمام ابن القيم ـ بعدما ذكر افتراق الفلاسفة على فرق شتى ـ:
(وبالجملة: فملاحدتهم هم أهل التعطيل المحض فإنهم عطلوا الشرائع وعطلوا المصنوع عن الصانع وعطلوا الصانع عن صفات كماله وعطلوا العالم عن الحق الذي خلق له وبه فعطلوه عن مبدئه ومعاده وعن فاعله وغايته ثم سرى هذا الداء منهم في الأمم وفي فرق المعطلة فكان منهم إمام المعطلين فرعون فإنه أخرج التعطيل إلى العمل وصرح به وأذن به بين قومه ودعا إليه وأنكر أن يكون لقومه إله غيره وأنكر أن يكون الله تعالى فوق سمواته على عرشه وأن يكون كلم عبده موسى تكليما وكذب موسى في ذلك وطلب من وزيره هامان أن يبني له صرحا ليطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام وكذبه في ذلك فاقتدى به كل جهمي
…
).
فهذا آخر ما توصلت إليه من أخبار الشرك في فرعون وقومه، وكان مصير فرعون وقومه أن أغرقهم الله في البحر، وجعل ذلك آية للناس الذين أتوا بعدهم.
اليهود المغضوب عليهم:
أطلق هذا الاسم على أتباع التوراة وأتباع موسى عليه السلام في الشريعة ـ حسب ما يدعيه هؤلاء ـ وهم أبناء يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، دخلوا مصر في عهد يوسف بن يعقوب عليه السلام بدعوة منه، وكانوا بعد هذا على عقيدة التوحيد الذي ورثوه من آبائهم، حتى تأثروا بوثنية الأمم المجاورة لهم.
الشرك في اليهود:
فهل وجد الشرك فيهم قديمًا أم الشرك طرأ عليهم بعدما ذهب أنبياؤهم؟
إذا نظرنا إلى التاريخ نرى أنهم وقعوا في الشرك قديمًا.
مما يذكر لنا القرآن عن شركهم ما يلي
1 -
لصوق الوثنية بقلوب فريق من بني إسرائيل على عهد موسى:
قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ).
ففي هذه الآيات يخبرنا الله عز وجل أنه فلق البحر لبني إسرائيل حتى عبروه إلى الشاطئ الآخر، فمروا في سيرهم على قوم عكوف على أصنام لهم يعبدونها من دون الله عز وجل، فطلبوا من موسى أن يجعل لهم آلهة مثل آلهة هؤلاء، وكان من أصنامهم كما يذكره ابن جرير عن ابن جريج قال:(تماثيل بقر من نحاس، فلما كان عجل السامري شبه لهم أنه من تلك البقر، فذلك كان أول شأن العجل)؛ لتكون لله عليهم حجة فينتقم منهم، فهي من الآيات
العظام، ثم سألوا الشرك صراحة، فهذا مما يدل على أن الوثنية المصرية كانت لا تزال عالقة بنفوسهم، وأن استعلاء المصريين عليهم وإذلالهم أثر فيهم حتى قلدوهم في دينهم، والمغلوب يميل دائمًا إلى تقليد الغالب.
فهذا الذي حدث في قوم موسى قد صدر مثل ذلك عن هذه الأمة، وما يزال يصدر مثل هذا التقليد والشرك في هذه الأمة. ولقد رأينا بعض هذا فيما روى أبو واقد الليثي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسولا لله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((الله أكبر! إنها السنن، قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)، لتركبن سنن من كان قبلكم))، وما أكثر الخلق لهؤلاء في اتخاذ إله مجعول، فكل من اتخذ إلهًا غير الله فقد اتخذ إلهًا مجعولاً، فأي جهل فوق هذا؟ طلبوا من موسى أن يجعل
لهم إلهًا، فطلبوا من مخلوق أن يجعل لهم إلهًا مخلوقًا، وكيف يكوف أن يكون الإله مجعولاً؟ بل الإله هو الجاعل لكل ما سواه، والمجعول مربوب مصنوع، فيستحيل أن يكون إلهًا.
2 -
اتخاذ بني إسرائيل العجل إلهًا يعبدونه:
قال تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وقال: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) إلى قوله: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
هذه الآيات تصور تلك النكسة التي أصابت شعب إسرائيل بعودتهم إلى الشرك والوثنية التي ألفوها عند إقامتهم بمصر، فبمجرد أن خرج موسى عليه السلام لميقات ربه وقد استخلف على قومه أخاه هارون عليه السلام، وكان هارون رجلاً لين الطبع حليمًا، فاهتبل القوم هذه الفرصة وأعطوا حليهم التي كانوا قد استعاروها من المصريين لموسى السامري، فصاغ لهم منها عجلاً جسداً، ويقال: إنه ألقي عليه حفنة من التراب الذي سار عليه جبريل عليه
السلام، فصار عجلاً حيًا له خوار، ثم قال لهم: هذه إلهكم وإله موسى، فنسي، فاستخف القوم فأطاعوه وعبدوا العجل، فقام هارون عليه السلام ينصحهم ويحذرهم عاقبة شركهم ويقول لهم:(يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى).
فهذا الشرك وعبادة العجل من دون الله إنما هو من تلاعب الشيطان بهم، فإنهم قد شاهدوا ما حلَّ بالمشركين من العقوبة، وأخذ الرابية، ونبيهم حي لم يمت، هذا وقد شاهدوا صانعه يصنعه ويصوغه ويصليه النار، ويدقه بالمطرقة ويسطو عليه بالمبرد، ويقلبه بيديه ظهرًا لبطن.
قال ابن القيم: (ومن عجيب أمرهم: أنهم لم يكتفوا بكونه إلههم حتى جعلوه إله موسى فنسبوا موسى عليه السلام إلى الشرك وعبادة غير الله تعالى بل عبادة أبلد الحيوانات وأقلها دفعا عن نفسه بحيث يضرب به المثل في البلادة والذل فجعلوه إله كليم الرحمن، ثم لم يكتفوا بذلك حتى جعلوا موسى عليه السلام ضالا مخطئا فقالوا: فنسي
قال ابن عباس: (أي ضل وأخطأ الطريق)، وفي رواية عنه أي إن موسى ذهب يطلب ربه فضل ولم يعلم مكانه
وعنه أيضا نسى أن يذكر لكم أن هذا إلهه وإلهكم وقال السدى: أي ترك موسى إلهه ههنا وذهب يطلبه وقال قتادة: أي إن موسى إنما يطلب هذا ولكنه نسيه وخالفه في طريق آخر.
هذا هو القول
المشهور: أن قوله فنسى من كلام السامري وعباد العجل معه
…
والسياق يل عليه
…
وهذا من أقبح تلاعب الشيطان بهم
…
).
3 -
اتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون الله، الذي هو شرك في الربوبية والألوهية معًا:
قال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ).
قال ابن القيم: (ومن تلاعبه بهم أيضا: أنهم كانوا يقتلون الأنبياء الذين لا تنال الهداية إلا على أيديهم ويتخذون أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله تعالى يحرمون عليهم ويحلون لهم فيأخذون بتحريمهم وتحليلهم ولا يلتفتون: هل ذلك التحريم والتحليل من عند الله تعالى أم لا.
قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن قوله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ) فقلت: يا رسول الله ما عبدوهم فقال: حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم رواه الترمذي وغيره، وهذا من أعظم تلاعب الشيطان بالانسان: أن يقتل أو يقاتل من هداه على يديه ويتخذ من لم تضمن له عصمته ندا لله يحرم عليه ويحلل له
…
).
فما أشبه اليوم بالأمس، لقد وجد هذا الشرك بعينه في هذه الأمة، كما
سيأتي بيانه عند بيان الشرك في العصر الحديث.
4 -
شركهم بالله جل وعلا باتصافهم ببعض خصائص الربوبية؛ مثل الكِبر:
قال شيخ الإسلام: (قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، فإنه تعالى قال هذا القول بعد أن قال:(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) الآية. ولما كان أصل دين اليهود الكبر، عاقبهم بالذلة. قال تعالى:(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا). وقد وصف الله بعض اليهود بالشرك في قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)، وفي قوله:(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ)، ففي اليهود من عبد الأصنام، وعبد البشر؛ وذلك أن المستكبر عن الحق يُبتلى بالانقياد للباطل، فيكون المستكبر مشركًا
…
).
5 -
الشرك بالله في الربوبية؛ وذلك بتشبيهه بصفات المخلوقين: وهو ما ذكرنا سابقًا ـ في أنواع الشرك ـ من الشرك بالله بالأنداد المنهي عنه في قوله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
واليهود قد شبهوا الله عز وجل بصفات النقص من وجوه عدة، منها:
أ- إثبات الولد لله جل وعلا، قال تعالى:(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ)، فإثبات الولد لله فيه تنقيص في حق ربوبية الله عز وجل، وما قدروه حق قدره، فشبهوه بمخلوقاته، وبصفاتهم.
ب- قولهم: إن الرب ـ تعالى ـ محجور عليه في نسخ الشرائع، فحجروا عليه أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وجعلوا هذه الشبهة الشيطانية ترسًا لهم في جحد نبوة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرروا ذلك بأن النسخ يستلزم البداء، وهو على الله محال.
ج- قولهم: إن الرب سبحانه نائم لا ينتبه من نومه، فإنهم في العشر الأول من العشر الأول من كل سنة يقولون في صلاتهم:(لم تقول الأمم: أين الهمم؟ انتبه كم تنام يا رب؟ استيقظ من رقدتك).
د- قولهم: إن الله يندم، ومن ذلك قولهم:(وندم الله سبحانه على خلق البشر الذين في الأرض، وشق عليه وعاد في رأيه)، وذلك عندهم في قصة قوم نوح.
وقولهم: (إن الله سبحانه لما رأى فساد قوم نوح، وأن شركهم وكفرهم قد عظم ندم على خلق البشر).
ويقول كثير منهم: (إنه بكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة، وأنه عض على أنامله حتى جرى الدم منها).
وقالوا أيضًا: (إن الله ندم على تمليكه شاؤول على بني إسرائيل، وأنه قال ذلك لشمويل).
وقالوا: (فندم الرب على الشر الذي قال إنه سيفعله بشعبه).
هـ - وصفوا الله عز وجل بالجهل؛ حيث زعموا أنه يجب أن توضع له علامة ليستدل بها عليهم حتى لا يهلكهم، فقالوا:(فإن الرب يجتاز ليضرب المصريين، فحين يرى الدم على العتبة العليا والقائمتين يعبر الرب عن الباب ولا يدع المهلك يدخل بيوتكم).
و- المشي على الأرض؛ يذكر اليهود أن الله عز وجل كان يسير أمامهم، ومن ذلك قولهم في سفر الخروج:(وكان الرب يسير أمامهم نهارًا في عمود سحاب ليهديهم في الطريق).
ز- الرؤية بالعين في الدنيا؛ يزعم اليهود أنهم رأوا الله عز وجل في الدنيا؛ حيث قالوا: (ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهوا وسبعون من شيوخ بني إسرائيل ورأوا إله إسرائيل
…
تحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف
…
فرأوا الله، وأكلوا وشربوا).
ح- التعب لله؛ زعم اليهود ـ لعنهم الله ـ أن الله تعب من خلق السموات والأرض فاستراح في اليوم السابع؛ حيث قالوا: (وفرغ الله في اليوم السابع من عمله الذي عمل، فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي
عمل).
ط- قولهم: (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ).
ي- قولهم: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ).
ك- وقولهم: (إن النهار اثنتا عشرة ساعة، في الثلاثة الأولى منها يجلس الله ويطالع الشريعة، وفي الثلاث الثانية: يحكم، وفي الثلاث الثالثة: يطعم العالم، وفي الثلاث الأخيرة يجلس ويلعب مع الحوت ملك الأسماك).
فهذه أنواع الشرك في القديم، وما زالت عندهم هذه العقيدة، بل ربما تطورت إلى ما هو أسوأ كما يظهر من خلال نصوص التلمود. والله أعلم.
أما كون هذه النقائص التي فيها تشبيه الخالق بالمخلوق من حيث اتصافه ببعض صفات النقص التي تعتري المخلوق شركًا؛ فلما سبق معنا في بيان حقيقة الشرك: أن حقيقة الشرك هو اتخاذ الند لله جل وعلا، ومن معاني الند: الكفؤ، والشبيه والمثل والعدل وغيرها كلها معاني متقاربةة تدل على أن الشرك في الحقيقة كما قال ابن القيم: (هو التشبه بالخالق والتشبيه للمخلوق به
…
).
والتشبيه لفظ عام يطلق على تشبيه المخلوق بالخالق في ذاته، أو صفاته،
ويطلق هكذا على تشبيه الخالق بالمخلوق في ذاته أو صفاته. وإن كان الأمر الأول هو الذي وقع فيه أكثر الناس، كما قال ابن القيم، ولا يمنع ذلك وجود فئة من الناس الذين وقعوا في الأمر الثاني أيضًا.
ولهذا قال الإمام الطحاوي: (ولا يشبه الأنام)، قال الشارح: هذا رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى، قال عز وجل:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
قال الإمام أبو حنيفة في الفقه الأكبر ـ المنسوب إليه ـ: (لا يشبه شيئًا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه
…
وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا).
وقال نعيم بن حماد: (من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله
تشبيهًا).
وقال إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: من وصف الله فشبه بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم.
وقال أيضًا: (إنما يكون التشبيه لو قيل: يد كيد وسمع كسمع).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والرب تعالى أحق بتنزيهه عن كل عيب ونقص منكم؛ فإن له المثل الأعلى، فكل كمال ثبت للمخلوق، فالخالق أحق بثبوته منه إذا كان مجردًا عن النقص، وكل ما ينزه عنه المخلوق من نقص وعيب فالمخلوق أولى بتنزيهه عنه
…
). بل عظم الشرك في العالم على حسب انتقاصهم لله، قال شيخ الإسلام بعد الكلام السابق: (ولهذا كانت القرامطة الباطنية من أعظم الناس شركًا، وعبادة لغير الله؛ إذ كانوا لا يعتقدون في إلههم أنه يسمع أو يبصر أو يغني عنهم شيئاً
…
).
ويدل على نفي النقائص عن الله آيات من القرآن الكريم. منها قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)، بل سورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) كلها تدل
عليه، وهكذا آية الكرسي، وهكذا يدل عليه أمر الله سبحانه عباده بتسبيحه فإنه يقتضي تنزيهه عن كل عيب ونقص وإثبات ضدهما. فإن النقائص جنسها منفي عن الله تعالى، وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب سبحانه عنها، فمثلاً: التعب والفقر والجهل واللغوب هذه مما اختصت بها العباد، فالله منزه عنه.
وقال شيخ الإسلام في موضع آخر: إن ما يسلكه نفاة الصفات أو بعضها، إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه، مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: إنه بكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة
…
ونحو ذلك، فإن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فسادًا في العقل والدين من نفي التحيز والتجسيم؛ فإن هذا فيه من الأشياء والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام
…
؛ لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلقًا، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه ينزه عنه تبارك وتعالى. والنقص ضد الكمال، وهو سبحانه منزه عن النقائص.
فالتشبيه يتضمن وصف الله بصفات النقص؛ لأن فيه تشبيه الله بالمخلوق الناقص. وتطلق المشبهه في عرف السلف ـ رحمة الله عليهم ـ على من قاس صفات الله تبارك وتعالى على صفات خلقه، فلم يفهم من صفاته جل وعلا إلا ما ألف الناس من صفاتهم، فمن قال: لله بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، أو وصفه بالنقائص، فهو مشبه؛ لأنهم يطلقون هذا اللقب ـ المشبه ـ على من مثل الله تعالى بخلقه، كأن جعل ذات الله تعالى كذات خلقه، أو جعل صفات الخلق مثل صفات المخلوق.
وقال ابن القيم: (كل مشرك مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبهه به من كل وجه، حتى إن الذين كفروا وصفوه بالنقائص والعيوب؛ كقولهم: (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ)، وإن (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)، وإنه استراح لما فرغ من خلق العالم، والذي جعلوا له ولدًا وصاحبة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا
…
ووصفه سبحانه بهذه الأمور من أبطل الباطل؛ لكونها في نفسها نقائص وعيوبًا
…
وتنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته، كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب لذاته، وهو أظهر في العقول والفطر وجميع الكتب الإلهية وأقوال الرسل من كل شيء
…
، بل إثبات هذه العيوب والنقائص يضاد كماله المقدس، وهو سبحانه موصوف بما يضادها وينافيها من كل وجه).
والمقصود أن وصف الله عز وجل بهذه النقائص يعتبر شركًا، فإنه من المعلوم أن التوحيد على ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد العبادة، ولا يتحقق توحيد الأسماء والصفات إلا بإثباتها بلا تمثيل، وتنزيهها بلا تعطيل، فقولهم في الصفات مبني على أصلين:
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقًا؛ كالسنة والنوم والعجز والجهل وغيره ذلك.
الثاني: أنه متصف بصفات الكمال التي لا نقص فيها على وجه الاختصاص بما له من الصفات، فلا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصفات.
فإثبات صفات النقص لله جل وعلا شرك في توحيد الأسماء والصفات؛ لدخوله تحت الإلحاد في أسماء الله وصفاته، فإن من أنواع الإلحاد في أسماء الله وصفاته:(وصفه سبحانه بما ينزه ويتقدس عنه؛ مثل قول اليهود (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) و (إنه فقير)، وقولهم:(إنه استراح يوم السبت). وما يتنزه الله تبارك وتعالى عنه قسمان: متصل ومنفصل، أما المتصل: فهو نفي ما يناقض ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من كل ما يضاد الصفات الكاملة، وذلك كالنوم والإعياء والتعب واللغوب والموت والجهل والظلم والغفلة والنسيان والسنة.
أما المنفصل: فهو تنزيه الله عن أن يشاركه أحد من الخلق في شيء من خصائصه التي لا تكون لغيره، كالزوجة والولد والشريك، والكفو والظهير،
والشفيع بغير إذن الله، والولي من الذل
…
، فهذا التشبيه والتمثيل نوع من الإلحاد، والإلحاد شرك، والشرك حقيقته تشبيه المخلوق بالخالق وتشبيه الخالق بالمخلوق ـ كما سبق بيانه مراراً ـ، وهو المعنى الذي يرجع إليه تفسير اتخاذ الند المنهي عنه في القرآن والسنة.
وبهذا علمنا: أن من وصف الله عز وجل بشيء من صفات النقص فهو مشبه، والمشبه مخالف لتوحيد الأسماء والصفات. قال ابن القيم:(ومن شبهه بخلقه ومثله بهم، فقد كذب تشبيهه وتمثيله توحيده).
وعلمنا أيضًا أن وصف اليهود الرب سبحانه بالنقائص التي يختص بها المخلوق تشبيه للخالق بالمخلوق، وهو شرك بالله جل وعلا في توحيد الأسماء والصفات، وبمفهوم عام يدخل تحت الشرك في الربوبية الذي هو الجانب العلمي الاعتقادي.
ولكن لا يمنع أن يكون هناك لدى بعضهم نوع من الشرك العملي أيضًا ـ كما سيأتي من قول شيخ الإسلام ـ.
قال شيخ الإسلام: فَالْيَهُودُ وَصَفُوا اللَّهَ بِالنَّقَائِصِ الَّتِي يَتَنَزَّهُ عَنْهَا فَشَبَّهُوهُ بِالْمَخْلُوقِ: كَمَا وَصَفُوهُ بِالْفَقْرِ وَالْبُخْلِ وَاللُّغُوبِ. وَهَذَا بَاطِلٌ؛ فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَمَوْصُوفٌ بِالْكَمَالِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ وَهُوَ مُنَزَّهٌ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ أَنْ يُمَاثِلَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ فَلَيْسَ لَهُ كُفُؤًا أَحَدٌ فِي شَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ لَا فِي عِلْمِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ وَلَا إرَادَتِهِ وَلَا رِضَاهُ وَلَا
غَضَبِهِ
…
والسلف لا ينفون عنه ما أثبته لنفسه من الصفات، ولا يمثلون صفاته بصفات المخلوقين؛ فالنافي معطل، والمعطل يعبد عدمًا، والمشبه ممثل، والممثل يعبد صنمًا).
وقال في موضع آخر: (فلا يوجد أحد من أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة إلا وفيه نوع من الشرك العملي إذ أصل قولهم فيه شرك وتسوية بين الله وبين خلقه أو بينه وبين المعدومات كما يسوي المعطلة بينه وبين المعدومات في الصفات السلبية التي لا تستلزم مدحا ولا ثبوت كمال أو يسوون بينه وبين الناقص من الموجودات في صفات النقص وكما يسوون إذا أثبتوا هم ومن ضاهاهم من الممثلة بينه وبين المخلوقات في حقائقها حتى قد يعبدونها فيعدلون بربهم ويجعلون له أندادا ويسوون المخلوقات برب العالمين. واليهود كثيرا ما يعدلون الخالق بالمخلوق ويمثلونه به حتى يصفوا الله بالعجز والفقر والبخل ونحو ذلك من النقائص التي يجب تنزيهه عنها وهي من صفات خلقه
…
).
فثبت بهذا كله أن قول اليهود بالتشبيه ووصف الخالق بصفات المخلوق هذا أمر مشهور عنهم، حتى عده الشهرستاني من طبائعهم الملازمة، فالقوم أسرفوا في تشبيه الله عز وجل بالمخلوقات، ووصفوه جل وعلا بالنقائص التي تختص بالمخلوق.
الشرك في الملة اليهودية بعد موسى عليه السلام:
اليهود ـ كما سبق بيانه ـ لم يكونوا موحدين قط حق التوحيد، إذا تمعنا
النظر في مصادرهم الدينية؛ لأن اليهودية تأثرت بما جاورها من الديانات الوثنية، كما أخذت من ديانة بابل، وتأثرت عنهم في عبادة العجل، ونقلت عن الكنعانيين مراسيم وطقوسًا، حتى قال بعض الباحثين: إن إلههم (يهوه) إنما هو إله كنعاني، أخذه اليهو وزادوا في صفاته ما يتفق مع حياتهم، وإذا صح هذا فإن كلمة (يهوه) تكون معروفة قبل ميلاد سيدنا إبراهيم عليه السلام، فهؤلاء اليهود لما أخذوا (يهوه) إلهًا، نظروا في صفات (يهوه) إلى الديانات الوثنية، فأخذوها، فمما أخذوا من الديانات الوثنية فكرة (خصوصية) الإله، فإنها منقولة عن الوثنيات التي سبقت ديانتهم أو عاصرتها.
والمخالفات التي تزدحم بها التوراة والتلمود وكتب اليهود المقدسة لحقيقة التوحيد تثبت لنا أن التوراة الأصلية الصحيحة التي فيها الهدى والنور قد تغيرت وحرفت على أيدي اليهود، ودخلت فيها الوثنيات من الشرك والتعدد والكفر والإلحاد، وما تذكر من التجسيد. وصفات (يهوه) من الحمق والرعونة والطيش والندم والتوحش والمحاباة لعباده إنما هو مذكور في صفات آلهة بلبل وآشور وغيرها، وفي الفترات التي كانت دعوة التوحيد الموسوية تعلوا على غيرها لم تخل اليهودية من اعتقاد التعدد، فقد كانوا يؤمنون بإلههم مع الاعتراف بآلهة الشعوب الأخرى.
وأخذوا بأخرة فكرة البنوة لله من المسيحية، ومن الهندوسية، والبوذية، فزعم اليهود أن عزيرًا (عزرا) هو ابن الله، وهذا القول معروف عن يهود المدينة.
وهم في جميع مراحلهم أشركوا مع الله غيره، بل كفروا بيهوه وأخلصوا لغيره، وانظر على سبيل المثال إلى الكتاب المقدس ـ كما سموه ـ ستى هذا الأمر واضحًا جليًا.
ذكر بعض الأنبياء بعد موسى عليه السلام:
لقد أرسل الله إلى بني إسرائيل رسلاً، وآتاهم ما لم يؤت أحدًا من العالمين، فقد جاء بعد موسى عليه السلام أنبياء وملوك ليهديهم إلى الصراط المستقيم، ولم يذكر الله عز وجل لنا كثيراً من أنبيائهم على التعيين، وإنما أخبر عن بعض منهم؛ مثل داود وسليمان، كما حكى عن طالوت وجهاده ضد جالوت، وكلهم كانوا داعين إلى التوحيد لا محالة.
ولم يذكر لنا القرآن شيئًا عن وجود أي خلل في هذه المسيرة الصحيحة، كما لم يأت في السنة المطهرة ما يدل على أن هؤلاء وقعوا في الشرك، إلا ما ذكر عن امرأة سبأ وقومها، حيث إنهم كانوا عباد الشمس، ولكن زال هذا الشرك بإسلام ملكة سبأ ـ كما هو ظاهر من سياق القرآن ـ.